لو رآهم غريب اليد واللسان لظن أن هؤلاء القوم في شأن غريب. يتحلقون حول المذياع وهم يتمايلون ووجوهم تظهر عليها إمارات الفرح والحزن متعاقبة تعاقبًا عجيبًا سريعًا. قام من قام عاجلاً وقعد من قعد عاجلاً . بينهم من رفع يده وبينهم من قبض يده ، والآذان صاغية والعيون ساهية والكلمات همس غير أن الهمس لا يدوم طويلاً فمنهم من تأوه ومنهم من صرخ حيث ظهرت قوة حاسة السمع حين وسع وعاؤها الأحداث وانفعالاتها فاستجابت لترجمتها بقية الحواس والجوارح والجوانح. خمسة منهم جلسوا متظاهرين على صهوة عنقريب راسخ الأرجل واثنان جلسا على الأرض أمام دكان ود أب شيبة الذي إن جاءه زبون في هذا الجو تأفف وتبرم غير أنَّه ما لبث أن رفع بصره فرأى على بعد أمتار تجاوزت العشرة عجوزًا تحمل آنية فانفض عن جمعه قائلاً : - حاجة ستنا ظهرت عليَّ أن أزن لها ربع الرطل قبل أن تصل. نهض وقال لحفيدها أحمد الذي جلس متطرفًا : - لماذا لا يروق لحبوبتك الشراء بطريق الجملة رطلا رطلا كي تريح نفسها غِبًّا. فقال أحمد في هدوء : - يا أخي عدم الحراك لهؤلاء هو عدم الارتياح. وصلت الحاجة ستنا فوجدت سكرَّها مستويًا على كِفَّة الميزان راجحًا قليلاً عن حجر ربع الرطل فمدت إلى ود أب شيبة آنيتها في حزم لأنّها لا تقبل أن يرحل سكرها إلا عبر هذه الآنية فهي لا تثق في الورق الملفوف مهما كان خام الورق ومهما كانت مهارة من لفه ، ولا تثق في صغار الرسل مخافة على سكرها. فتناولت مطلوبها وقالت دعابة : - « الليلة ما شاء الله عليك نشيط » ، فتبسم ضاحكًا من قولها ورجع إلى أصحابه منصتًا. إذا هدأت عاصفة المذياع ابتدروا حديثًا كحديث قضاة يحكمون على مذنبين غائبين دون شاكٍ بعقوبة لا نفاذ لها ، ويمدحون آخرين باذلين لهم مكافأة معنوية لا تصل إلى أصحابها. فقال قائل منهم : هذه الجولة جولة القائد فعليه نتكل لأنَّ بحكمته ينفق ما حصل عليه على الرجل المناسب في المكان الصائب فتطمئن النفوس ونخرج من المزالق والرأي قبل شجاعة الشجعان. وقال آخر : الطائر يطير بجناحيه فعلينا بجناحينا فإن كانا قويين فسنطير بقوة وسنحل حيث نريد وحيث تهوى القلوب فإن كُسِرا فسنقع وقعة عقاب هَرِم. وقال من أخذته الحماسة : إن التاريخ لا يُغيِّره إلا المغامرون المنفردون . يتبادلون كلماتهم وبين ظهرانيهم حاج الريح الرياضي المطبوع يقلب حبات سبحته الدائرة . شربوا من ماء زير صاف مغطى بغطاء نظيف عليه كوب حُرٌّ في غير وثاق ، كوب ما أجمله ، وأكلوا من حَبِّ التسالي حتى اتسخت بقشوره الأرض المتسامحة وهم لا يشعرون. فإذا زاد حر الوقعة التهب التوتر بالهجمات المطردة فكأن هؤلاء اللاعبون يركلون عدة كرات لا كرة واحدة وهي قلوبهم التي ضاعت بين المرميين ، وشرعوا يحصون ما تبقى من أجل وجِلوا من خاتمته فقال أحدهم راضيا فيما قالوا لما تقاذفهم موج المباراة : - يا سامي يا فناااان. يطيرون إذا علت الكرة معكوسة من ضربة الزاوية ويهبطون معها إذا نزلت على الأرض خارجة تماسًا بأنفاس تدوي إن كانت الكرة لهم والمرمى لخصمهم وبأنفاس مكتومة إن كانت الكرة لخصمهم والمرمى مرماهم. حتى قام من بينهم رجل ولى منصرفًا مودعًا يقول : - سلام ، لا أستطيع الاحتمال خبروني بالنتيجة بعد انتهاء المباراة. وعند احتدام السجال علا صوت المعلق فقام معه القوم قومة واحدة حين صاح قائلاً : عيسى مرَّ من واحد ومرَّ من الثاني ومرَّ من الثالث ، قوون قوون قوون قوون. فقفزوا جميعًا بوقورهم حاج الريح بسبحته يرددون : يا عيسى ، يا عيسى ، يا عيسى. وفي سطوة لخصمهم تقدم لاعبوه بالكرة وأحرزوا في مرماهم هدفًا تبعته ندبة تقول أنّ حظهم أليف للتعثر. انتهت المباراة في زمنها الرسمي والإضافي بتعادل فريقهم والخصم بهدفين لكل فريق فلجأوا إلى ركلات الجزاء وهنا سكن صوت المعلق بعد أن كان صاخبًا وسكن الجمهور الذي يملأ مدرجات الملعب بعد هدير لم يتوقف من أجل الكأس فالمباراة على أرضه ، وسكن المتجمهرون أمام دكان ود أب شيبة فشق حاج الريح الصمت بقوله : - عليكم بالدعاء وما النصر إلا من عند الله. ورد عليه ثلاثة صابرون : - ونعم بالله. وفريق ود أب شيبة فريق متطلع للكأس لم يسبق له أن ناله ولم ينله أيضًا فريق آخر من بلده ، وخلف هذا الفريق جماهير شعب بتمامه. وما بين هدف وضياع هدف فاز فريقهم فريق المريخ بالكأس وخسر خصمهم الشباب التنزاني فانقلبوا فرحين يرفلون بالتهاني وعندها التفت ود أب شيبة مخاطبًا حاج الريح : - « أنت هلالابي لكن ماقصرت والوطنية عندك ». فأجابه حاج الريح بلسان جاهر ومحيا يبدو عليه السرور : - « الفرحة دي يا ود أب شيبة شوفتنا ليها سنة سبعين » .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة