|
القميص
|
حامد بدوي
القميص
(قصة قصيرة)
جرس المنبه يرن، عصام لا يزال يسبح في بحر دافئ ولا يزال يمانع أو يماطل في الخروج من دفء الماء عاريا إلى لسعة هواء الشتاء البارد.الماء صاف ودافئ ورمال الشاطي بيضاء كالفضة، لكن هواء الشتاء قارس. عاد يسبح باستمتاع. عصام محل نزاع بين جرس المنبه ودفء الماء. جرس المنبه ... دفئ الماء ... جرس المنبه ... دفئ الماء ... منبه.. ماء .. منبه ..ماء .. منبه، منبه، منبه، منبه .. فتح عينيه. ابتسم بينه وبين نفسه من خدع العقل اللاواعي التي لا تنفذ. لقد صاغ هذا العقل الحلم المناسب من أجل تسكين قلقه حيال الذهاب إلى العمل متاخرا في أول يوم له في العمل. جعل الفراش الدافي مياها دافئة وجعل النوم سباحة ولم يكذب بشأن هواء الشتاء البارد، إذ كان الفصل حقيقة شتاء.
نام البارحة متأخرا. كان قادما من مطار القاهرة التي ذهب إليها لاستلام شهادته كمهندس طيران بعد إكمال دراسته هناك، وبعد أن تم تعيينه مهندسا للطيران في الخطوط الجوية الوطنية. هرّب زجاجة الدنبل بسهولة. هو مهندس طيران الآن، ومطار الخرطوم سيصير مضارب قومه وضباط الجمارك سيصيرون عشيرته الأقربين. عقوبة جريمة السكر وجريمة تهريب المسكر سواء. أربعون جلدة بالسوط على الظهر حتى يتمزق القميص زائدا العقاب الإداري بالفصل من العمل. كان سيصير أول مهندس طيران في العالم، يفصل عن العمل قبل ان يستلم مهام وظيفته بساعات، رغم أنه من المبرزين في الدراسة.
لكن كان لا بد من المغامرة، فالاحتفال بالتخرج لن يكتمل بدون بنت الكرم. قطعا كان الصحاب سيجلبون العرقي، ولكنهم لن يكفوا عن لومه والإتكاء بقسوة على جبنه الذي حرمهم من الويسكي. خاصة حريكة. سيمارس عليه حريكة انفصام شخصيته المزمن، ومن المرجح أنه كان سيشتبك معه في عراك حقيقي. حريكة شخصية غريبة. إذا رأيته بالنهار، تجد أمامك شخصا ودودا حيّيا، كأنه فتاة مراهقة. لكن بمجرد أن يشع الكحول في شرايينه، فإنه يتحول تماما كما المستذئبين في أفلام هوليوود، إلى حيوان لا مناص من أن يفتك بأحد أصدقائه. تفهمت الشلة مشكلة حريكة واستوعبتها وعرفت كيف تتعامل معها. أوكلت مهمة (تثبيت) حريكة إلى فتح الرحمن، الأصلب بنية بين الجميع، وانتهت المشكلة. كلما انفصم حريكة أمسك به فتح الرحمن وأجلسه بقربه عنوة واقتدارا ومنعه من الحركة حتى يحين وقت العشاء. بعد الأكل يعود حريكة دائما إلى شخصيته النهارية وينتهى الإشكال إلى القعدة القادمة. المهم إن الأمر قد مرّ بسلام واستمتع عصام بحفل تخرجه، وها هو يستعد للذهاب إلى العمل في الموعد الحدد وها هي سيارة الشركة أمام منزله بحيّ اللاماب بحر أبيض. كان عصام في كامل زيه الرسمي كمهندس طيران لا تطير الطائرة إلا بعد أن يسمح لها. هذا هو أول يوم عمل حقيقي له وليس يوما تدريبيا كما اعتاد طوال العامين الماضيين.
في نفس اللحظة، وعلى الضفة الأخرى من نفس النهر، وفي مدينة المهندسين بأم درمان تحديدا، كان أشرف يخرج من غرفة نومه متكاسلا ليبدأ كالمجبر، استعداداته للذهاب إلى مطار الخرطوم مسافرا إلى المملكة العربية السعودية بسبب تأشيرة عمل بعث بها شقيقه الأكبر المغترب بالسعودية. هو غير مقتنع بفكرة البحث عن عمل في السعودية. ما فائدة القفز من الطوة إلى النار؟ نفس التخلف، نفس التسلط نفس التشدد في المسائل غير الأساسية. إذا كنت تفّر من التخلف، فهذا يعني أن تفّر إلى حيث لا تخلف أو إلى حيث يكون التخلف أقل حدة. وقد ترجم أشرف عدم اقتناعه بالسفر إلى تباطؤ وتسويف، حتى أجبر نتيجة لضغوط الأسرة، على أن يسافر في آخر يوم من مدة صلاحية تاشيرته. كان يقول في نفسه، إذا تعطلت الطائرة أو تاخرت في الإقلاع، فلن يسمح له بدخول السعودية. وكان يعول على ذلك.
كل الأسرة وقفت ضده. كلهم يريدونه أن يسافر. لا لأنهم يريدون من وراء تغربه مالا، ولكن خوفا عليه من تكرار الاعتقالات السياسية وتكرار الجلد بسبب السكر. لكن ألا يعون أن السعودية ليست المكان المناسب الذي يفرّ إليه فنان تشكيلي يحب مقارعة الخمر ويقاوم القهر السلطوي؟ فقريبا جدا سوف يضبط سكرانا ويجلد ويعاد إلى بلاده. السعودية هي الرقعة الجغرافية الوحيدة في آسيا بكاملها، التي ثمن كأس الخمر فيها أربعين جلدة على لحم الظهر، والسودان هي الرقعة الجغرافية الوحيدة في أفريقيا بكاملها، التي تتغاضى ثمن كأس الخمر بنفس الطريقة من لحم الظهر. ما الفرق إذن، ولماذا إصرار الأسرة على الهجرة إلى السعودية؟ هل يظنون أن السعودية ليس بها خمر؟ الفرق الوحيد بين السودان والسعودية هو أن الخمور التي تضبط من قبل الأجهزة الأمنية تراق في السعودية، وتجد طريقها إلى بطون من يضبطونها وبطون أصدقائهم في السودان. استولت هذه الخواطر المشوشة على ذهن أشرف، فلم يشعر بالفترة التي قضاها في الحمام وهو يستاك ويستحم ويحلق لحيته. خرج وقد قرر أن يرتدي، وللمرة الأولى، القميص الجديد الذي اختار خامة قماشه بنفسه وطبع على ظهره تلك الكتابة الغريبة التي تعود لحضارة نيلية قديمة لم يجد من يحدد له مغزاها. سحره رسم الرموز وحضورها القوي باللون الأسود على قطعة الجلد البنية. حدث ذلك من حوالى ست سنوات، عندما كان في السنة الأخيرة بالكلية. ذهبوا في رحلة إلى منطقة جبل البركل الأثرية في شمال البلاد. هناك طلبت منه إحدى زميلاته أن يذهب معها إلى منزل أحد أقاربهاالذي يعيش في قرية تقع على مسافة ليست بعيدة من منطقة الآثار. ذهب معها من باب الشهامة وتقديم الحماية فقط. وفي بيت قريب زميلته، جذبت انتباهه رقعة من الجلد بنية اللون كانت معلقة على حائط الديوان . على الرقعة البنية كتابة باللون الأسود وبرموز تشبه الكتابة الهيروغليفية. شعر اشرف أن لوحدات تلك اللغة حضور بالغ القوة. انتابه شعوربأن الرموز تكاد تقفز متحررة من التصاقها السرمدي بالجلد. أحس بأنه لا يستطيع أن ينظر إلى تلك الرموز دون أن يصاب بدوار. حاول أن يثبت نظرته فأحس كأن الرموزستخترق بؤبؤ عينه. واصل النظر إلى الكتابة بعناد، وعندما بدأت عيناه تدمعان أشاح ببصره بعيدا عن رقعة الجلد.
عندما عاد إليه قريب زميلته بالشاي والعصير من داخل البيت، كان أشرف قد قرر نقل تلك الكتابة الغريبة إلى الورق الذي يستخدمه الطلبة في الرسم حتى يعرضها على علماء الآثار في العاصمة. طلب الإذن من صاحب الدار في أن يأخذ الرقعة وينقل منها الكتابة ثم يعيدها خلال يومين على الأكثر. لم يرفض الرجل ولم يوافق لأنه اقترح حلا ثالثا، أن يحضر أشرف مع زميلته يوميا وفي أي وقت ويقوم بنقل ما شاء من الرقعة. في الخرطوم ذهب إلى السوق واختار قماشا بنيا أرداه أن يكون قريبا قدر الإمكان من لون رقعة الجلد التي رأى عليها الكتابة الأصلية في بيت قريب زميلته. طبع الكتابة على مساحة نصف متر مربع من القماش الذي اشتراه وبنفس اللون الأسود اللامع، ثم اخذ القماش للترزي وطلب منه تفصيل قميص من ذلك القماش على أن يجعل الكتابة على ظهر القميص. هكذا، صار لأشرف قميصان عزيزان على نفسه، القميص الذي تلقى عليه حد شرب المسكر، أربعين جلدة على ظهره، لأول مرة في حياته، وهذا القميص الجديد المحلى بالكتابة الغريبة على ظهره. نعم سيرتدي هذا القميص الرمزي، وسيصل إلى بلاد العرب غازيا قادما من أفريقيا، عليها أن تتخلص منه بأسرع ما تستطيع وتعيده إلى بلاد الأحباش. ضحك أشرف بصوت مسموع لهذه الخواطر التي يطلق عليها شباب اليوم مفردة (خستكة ). (1) قبل الوصول إلى المطار لاحظ اشرف ظاهرتين غريبتين لم يقف عندهما طويلا. فعندما ارتدى القميص أخذ نور الغرفة يرتجف أولا ثم صار غير مستقر. يسطع بتوهج ثم يخبو ثم ينطفئ ويعود مرة أخرى. قال في نفسه، عليهم ان يغيروا صباع الفلورسنت بآخر جديد. لكن عندما جلس على مقعد التاكسي قرب السائق أخذت عداد السرعة وعداد دورات الموتور وعداد الوقود وعداد الحرارة، أخذت كلها تضطرب. السائق قال: "غريبة، مالا العربية دي عايزة تخستك!" عندما سمح لأشرف ومن معه من المسافرين بالذهاب إلى الطائرة، كان عصام تحت الطائرة يتفقد التوصيلات الكهربائية من الخارج. وبمجرد دخول أشرف إلى الطائرة، بدأ مساعد الكابتن ينادي على عصام بإلحاح ويطلب منه الحضور فورا إلى كابينة القيادة. ما أهال الكابتن ومساعده أن جميع الأجهزة الإليكترونية قد جن جنونها. أخذت بعض العدادت تدر بجنون والبعض الآخر توقف. بدأت الأنوار المختلفة على الأجهزة تقمز في جنون وارتباك. وتفاقم الامر حين دخلت إحدى المضيفات مسرعة إلى كابينة القيادة لتبلّغ أن الإضاءة داخل الظائرة قد اختلت وان الأنوار تسطع بجنون ثم تخفت فجأة، لتعود وتشع مرة أخرى. والتكييف أختل هو الآخر. صار الهواء داخل الطائرة يبرد لدرجة التجمد ثم يسخن حتى يتعرق الركاب.
استجابة لنداء الكابتن، هرع عصام إلى داخل الطائرة وهو غير مصدق لما كان يسمع عبر الجهاز. أخذ المرشد اليدوي لمهندس الطيران على الأجهزة والعدادات في كابينة الطائرة. وكاد يغمى عليه وهو يرى المؤشرات والعدادات وأجهزة القياس تتقافز كلها بجنون. هذه الدوائر التي تشبه الساعات هي الجزء الحيّ من هذه الكتلة الطائرة، هي التي تنطق من خلالها الطائرة معبرة عن حالتها الصحية. عصام يحفظها واحدة واحدة عن ظهر قلب. مؤشر سرعة الطائرة، مؤشر دورات المحرك، كما في السيارة، مؤشر توازن الطائرة في الجو، مؤشر الارتفاع، مؤشر سرعة الهبوط، مؤشر إلتفاف الطائرة يمينا ويسارا، مؤشر اتجاه الطائرة، جهاز الملاحة، مؤشر كمية الوقود، مؤشر بطارية الكهرباء، مؤشر ضغط الأجهزة الملاحية، فيوزات الأجهزة الكهربائية، جهاز الإرسال والاستقبال. كلها أصابها جنون المؤشرات. قام عصام بمراجعة كل التوصيلات الكهربائية والإليكترونية خطوة خطوة وبدقة. لا شيء معطل، لا شيء في غير محله لا صامولة مرتخية لا سلك عريان. وأسقط في يده. لم يكن أمامه سوى طلب إخلاء الطائرة. عندما خرج نصف المسافرين تقريبا، عادت الأجهزة تعمل بانتظام من تلقاء نفسها واستقرت المؤشرات وكأن شيئا لم يحدث. ومع ذلك ترك عصام الركاب ينزلون إلى أن أخليت الطائرة إلا من طاقمها. أعاد فحص جميع الأجهزة، لا شيء مختل، لا شيء به عطل أو عطب. طلب من الكابتن إطفاء جميع الأجهزة الإليكترونية ثم إطفاء محرك الطائرة. أعاد الفحص. لا شيء. طلب إعادة تشغيل المحرك وجميع الأجهزة. لا شيء مختل. دخل عصام في دوامة. هل هذا حلم آخر؟ إنه لم يصادف في الكتب ولا في التمرينات شيئاً مماثلاً. هل يستطيع أن يوقع على كتاب الطائرة ويسمح لها بالتحليق؟ ماذا إذا تكرر الأمر وهي في الجو؟ كارثة محققة. جاء كبيرمهندسي الطيران بالمطار وطلب من عصام أن يكرر الفحص تحت إشرافه. لا شيء. هنا جرت نقاشات صعبة. كان كبير مهندسين رجل علمي التوجه ويؤمن تماما بالأجهزة. لذا كان يرى ألا عيب في أجهزة الطائرة وانها تستطيع أن تحلق. وكان عصام والكابتن مترددين ولا يريدان تحمل المسئولية بعد الذي شهداه قبل قليل. أخيرا حسم كبير المهندسين الأمر، بأن قرر التصدي للأمر وإعطاء الطائرة الإذن بالتحليق على مسئوليته الشخصية. غير ان الأجهزة عادت إلى جنونها بمجرد صعود نصف المسافرين إلى الطائرة.
طلبوا من المسافرين الذهاب إلى بيوتهم والعودة غدا في نفس مواعيد الرحلة. بعدها تعرضت الطائرة للتفتيش الدقيق، ولما لم يجدوا شيئا، طلبوا خبير هندسة طيران من القاهرة. وكانت نتيجة كل ذلك أن الطائرة سليمة من جميع النواحي ولا شيء يمنعها من التحليق. في اليوم التالي عاد المسافرون جميعا ماعدا مسافر واحد هو أشرف. أشرف لم يحضر ببساطة لأن تاشيرة دخوله إلى السعودية قد انتهت بانتهاء يوم أمس. وصعد المسافرون إلى الطائرة وجلسوا في أماكنهم حسب البوردينج كارت، ولم يحدث شيء. كل شيء داخل الطائرة كان مستقرا. هنا تدخل الأمن. راجعوا أسماء المسافرين على منفستو الرحلة، فاكتشفوا أن مسافرا واحدا قد تخلف. لا بد ان لهذا المسافر علاقة بما حدث للطائرة. استشاروا قواعد معلوماتهم. استخدموا هواتفهم فوجدوا أن اشرف، الفنان التشكيلي المشاغب هو المسافر الذي تخلف. وفي مساء ذلك اليوم كان اشرف يعذب دون أن يعلم لماذا.
(1) مفردة ليس لها جذر لغوي معروف. وهي مفردة تصف حالة عامة من التسيب وامحاء الحدود واللاهدف والسخرية من كل شيء وقد انبثقت في كلام الشباب لتعبر عن ظرف تاريخي عام، معاش ومرفوض في نفس الوقت، هو ظرف تاريخي لا يمكن وصفه إلا بأنه مخستك.
(عدل بواسطة حامد بدوي بشير on 11-06-2013, 07:47 AM) (عدل بواسطة حامد بدوي بشير on 11-06-2013, 08:59 AM)
|
|

|
|
|
|