|
قُمْقُم الكلمة !
|
قُمْقُم الكلمة ! شاذلي جعفر شقَّاق [email protected]
لم تنتزعْ الريحُ الصرْصرُ خيامَ الكلام فحسب ؛ إنَّما عصفتْ بفكرةِ الهمْهمةِ المجبولةِ على الإبانةِ الممزَّعةِ الأوصال ، غير أنَّ آذان الجدران لا زالت تُقاوم الصَّمَمَ وهي تُملِي على عُميان المنابر وبُكمُ الربابنة : أنْ جفَّتْ الألسُنُ الداجنةُ ، وغيض النَّظْمُ الأجيرُ ، وتمنَّعتْ الطبولُ الراقصة .. كما اعتذر القرِعُ عن العويل ، بل عافتِ النائحاتُ أجورَهنَّ مُسبقاً غير آسفات ! الآن لا صوتَ يعلو فوق صوتِ الزَّحْفِ الصامتِ ووقْع الأقدام الحافية !تقاطعتْ إشارات ضوئيَّة صفراء وحمراء وخضراء مشفوعةً بشخشخاتٍ ازدردتْ – كغولٍ جائعةٍ - كلمةً على وزنِ (حوِّل) ! لاشئ في الجانبِ الآخر سوى ذبذباتٍ كأنَّها غمغماتُ جنيَّاتٍ يغزلنَ أحابيلَ غوايةٍ في وادٍ سحيقٍ يفرِّقن بها بين الصوتِ والحناجر ! الآن اعتصمتْ حتى الشفاه الصديقة في ميادين الصمت الفصيح والفسيح عن القول المُباح وغير المُباح ..يشهدن اللسانَ الختين واليراعةَ المخفوضة .. عَقَمتِ النوادي .. دخلتْ المسارحُ في عِدَّتِها .. انقطع طَمْثُ الطُرُقاتِ فاعتزلتِ الكلابُ النُباح! لاشئ في الجانب الآخر سوى أزيزٍ فاترٍ مثل طنين ذُبابة في قعْرِ قِنِّينة طويلة العُنق مدهونة الدواخل ! أقول لك صمتَ الكلامُ – سيِّدي - وغابت لُغةُ الأجساد ، بل اعتزل الخنَّاسُ الوِسْواسَ .. سُحقاً .. وما أدراني أنَّك لحقتَ بهــم ؟! لا شئ في الجانب الآخر سوى صفيرٍ متقطِّعٍ ، شاحبٍ وكئيب ، كأنَّه سجْعُ صرصورٍ أرملٍ يُعالجُ وحدتَه داخل كومةِ عُشبٍ يابسٍ في سجْسجٍ بهيم ! ما فتئَ الصوتُ اليتيم ُ يُرسلُ وحشتَه ويُجيبه العدَم ؛ حتى تبيَّن أنَّ شفتَيْهِ اللعينتين تلتقيان وتفترقان دون أن تُصدرا أيَّ صوت ! إنَّما لا زالت نعمةُ التحدُّث إلى النفس في غفلةِ القرين باقية .. ثمَّة ما يُشبه جَلْد الذات وهي تقرُّ بأنَّ الأزمة قد بلغتْ مُنتهاها ربَّما ولذلك يصعب تلمُّسِ جذورها ومنابت دواعيها .. ولكن لا مناص من فعلٍ ينفح في الكلمة من روحه .. وإنِّي – رُغم انحباس صوتي – لفاعلٌ ، حتى لو أدَّى ذلك إلى المجازفة بجُملة الصامتين ! سأُنشئُ – على الفوْرِ – مفوِّضيَّةً عُليا أو آليَّةً دُنيا أو نيابةً بيْن بيْن لمعاقبة الجُناةِ الصامتين .. ومطاردة المارقين عن الحديث نادياً نادياً ، زُقاقاً زُقاقاً وتمزيقهم إرْباً إرْباً حيث ثَقِفْناهم ! أينما كانوا ستطالهم يدُنا الطولى ولو دخلوا في جُحرِ ضبٍّ خَرِب ! أمَّا الخاضعون منهم فسأجعلهم – بإذنه تعالى – يدفعون جزية الصَّمْتِ عن يدٍ وهم صاغرون ، بينما أحفِّز - ضرورةً - أهلَ اللَّغَط واللَّغْو والجدال وذلك بمنحهم مشاريع تنموية صُغرى لتدشين كلِّ ما تجود به الأفواه وذلك بفتح منابر عامَّة لإحياء خاصية الكلام ! وبذلك أكون قد ضربتُ عصفورين بحجرٍ واحد ؛ اكتناز المال من جانب ونبش تلك المهارة من لحدِ الاندثار من جانبٍ آخر ! هذه الخطة (ألف) .. أمَّا الخطة (باء) فهي تكمن في استدراج أهل اللغة المُبدعة المحبوسة في هذا القُمقُم العتيق ، تُرى كم يحوي بداخله من الألسُن المبرقطة والأقلام الملوَّنة منذ أن كانت الكلمة على قيد الحياة ؟كم يراعةٍ كُسرتْ قبل أن تحدِّثها نفسُها بالهجرةِ من الكناية إلى النكاية ، وكم دواةٍ أهرقتْ قبل أن يتفرَّق دمُها بين الصحائف ، ثم حشرناهم جميعاً في هذا القُمقُم الحفيظ ؟! ما باله أضحى خفيفاً هكذا ؟ أخشى ما أخشى أن يكون ... لا .. لا أظنُّ ذلك .. وفي اللحظة التي هزَّه فيها ؛ سقط القُمقُمُ ثم تدحرج في الأرض .. زادتْ سرعتُه .. تعملق حتى حجب الرؤية تماماً .. طار في الهواء كالعنقاء ..انتفخ حتى اعتكرتْ السماء ..ثم انفجر انفجاراً مدوِّياً ، اهتزَّت له الأرض لتندلق عناقيدُ الكلام وقد تحوَّلتْ بقدرة قادرٍ إلى قنابل عنقوديَّة ..شُذَّاذ آفاق القصيد إلى راجمات ..الروايات إلى أساطيل بحرية .. جرذان القصص القصيرة جداً إلى صواريخ .. حشرات الخُطب البتراء إلى رشَّاشات ..مقالات النقد إلى معاول ومجارف وعٍصي و عيدان ! ولكن دون أن تنبُسَ أيٌّ من هذه المتحوِّلات ببِنْت شَفَة !!!
الوفاق – الإثنين – 28/1/2013م
|
|
 
|
|
|
|