|
قــلع البصَــل !
|
قــلع البصَــل ! شاذلي جعفر شقَّاق [email protected]
كان علي ود بساطي – رحمه الله- مُنهمِكاً في جمع البصل وتعبئتِه داخل جوَّالات الخيش وهزَّها جيِّداً لتحملَ أكبر قدر ممكن من البصل الموسوم بـ (الدوم) لصلابته الدَّالة على نجاحه وبالتالي احتماله شدَّة المُناخ وتقلُّباته في فترة التخزين ، ثم يرصف هذه الجوَّالات المُنتصِبة أزواجاً أزواجاً تاركاً بين كلِّ جوَّالٍ وآخَر مساحةً تُمكِّن الجمل (وسيلة النقل) من البروك بسلام ..ومع كلِّ هذا الجهد المُضني والتفاني والحِرَفيَّة العالية ؛ لا يني لسان ود بُساطي يستحثُّ أبناءه وعُمَّاله على السُرعة وتوخِّي سلامة البصل : (هيَّا انْكَرْبو آ جنون ..أوعى تدفنو البصل ده .. ما تقطِّعوه ..تِتْلفَّتْ مالَكْ آ جنا زي الجمل الـ في السوكَرة ، دَنْقِرْ اشتغل ؛ يشغلَك في قِدَّة ..أقلع من ورا آزول ، ما تقْلع من قدَّام ..) وفجأةً تقع عينُه على بصلةٍ صغيرةٍ يبدو أنَّ نموَّها توقَّف عند شهرها الثاني ، أو آثرتْ البقاء على هذه الهيئة التي لن تؤهِّلها للقبول حتى في (حَلَّة قاوِرْمَة) ..هنـا ألقى على ودْ بساطي الجوَّال جانباً ثم التقط البصلة الصغيرة من جذورها التي تبدو على هزالها مخضَّبة بالحنَّاء ..قرَّيها من عينيه مثل ساعاتي حاذق ليخاطبها قائلاً : ( ماااالِكْ آيُمَّة جايانا ممصوصة كدي ؟ ما حَرَتولِكْ الـــواطه ؟ ماقصَّبوها ليك؟ ما جوَّدوها ؟ ما مورقوك بالسماد والبِلِّي ؟ ما رشَّوك بالروقَلْ والـ دي تي ؟ لا لا حدِّثيني ،ما حفرولِك الضَّنَب دُغُش وسقوك عزَّ الشتاء ؟ ما كادَنولِكْ الجداول وقفَّلولِك الكركيَّات ؟ ما خلّولِك الورا والقدَّام وتايولِكْ في الساقِي ؟ ما نجَّموك في نهاراً يقلِي الحبَّة ؟ مالِك آ بصيلة السجم والرماد ؟ أنْضُمِي نَضَمِكْ بلا يخُمِّكْ !!) ولمَّ لم تستطع البصلة المسكينة المرافعة أمام هذه الاستفهامات التقريريَّة الحارقة ؛ يحشرها علي ود بساطي دفعةً واحدةً في فمه لـ (يقرشها) بغيظ شديدٍ مُشيِّعاً إيَّاها بـ (بتَّ ال######) ! في مثل هذه الأيام من كلِّ عامٍ يطلُّ موسم حصاد البصل الذي لم يَنْسَ نصيبَه من العِزَّة والأُبّهة والتمنُّع والتعلُّل على كيس الخضار في زماننا هذا ، حتى غدا البقَّال - في بعض أشهر السنة – يشحذ مُديته لذبح البصلة تمهيداً لوضعها على كفَّة الميزان مقابل أوقيَّتين أو ثلاث ! ولعلَّ أبلغ كاراكاتير طالعتُه عن تلك الفترة كان قد جعل العاشق يقدِّم لحبيبته بصلةً كاملة الدَّسَم مشفوعةً بعبارةٍ مُمعنةٍ في الرومانسيَّة تقول : (بَصَلة حُبّنـــا) ! ورغم أنّ أيِّ محصول في موسم حصاده يتدنَّى سعرُه ، إلاَّ أنَّ (أرْدب) البصل - في هذه الأيام بالتزامن مع بُشريات شهر رمضان الكريم حيث يدخل ضمن الإعدادات المطبخيَّة المُسبقة – قد قفز إلى ثلاثمائة جنيه ! كان الله في عون المواطن المسكين الذي تنتاشه سهام الغلاء من كلِّ الجهات ، تعليم وصحة وخبز ، وسائر الاحتياجات بما في ذلك منتوجاتنا المحليَّة وليس البصل ببعيد ! ولكن هذا لعمري ليس مبلغاً كثيراً على السيِّد المُبجَّل البصل ؛ إذا ما عرفتَ – عزيزي القارئ – أنَّ هذه البصلة التي بين يديك (ويتحكَّم في سعرها التاجر) قد غرسها ذلك التربال الأغبش الكادح ثلاث مرَّاتٍ في الأرض قلب أن تصرير كما هي الآن ! بدءاً من بذورها السوداء التي تشبه الكمّون إذْ تُزرَع في بداية الموسم ، لتُقلَع من الأرض وهي بُصيلات صغيرات ما يُعرَف بـ (التيراب أو المَسْمَسْ) ، وبعد ذلك يُعاد شتلها مرَّةً أخرى داخل الأحواض في مرحلة اسمها (الشَّتِلْ) أو (الغزْ) في بعض المناطق ..وفي نهاية الموسم تنتقي وتنتخب أشرف البصل نسباً وحسباً - حفاظاً على النسل وكده – كي تزرعه مرَّةً ثالثة ما يُسمَّى بـ (الكاو أو الكُمْبُجْ ) حيث تجود البصلة الواحدة – من خلال هذا الكُمْبُجْ – بآلاف من البذور السوداء الصغيرة سالفة الذكر وهكذا تدور عجلة حياة البصل ، وفي كلِّ تلك المراحل يشمِّر المزارع عن ساعد جدِّه عاري الراس والصدر والقدمين صيفاً وشتاءً ، شاحذاً ذراعه الأخضر ، ماهراً الأرض بعرَقه الحلال وكدِّه ونصبه ووصبه ، هذا فضلاً عن التكاليف الباهظة من لدُنِّ المحراث والوقود وقطع غيار الطلمبات والأسمدة والأدوية النباتية والضرائب والجبايات و (القلِع) و ... , ... فإذا غطَّى التربال ما عليه من ديون ؛ يصبح (أباطو والنجِّمْ) أو (يمرُق بي طوريْتو ) بعد أن يتحوَّل محصوله إلى التجَّار المنعَّمين ! ولأنَّ طعم الحصاد دائماً أحلى وأحبّ للنفوس ؛فإنَّ موسم (قلْع البصل) يعدَّ – في السابق – نعم في السابق قبل أن تعاف أذرع الشبَّان (الطوريَّة والمنجل والنجَّامة والواسوق )لعدم جدوى العمل بالزراعة ليضربوا في أرض الله يبتغون من فضله (في مواقع التنقيب عن الذهب) ! أو يهاجروا خارج حدود الوطن لتلتهمهم الأصقاع والشتات والمنافي ! كان قلع البصل مهرجاناً تؤوب فيه أطيار القُرى النيليَّة المهاجرة إلى أوكار القرية على كلِّ ضامرٍ ومن كلِّ فَجٍّ عميق تأهُّباً للحصاد الذي هو بلا شك يعني الانفراج والسعة وتحسين الأحوال وإعمار البيوت وميلاد الحُب والأفراح والزيجات حتى يشتجر الأهل والأقربون إزاء تضارب أزمنة عقد القِران والختان ، فكثيراً ما تسمع : ( عليك أمان الله ، ناس فلان ديل راكَبونا في خميسنا ، نحن ودّينا مالنا وشيلتنا قبَّالهم )!! مهرجان يبدأ بسنِّ (الطواري) لحفْر البصل ، وتهيئة المخازن (القطاطي) وفرشها بجريد النخل والحلفاء (الروشان) .. تستوعب فيه القرى عمَّال (القلع) من الصعيد و(الجمَّالة) من أقصى الشمال ..تنتعش الأسواق وتطيب الموائد ..يلعب الأطفال أدواراً كبيرةً في عملية القلع ؛ حشَّ القش وتخزينه ورعي الأغنام ، وجلب الماء بـ (القِرَبْ والسّعون ) على ظهور الدواب من النهر الذي يبدأ بالإصفرار استعداداً للفيضان وإغراءً بالأسماك والسباحة ..أمَّ النساء يُبدعن في إعداد الطعام والشاي والقهوة والزلابية ودورهنَّ الأكبر في عملية (عزل ) البصل الفاسد عن الصالح داخل المخازن (القطاطي) ! تكامُل فريد وصور شتَّى ..يتعالى صوت الترابلة ..صراخ الأطفال المشاغبين ..الثغاء ..الرغاء . الخوار ..النهيق ..هنـا أربعة ترابلة مفتولي العضلات يتعاونون – كما هو دأبهم في كلِّ شئ - على رفع البصل الثقيل على ظهر جملٍ يئنُّ مُرغياً مُزبدا .. هنـاك معزة تعالج بصلةً أكبر من فمها بجانب بقرةٍ تفترش العشب تُخمةً ..في البعيد حمارٌ يُغازل أتان ..في مُدخل (التنقير) جمَّالي يدسُّ – وهو يقود جَمَلَيْه – في جيبه وُريقةً صغيرةً بحرص مَن لا يقرأ وقد كُتب عليها : ( 2 أردب حقَّ البابور ..الجمَّالي جودة الله ..العزَّالة سكينة ) هناك هنا جلبة.. ضوضاء.. أصوات الطواري وهي تحفر الأرض الخصبة متناغمة مع ايقاع الطار القادم من بعيد ووقع البصل في (الباغات) و (الصفائح) وأرجل الدواب وهي تهشُّ الهوام ..هنا هناك ..درويش .. مادح .. شحَّاد ..عاشق يقف أمام باب (قطيَّة) توطئة لفرحٍ قريبٍ يضوع فأله بخور وطلح ودلكة وخمرة وطمي ودُعاش و(كُشنة) بصل ! تلك كانت نتَف من صور في غاليري (ملحمة قلع البصل) في الزمان الأول ، لم يستطع غلاء البصل محوها أو نسخها من ذاكرة رجُلٍ بُعث ليجلبَ بصل رمضان ؛فعاد (حانِف وشيهو ) ..! هذا وكلِّ عامٍ والجميع وبصَلة حبِّنــا بألف خير !!
الوفاق - اليوم الخميس 27/6/2013م
|
|
 
|
|
|
|
|
|
Re: قــلع البصَــل ! (Re: shazaly gafar)
|
شاذلي حياك الله كتابة جميلة ولغة اكثر من رائعة عشت معك كل تفاصيل زراعة البصل من المسمس للقلع وكانها ماثلة امامي . والله ياشاذلي هيجت فينا اشجان فالزراعة تجري فيني مجري الدم تسلم ياحبيب
| |

|
|
|
|
|
|
Re: قــلع البصَــل ! (Re: سليمان القرشي)
|
Quote: شاذلي حياك الله كتابة جميلة ولغة اكثر من رائعة عشت معك كل تفاصيل زراعة البصل من المسمس للقلع وكانها ماثلة امامي . والله ياشاذلي هيجت فينا اشجان فالزراعة تجري فيني مجري الدم تسلم ياحبيب |
طاب مقامك أخي القرشي
كثير من الأحيان تعشوشب مجاري النفَس - يا صديقي - ويقتل (الكَمْتَرْ) أزاهير الأمَّل البضَّة الخدود .. كثير من الأحيان تحاصرنا كآبة المناظر وقتامة الواقع البئيس بفعل أباليس (السجم والرماد) .. فلا يكون أمامنا إلاَّ مهارب التذكُّر والاجترار على صهوات قلوص الحنين ..أنعِم بها من مراتع تنعش النفوس وتسعد القلوب ..شكري الجزيل
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: قــلع البصَــل ! (Re: shazaly gafar)
|
شكرا يا شاذلي رجعتنا زمنا طويل بالحيل لا ورا لايام غز البصل والانجرارة بالسرابات حتى اهترأت ملابسنا غز البصل موسم للفرح حيث تمتلئ جيوبنا الصغيرة باموال عرق جباهنا الصغيرة عدت من السودان قبل ايام ومن قلب الجزيرة وتركت شوال البصل يقارب الـ200 الف جنيه حزنت للمواطن المغلوب الذي كتب عليه ان يجازف حلته ببصل بهذا السعر وفرحت لبعض المعارف من المزارعين الذين كان موسمهم جيدا جدا ونالو ثمار تعبهم مئات الملايين وتحسرت على بعضهم والذين على الرغم من ان محصولهم كان جيدا الا انهم باعو زمن الرخسة وانخفاض السعر الى ادنى مستوياته فخرجوا من المولد بدون بصل
| |

|
|
|
|
|
|
Re: قــلع البصَــل ! (Re: محمد إبراهيم علي)
|
Quote: شكرا يا شاذلي رجعتنا زمنا طويل بالحيل لا ورا لايام غز البصل والانجرارة بالسرابات حتى اهترأت ملابسنا غز البصل موسم للفرح حيث تمتلئ جيوبنا الصغيرة باموال عرق جباهنا الصغيرة عدت من السودان قبل ايام ومن قلب الجزيرة وتركت شوال البصل يقارب الـ200 الف جنيه حزنت للمواطن المغلوب الذي كتب عليه ان يجازف حلته ببصل بهذا السعر وفرحت لبعض المعارف من المزارعين الذين كان موسمهم جيدا جدا ونالو ثمار تعبهم مئات الملايين وتحسرت على بعضهم والذين على الرغم من ان محصولهم كان جيدا الا انهم باعو زمن الرخسة وانخفاض السعر الى ادنى مستوياته فخرجوا من المولد بدون بصل |
حبابكـ الأخ محمد إبراهيم وأنت تفتح (النفَّاج) الحميم على شتل أو غز البصل كأوَّل مصدر دخل خاص بعرق الجباه الصغيرة ..بعد الأوبة من المدرسة؛ يتأبَّط كل شافع (خلاله) ..الخلال هو آلة شتل البصل يصنع من غصون الشجر ، ثم استحدث فصار يصنع من كرعين السراير والكراسي القديمة وممكن كمان تضع شوية من الحصى الصغير أو بلِّي بدَّال العجلة عشان تسمع ايقاعات وكشكشة أثناء الشتل ..ثم يتجهون صوب الزراعة..الأولاد يلبسون كيفما اتفق لكن البنات لازم يكونو لابسات بناطلين لزوم السترة وكده ورابطات رويساتن بقطعة عشان الكتَّاحة..والتربال يحوم فوقهم يلا هييي انكربو : (غزِّرْ ..تكِّنْ .. مكِّن ) ..زماااااااااان كتبت قصيدة تقول : (( غزِّرْ ..تكِّنْ .. مكِّن من زولاً ناشِفْ ريقو كلمات من جُوَّه يمرْقِنْ لي شُفَّعْ جنبو يَشِتْلو أحلام لي بكرة يغنِّن ))
شكري الجزيل
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: قــلع البصَــل ! (Re: shazaly gafar)
|
Quote: حمد لله على السلامة يا صاحبي..
ما بتتلحق لمن مزاجك يركب.. |
تسلم من كلِّ بلاء يا سمسم تقول شنو يا صديقي : أصبح أهون على المرء أن يدبِّج صفحات الصحف السيَّارة وبوردات الأسافير بعشرات المقالات ، من أن يُبتعث لجلب (بصل لي رمضان) ، بصل سوداني المنبت والمنشأ والأصل والفصل ..شكري
| |
 
|
|
|
|
|
|
|