تركت السودان عام 1988 وهي السنة التي قررت فيها الهجرة إلي العالم الجديد. كان قرارا صعبا قاسيا. إستشرت رفيقة الدرب ولكنها كانت كمثلي لا تملك عصا السحر التي تبسّط الأمور. كانت الأحوال المعيشية تتدهور بعد عودتي من جنوب السودان منتدبا للتدريس في جامعة جوبا !!! ودّعني أصدقائي هناك وكان من بينهم الرجل الفاضل بروفيسور عبد العال –رحمه الله وهناك قابلت الراحل دكتور قرنق الذي أصبح نائبا للبشير لمدة عشرين يوما فقط وقضي نحبه فيما بعد!!!!وكنت أعاني في الحصول علي أبسط أمور المعيشة ولدي طفلان :محمد وأحمد وكنت أتمني لهما كأي أب رغد العيش ومستقبل زاهر رفيع!!!
وها أنذا أعود للسودان بعد خمس وعشرين عاما في المنفي الإضطراري بين أمريكا وكندا ودول الخليج!!! كبر الولدان وشبا عن طوق الأبوة وكل منهما شق طريقه الخاص في عالم آخر ليس به خال أو عم ولا قريب من الأهل!!!! وبالطبع كبرت أنا ونزلت المعاش الذي أبرتني به حكومة كندا بالرغم من أني عملت معهم فقط لمدة سبع سنوات بجامعة كالقري !!!! أما عن التسع السنين التي قضينها بجامعة الخرطوم والسنتين بجامعة جوبا، فلقد نصحني رفيق الطفولة والصبا-وبإذن الله البرزخ والجنة- عبد المنعم صافي الدين وهو خبير بهذه الأمور أن لا أضيع وقتي في البحث عن معاشي هنا . فسوف أكون كمن يبحث عن إبرة خيط في تلال من القش الرفيع!!!!
وكان من حسن حظي أن يدعوني الأقرباء من الأهل إلي أفراح أبنائهم وأحفادهم. ففي خلال غربتي الطويلة في أمريكا الشماليه، نشأ جيلان من أبناء أرقو.أكاد أن أعرف بعض الوجوه الجديده بربطها ببعض الوجوه القديمة النمطية التي إعتدت أن أراها في سوق أرقو قديما. ولكن هنالك بعض الوجوه الجديده من الأهل وبعض الوجوه القديمة التي صبغها الزمان وأعياني تمييزها. وهكذا أصبحت كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي!! والذي يعايش الغربة الطويلة يحتفظ في ذاكرته ببعض التفاصيل عن الماضي الأخضر الذي عشته في أرقو بشمال السودان بين الأهل والأحباب . ولكني أفقد بعض صلاته بالحاضر الآن . بل أحاول كل جهدي أن أربط بين عصرين متباعدين إلا في مخيلتي!!!!
ففي خلال السنوات الثلاث السابقه عشت الفرح السوداني الجديد بكل ما يحمل من طقوس وبهرجه تسر وتشرح قلوب الحاضرين!! فالألون الكهربائية تزين المكان وفقاقيع الصابون والدخان الإصطناعي (وهو يتكون من الثلج الجافّ لمن لا يدري) ويستخدم في صالات الديسكو والحفلات الغنائية في الغرب أيضا!!!! وهنالك حفلات التعارف بين أهل العريس والعروسه والتي فرضها الواقع الجديد في العاصمة القومية والتي إمتدت أطرافها وترهلت أبدانها حول ملتقي النيلين مع الإنفجار السكاني الذي صار يدق الإسفين في العلاقات الأسرية والإجتماعية حتي بين الأهل والأصدقاء . ففي زخم هذا الإيقاع السريع من حولي وأنا أحاول جهدي أن أجد موطئ قدم في رقشة هذا الزمان بدون سماع فرقعتها الصاخبه ! ولكني أجد نفسي أعيش في عالم آخر : لا أستطيع برغم رغبتي الملحة أن أعايش ما يحدث حولي، وبرغم أني أتوق إليه وأنسب نفسي له!!! ولكني أجد نفسي كأحد رجال أهل الكهف أحمل عملة وأفكار الماضي (المهترئ) في طيّات وجداني وأحاول أن أتعايش بها في وطني القديم الجديد!!!!
الفرح قديما في أرقو كان يمتد إلي شهر تقريبا ومنذ أن ينتشر الخبر أن فلان عاوز يتزوج فلانه، فهي إنطلاقة هذا الشهر العجيب الرهيب!!! يذهب الأولاد إلي بيت العريس ويغنون ويطربون إلي تباشير الصباح حيث رجل الأمن الوحيد الذي يوقف هذا الصخب المحدود هو صوت إبن عمي بكري محمد عثمان المؤذن في أرقو. وكذلك الفتيات يتجمعن في منزل العروسه بالمثل. وفي وقت الفطور في اليوم التالي كن يعلمن( سبحان الله- بدون موبايلات-إن كيدهن عظيم) بما دار بيننا من طرب وفن وهرج ونكات!!! وفي الإسبوع الأخير من الشهر تكون ليلة الحناء وهي عادة تكون يوم الأربعاء لأ ن في يوم الخميس العقد وتتم الدخلة في مساء يوم الخميس إلي تباشير صبيحة يوم الجمعة!!! والمدايح والأغاني كانت تسيطر علي الأفراح عامة كما ذكرت سابقا في المذكرات السابقة:
يارب صل علي النبي محمدا يا رب صل علي النبي محمدا سعدت حليمه وجات ترضع في الحبيب أنعم عليها المولي بالفتح القريب جات بالمراد بالمصطفي أمرا عجيب فازت حليمه الخير عليها توجدا يا رب صل علي النبي محمدا.......
وفي مديح آخر : ام قزاز فيها أم جمالا يضوي نورو عليها شالا محمد الختم الرساله وعالما بكل حاله ..... جاها في التاسع وكلّم جاها عيسي إبن مريم ام قزاز فيها أم جمالا يضوي نورو عليها شالا
وتسمع صوت الطقطاقه مع إيقاع الدلوكه (أو الطقاقه-كما تسمي في دول الخليج) عند زفة العريس. ففي أرقو يزف العريس لمنزل العروسه وليس العكس كما يحدث في بقية أنحاء السودان:
وتقوم أم العريس برش الجميع برائحة السيد علي الميرغني-وكان سعر الزجاجة عشرة قروش! ولو لم تكن المساعده والدعم المالي-والذي يسمي بالنقوط ( أو النقطه -وأجزم بأن المقصود هو النقود !!!!) من الأهل والأصدقاء، لا أظن أن يقدر أحدا علي الزواج حتي في ذلك الزمن الغابر!!! وكنت أنا أمسك بدفتر( نقوط) أمي زينب سيد الذي كانت تحتفظ به ولما أخبرتها بأني كتبت عليه اسم دفتر( النقود) ، قالت لي غاضبه-لا !! إسمه النقوطط . وشدّدت علي الطاء !! وعدّلت (خططأي) تأدبا وإحتراما !!!!!!
جوهر الفكرة هو الترابط الإجتماعي الذي كان ديدن ذلك الزمان الأخضر!!! و الآن، حدث ولا حرج، يترك والد العروسة ووالد العريس وحيدين ينبشان ما تبقي في كهوف جيوبهما من آخر القطرات من مدخرات هذا الزمان والتي سرعان ما تذوب كماء المطر الآسن الذي يذوب في تربة العاصمة القومية ويتحول إلي برك من طين لاذب في أيام الخريف !!! وقال لي قائل ، والعهده علي الراوي، أن الفنانة ندي القلعة تتقاضي 20 مليون جنيه في الحفلة الواحدة!!!! سبحان الله... أرزاق!!! وذلك يذكرني بالماضي حيث كنا تقريبا في عمر العاشرة من عمرنا وضاربنا الفلس (وليس كشباب هذا الزمان والذين لا أدري من أين يأتيهم الرصيد الموبايلي الذي لا ينضب وهم يحملون أجهزتهم الحديثة تحدثا ذهابا وإيابا !!! ) أنا وعبد المنعم صافي الدين وعبد الله يسن- والفنان المبدع يوسف عبد الحليم والذي غني في الإذاعة فيما بعد. كونا فرقة غنائية وكان أول عقد غنائي تقاضيناه كان من أختي عائشة عبد العزيز وهو مبلغ ريال كامل الدسم-يعني عشرة قروش- وغنينا في طهورة إبنها محمد سيد(امين) حتي الصباح!!! وجات زينب عثمان عمة عبد المنعم -رحمها الله- وشافت بأم عينيهاعبد المنعم وهو يدق الدلوكه وكلمت والده صافي الدين ونال عبد المنعم علقة ساخنه في اليوم التالي ولكن كان عزاؤه الوحيد أنه قبض نصيبه من الريال: قرشين ونص!!! وكان عزاؤنا جميعا بأننا كنا أول مجموعة تحاول إحتراف الغناء في أرقو ، في ذلك المجتمع المحافظ!!! فليشهد لنا التاريخ!! وكنت أدرك تماما أن الغناء هو السهل الممتنع ولكني حادوشي من أرقو والحواديش يشتهرون بشرب الشاي ويملكون صوتا أجشا خشنا لا يصلحوا أن يكونوا فنانين أو حتي شيالين كما حاولت جاهدا مع الفرقة!!!!. بل كنا نعتبر أن بكري المؤذن إبن عمي هو فعلا صاحب موهبه . وهو أقصي ما يصل إليه الحادوشي في مجال الصوت!- مؤذن وبس!!
وسمعت لندويه -ندي القلعه- كما يحلو للبعض أن يسميها في إحدي هذه الحفلات!!! وهي تحاول قدر جهدها أن تدخل الدين في غنائها كعبارات: أم راجلي تصلي الفجر حاضر!!! الطيبون للطيبات!!! ألخ....ألخ... وعلي النقيض الفنان طه ( وكأني به محاولا كل جهده اللحاق برقشة هذا الزمن المتسارع الإيقاع) والذي يصدح بأغاني الشباب قديما وحديثا مما هو متداول في هذه الأيام:
أنا في نومي بتقلّب حرامي القلوب تلّب!!!!
ولا أدري لماذا خطرت عندي الفكرة معكوسه –فنحن جيل السخرية بكل ما تحمل الكلمة من معني- بأن حرامي القلوب تلّب فعلا ولكنه غيّر رأيه ونط من فوق الحيطه إلي الشارع مرة أخري إلي غير رجعة!!!!
نومي يا بطه!!! حرامي القلوب نطه!! خليكي في نومك!! ده نطّ بهدومك!! لا ريحه لا دلكه الحرامي غيّر السكه خليكي نعسانه ده شاف ليهو غنيانه!! قفش ليهو قفشه وطار بيها في الرقشه!! قومي يا بطه حرامي القلوب نطه......
إلي إنتهي الفنان طه، فتنطتت وطارت كل أفكاري مع فرقعات رقشة الزمن الحاضر!!!! وفعلا أنتابتني بعض الشفقه علي هذا الجيل وتذكرت أبياتا من شعري الساخر، قلتها ممازحا أحد أقربائي الشباب في الفيس بوك:
جيلكم يملأ في الرصيد ويعبّي حالو الصعب قطّع شرايين قلبي ضرب الجرسه في يوم الدفاع الشعبي سألوه مين أم الرسول؟ قال –هيفاء وهبي!!!!
أنتهت الحفلة!!! وهآنذا أحاول أن أربط بين الماضي والحاضر، ولكن أختلطت عليّ مقاييس ومفاهيم الزمن الأول بالآخر ....فعدت أدراجي حزينا مكسور الخاطر.... كاليتيم في موائد الغرباء ! وحالي كصبية أهل الكهف البسطاء ...إذ تتقلبني هذه المفارقات كشمس الوجود ... من ناحية اليمين ومن ناحية الشمال! وعقلي البسيط صار ك######هم باسطا يديه ليستوعب جاهدا ما حوله في قاعة الأفراح التي إكتظت بالحاضرين من حولي !!! أما أنا فكنت الحاضر الغائب .... وبعد أن أعياني التأمل والتعجب، قررت أن أعود القهقري إلي كهف تقوقعي ، وألملم ما تبقي لدي من بواقي عملتي القديمه المهترئة لأخلد إلي النوم مع ######ي المطيع الذي انهكه التفكير والنباح ...... إلي أن تشرق الشمس في (كهف) يوم جديد !!!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة