|
Re: دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية (Re: احمد سيد احمد)
|
ثانياً : لقد أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تُدرأ بالشبهات ، وهي قاعدة فقهية كبرى ، أجمع على الأخذ بها جماهير الأئمة والفقهاء . ومعنى القاعدة : أن أي احتمال لعدم تكامل شروط إقامة الحد يطوف بالمتهم ، أو بالظرف الذي تمت فيه الجريمة ، يُسقط الحد ويلغي ثبوته . وعلى الحاكم أن يستعيض عنه بما يراه من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى . وإننا لنتأمل فنجد أن هذه الاحتمالات كثيرة متنوعة لا تكاد تتناهى ؛ وننظر ؛ فنجد لها التطبيقات الكثيرة والمختلفة في عهد الصحابة والتابعين ، كما نجد لها التطبيقات المتنوعة في تخريجات الفقهاء وفتاواهم . فإذا ما ألغي الحد لشبهة ؛ فإن الجاني لا يؤخذ عندئذٍ إلا بمسؤوليتين اثنتين : أولاهما : التسوية الحقوقية ؛ إذا كانت الجناية مما يستلزم ذلك ، كالسرقة وقطع الطريق ، حيث يجب أن يغرم السارق ما قد سرقه .. وهو خطاب وضعي يُواجه به حتى مَنْ لم يكن أهلاً للتكليف . الثانية : عقوبة التعزير ، ويتخير الحاكم نوعها وكيفيتها وكميتها حسب ما تقضي به المصلحة ، ويحقق الغاية من شرع العقوبات .. فتلك هي قصة القسوة التي ينعت بها بعض الناس حدود الشريعة الإسلامية . وإنه لنعتٌ ظالم باطل ، يندفع إليه من لا يريد لهذه الأمة أن ترقى إلى شيء من الالتزام بمنهج الفضيلة والخلق الإنساني القويم . ويشفق على وباء الإباحية الذي تسفيه علينا رياح الغرب والشرق ؛ أن ينقطع سيله ، أو تسكن ريحه . وإنه لشيء مثير للعجب حقاً ؛ أن يُضخم أناس من مظهر هذه القسوة الخيالية التي عرفنا حقيقتها ، في غيبوبة من التأمل العقلي ، ثم لا يلتفتوا بأي نظرة إلى النتائج الإنسانية الحميدة التي تنبسط في ساحة المجتمع كله لدى اتخاذ قرار جاد بتطبيق هذه الحدود . وأعجب من هذا أن يعبِّروا عن مشاعر الرحمة في نفوسهم ، بصدد ما يتخيلونه من قسوة الحدود ، ثم لا يستشعروا أي رحمة بالمجتمعات التي تشيع فيها القرصنة وينتشر الإجرام ، وتزهق فيها الأرواح رخيصة طمعاً في تمزيق عِرْض أو الوصول إلى مال ! ولَكَمْ سمعنا وقرأنا قصص أُسَرٍ طاف بها الموت في جوف الليالي خنقاً أو تذبيحاً ؛ ابتغاء اقتناص ثروة من المال !! كل هذه الشراسة المتوحشة لا تحرك قلوب أولئك الذين يمثّلون الرحمة والرحماء ، حتى إذا ما أقبلت الشريعة الإسلامية تلوّح بعصا التأديب التي لا بديل عنها لتقي المجتمع من هذه الفوضى والوحشية المرعبة ، وتغرس في مكانهما الأمن والنظام والرحمة ؛ استشعَروا القسوة فجأة ، وتذكروا الرحمة على حين غرة !! » [18] . * الشبهة الثالثة : أن العقوبات الشرعية تهمل شخصية المجرم وتأثير البيئة فيه : فهي لا تتفق مع النظرية الحديثة في تحليل نفسية المجرم ، وأنه مريض النفس ، منحرف المزاج ، متأثر بما حوله ، بل هو ضحية من ضحايا المجتمع ، والذي يعدّ مشتركاً معه لسبب أو لآخر فيما أقدم عليه ، فكان من العدالة أن يتقاسم معه المسؤولية ، وأن يعمل على علاجه لا عقابه [19] . - دحض هذه الشبهة : وهذه أيضاً شبهة داحضة من ثلاثة وجوه : الوجه الأول : أن الظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه ، والعقد النفسية والأمراض العصبية تدفع أحياناً إلى الجريمة . ولكن الإنسان مع ذلك ليس كائناً سلبياً بحتاً بإزاء هذه الظروف . إن عيب المحللين النفسيين ؛ أنهم - بطبيعة علمهم - ينظرون إلى الطاقة المحركة في الإنسان ، وإلى الغرائز الكامنة في ذاته ، والتي تدفعه إلى إشباعها والاستجابة لها ، ولكنهم لا ينظرون إلى الطاقة الضابطة له ، وإلى قدراته العقلية التي كان من المفترض أن تعقله عن الإقدام على ارتكاب الجريمة ، والاستجابة المطلقة لهذه الغرائز الدافعة . إنهم كما قال محمد قطب ينظرون إلى الطاقة المحركة ، إلى ( الدينامو ) ، ولا ينظرون إلى الطاقة الضابطة ، إلى ( الفرامل ) ، مع أنها جزء أصيل من كيان النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج . إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سنٍّ معينة حتى لو لم يدر به أحد ؛ لهي ذاتها ، أو شبيهة بها ، الطاقة التي تضبط انفعالاته وتصرفاته ، فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة ، أو وراء النزوة الطارئة [20] . ولأجل هذا أسقط الإسلام الحدود والقصاص عن الصبيان والمجانين ، فلا تقام إلا على من كان بالغاً عاقلاً [21] . فما دام المجرم بالغاً عاقلاً مختاراً ؛ فإن أحواله النفسية وبيئته وثقافته لا تصلح مسوِّغاً لارتكاب الجرائم ، والاعتداء على الآخرين . كما أن هذه الأمور عائمة لا تقوم على أساس متين ولا يضبطها ضابط معين ، ولا حدود تنتهي إليها ؛ مما يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب الرادع ، ومن ثم كثرة الجرائم ، وانتشار الفوضى ، وزعزعة الأمن والاستقرار [22] . قال الشيخ أحمد محمد شاكر : « إن بعض النظريات الحديثة ترفّه عن المجرم حتى يظن أنه موضع إكرام بما جَنَى ، وتدّعي أن القصد من العقاب التربية والتأديب فقط ، وأنه لا يجوز أن يُقصد به إلى الانتقام ، وتزعم أن الواجب درسُ نفسية ( الجاني ) ، فتُلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة ، وظروف الجريمة ، ومن نشأته وتربيته ، ومن صحته ومرضه ، وما يعتمل في جوانحه من عواطف وشهوات ، وما يحيط به من مغريات أو موبقات ، إلى آخر ما هنالك .. ونسي قائلوها أن يَدْرسُوا ( المجني عليه ) هذا الدرس الطريف ، ليَروا أيّ ذنب اجترح حتى يكون مهدداً في سرْبه ، معتدىً عليه في مأمنه من حيث لا يشعر !! ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية : أمَن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيّته وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً ، لا ينزع إلى الشر ، فكان مجنياً عليه ، أمّن كان على الضد من ذلك ، فكان جانياً ؟! إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ويعلم ما يصلح الفرد ، وما يصلح الأمة ، وقد شرع الحدود في القرآن زجراً ونكالاً ، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل » [23] . الوجه الثاني : أن الشريعة الإسلامية إذْ ترسم أحكامها لمعاقبة الجانحين والمجرمين ؛ لا تنطلق في ذلك من حصر المسؤولية فيهم ، وتحميلهم وحدهم عاقبة ما أقدموا عليه ، بل هي تجعل المجتمع مسؤولاً في بعض الحالات عن هذه الجرائم التي ارتكبوها ، وقاعدة درء الحدود بالشبهات أبلغ تجسيد لهذه الحقيقة ، وأوضح برهان عليها [24] . الوجه الثالث : أن رغبة المعترضين في جعل العقاب كالعلاج للمريض ؛ متحققة في العقوبات الشرعية التي هي مبنية على أساس الرحمة بالمجرم والمجتمع . ولكن هؤلاء فاتهم أن العلاج لا يُشترط فيه أن يكون لذيذاً تشتهيه النفس ، فقد يكون كريهاً مرّاً ، وقد يتضمن إسالة الدماء وقطع الأعضاء ، وهو في جميع هذه الصور يبقى علاجاً موصوفاً بالرحمة في حق المريض ، خالياً من الانتقام منه . كما فات هؤلاء أن العقوبات شُرعت لوقاية المجتمع وتطهيره من جراثيم الأمراض ، والأعضاء الفاسدة التي سرت فيها الأمراض المزمنة والمعدية ، وغفلوا أو نسوا أن التغاضي عن هذه الأعضاء الفاسدة ، والتسامح معها ، رغبة في صلاحها وصحتها ، سينتج عنه تفاقم المرض واستفحاله ، وانتشاره في سائر الجسم ، فلم يستصح العضو ولم يسلم الجسم . وهذا هو الشأن في العقوبات ، فقد شُرعت لتكون علاجاً لمن لا يجدي معهم علاج الوعظ والتذكير والإنذار [25] . ثانياً : الشبهات الخاصة : * الشبهة الأولى : حول حد الزنا : يقولون : إن الزنا برضا الطرفين حرية شخصية ، وإقامة الحد في هذه الحال مصادرة لهذ الحرية التي يجب أن تصان ، كما أن حد الزنا فيه إهدار لآدمية المجرم ، وإيذاء له لم يعد مقبولاً في العصر الحديث [26] . - دحض هذه الشبهة : أما الاحتجاج بالحرية الشخصية إذا وقع الزنا برضا الطرفين ، فإنه قول متهافت مردود ؛ لأن الإنسان ليس حراً في فعل ما يضره ، أو يضر غيره . فله مطلق الحرية ، إلا فيما يعود عليه أو على غيره بالضرر . وقد ثبت بالشرع والعقل والحس أن الزنا شر سبيل ، وأن له أضراراً كثيرة على الزانيَيْن ، وعلى أسرتَيْهما ، وعلى مجتمعهما . وعليه ؛ فإن وقوع الزنا بالتراضي لا يبيح الزنا ، ولا يزيل أضراره وآثاره السيئة . فوجب معاقبة فاعله والأخذ على يده [27] . وأما القول بقسوة هذه العقوبة ، وإهدارها لآدمية الزاني بجلده أو رجمه ؛ فالجواب عنه : أن الزاني هو الذي أهان نفسه وعرضها للإذلال والإهدار ، فإنه لو لم يفعل هذه الفاحشة المنكرة لبقي محترماً موفور الكرامة ، حرمته مصونة ، ونفسه معصومة [28] . وأما اتهام هذه العقوبة بالقسوة والشدة ، فقد تقدم الجواب عنه قريباً . * الشبهة الثانية : حول حد الردة : قالوا : إن هذه العقوبة القاسية مصادمة لمبدأ عدم الإكراه في الدين ، والذي قرره الله في أكثر من آية في كتابه ، كقوله تعالى : ] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَي [ ( البقرة : 256 ) ، وقوله : ] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ ( يونس : 99 ) . وهي كذلك مصادمة للحرية الشخصية في اختيار الدين الذي يراه الإنسان [29] ، كما أنها سبب لانتشار النفاق في صفوف المسلمين [30] . - دحض هذه الشبهة : أما قولهم : إن حد الردة مصادم لما قرره القرآن من مبدأ عدم الإكراه في الدين . فإنه غير صحيح ؛ لأن الإكراه المنفي في الآيتين إنما هو الإكراه على الدخول في الإسلام ابتداءً ، فالإسلام يريد ممن يدخل فيه أن يدخله عن قناعة ورغبة واختيار ، وإدراك لحقائقه وميزاته ، وأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، وجعله مهيمناً على الأديان كلها ، ولن يقبل من أحد ديناً سواه . فإذا دخل فيه كذلك ، فليس له من بعد أن ينكص عنه ، ويشتري الضلالة بالهدى ، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ إذْ ماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ [31] وإن القلب الذي تذوَّق حلاوة الإيمان ، وعاش في ظلاله الوارفة ؛ لا يمكن أن يرتد عنه ، وينكص على عقبيه ، إلا إذا غلب عليه هواه ، وفسد فساداً لا يرجى له بعده صلاحٌ أبداً . ومن كان هذا حاله ، فجدير به أن يُقتل ويُستأصل . وأما قولهم : إنها مصادمة للحرية الشخصية في التدين بما يراه الإنسان . فالجواب عنه من وجهين : الوجه الأول : أن الحرية الشخصية مقيدة كما سبق بعدم الإضرار بالنفس أو بالغير ، والردة تلحق بصاحبها وبالمجتمع المسلم أشد الضرر وأبلغه . فبالردة يحبط عمل المرتد ، ويخسر الدنيا والآخرة . وبها يحصل العدوان على الدين ، والطعن في عقيدة الأمة ونظامها الذي تقوم عليه جميع شؤونها . الوجه الثاني : أن عقوبة الردة لا تتنافى مع الحرية الشخصية في اختيار العقيدة التي يرتضيها الإنسان ؛ لأن حرية العقيدة توجب أن يكون الإنسان مؤمناً بما يقول ويفعل . وبأن يكون له منطق سليم في انتقاله من عقيدة إلى أخرى ، وإعلانه ذلك أمام الناس . ومن أين يكون المنطق والعقل السليم ، لمن يخرج من ديانة التوحيد إلى الوثنية ؟ ومَنْ ذا الذي يخرج من دينٍ كلّ ما فيه موافق للفطرة والعقل المستقيم ، إلى دين مناقض للعدل والمصلحة ، ولا يستطيع العقل تسويغ ما فيه ؟ لا يفعل ذلك أحد ، وهو ذو حرية فكرية حقيقية ، إنما يخرج من هذا الدين القويم اتباعاً للهوى ، أو جنوحاً إلى المادة يطلبها ، أو كيداً للإسلام وطعناً فيه . فإذا حارب الإسلام اتخاذ الأديان هزواً ولعباً وتضليلاً وعبثاً ؛ فإنما يفعل ذلك لحماية الفكر والرأي من هؤلاء العابثين والمخربين . وليست الحرية في أي باب من أبوابها انطلاقاً عابثاً لا يعرف حدوداً أو حقوقاً ؛ إنما هي اختيار مبني على حسن الإدراك وتبين الحقائق [32] . وأما قولهم : إن عقوبة الردة تؤدي إلى انتشار النفاق في صفوف المسلمين ؛ لأن المرتد إذا علم أنه سيقتل أخفى على الناس كفره ، وأظهر ما ليس في قلبه . والحقيقة غير هذا ، فإن عقوبة المرتد من أكبر العوامل المانعة من النفاق ؛ ذلك أن مَنْ يكثر منهم الارتداد هم الدخلاء على الإسلام لهوى أو طمع دنيوي ، أو رغبة في التجسس على المسلمين وكشف عوراتهم من الداخل ، فهم لم يدخلوه عن رغبة واقتناع ، وإنما دخلوه لتحقيق حاجة في نفوسهم ، فهم منافقون منذ دخولهم فيه ، عازمون على الارتداد عنه عند قضاء حاجتهم . فإذا علموا أن الموت ينتظرهم إذا ارتدوا ؛ امتنعوا من الدخول في الإسلام ابتداء ، وبهذا ندرك أن في عقوبة الردة قطعاً لرقاب المنافقين ، وليس فيها زيادة لعددهم [33]
* الشبهة الثالثة : حول حد السرقة والحرابة : قالوا : إن العقوبة بتقطيع الأطراف فيها إضرار بالمجتمع ، وذلك بإشاعة البطالة فيه ، وتعطيل بعض الطاقات البشرية التي كانت تسهم في العمل والإنتاج ، وتكثير المشوهين والمقطعين الذين أصبحوا عالة على المجتمع بسبب عجزهم عن الكسب والإنفاق ، فيجب أن يستعاض عن هذه العقوبة بالحبس مع التربية والتوجيه [34] . - دحض هذه الشبهة : هكذا يزعمون !! وهو زعم ينقصه الإنصاف والنظر الصحيح ، بل هو مغالطة صريحة وقلب للحقائق . ذلك أن ترك السرّاق والمحاربين دون عقوبة رادعة ؛ يجعلهم يعيثون في الأرض فساداً ، ويهددون أمن المجتمع ، ويهتكون الحرمات ، ويقطعون على الناس سبل العيش والكسب ، ويعطلون مصالحهم ، ويخيفونهم في مأمنهم ، ويفجعون النساء والأطفال في مساكنهم ، ويسرقون جهود الآخرين ، ويستبيحون أموالهم بغير حق . كما أن ذلك يدعوهم إلى البطالة والقعود عن العمل والكسب المشروع ؛ لأنهم يستطيعون تحصيل ما يريدون عن طريق السرقة وقطع الطريق . كما أن العاملين المجتهدين في تحصيل الأموال بالسبل المشروعة سينقبضون عن العمل ، وينتظمون في سلك الكسالى العاطلين ؛ ما دامت أموالهم مهددة بالاستلاب والضياع ، فتتعطل الأعمال ، وتفسد الأحوال ، ويقعد الناس عن التكسب وجمع المال . ومعنى ذلك أن السارق لا يسرق المال فقط ، وإنما يسرق معه أمن المجتمع واستقراره وطمأنينته ، فكان في التساهل مع هؤلاء السراق خراب العمران ، وشل قدرات الإنسان ، واستنفاد طاقته ووقته وجهده في حفظ ماله وحمايته . كما أن السرقة تتبعها - في الغالب - أقسى الجرائم المباشرة من القتل والجرح ، وانتهاك الأعراض ، وهتك حرمات البيوت ، وغيرها . وإن السراق يتسلحون دائماً خشية الظفر بهم فيدافعون عن أنفسهم ، أو لقتل وجرح من يقف في طريقهم ، ويحول بينهم وبين تحقيق مرادهم ، أو يخشون منه أن يكشفهم ويعلن عنهم . ولا يكاد يمر يوم في المدن الكبرى من غير ارتكاب جريمة قتل لأجل السرقة . وقد سبق الكلام مفصلاً عن هذه الأضرار وغيرها حين الكلام عن الحكمة من مشروعية حد السرقة وحد الحرابة [35] . فقطع طرف واحد ، كما أنه تنكيل بالمجرم وزجر له ، فإنه يؤدي إلى زجر الجناة من أمثاله ، وحفظ مئات الأرواح ، وآلاف الأطراف سليمة طاهرة ، عاملة منتجة [36] . وأما دعوتهم إلى الاستعاضة عن القطع بالحبس - كما هو الحال في القوانين الوضعية - فقد شهد واقع الدول التي تطبق عقوبة الحبس على إخفاق هذه العقوبة في ردع المجرمين واستصلاحهم . وإن الطواف على السجون وعدّ نزلائها يرينا أنهم في ازدياد دائم وتفاقم مستمر ، فما ردعت السجون عن الجريمة إلا قليلاً [37] ، بل أصبح السجن مدرسة يتعلم فيها المجرمون كثيراً من فنون السرقة وأساليبها الخفية ، ثم يخرجون بعد ذلك أكثر خطورة وخبرة وإقداماً ، فصار السجن محضناً للإفساد وتلقين أساليب الإجرام ، وكسب متعاونين جدد من حدثاء العهد بالجريمة ، بل لقد جعلوا من السجن ساحة ممهدة لرسم الخطط ، وتقاسم المهمات ، يشاركهم إخوان لهم في الإجرام خارج القضبان . أضف إلى ذلك ما يخلق لديهم السجن من شعور بالعداء ورغبة في الانتقام للنفس ، وإثبات الذات [38] . كما أن السجن يؤدي إلى تحطيم الطاقات القادرة على العمل ، وقتل الشعور بالمسؤولية في نفس المجرم تجاه ذاته وأسرته ، ويحبب إليه القعود والكسل . حيث ينعم بتوفير وسائل الراحة والترفيه له ، وتقديم الغذاء والكساء والدواء له مجاناً طيلة بقائه في السجن . ولربما رغب في البقاء بالسجن طلباً لذلك الذي قد لا يحصله خارج السجن ، وقد يعاود الجريمة بعد خروجه منه من أجل العودة إليه ، والتنعم بما فيه ، وضمان لقمة العيش بين جدرانه . هذا فضلاً عما تخسره الدولة في الإنفاق على هؤلاء المساجين ، وحراستهم والقيام عليهم ، وما تخسره من تضييع جهودهم ، وهدر طاقاتهم ، وحبسهم عن العمل والكسب . وفضلاً عما ينتج من سجنهم من عزلهم عن بيوتهم وزوجاتهم وأولادهم ، وتعريضهم للحاجة والضياع . أضف إلى ذلك كله أن حبس المساجين عن مزاولة نشاطهم ، وحرمانهم من الاتصال بزوجاتهم ، وجمعهم في مكان واحد قد لا تتوفر فيه المواصفات الصحية الكاملة في أغلب الأحيان سبب مباشر لانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي بينهم ، وانتشار كثير من الأمراض فيهم ، وانتقال العدوى من بعضهم لبعض . هذه بعض عيوب العقوبة بالحبس ، والتي ينادون بتطبيقها بدلاً عن العقوبة الشرعية [39] . والفرق الأساسي بين هذه العقوبة الوضعية وبين العقوبة الشرعية ، وسبب نجاح هذه دون تلك : هو أن العقوبة الشرعية قد وُضعت على أساس من طبيعة الإنسان ، وعِلْمٍ بما يزجره ويردعه . فإن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يريد منها تكثير ماله ، وزيادة كسبه بكسب غيره ، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ، ويريد أن ينميه من طريق الحرام وسرقة جهود الآخرين وثمرة أتعابهم . وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور ، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل . فهذا هو الدافع الذي يدفعه إلى السرقة . وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع ؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب ؛ إذْ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أياً كان . ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء ، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل ، والتخوف الشديد على المستقبل . كما أن قطع يده أو رجله فيه فضحٌ له وتشهير به ، وقطع للثقة فيه ، بخلاف ما كان يقصده بسرقته من الظهور والتباهي . فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع ؛ دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة ، تصرف عن ارتكابها . فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية ، وارتكب الإنسان الجريمة مرة ، كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلّب العوامل النفسية الصارفة ، فلا يعود إلى الجريمة مرة ثانية [40] . وأما عقوبة الحبس ؛ فإنها لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة ؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل والكسب إلا مدة الحبس . وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو ملبى الطلبات مكفيّ الحاجات ؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب ، وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على السواء ؛ لأنه لم يخسر شيئاً يحد من كسبه ، ويفقده ثقة الناس به . ولكنه إذا قطعت يده نقصت قدرته على الكسب نقصاً كبيراً ، ولن يستطيع أن يخدع الناس ويحملهم على الثقة به والتعاون معه وهو يحمل أثر الجريمة في جسمه ، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه . فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع ، وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس . وفي طبيعة الناس كلهم ، لا السارق وحده ، أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة ، وأن لا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة [41] . كما أن عقوبة السجن فيها إخفاء للجريمة ، وستر على المجرم ، فتُنسى جريمته ، ويخرج من السجن وكأنه لم يقترف ذنباً ، ولم يرتكب جرماً . أما تطبيق الحد الشرعي فإنه بمثابة إعلان بالخط العريض ، يحمله المجرم حيثما كان ، معلناً دناءته وخسته ، وقبح فعله ، وسوء عاقبته ، فيرتدع بذلك كل من رآه أو سمع به ، فتنقطع جذور البلاء ، وينقمع المجرمون وأهل المطامع والأهواء . ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية ، وهو السر في نجاح هذه العقوبة في الحد من السرقة أو القضاء عليها في البلاد التي طُبّقت فيها قديماً وحديثاً . لقد كانت الجزيرة العربية قبل تحكيم الشريعة فيها من أسوأ بلاد العالم أمناً ، فكان المسافر إليها وكذلك المقيم فيها لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل أو نهار ، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة ، وكان كثير من السكان لصوصاً وقطاع طرق ، ديدنهم السلب والنهب ، والغارات والثارات . فلما طُبّقت الحدود أصبحت الجزيرة خير بلاد العالم كله أمناً واستقراراً ، يأمن فيها المسافر والمقيم ، حتى إنه لتترك الأموال على الطرقات دون حراسة ، فلا تجد من يسرقها أو يزيلها من مكانها على الطريق ، وتترك المتاجر مفتوحة أوقات الصلوات مدة غير قليلة ، والمعروضات في متناول اليد ، فلا يمسها أحد ، ويأخذ أصحاب الأموال ودائعهم من البنوك مهما كثرت غير متحرجين أو خائفين ، فيذهبون بها إلى حيث أرادوا وهم آمنون مطمئنون [42] . فقد أقامت هذه العقوبة الشرعية أعراب البادية الذين هم أجرأ من العقبان ، أقامتهم على سواء السبيل ، فلا تمتد يد أحد منهم إلى ما ليس له ، ولو كان في معرض ناظرَيْه ومتناول يدَيْه . وننظر في المجتمعات الغربية وغيرها من الدول التي تطبق القوانين الجاهلية ، ممن يرمون حد السرقة بهذه التهمة ، وكيف يعيش الناس هناك في فزع دائم ، وخوف مستمر من سطو اللصوص عليهم ، واعتدائهم على أموالهم وأنفسهم ، في الطرقات والمنازل والمصارف والمتاجر وغيرها ، جهاراً نهاراً ، يأخذون ما تصل إليه أيديهم ، دون خوف من رادع يردعهم ، أو عقوبة تنزل بهم ، اللهم إلا عقوبة السجن التي يجدون فيها كل ما يشتهون . ولو أنه أقيم عليهم الحد الشرعي للسرقة ؛ لتفيأ الناس ظلال الأمن والسكينة ، واطمأنوا على أموالهم ومصالحهم ، ولما رأوا أكثر من يد أو بضعة أيد تقطع خلال عام أو أكثر [43] . وكونها تشوه أو تعطل هذه القلة القليلة من المجرمين ؛ فإن هذا هو فعلهم بأنفسهم ، وهو جزاء ما اقترفته أيديهم من ظلم وإجرام . وهو أمر لا بد منه لحماية أمن الجماعة ، وتحقيق الطمأنينة للكافة . فهم حينما يقطعون يداً واحدة خائنة ؛ يحفظون نفوساً كثيرة ، ويصونون أيدياً أمينة عاملة لا تُعد ولا تُحصى . ويا ليت الناس يوازنون بين عدد المشوهين والمجروحين والمقتولين الذين جنت عليهم جرأة اللصوص والمجرمين ، وبين من يُقطعون لكف عدوانهم ، وقطع شرهم عن أنفسهم ومجتمعاتهم ، حتى يدركوا أن إقامة الحد الشرعي تأمين للمجتمع ، وتحصين لمصالح الناس ، وتوفير للطاقات العاملة ، والقوى البشرية المنتجة [44] . وصدق الله عز وجل حيث يقول : ] أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [ ( المائدة : 50 ) . قال الشيخ أحمد محمد شاكر مخاطباً رجال القانون في مصر ، وهو يقارن بين أثر العقوبة الوضعية والشرعية لجريمة السرقة : « وهذه جرائم السرقة ، ليست بي حاجة أن أفصّل لكم ما جنت كثرتُها على الأمة وعلى الأمن ، وها أنتم أولاء تسمعون حوادثها وفظائعها ، وتقرؤون من أخبارها في كل يوم ، وترون السجون قد ملئت بأكابر المجرمين العائدين ، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين ، ثم كلما زادوهم سجناً زادوا طغياناً . ولو أنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم ، وحدّوا السارق بما حكم الله به عليه ؛ لكنتم تتشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة . ثم لو وقع كان فاكهةً يتندّر الناس بها ؛ ذلك أن عقوبة الله حاسمة ، لا يحاول اللصّ معها أن يختبر ذكاءه وفنّه . نعم أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب مبادئ التشريع الحديث ! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول : ألا سحقاً لهذا التشريع الحديث ! أفَنَدَع الألوف من المجرمين يروّعون الآمنين ، لا يرهبون قوياً ، ولا يرحمون ضعيفاً ، في سبيل حماية يدٍ أو يدَيْن تقطعان في كل عام ، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام ؟! [45] وأنتم ترون أنه قد تزهق عشراتٌ من النفوس لاختلاف على مبدأ سياسي ، أو لمظاهرة قد لا تضر ولا تنفع ؛ بحجة المحافظة على الأمن والنظام . لا تظنوا أنكم ستقطعون من السارقين بقدر ما تسجنون . فهاكم الأمن في الحجاز وبادية العرب ، وقد كان مجرموهم قُساةً لا يحصيهم العد ، وعجزت الحكومات السابقة عن تأديبهم بمثل قوانينكم ، فما هو إلا أن جاءت الدولة الحاضرة ، واتّبعت شرع الله وأقامت حدوده ، حتى استتب الأمن ، ثم لا تكاد تجد سارقاً هناك ، إلا أن يكون من الغرباء في موسم الحج » [46
| |
|
|
|
|
|
|
Re: دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية (Re: احمد سيد احمد)
|
* الشبهة الرابعة : حول عقوبة القصاص : قالوا : إن القصاص عقوبة قاسية لا تراعي شخصية المجرم وظروفه ودوافعه ، كما أن جعل القصاص حقاً لأولياء القتيل ؛ فيه تغليب لجانب الانتقام ، واعتباره أساساً للعقاب ، وهذا من الهمجية الأولى ، ولا يتفق مع التحضر والمدنية ، واعتبار العقاب تهذيباً واستصلاحاً . - دحض هذه الشبهة : أما أن القصاص عقوبة قاسية فهذا حق ، ولكنها هي مقتضى العدل والإنصاف ؛ لأن القصاص يفعل بالجاني مثل فعله بالمجني عليه ، فهو جارٍ على سنن المساواة بين الجريمة والعقوبة مساواة دقيقة ، ولا ظلم في القصاص ، بل الظلم أن يُترك الجاني من غير قصاص . وأما إهمال شخصية المجرم ، فقد ذكرت فيما سبق أن الشريعة تراعي شخصية المجرم بالقدر الذي تستلزمه هذه الرعاية ، فلا تقيم القصاص إلا على من كان عامداً عاقلاً بالغاً . فإن كانت الجناية خطأً أو شبه عمد ، فلا قصاص ، وإن كان الجاني صغيراً أو مجنوناً ، فعمده خطأ ، ولا قصاص عليه أيضاً . أما تجاوز هذه الحدود بحجة ملاحظة نفسية المجرم وميوله وتربيته ؛ فإن ذلك من شأنه أن يوقع في متاهات الأهواء ، ويجعل أحكام القصاص مضطربة قلقة ، ويؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب ، وانتشار الجريمة وعدم السيطرة عليها . وأما اعتبار القصاص من حق المجني عليه أو أوليائه ، لا من حق المجتمع ، فإن هذا من حسنات تشريع هذه العقوبة ، لا من مثالبها ؛ لأن الجريمة تمس المجني عليه وأهله مباشرة ، فهم الذين اكتووا بنارها ، وتلوعوا بما وقع على قريبهم . أما تضرر المجتمع فيأتي بصورة غير مباشرة . فكان من العدل والحكمة شفاء غيظ المجني عليه خاصة ، وإطفاء نار الغضب في نفسه بتمكينه من القصاص إن أحب أو الدية أو العفو المطلق . ولا شك أن العناية بشفاء غيظ المجني عليه وتمكينه من الجاني عليه ، يقتل في نفسه الرغبة في الثأر والانتقام ، ويمنعه من الإسراف في القتل والاعتداء [47] . وإذا عفا المجني عليه أو وليه عن الجاني ؛ فللقاضي أن يعاقبه بعقوبة تعزيرية تتناسب مع جرمه وحاله حفظاً للنظام العام ، وحماية لحق المجتمع . ويتأكد ذلك إذا كان هذا الجاني معروفاً بالشر والفساد [48] . ________________________ (*) أستاذ الفقه المساعد ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، بالرياض . (1) انظر : أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 174 - 175 ، وحول تطبيق الشريعة ، ص 93 ، وعلى طريق العودة إلى الإسلام ، ص 122 ، وشبهات حول الإسلام ، ص 157 . (2) انظر : أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 175 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 413 . (3) انظر : أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 175 ، والمحاورة : مساجلة فكرية حول قضية تطبيق الشريعة ، ص 101 . (4) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 116 . (5) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 95 ، 124 - 126 . (6) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 97 - 98 ، وفي التشريع الإسلامي ، ص 89 ، والإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ، ص 64 . (7) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 409 ، وروح الدين الإسلامي ، ص 428 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 168 ، وشبهات حول الإسلام ، ص 150 ، وفي التشريع الإسلامي ، ص 96 ، وعلى طريق العودة إلى الإسلام ، ص 123 . ( انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 409 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 168 ، والتشريع الجنائي الإسلامي ، 1/655 . (9) هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي ، انظر : من القائل ، 2/458 . (10) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 103 - 104 ، 126 - 128 . (11) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 409 - 410 ، وروح الدين الإسلامي ، ص 429 . (12) انظر : حد السرقة بين الإعمال والتعطيل ص 209 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 169 . (13) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/644 . (14) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، ص 35 - 36 ، الطبعة القديمة ، 1/12 . (15) وذلك كالسرقة عام المجاعة ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الضرورة شبهة قوية تدرأ حد السرقة ، وهو ما فعله عمر مع غلمان حاطب بن أبي بلتعة ، حيث درأ عنهم الحد لما سرقوا في عام مجاعة ، وقال رضي الله عنه : (أما والله ! لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم ، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه ، حلّ له ، لقطعت أيديهم) ، ولأن من شروط قطع السارق : أن يكون مختاراً ، ولا اختيار له عند الجوع الموفي على الهلاك ، ولأن له أن يأخذه ما دام مضطراً إليه ، وقد حكى الماوردي الإجماع على سقوط القطع لشبهة الضرورة ، فقال : (روي عن مروان بن الحكم أنه أتي بسارق سرق عام مجاعة ، فلم يقطعه ، وقال : أراه مضطراً ، فلم ينكر عليه أحد من الصحابة وعلماء عصره ، فكان إجماعاً) ، وعلى الرغم من أن ابن حزم لا يقول بدرء الحد بالشبهة ، إلا أنه ذهب في هذه المسألة مذهب الجمهور ، فدرأ الحد عن السارق للضرورة ، وفي ذلك يقول ابن القيم : (وهذا محض القياس ، ومقتضى قواعد الشرع ، فإن السّنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة ، غلب على الناس الحاجة والضرورة ، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه ، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له ، إما بالثمن أو مجاناً ، على الخلاف في ذلك ، والصحيح وجوب بذله مجاناً ، لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك ، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج ، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج ، وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء ، لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه ، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ، ولا يتميز المستغني منهم ، والسارق لغير حاجة من غيره ، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه ، فدري) ، انظر : إعلام الموقعين ، 3/11 - 12 ، والمغني ، 12/462 ، والمهذب ، 2/282 ، والحاوي الكبير ، 18/108 ، والمحلى 11/343 ، وأحكام السرقة في الشريعة الإسلامية والقانون ، للكبيسي ، ص 320 - 321 ، وحديث غلمان حاطب ، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ، في كتاب السرقة ، باب ما جاء في تضعيف الغرامة ، 8/278 ، و عبد الرزاق في المصنف في كتاب اللقطة ، باب سرقة العبد ، 10/238 - 239 . (16) انظر : شبهات حول الإسلام ، ص 154 - 155 ، وفي التشريع الإسلامي ، ص 97 - 98 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 169 ، والمهمة المزدوجة للتشريع الجنائي الإسلامي ، مقال للدكتور : جمال الدين محمود ، في مجلة التضامن الإسلامي ، ص 47 ، ذو القعدة ، 1408هـ . (17) انظر : شبهات حول الإسلام ، ص 155 . (1 على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 129 - 134 ، مع تصرف يسير . (19) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 407 ، وشبهات حول الإسلام ، ص 150 ، وعلى طريق العودة إلى الإسلام ، ص 103 - 123 . (20) شبهات حول الإسلام ، ص 151 - 152 . (21) انظر : ص 1077 . (22) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 408 ، والتشريع الجنائي الإسلامي ، 1/720 . (23) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ، ص 27 - 28 . (24) انظر : على طريق العودة إلى الإسلام ، ص 134 . (25) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 408 - 409 . (26) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 410 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2 /294 ، وروح الدين الإسلامي ، ص 428 . (27) انظر : روح الدين الإسلامي ، ص 428 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 411 - 412 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، ص 2/ 294 - 295 . (2 انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 410 ، وأثر تطبيق الشريعة الإسلامية في منع وقوع الجريمة ، ص 97 . (29) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 92 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 178 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/293 ، والحدود في الشريعة الإسلامية ، ص 138 . (30) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 93 . (31) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 93 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 415 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/293 ، والعقوبات المقدرة وحكمة تشريعها ، ص 64 . (32) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 93 . (33) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 94 ، والعقوبات المقدرة وحكمة تشريعها ، ص 65 . (34) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 413 ، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام ، ص 270 ، وعقوبة السارق بين القطع وضمان المسروق في الفقه الإسلامي ، ص 402 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 171 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، ص 296 ، وحول تطبيق الشريعة ، ص 94 . (35) انظر : ص 998 - 1004 ، ص 1019 - 1022 . (36) انظر : أثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 171 - 172 . (37) والإحصائيات الرسمية تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل ، ففي مصر مثلاً كان عدد السرقات في سنة 1891م : تسعة آلاف وثلاثمائة وستاً وخمسين ، وما زالت في تزايد مستمر ، حتى بلغت في عام 1939م : خمسة وستين ألفاً وخمسمائة وسبعاً وثمانين سرقة ، ومعنى هذا أن السرقات زادت في ثمانية وأربعين عاماً سبعة أمثال ما كانت عليه ! وهي نسبة لا تسوّغها زيادة السكان ، ولا يقوم لها أي عذر مهما اختلفت المعاذير ، فالسكان لم يتضاعف عددهم مرة واحدة ، فكيف تتضاعف السرقة سبع مرات ؟ وما يقال عن السرقات يقال عن غيرها من الجنح والجنايات ، انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/739 - 740 . (3 انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 413 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2 /297 . (39) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/ 732 - 740 ، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام ، ص 240 - 244 ، وحد السرقة بين الإعمال والتعطيل وأثره على المجتمع الإسلامي ، ص 211 - 212 ، ووجوب تطبيق الحدود الشرعية ، ص 33 - 40 . (40) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/652 ، وفي ظلال القرآن 2/884 ، وحد السرقة بين الإعمال والتعطيل وأثره على المجتمع الإسلامي ، ص 208 . (41) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/ 653 - 654 . (42) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي 1/653 ، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام ص 234 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 413 - 414 . (43) انظر : الحدود في الإسلام : حكمتها وأثرها في الأفراد والجماعات والأمم ، ص 69 - 70 . (44) انظر : الحدود في الإسلام : حكمتها وأثرها في الأفراد والجماعات والأمم ، ص 70 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 172 ، والعقوبة ، لأبي زهرة ، ص 87 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/297 . (45) ذكر الشيخ محمد قطب في كتابه : (شبهات حول الإسلام) ، ص 155 : أن حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات فقط خلال أربعمائة عام في صدر الإسلام ، وهذا يدل على أنها عقوبة قصد بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء ، ويغني عن اللجوء إليها . (46) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ، ص 25 - 27 . (47) انظر : مجموعة بحوث فقهية ، ص 419 ، والعقوبة ، لأبي زهرة ، ص 47 - 49 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/300 ، وفلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية والقانون ، ص 252 ، وأثر تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة ، ص 56 . (4 انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 2/183 - 184 ، ومجموعة بحوث فقهية ، ص 419 ، وأحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن القيم ، ص 134 .
(( مجلة البيان ـ العدد [193] صــ 16 رمضان 1424 ـ نوفمبر 2003 ))
| |
|
|
|
|
|
|
Re: دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية (Re: احمد سيد احمد)
|
الخصائص التي تميز العقوبات الشرعية عن العقوبات الوضعية د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان [email protected]
إذا كان الهدف من وضع العقوبة هو محاربة الجريمة ، ومنع وقوعها ، ورفع آثارها ، فإن الشريعة الإسلامية بما تضمنته من تشريعات جنائية قد بلغت الغاية في تحقيق هذا المطلب ، ووصلت حداً لم يوصل إليه ، ولن يصل إليه أي تشريع وضعي قديم أو حديث ؛ وذلك أنها كافحت الجريمة قبل وقوعها بالوسائل التربوية والوقائية التي تمنع وقوع الجريمة أصلاً ، ثم كافحتها بعد وقوعها بالوسائل العقابية والزجرية التي تزيل آثارها وتمنع تكرارها . وقد أجمع العقلاء على أن أحسن نظام جنائي هو الذي ينجح في كفاح الجريمة ومحاربتها ، ويحفظ الحقوق لأصحابها ، ويحقق العدل والأمن والاستقرار . والشيء تعرف قيمته بآثاره ، ونجاحه أو إخفاقه بعواقبه ونتائجه . وقد شهد التاريخ القديم والحديث أن الشريعة الإسلامية هي النظام الوحيد الكفيل بتحقيق الأمن بمعناه العام ، والقادر على قطع دابر المجرمين ومكافحة الإجرام . وعند التأمل في سر هذا النجاح نجده يكمن فيما امتاز به التشريع الجنائي الإسلامي من خصائص وسمات ، تفتقدها القوانين الوضعية . والتشريع الجنائي في الإسلام جزء من الشريعة الإسلامية ؛ فخصائصه التي يتميز بها هي نفس خصائص الشريعة التي هو جزء منها . ومن أهم هذه الخصائص ما يلي : أولاً : أن العقوبات الشرعية من وضع الخالق الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً ، والذي خلق الإنسان ، ويعلم ما يصلحه ويسعده في عاجل أمره وآجله ، وهو الذي لا يحابي أحداً ، ولا يجامل طبقة على حساب طبقة ، أو جنساً على حساب جنس ، ولهذا فأحكامه كلها قد جاءت وفق الحكمة والعدل والرحمة والمصلحة . فمنهج الله وضعه رب الناس لكل الناس ، منهج بريء من جهل الإنسان ، وهوى الإنسان ، وضعف الإنسان ، وشهوة الإنسان ، وتقلبات الإنسان . منهج لا محاباة فيه لفرد ، ولا لطبقة ، ولا لجنس ، ولا لشعب ، ولا لجيل دون جيل ؛ لأن الله هو رب الجميع ، والخلق كلهم عباده ، وقد أنزل عليهم شريعته لتحقيق مصالحهم ، وهدايتهم لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة . وهذا بخلاف القوانين الوضعية التي تخضع للعقول البشرية القاصرة ، وأهوائهم الضالة ، ومصالحهم الشخصية والحزبية والإقليمية والقومية وغيرها [1] . فالقوانين الأرضية لا تخلو عن كونها تغليباً لمصلحة طبقة على طبقة ، أو جنس على جنس . تستوي في ذلك كل النظم المعروفة على ظهر الأرض . ويكفي أن نستمع لطعن الشيوعيين في النظام الرأسمالي ، وطعن الرأسماليين في النظام الشيوعي ، وطعن الديمقراطيات في النظام الدكتاتوري ، والدكتاتوريات في النظام الديمقراطي ، لنعرف أن كل نظام من هؤلاء قد راعى فرداً أو طائفة على حساب بقية الأفراد والطوائف ، وأن الذي يتولى الأمر في هذه الدول والشعوب يصوغ القوانين لصالحه هو لينال أكبر قدر من الحرية والاستمتاع على حساب الآخرين ، أو على حساب القيم والأخلاق . وما دام القانون ينبع من الأرض ، فهو دائماً عرضة لتقلبات الحال بين الغالبين والمغلوبين في الأمة الواحدة ، وفي المجتمع العالمي كله ، ويصدق عليه دائماً ما يقوله الغربيون « الواقعيون » ، ويعممونه خطأً على كل النظم بما فيها الإسلام ، من أن القوانين تضعها الطبقة الأقوى لحماية مصالحها [2] . ثانياً : الاحترام وسهولة الانقياد لشرع الله ، وهو ثمرة من ثمرات الخصيصة الأولى ؛ حيث تضفي على التشريع الإلهي قدسية واحتراماً لا يظفر بهما أي نظام ، أو منهج من صنع البشر ، فيتقبله الناس بقبول حسن ، ويخضعون لأحكامه عن اقتناع ورضى نفسي منشرحة به صدورهم ، مطمئنة قلوبهم ؛ كما قال الله عز وجل : ] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ ( النساء : 65 ) ، وقال تعالى : ] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [ ( النور : 51 ) . يلزم من هذا الاحترام والتقديس وحسن القبول : المسارعة إلى الالتزام والتنفيذ ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره ، والعسر واليسر ، دون تلكؤ أو تردد ، ودون تحايل للتنصل من تكاليف الشرع والتزاماته . وأكتفي هنا بضرب مثال واحد على هذا الاحترام والالتزام ، والمسارعة إلى التنفيذ والاستجابة ألا وهو موقف المؤمنين من تحريم الخمر ؛ فقد كان لها في المجتمع العربي سريان وانتشار ، وكانوا مولعين بشربها ، يتمدحون بها ، ويتفننون في وصفها ووصف مجالسها وأقداحها . وقد علم الله ذلك منهم فأخذهم بسنة التدرج في تحريمها رفقاً بهم وتيسيراً عليهم حتى نزلت الآية الفاصلة القاطعة تحرمها تحريماً باتاً ، وتعلن أنها رجس من عمل الشيطان ، وتدعو المسلمين إلى الانتهاء عنها بالكلية ، وهي قوله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [ ( المائدة : 90-91 ) ، فما كان منهم - رضي الله عنهم - إلا أن أجابوا مسرعين ، وأقلعوا عنها ساعة علمهم بتحريمها ، وأخرجوا ما عندهم من أوعية الخمر وزقاقه ، وأراقوها في سكك المدينة ، راضين مختارين ، وهم يقولون : انتهينا ربنا ! انتهينا ربنا ! عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : « كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، فكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ [3] ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي : ألا إن الخمر قد حرّمت ، قال : فَجَرَت في كل سكك المدينة ، فقال لي أبو طلحة : اخرج فأهرقها ، فخرجت فأهرقتها ، فجرت في سكك المدينة ... « . وفي رواية : « فقال أبو طلحة : يا أنس ! قم إلى هذه الجرة ، فاكسرها ، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت » [4] . وعن أبي بريدة عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلاً - أي حلالاً - إذْ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلَّم عليه وقد نزل تحريم الخمر ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ ( المائدة : 90 ) إلى آخر الآيتين : ] فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [ فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم ، إلى قوله : ] فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [ قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء [**] تحت شفته العليا ، كما يفعل الحجَّام ، ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا ! انتهينا ربنا ! » [5] . فهل رأت البشرية مثل هذا انتصاراً على النفس ، وسرعة في الاستجابة ، وقوة في الانقياد للأمر مهما يكن مخالفاً للعادات ، مصادماً للشهوات ؟ ولو وازنَّا هذا النصر المبين في محاربة الخمر ، والقضاء عليها في المجتمع الإسلامي ، بالإخفاق الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكية ، حين أرادت يوماً أن تحارب الخمر بالقوانين والأساطيل [6] ، لعرفنا أن البشر لا يصلحهم إلا تشريع السماء الذي يعتمد على الضمير والإيمان قبل الاعتماد على القوة والسلطان . ولقد ضعف وازع القانون في النفوس ؛ لأنه من صنع البشر وما وصلت إليه عقولهم وفهومهم القاصرة المشوبة بالهوى والشهوة ؛ ولذا وجدنا الناس لا يكنون له احتراماً ، ولا يعتقدون وجوب طاعته والخضوع لأحكامه ، بل رأينا من يثور عليه ، ويسعى للتنقيص من شأنه والخروج عليه ؛ لأنه يعتقد أنه من عبودية الإنسان للإنسان ، ومن اتفاق الأقوياء على الضعفاء ، أو من تحكم بعض الطبقات في سائرها ، ولئن خفت ظاهرة التحيز في القوانين بسبب الديمقراطيات الحديثة ، فإن بقايا الاستبداد والتحكم لا تزال موجودة فيها ، وهي وإن لم تكن في نصوصها ففي تطبيقها . ولقد وجدنا تلك الثورة على القوانين والتوهين من شأنها يجري على أقلام كتاب القصص ، وبعض الكتاب المتحررين ، مما يشجع الآثمين ، ويجرئ المجرمين ، ويحملهم على التمادي في المخالفة والإجرام [7] . كما أن هذا الشعور يحمل الناس على اللدد في الخصومة ، والإسراف في التقاضي ، والتغالي في إطالة الإجراءات ، وكثرة الاستئنافات ، والمماطلة في الالتزامات ، والمعاندة في أداء الحقوق والواجبات ، والتحايل على إسقاط الأحكام أو عدم تنفيذها [8] . ونتيجة لهذه المثالب وغيرها ، نجد أن كثيراً من القضايا تضيع ، والحقوق تُهدر ، والجريمة تزداد وتتفاقم [9] . ثالثاً : أن الشريعة الإسلامية ترتكز على الوازع الديني والضمير الإنساني الذي يحمل على طاعتها والالتزام بها ، حيثما كان الإنسان ، ولو كان بعيداً عن أعين الناس ، أو في مكان يرى أهله جواز ما حرمه الله ؛ لأن صاحب هذه الشريعة هو الله - سبحانه - الرقيب على عباده ، الحفيظ عليهم ، المحيط بهم ، الذي لا تخفى عليه خافية من أمرهم ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، يعلم سرهم ونجواهم ، ويعلم ما توسوس به نفوسهم ، وما يخطر في قلوبهم ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . فهم يخضعون لهذه الشريعة طاعةً لله ، وطلباً لثوابه ومرضاته . ومن كان بإمكانه منهم أن يرتكب جريمة ، ويتفادى العقوبة الدنيوية ؛ فإنه لا يقدم على ذلك حذراً من العقوبة الأخروية ، وخوفاً من سخط الله ونقمته في الدنيا والآخرة . وكل هذا مما يدعو إلى قلة الجرائم ، وحفظ الأمن والنظام . بخلاف القوانين الوضعية التي لا يملك واضعها من أمر الحياة الأخرى شيئاً ؛ ولهذا فليس لها في نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها ، وهم لا يطيعونها إلا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها . ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما وهو آمنٌ من سطوة القانون فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خُلُق أو دين . كما أن التحايل على القوانين أمر ميسور ، وتطويع نصوصها للأهواء مستطاع ، والهرب من عقوباتها ليس بالشيء العسير . ولذلك تزداد الجرائم زيادة مضطردة في كل البلاد التي تطبق هذه القوانين ، ويكثر المجرمون في الطبقات العليا تبعاً لزيادة الفساد الخلقي في هذه الطبقات ، وتوفر الإمكانيات لها ، ولمقدرة أفرادها على التهرب من طائلة القانون والإفلات منه [10] . رابعاً : أن الشريعة الإسلامية تعمل جاهدة على منع الجريمة قبل حدوثها ؛ وذلك عن طريق الوسائل التربوية والوقائية . فإذا وقعت عملت على معالجتها بما يزيل الآثار ويمنع من التكرار . فهي تربي المسلم بحيث يكون وقّافاً عند حدود الله ، مسارعاً إلى إجابة أوامره ، مجتنباً لمحارمه . كما تعمل على إشباع حاجاته الفطرية ، وتوفير الكفاية له ، بحيث يستغني بما أباح الله له عما حرم عليه . ثم إذا وقعت الجريمة - بعد ذلك - أوقعت العقوبة على مرتكبها ، باعتبارها ضرورة لمعالجة الشاذين والمنحرفين الذين لا يمكن أن يخلو منهم الواقع الإنساني . أما القوانين الوضعية ، فإنها تهتم بمعالجة الجريمة بعد أن تقع أكثر من اهتمامها بمنع وقوعها . فهي ترفع « العصا » ابتداءً لردع الأفراد عن الجرائم ، وليس لديها ما تعطيهم لضبط سلوكهم ، وتربية الرقابة الذاتية في نفوسهم . خامساً : أن الشريعة الإسلامية شاملة كاملة ، وافية بمصالح العباد في المعاش والمعاد ، صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان وحال ، خالية من التناقض والاختلاف ، ومن معاندة الفطرة ، أو مصادمة سنن الله في الكون والحياة ؛ لأنها من عند الله العليم الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، والذي يملك الدنيا والآخرة ، والكون والحياة ؛ والإنسان ، ويعلم ما كان وما يكون ، ] أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ [ ( الملك : 14 ) ؛ ولهذا فإنه - تبارك وتعالى - لا يخبط كالبشر في تيه التجارب بحثاً عن منهج يوافق ، ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية ، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل [11] . أما القوانين الوضعية ، فإنها من صنع البشر . والبشر بطبيعتهم يتناقضون ويختلفون من عصر إلى عصر ، بل في العصر الواحد من زمن إلى آخر ، ومن قطر إلى قطر ، بل في القطر الواحد من إقليم إلى آخر ، وفي الأمة الواحدة من شعب إلى آخر ، وفي الشعب من فئة إلى أخرى ، وفي الفئة الواحدة من فرد إلى آخر ، بل في الفرد الواحد من حالة إلى أخرى ، ومن وقت إلى آخر . فكثيراً ما رأينا تفكير الفرد في مرحلة الشباب يناقض تفكيره في مرحلة الكهولة ، أو الشيخوخة . وكثيراً ما وجدنا آراءه ساعة الشدة والفقر ، تخالف آراءه في ساعة الرخاء والغنى ؛ فتفكير الإنسان في وضع منهج أو قانون ، غالباً ما يكون نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لرد فعل ، وانعكاساً لأوضاع آنية وأحوال بيئية ، تؤثر في تصوره للأشياء ، وحكمه على الأمور ، شعر بذلك أو لم يشعر . فإذا كانت هذه هي طبيعة العقل البشري ، وضرورة تأثره بالزمان والمكان والأحوال ، فكيف نتصور براءته من التناقض والاختلاف ، فيما يضعه من مناهج للحياة ؟! إن التناقض والاختلاف لازمة من لوازمه بلا شك ولا ريب ، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله تعالى : ] أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [ ( النساء : 82 ) [12] . ومن مظاهر هذا التناقض في القوانين الجنائية الوضعية : تباين العقوبة تبايناً كبيراً من حين لآخر ، ومن مكان إلى مكان ؛ فالفعل الواحد قد يكون جريمة نكراء في دولة ، وأمراً مباحاً في دولة أخرى . بل إنه في الدولة الواحدة ، قد يكون الفعل الواحد جريمة في وقت ، ثم يكون مباحاً في وقت لاحق . والدلائل على ذلك كثيرة . ومنها مثلاً إباحة الخمر في القانون الأمريكي بعد أن حرمه تحريماً قاطعاً لمدة تزيد على عشر سنوات ، وجرّم من يتعاطونه أو يبيعونه ، وقتل منهم - كما ذكرته قبل قليل - ثلاثمائة شخص ، وسجن منهم ما يزيد على خمسمائة ألف نفس ، وصادر أملاكاً بمئات الملايين ! ومنها كذلك : ذلك القانون الفاسد الذي أقره مجلس العموم البريطاني باعتبار اللواط عملاً مشروعاً بين البالغين ، بعد أن كان جريمة يعاقب عليها القانون ؛ وذلك انطلاقاً من مبدأ الحريات الشخصية [13] . ومن ثم كان القانون الوضعي عرضة للتغير والتطور ، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة ، أو جدّت حالات لم تكن منتظرة ، أو تبين خللٌ لم يكن في الحسبان ؛ فالقانون ناقص دائماً ، ومتقلب كثيراً ، ولا يمكن أن يقترب من الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال ، ولا يمكنه أن يعرف ما في الغد ، وإن كان قد يعرف بعض ما في الأمس واليوم [14] .
سادساً : أن الشريعة الإسلامية تهتم بحماية الأخلاق الفاضلة ، وتكوين الإنسان الصالح عقيدة وسلوكاً . ومن ثم تضمنت مجموعة من العقوبات ضد كل ما يخدش الحياء ، ويمس الأخلاق الفاضلة ؛ يستوي في ذلك حالة الرضا المتبادل وحالة الاغتصاب ؛ لأن عاقبة ذلك مضرة بالفرد والمجتمع ، والتراضي بين الطرفين لا يجعل الفاسد صالحاً ، ولا يحل ما حرم الله . أما القوانين الوضعية فلا تعير الجانب الخلقي أية أهمية ، ولا تعاقب منتهكه بأية عقوبة ، إلا إذا أخل بالأمن والنظام ، وكان في فعله إضرار مباشر ببعض الأفراد . وما عدا ذلك فهو حرية شخصية ، ولو كان من أكبر الكبائر وأنكر الفواحش ؛ فهي لا تعاقب على الزنى إلا إذا كان عن إكراه ، ولا تعاقب على شرب المسكر ، إلا إذا وجد السكران في الطريق العام في حالة سكر بيّن ؛ فالعقاب على وجوده في حالة سكر في الطريق العام ؛ لأن وجوده في هذه الحال يعرّض الناس لأذاه واعتدائه ، وليس العقاب على السكر لذاته باعتباره رذيلة ، ومدمراً للعقل والصحة والأخلاق [15] . سابعاً : أن العقوبات الشرعية قد شرعت لحفظ المصالح الكلية التي أجمعت الشرائع على وجوب حفظها ، وهي الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال ؛ فقد قررت الشريعة لحفظها عقوبات مقدرة هي عقوبات الحدود والقصاص ، وشددت فيها العقوبة ، ولم تجعل للحاكم سلطاناً في العفو عنها أو النقص منها . وعلة التشديد أن هذه الجرائم تهدد المصالح الضرورية التي لا تستقيم الحياة بدونها ولا غنى للناس عنها ؛ فالتساهل فيها يؤدي إلى انتشار الجرائم ، وتحلل الأخلاق ، وفساد المجتمع واختلال أمنه ونظامه . فالتشدد فيها قصد به المحافظة على المصالح الضرورية ، والإبقاء على الأخلاق ، وحفظ الأمن والنظام ، أو بتعبير آخر : قصد به مصلحة الجماعة ، فلا عجب أن تُهمل شخصية الجاني ، ويضحَّى بمصلحته في سبيل مصلحة الجماعة [16] . قال ابن القيم : « فلما تفاوتت مراتب الجنايات ، لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات ، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك ، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً لذهبت بهم الآراء كل مذهب ، وتشعبت بهم الطرق كل مَشْعَب ، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب ، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك ، وأزال عنهم كلفته ، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً ، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ، ويليق بها من النكال » [17] . وما ذكره ابن القيم ينطبق تماماً على القوانين الوضعية ؛ فإنها لم تكفل المحافظة الواجبة لمصالح المجتمع ؛ وذلك إما بإباحة الفعل الذي يهدد هذه المصالح ، وعدم تجريم فاعله أصلاً ، وإما بعدم وضع عقوبة له تتناسب وجسامة الضرر الذي ينتج عنه . فكثير من الدول التي تحكِّم القوانين الوضعية تتهاون في جرائم الأعراض والأنساب ، والخمور والمسكرات ، وتراعي مصلحة المجرم على حساب مصالح الناس ، مما أدى إلى تحلل تلك المجتمعات ، وزيادة نسبة الجرائم فيها زيادة خطيرة [18] . ثامناً : أن العقوبات الشرعية تحقق العدل بين الجاني والمجني عليه ، وتجعل الجزاء من جنس العمل ، فتشفي صدر المجني عليه ، وتحفظ له حقه ، وتنتزع من نفسه حب الثأر والانتقام ، والشعور بالظلم والهضم . فقد كان من حكمة الله تعالى ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض ، في النفوس والأبدان ، والأعراض ، والأموال ، كالقتل والجراح والقذف والسرقة ؛ فأحْكَمَ سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام ، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر ، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع ، فلم يشرع في القذف قطع اللسان ، ولا القتل ، ولا في الزنا الخصاء ، ولا في السرقة إعدام النفس ، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجَب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته وعدله ، لتزول النوائب ، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان [19] . وهذا ما تفتقده القوانين الوضعية التي يترتب عليها تغليب مصلحة الجاني والشفقة عليه ، وإهمال مصلحة المجني عليه ، وبخسه حقه ، وعدم إنصافه ممن جنى عليه . وهذا من شأنه أن يجرئ الجاني ، ويجعله يسترسل في الإجرام والعدوان ، ويملأ نفس المجني عليه بالحقد والضغينة ، ويحمله على الثأر والانتقام [20] . تاسعاً : أن كل عقوبة من العقوبات الشرعية ، قد فُرضت لصالح الفرد كشخصية مستقلة ، ولصالحه كذلك وهو عضو في الجماعة مع غيره من الأفراد . وحين يحس الفرد أن هذا هو الهدف المقصود من وراء القيد المفروض ، وأنه إذْ يقف في طريق بعض شهواته لكيلا يؤذي غيره من الأفراد ، يحميه كذلك في نفس الوقت من شهوات غيره أن تمتد إليه بالإيذاء ، بل يحميه من شهوات نفسه أن تقوده إلى الدمار والفناء . حين يحس بهذا لا تضطغن نفسه على هذه العقوبات ، ولا يتمنى زوالها ، ولا يعمل على الانتقاض عليها ، ولا تكون العلاقة بينه وبين المجتمع هي علاقة الكراهية والتصارع ؛ لأن المجتمع في هذه الحالة لن يكون هو الغول المفترس الذي يتربص بالفرد ليسحقه ويحطم كيانه ، وإنما هو الصديق الحازم الذي يمنعه من الإضرار بنفسه أو بغيره ، ويعمل على تقويمه وتهذيب أخلاقه وسلوكه [21] . عاشراً : أن العقوبات الشرعية حين تنفذ على المسلم الذي يعتقد أنها من عند الله تجعله يشعر بالندم على تفريطه في جنب الله ؛ لأنها عقوبة الله التي حلّت به جزاء ما اقترفته يداه ، والندم هو أول طريق التوبة والعودة إلى الله ، والإقلاع عما يسخطه ويأباه . فكانت العقوبة الشرعية سبباً لحصول الندم والتوبة الصادقة إلى الله . أما العقوبات الوضعية فإن الملاحظ فيها أن المجرم إذا أفلت منها ازداد ضراوة وجراءة ، وإذا عوقب بالسجن مدة طويلة أو قصيرة ، فإنه يخرج منه وقد اشتد طغيانه ، وامتلأت نفسه بالحقد الدفين ، وتعلَّم كثيراً من وسائل العدوان والإجرام ، وفي السجن تنهار آدميته ، ويقسو قلبه ؛ إذْ لا دين يردع ، ولا خلق يمنع ، ولا ضمير يهذب ، ولا شرع يؤلف ويقرب [22] . هذه هي أهم الخصائص والسمات التي تميز العقوبات الشرعية عن العقوبات الوضعية ، وهي كلها ترجع في واقع الحال إلى سبب واحد ، وهو أن الشريعة الإسلامية شريعة الله ، وأما القوانين الوضعية ، فهي من وضع البشر . والحقيقة أنه لا مجال للمقارنة بين ما جاء من عند الله العليم الحكيم ، وما كان من وضع البشر ، ونتائج عقولهم القاصرة ، وفهومهم المحدودة ، المشوبة بشائبة الهوى والشهوة . ولكنني فعلت ذلك ليستيقن الذين في قلوبهم شك ، ويزداد الذين آمنوا إيماناً بصلاحية التشريع الإلهي وتفوقه على جميع القوانين الأرضية الجاهلية : ] أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [ ( المائدة : 50 ) . ويتبع ذلك لاحقاً - إن شاء الله - الحديث عن الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية ، والرد عليها . والحمد لله رب العالمين . ________________________ (*) أستاذ الفقه المساعد ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، بالرياض . (1) انظر : في ظلال القرآن ، 2/692 ، والخصائص العامة للإسلام ، ص 50 ، والإسلام وحاجة الإنسانية إليه ، ص 268 . (2) انظر : الإنسان بين المادية والإسلام ، ص 86 . (3) قال ابن الأثير في جامع الأصول ، 5/111 : (الفضيخ : شراب يتخذ من بُسر مفضوخ ، أي : مشدوخ) . (4) أخرجه البخاري في عدة مواضع ، منها في (كتاب الأشربة ، باب نزل تحريم الخمر ، وهي من البسر والتمر ، حديث رقم (5582 ، 5583 ، 4/12) ، و مسلم في (كتاب الأشربة ، باب تحريم الخمر ، حديث رقم (1980 ، 3/ 1570 ، 1572) . (**) قال بالإناء : حركه ورفعه . (***) الباطية : إناء يوضع فيه الشراب . (5) أخرجه الطبري في تفسيره ، 7/23 . (6) لقد انتشرت الخمر أم الخبائث في أمريكا ، انتشار النار في الهشيم ، مما أقنع الحكومة بضررها على الفرد والأسرة والمجتمع ، فأصدرت الحكومة عبر مجالسها التشريعية ، قانوناً يمنع تعاطي الخمور وبيعها وتصنيعها ، وذلك في عام 1919م ، على أن ينفذ القانون من بداية يناير عام 1920م ، وقد جندت الحكومة لتنفيذ هذا القانون كل إمكانياتها الضخمة ، وبقدر ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على خمسة وستين مليوناً من الدولارات (قيمتها اليوم أكثر من ألف مليون دولار) ، وما أصدرته من النشرات والكتب ، يبلغ عشرة بلايين صفحة ، وأعدمت ثلاثمائة نفس ، وسجنت خمسمائة ألف واثنين وثلاثين ألفاً ، وثلاثمائة وخمسة وثلاثين شخصاً ، وصادرت من الأملاك ما يصل إلى أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه ، ولكن كل ذلك لم يزد الأمريكيين إلا غراماً بالخمر ، وعناداً في تعاطيها ، حتى اضطرت الحكومة في عام 1933م إلى إلغاء هذا القانون ، وإباحة الخمر إباحة مطلقة ، انظر : الإيمان والحياة ، ص 188 - 189 ، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ص 161 ، 117 ، والخمر بين الطب والفقه ، ص 9 ، 10 ، 118 ، 120 . (7) انظر : العقوبة ، أبو زهرة ، ص 23 ، والجريمة ، لأبي زهرة ، ص 14 . ( انظر : الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ، ص 15 ، 16 . (9) انظر : السقوط من الداخل ، ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي ، ص 89 . (10) انظر : الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ، ص 15 ، والإيمان والحياة ، ص 171 ، والإسلام وحاجة الإنسانية إليه ، ص 268 ، والعقوبة ، لأبي زهرة ، ص 19 ، والإسلام والأسرة والمجتمع ، ص 12 ، ووجوب تحكيم الشريعة الإسلامية ، ص 105 ، 106 . (11) انظر : في ظلال القرآن ، 2/692 . (12) انظر : الخصائص العامة للإسلام ، ص 48 ، 49 . (13) انظر : منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، ص 2/328 . (14) انظر : الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ، ص 22 . (15) انظر : وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية ، ص 100 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 250 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/328 ، ومحاكمة مواد جرائم العرض والزنا وإفساد الأخلاق في القوانين الوضعية إلى العقل والعرف والشريعة ، ص 29 ، 33 . (16) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/ 612 ، 613 ، وآثار تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة ، ص 168 ، 170 . (17) إعلام الموقعين ، 2/115 . (1 انظر : منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/327 . (19) انظر : إعلام الموقعين ، 2/114 . (20) انظر : منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/331 ، وآثار تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة ، ص 173 . (21) انظر : الإنسان بين المادية والإسلام ، ص 85 . (22) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 22 .
(( مجلة البيان ـ العدد [192] صــ 18 شعبان 1424 ـ أكتوبر 2003 ))
| |
|
|
|
|
|
|
Re: دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية (Re: الشفيع وراق عبد الرحمن)
|
وعليكم السلام اخ الشفيع وشكرا لترحيبك عارف انا متابع المنبر من بدري وكم مرة قريت كلام لأعضاء هنا...يقشعر منه البدن حول وحشية الحدود وكنت خايف يجو يقولوا الكلام نفسو هنا واترددت افتح الموضوع ولا ما افتحو وانا اقوليك الصراحة ماعندي علم كتير اناقشبيهو لكن بكتفي مرات بتحريك البركة الساكنة وفي الناس الربنا فاتح عليهم بالعلم ممكن يتولوا دفة النقاش
واوافقك تماما انو الموضوع فات حد الطول ذاتو
بس خليهو للاطلاع ونظام بحث علمي للموضوع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية (Re: احمد سيد احمد)
|
Quote: وانا اقوليك الصراحة ماعندي علم كتير اناقشبيهو |
يا زول ما تغشك حركات الناس الهنا والكلام الكبار كبار البكتبوهو تسعين في المية منهم بتموها موية خبط وطاقش وناقش وخوض مع الخايضين يا دفروك يا دفرتهم المنبر ماشي كده وسيظل
ان بقت على الشبهات حول الحدود، هينة ومقدور عليها في ناس هنا عندها راي في الذات الالهية ذات نفسها والاعاذة بالله
| |
|
|
|
|
|
|
Re: دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية (Re: احمد سيد احمد)
|
فكرة ( سيادة القانون ) بين الإسلام والعلمانية : تعد فكرة سيادة القانون عند المفكرين القانونيين قمة التطور الإنساني في مجال كرامة المواطن وحقوق الإنسان ، كما أنها تمثل قمة الديمقراطية ؛ فهي النموذج المحتذى والمثل المقتدى في الدول الحرة والمتقدمة ، وهذه الفكرة تتمثل في سيادة القانون وتدرُّجه ؛ بحيث يكون الدستور هو القانون الأعلى والأسمى للبلاد ، وهي فكرة تحقق توازن الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم ، كما أنها تحقق مبدأ الفصل بين سلطات الدولة ، بما يضمن عدم تعدي سلطة على أخرى أو انفراد إحداها بالسلطة بما يتيح المناخ للظلم والقهر والتسلط والدكتاتورية . ونظراً لما تتسم به المجتمعات العلمانية من قصر نظرٍ مرجعه عدم الإيمان بالغيب ، فضلاً عن سطحية في التصور مرجعها عبادة العقل والتمرد على الوحي فإن فكرة المشروعية الدستورية وسيادة القانون هي بالنسبة لهم غاية المرتجى ونهاية المجد . لكن في الشريعة الإسلامية تبدو هذه الفكرة أشبه بآلهة التمر التي كان يصنعها كفار مكة قبل الإسلام ، فإذا جاع أحدهم أكل الإله أو بعضه ، ثم أعاضوا له ما أكلوه منه ، ثم خرُّوا له ساجدين . وبيان ذلك يتضح من هذا الفرق الجوهري والخطير بين المشروعية الدستورية العليا عند العلمانيين والمشروعية الإسلامية العليا عند علماء الشريعة الإسلامية ؛ إذ إن الدستور الوضعي وهو أسمى القوانين ؛ بحسبانه القانون الأعلى للدولة إنما يضعه البشر ( نواب عن الأمة ) ، بينما القانون الأسمى والأعلى عند المسلمين هو وحي الله المنزل ( كتابه العزيز وصحيح السنة النبوية المطهرة ) والفرق بين الاثنين واضح ، والأثر المترتب على ذلك أوضح : فالوحي مقدس قداسة منزله عز وجل ، وباق بقاء منزله سبحانه ، ومن ثم فهو يستعصي على الإلغاء أو التعديل لقوله عز وجل : [ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ]( يونس : 15 ) كما أن كون الوحي منزلاً من عند الله فإنه ينفي وجود أي درجة أو امتياز لأحد على أحد ؛ فكل الناس عباد لله الواحد المعبود ، وهو بهذه المثابة عال ، ومقدس ، ومنزه ، وباق ، وعادل ، وهذه صفات مطلقة لله عز وجل ، ووحي الله صفة من صفات الله تعالى ، والصفات تابعة للذات . أما أن فكرة سيادة القانون عند العلمانيين لا تحظى بهذه الصفات التي تتميز بها الفكرة نفسها في الشريعة الإسلامية ؛ فذلك لأن الدستور يضعه بشر ( أياً كانت صفتهم ) ، وأن الجهة التي تصدر الدستور تملك تعديله ، كما تملك أيضاً تبديله ، ولا يستبعد وجود الأهواء والشهوات والمصالح الشخصية أو النظرات القاصرة في هذا التعديل والتبديل ؛ إذ إن ذلك من طبائع البشر ، والواقع خير شاهد ودليل ، وهذا الأمر يستحيل حدوثه أو حتى تصوره في الشريعة الإسلامية ولا يملكه ولا يقدر عليه أحد كائناً من كان . فالدستور إذن من صنع أيدي هؤلاء ونتاج عقلهم القاصر وثقافتهم المحدودة ؛ فهو لمن أصدروه مثلما كانت آلهة التمر لكفار مكة ؛ إذ إن القاعدة أن الصانع سيد المصنوع ، فإذا كان الدستور من صنع البشر فإن البشر هم سادة الدستور ، وهذا الذي لا يستطيع أحد أن يدعيه على الشريعة الإسلامية قط ، وهذا أيضاً وجه من وجوه إعجازها .
الموضوع كامل هنا http://islamport.com/w/amm/Web/135/3834.htm
| |
|
|
|
|
|
|
|