|
الدكتور غازي العتباني: مسؤولية انفصال جنوب السودان واستنساخ نيفاشا
|
الدكتور غازي العتباني: مسؤولية انفصال جنوب السودان واستنساخ نيفاشا. بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان الأحد, 27 أيار/مايو 2012 20:53 Share
1 من التوجيهات المبدئية والأولية التي يتلقّاها طلّاب دراسة علم التاريخ هي توخي الحذر والحيطة في كتابات الأشخاص الذين هم طرفٌ في الأحداث موضوع المقال أو الكِتاب. فهؤلاء الكُتّاب قد يرتكبون واحداً أو أكثر من ثلاثة أخطاء هي: أولاً تضخيم دورهم الإيجابي، وثانياً عدم ذكرأيٍ من الأخطاء التي وقعت، أو التعرض لها بصورةٍ غير متكاملة، وثالثاً تقديم التبريرات غير السليمة أو الصحيحة للأخطاء، إذا تمّ التعرض لها. طرق ذهني هذا التوجيه بشدّةٍ وأنا أقرأ مقال الدكتور غازي صلاح الدين العتباني بعنوان "قرار الاتحاد الأفريقي استنساخ للإيقاد ثم نيفاشا جديدة". وقد وصلني المقال عبر بريدي الالكتروني عدّة مراتٍ من مجموعةٍ من الأصدقاء، وأوضح الكاتب أنه قد تمّ نشر المقال في ثلاث صحفٍ هي الانتباهة والسوداني والرأي العام في 29 أبريل عام 2012. افتتح الدكتور غازي مقاله بالآتي "بين حين وآخر أستصوب ألا تنحصر نصيحتي في دوائر الاستشارة الضيقة التي يفرضها المنصب الرسمي. ويكون ذلك عندما أرى أن موضوع النصح جدير بأن يتفاعل معه الرأي العام بحسبانه أمراً يتعلق بالحقوق الوطنية التي تهم جميع المواطنين، وهو ما يحدث كلما مرت البلاد بمنعطف مصيري." وهكذا أوضح لنا الدكتور غازي أن دوره ينحصر فقط في تقديم النصيحة في دوائر الاستشارة الضيقة. ثم يواصل الدكتور غازي "في سبتمبر من عام 1994 انتُدبت لقيادة وفد مباحثات السلام في كينيا بدلاً من الرئيس السابق للوفد. كان ذلك التكليف لمرة واحدة فقط، وكانت المهمة التي أوكلت إليّ واحدة ومحددة للغاية وهي إلغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد الذي صاغه الوسطاء أو إلغاء مبادرة الإيقاد من أساسها..... أدى الوفد مهمته بكفاءة عالية، إذ دام الاجتماع حوالى خمس وثلاثين دقيقة فقط. رفض الوسطاء، الذين نصبوا أنفسهم قضاة في ذات الوقت، تعديل إعلان المبادئ فكان البديل هو أن تموت مبادرة الإيقاد التي أصبحت بالفعل بعد ذلك الاجتماع العاصف كبيت مهجور تخرقه الأنواء من كل جانب.... بصفتي رئيس الوفد في تلك المهمة الفريدة تعرضتُ لهجمة شرسة من الإعلام الغربي وُصفت فيها بأسوأ النعوت ومن بينها بالطبع أنني شخص متطرف، لكنني على الصعيد الشخصى لم أنم أقرّ عيناً ولا أشفى صدراً من نومي في تلك الليلة." ويواصل الدكتور غازي مقاله فيتعرض بالشرح والنقد للقرار الصادر عن مجلس السلم والأمن الافريقي بشأن السودان وجنوب السودان في الرابع والعشرين من شهرأبريل ويختتم مقاله بمجموعة من النصائح من بينها "على الصعيد السياسي ينبغي إشراك كل القوى والشخصيات السياسية السودانية والخبراء والمختصين في صياغة قراءة موحدة للأزمة ومن ثم سياسة وطنية موحدة تجاهها.... . وسيكون من المفيد أن تشارك في هذه الحملة كل القوى السياسية والمؤسسات القومية والشخصيات السودانية ذات العلاقات الإقليمية والدولية." نكتفي بهذا الاقتباس من مقال الدكتور غازي. 2 اندهشت كثيراً وأنا أقرأ مرةً بعد الأخرى مقال الدكتور غازي. فقد اختزل الدكتور غازي كل دوره في عملية السلام في الغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد، وهي المهمة التي قال أنه قد أدّاها بكفاءة عالية تسببت في وصفه بواسطة أجهزة الإعلام الغربية بأنه شخص متطرف. لم يتطرق الدكتور غازي إلى دوره في بروتوكول مشاكوس ولم يذكر أنه كان رئيس الوفد الذي فاوض على هذا البروتوكول وأنه هو الذي وقّع نيابةً عن حكومة السودان مع السيد سلفا كير على بروتوكول مشاكوس في 20 يوليو عام 2002. كما لم يذكر للقارئ من أين جاءت مبادرة الايقاد التي قام بإلغائها وما هي أوجه الشبه بينها وبين إعلان فرانكفورت، وكيف تختلف عن بروتوكول مشاكوس الذي فاوض ووقّع عليه. سوف نقوم في تعقيبنا على مقال الدكتور غازي بإثارة مجموعةٍ من الأسئلة والرد عليها. 3 ما هي مبادرة الايقاد ومن أين أتت؟ الايقاد منظمة تم إنشاؤها عام 1986 بواسطة دول شرق افريقيا (اثيوبيا وجيبوتي وكينيا ويوغندا والسودان والصومال) لمواجهة التصحر والجفاف في الاقليم. وقد عدّلت هذه المنظمة أهدافها لِتُركّز على التنمية، وقد انضمت لها اريتريا عام 1993، ثم دولة جنوب السودان في العام الماضي. وليس لهذه المنظمة دورٌ أو انجازٌ يُذكر سوى اتفاقية السلام الشامل السودانية والتي جرّها للعمل فيها ما سُمّي بمجموعة شركاء الايقاد من الدول الغربية والتي دفعت جلّ تكاليف المفاوضات من فنادق وطعام وشراب وسفر ومطبوعات. في مايو عام 1991 سقط نظام منقستو هايلي مريم الحليف الرئيسي للحركة الشعبية. وفي أغسطس من نفس العام انشقّ كلٌ من الدكتور لام أكول والدكتور رياك مشار عن الحركة الشعبية وكوّنا جناح الناصر (أو الجناح المتّحد) وأعلنا مطالبتهما بانفصال جنوب السودان. في سبتمبر عام 1991 اجتمعت الحركة الشعبية الأم في توريت وتبنّت (فيما يبدو أنه رد فعلٍ لهذين التطورين) خيار تقرير المصير فيما عرف بمقررات مؤتمر توريت، سبتمبر عام 1991. في 25 يناير عام 1992، وفيما يبدو أنه رد فعلٍ لكل هذه التطورات، حدث أكبر وأخطر تطور في تاريخ العلاقات بين شمال وجنوب السودان. فبعد أربعة أيامٍ من الاجتماعات التي بدأت في 22 يناير أصدر الدكتور علي الحاج والدكتور لام أكول إعلان فرانكفورت. وقد وافقت حكومة السودان بمقتضى الفقرة الثالثة من ذلك الإعلان على الآتي "بعد نهاية الفترة الانتقالية يُجرى استفتاء عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار." وهكذ وببساطةٍ شديدةٍ ومتناهية وافقت حكومة السودان ولأول مرةٍ في تاريخ السودان على حق جنوب السودان في تقرير مصيره دون استبعاد أي خيار. لم يكن ذلك الإعلان شأناً خاصاً بالدكتور علي الحاج أو الحزب الحاكم. فقد نصّت الديباجة على أن الوفدين اللذين أصدرا ذلك الإعلان هما حكومة السودان واللجنة التنفيذية الوطنية الانتقالية للحركة الشعبية لتحرير السودان. عليه فقد فتح إعلان فرانكفورت صندوق بندورا وخرج الجنّيُ ولم يعد بإمكان أحدٍ إعادته إلى مكانه. لم يعد حق تقرير المصير بعد 25 يناير عام 1992 جُرماً يُعاقِب القانون من يتبناه، بل أصبح حقاً لشعب جنوب السودان بمقتضى اتفاقٍ وقّع عليه أحد كبار المسؤولين السودانيين في الدولة والحزب الحاكم، وتمّ التوصل إليه في دولةٍ أوروبيةٍ دون وسيطٍ أو طرفٍ ثالث يمكن أن يُتهم بأنه مارس ضغطاً ً على الطرفين، أو على أحدهما. اتفق الطرفان على اللقاء في أبوجا في مارس عام 1992، وقد تمّ ذلك اللقاء وتواصلت الاجتماعات والمفاوضات في عام 1993 ولكنها ركّزت على مسألة الدين والدولة ولم تتوصل إلى نقاط التقاء، فانفضّ المفاوضون وفقدت نيجريا حماسها للوساطة بعد أن انتهت فترة رئاسة السيد ابراهيم بابنجيدا. قفزت دول شرق افريقيا إلى داخل حلبة النزاع السوداني وقررت أن تملأ الفراغ الذي خلّفته نيجريا. عرضت هذه الدول باسم منظمة الايقاد وساطتها التي قبلها الطرفان. والوساطة أمرٌ لايتم بدون الرضا التام والصريح للطرفين، ويحق لأيٍ من الطرفين إنهاء الوساطة في أي وقت. إنّها مهمةٌ سياسيةٌ مبنيةٌ على التوافق وليست إجراءاً قانونيا يُفْرض على الطرفين أو أحدهما. وافق السودان وكذلك الحركة الشعبية على وساطة منظمة الايقاد ورحبا بدورها. ولكن الايقاد فاجأت السودان بتقديمها إعلان المبادئ في 20 يوليو عام 1994 والذي تضمّن حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. أبدى السودان دهشته ورفضه الكامل لإعلان المبادئ ذاك. ولكن منظمة الايقاد (أو من يقف خلفها) ذكّرت السودان بإعلان فرانكفورت وأنه يتضمن حق تقرير المصير أيضاً. وأوضحّ عرّابو الايقاد أن مبادئ الايقاد لم تأتِ بجديد، وأصرّوا عليها. بالإضافة إلى حق تقرير المصير فقد نصّ إعلان الايقاد صراحةً وفي مادةٍ منفصلةٍ على علمانية الدولة السودانية. هنا جاءت المهمة التي تحدث عنها الدكتور غازي وهي إلغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد أو إلغاء مبادرة الإيقاد من أساسها، والتي قام وفده بأدائها بكفاءةٍ عالية كما ذكر. لكنّ هذه مهمةٌ لم تكن لتتطلّب أكثر من تسليم خطابٍ رسميٍ بواسطة أحد دبلوماسيي السفارة السودانية بنيروبي أو جيبوتي لمكتب الايقاد هناك معلناُ انتهاء المبادرة. ولكن دعونا نتوقف عند الكلمة التي ألقاها الدكتور غازي في ذلك الاجتماع في يوم 22 سبتمبر عام 1994 مع ممثلي الايقاد. فقد بدأها بالقول: "بالنسبة لحق تقرير المصير فإن مصير السودان كان قد تحدد في عام 1956 عندما نال السودان استقلاله." وأوضح أن جنوب السودان لم يحدث أن تمّ التعامل معه ككيانٍ سياسيٍ منفصل بل إن الحركة الشعبية – حركة التمرد – اشتهرت بنهجها الوحدوي وأن تبنيها مؤخراً خيار الانفصال هو تكتيكٌ تفاوضي. (تناسى أو تجاهل الدكتور غازي مقررات مؤتمر توريت الصادرة في سبتمبر عام 1991). أشار الدكتور غازي إلى أن حق تقرير المصير لجنوب السودان سوف يكون له رد فعلٍ كبيرٍ سيؤثّر على كل افريقيا، وأوضح أن ذلك يتعارض مع مقررات منظمة الوحدة الافريقية التي أكّدت على ضرورة الإبقاء على الحدود الموروثة من الاستعمار. وختم الدكتور غازي كلمته بأن "حكومة السودان ملزمةٌ بتسليم نفس السودان للأجيال القادمة، وأن حق تقرير المصير تحت أية مسميات قد تؤدي إلى الانفصال أمرٌ غير وارد، وأن الحكومة غير مستعدة للتباحث حوله." ما الذي حدث لإعلان فرانكفورت الذي صدر قبل عامين ونصف؟ ألم توافق الحكومة بمقتضاه على استفتاءٍ عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار؟ 4 واصلت الخرطوم موقفها الرافض لإعلان مبادئ الايقاد حتى عام 1996 عندما بدأت التفاوض مع الدكتور رياك مشار ووقّعت معه الميثاق السياسي ذاك العام، ثم اتفاقية الخرطوم عام 1997 والتي انضم إليها الدكتور لام أكول فيما بعد بمقتضى اتفاقية فشودة. وقد نصّ الميثاق السياسي واتفاقية الخرطوم على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وكمدخلٍ ونتيجةٍ لاتفاقية الخرطوم فقد وافق السودان رسمياً في نفس العام (1997) على إعلان المبادئ الذي صدر من الايقاد في يوليو عام 1994 متضمناً حق تقرير المصير والذي كان الدكتور غازي قد رفضه باسم الحكومة في سبتمبر عام 1994. وصدر دستور السودان لعام 1998 وتضمّنت المادة 139 منه نصّاً صريحاً على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. بالطبع فقد سهّل إعلان فرانكفورت مهمة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول. كما ذكرنا فقد تضمّن إعلان الايقاد مسألة علمانية الدولة السودانية أيضاً. ما الذي حدث لخطاب الدكتور غازي ومهمته التي أداها بكفاءةٍ في سبتمبر عام 1994؟ بل ما الذي حدث لوعده وتصميمه أن يسلّم السودان كاملاً للأجيال القادمة؟ وماذا عن تأكيده أن حق تقرير المصير تحت أية مسميات قد تؤدي إلى الانفصال أمرٌ غير وارد، وأن الحكومة غير مستعدة للتباحث حوله؟. في يناير عام 2002 اجتمعت دول منظمة الايقاد في الخرطوم. عرضت كينيا إحياء مبادرة الايقاد بعد أن وافق السودان عليها، واقترحت بدء المفاوضات في نيروبي. رحّب السودان بالفكرة ووافق عليها، ووافقت عليها أيضاً الحركة الشعبية. بعد المشاورات الداخلية تمّ اختيار الدكتور غازي العتباني رئيساً للوفد المفاوض وعضوية كلٍ من السادة ادريس محمد عبد القادر، ويحيى حسين بابكر، ومطرف صديق، وسيد الخطيب. وقامت الحركة الشعبية باختيار السيد نيال دينق رئيساً لوفدها وعضوية السيد دينق ألور والدكتور جستين ياك والسيد سامسون كواجي. ضم كلٌ من الوفدين مجموعةً أخرى من الأعضاء السياسيين والفنيين. بدأت المفاوضات في ناكورا في كينيا في مايو عام 2002، ثم انتقلت إلى مشاكوس في 17 يونيو عام 2002. وشارك في المفاوضات شركاء الايقاد ممثلين بالولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج (والتي سُمّيت بمجموعة الثلاثة أو الترويكا) مع مجموعة كبيرة من الفنيين والقانونيين من عدّة دول من بينها جنوب افريقيا وسويسرا. وقد لعب الجنرال الكيني لازاروس سومبييو والوزيرة النرويجية السيدة هيلدي جونسون دوراً فاعلاً خلال المفاوضات كوسيطين، وأصدر كلٌ منهما فيما بعد كتاباً عن المفاوضات (كتاب السيدة هيلدي عنوانه اندلاع السلام وهي ترجمة غير موفّقة، وعنوان كتاب الجنرال لازاروس هو الوسيط). وقد استندنا على هذين الكتابين ومجموعة من التقارير التي صدرت عن مفاوضات اتفاقية السلام الشامل كبعض المصادر لكتابة هذا المقال. 5 لايمكن بأي حالٍ من الأحوال تلخيص ما دار في تلك المفاوضات الصعبة في مقالٍ صحفيٍ قصيرٍ مثل هذا. غير أن المفاوضات انتقلت من فكرة "دولة واحدة بنظامين" إلى مسألة الدين والدولة ونظام الحكم في السودان وتعثّرت كثيراً في هذين الأمرين. فجأةً أصرّت الحركة الشعبية على أن يتم نقاش مبدأ تقرير المصير والاتفاق عليه قبل معالجة الأمور الأخرى. رفض الوفد السوداني في بداية الأمر مسألة تقرير المصير ولكنّ الوسطاء الأوربيين والأمريكيين والأفارقة ذكّروا الوفد السوداني بإعلان فرانكفورت والميثاق السياسي واتفاق الخرطوم ودستور السودان لعام 1998 والتي تضمنت كلها مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وحذروا الوفد أنه لايمكن النكوص عن تلك الالتزامات. وافق الوفد الحكومي إثر هذا على مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وطلب الدكتور غازي (حسب كتاب الوسيط) التركيز على نقاطٍ أربع هي أسبقية الوحدة مع الاعتراف بالتعددية، احترام إرادة الشعب السوداني والاتفاق على إجراءاتٍ دستورية. ولكنّ الوفدين اختلفا في مدة الفترة الانتقالية التي تسبق إجراء الاستفتاء. فقد أصرّ الوفد الحكومي على أن تكون الفترة عشر سنوات بينما أصرّت الحركة على مدة عامين فقط. قام الوسطاء بجمع الرقمين واستخراج المتوسط وهو الرقم ست سنوات التي تضمّنتها اتفاقية السلام الشامل فيما بعد. صاغ الوسطاء في 19 يوليو 2002 ما أسموه بـ "الوثيقة الإطارية للتفاوض" والتي تضمّنت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بما في ذلك حق الانفصال بعد فترةٍ انتقالية مدتها ست سنوات، مع الإبقاء على تطبيق الشريعة في شمال السودان. وقد أوضحت السيدة هيلدي جونسون أن الوثيقة هي مختصر لاتفاقية الخرطوم للسلام. ومنحَ الوسطاءُ الوفدين مدة ساعةٍ لقبول أو رفض الوثيقة، مع التهديد بإنهاء الوساطة إذا رفض الطرفان أو أحدهما الوثيقة. قبِل الطرفان هذا الإجراء واختار الوفد الحكومي السيدين يحيى حسين وسيد الخطيب بينما اختارت الحركة الشعبية السيدين نيال دينق ودينق ألور لمناقشة الوثيقة معاً. طلب الوفدان مزيداً من الوقت ووافق الوسطاء على ذلك، وبعد أربع ساعاتٍ من النقاش خرج الطرفان باتفاقٍ تمت صياغته النهائية والتوقيع عليه في 20 يوليو عام 2002 تحت مُسمّى "بروتوكول مشاكوس" الذي قنّن وأطّر مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد قام الدكتور غازي العتباني والسيد سلفا كير بالتوقيع على بروتوكول مشاكوس في مساء يوم 20 يوليو 2002 بالقصر الرئاسي في نيروبي بحضور الرئيس الكيني السيد دانيال أراب موي وعددٍ من أعضاء السلك الدبلوماسي والوسطاء. وقد أصدر مجلس الأمن بياناً رحب فيه بالاتفاق، وفعلت ذات الشئ مجموعةٌ من الحكومات من بينها الامريكية والبريطانية والنرويجية والايطالية. كما تناولت الصحف ووكالات الأنباء العالمية خبر الاتفاق وأشادت بإنجاز الوفدين. وكانت هناك إشادة خاصة بالدكتور غازي والسيد سلفا كير وتمّ وصفهما بواسطة القادة الغربيين والصحف الغربية بأنهما رجلا دولة يتميزان بالحكمة والمسؤولية. 6 أشارت السيدة هيلدي جونسون في كتابها إلى رأي الدكتور غازي في بروتوكول مشاكوس ودوره في التفاوض والتوقيع عليه. وأوضحت أنه ذكر لها أنه لم يكن هناك تطابقٌ في الآراء حول بروتوكول مشاكوس داخل الحكومة، ولكنه تشاور مع أعضاء الوفد واتصل بالسيد رئيس الجمهورية وكبار المسؤولين قبل التوقيع عليه. وأضاف "بالنسبة لي فقد كانت هذه فرصة العمر التي لايمكن إضاعتها. لقد كان أمامي في تلك اللحظة بالذات مستقبل السودان. إنه لا يمكن لقائدٍ يملك عقلاً سوياً إضاعة تلك الفرصة." تواصل التفاوض حول قضايا الثروة والسلطة والإجراءات الأمنية والتي أصبحت بعد موافقة الحكومة الرسمية على حق تقرير المصير تفاصيل لا أكثر ولا أقل. وظل الدكتور غازي رئيساً لوفد التفاوض حتى 29 نوفمبر عام 2003 حيث حلّ محله النائب الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه رئيساً لوفد التفاوض. وهذا يعني أن الدكتور غازي ترأّس وفد السودان لمفاوضات السلام لمدة عامٍ ونصف (مايو 2002 حتى نوفمبر 2003) تم خلالها اتخاذ أهم وأخطر قرارٍ في تاريخ السودان. 7 لقد خرج اتفاق نيفاشا (الذي بُني على بروتوكول مشاكوس) من رحم مبادئ الايقاد كما أشار الدكتور غازي. ولكن مبادئ الايقاد نفسها خرجت من رحم إعلان فرانكفورت والذي عرضته الحكومة نفسها على الدكتور لام أكول، ووقّعت عليه دون وساطةٍ أو إكراهٍ أو تهديد. لقد اقترح الدكتور غازي "إشراك كل القوى والشخصيات السياسية السودانية والخبراء والمختصين في صياغة قراءة موحدة للأزمة ومن ثم سياسة وطنية موحدة تجاهها." وأضاف "وسيكون من المفيد أن تشارك في هذه الحملة كل القوى السياسية والمؤسسات القومية والشخصيات السودانية ذات العلاقات الإقليمية والدولية" حتى يمكننا تفادي استنساخ الايقاد ثم نيفاشا في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور. إنني آمل أن يتبنى الدكتور غازي بنفسه هذا الاقتراح ويخرجه إلى حيّز التنفيذ، فنطاق عمله ليس محصوراً في دوائر الاستشارة الضيقة كما ذكر في مقاله. إنه شخصٌ نافذٌ وقياديٌ بارزٌ ومسؤول في الحزب الحاكم كما ذكر هو بنفسه للسيدة هيلدي جونسون.
|
|

|
|
|
|
|
|
Re: الدكتور غازي العتباني: مسؤولية انفصال جنوب السودان واستنساخ نيفاشا (Re: طلعت الطيب)
|
الدكتور علي الحاج: إعلان فرانكفورت ومسؤولية انفصال جنوب السودان (2) .. بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان
الأحد, 17 حزيران/يونيو 2012 07:19
Share
1 وصلتني عشرات الرسائل حول مقالي السابق بعنوان "الدكتور غازي العتباني: مسؤولية انفصال جنوب السودان واستنساخ نيفاشا" (جريدة الأحداث ومجموعة من المواقع الالكترونية بتاريخ 27 مايو عام 2012). ثمّن الكثيرون مبدأ أن التاريخ الذي يقوم بكتابته أطرافٌ ساهمت في صنعه يفتقر بالضرورة إلى المصداقية، وتمنّى آخرون أن يكون المقال بدايةً لحوارٍ موضوعيٍ حول الاتفاقيات التي تضمّنت مبدأ حقّ تقرير المصير الذي أدّى بدوره إلى انفصال جنوب السودان. تساءل الكثيرون عن خلفية وبنود ومضمون إعلان فرانكفورت وعن الأشخاص الذين مثّلوا كلاً من حكومة السودان والحركة الشعبية في تلك المفاوضات. كما طلب عددٌ من القراء مزيداً من التفاصيل حول الاتفاقيات الأخرى التي تناولت حقَّ تقرير المصير والتي وقّعتها الحكومة مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية بعد إعلان فرانكفورت. وتساءل آخرون عن دور التجمّع الوطني الديمقراطي في قضيّة تقرير المصير وطلبوا عرض ومناقشة الاتفاقيات التي وقّعها التجمّع وأحزابه مع الحركة الشعبية حول هذه المسألة. مواصلةً للمقال السابق فسوف نناقش في هذا المقال خلفية ومضمون وتداعيات إعلان فرانكفورت، على أن نتناول في المقال القادم الاتفاقيات الأخرى اللاحقة التي وقّعتها الحكومة مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية. وسوف تشمل هذه السلسلة من المقالات عرضاً لاتفاقيات التجمّع الوطني الديمقراطي وأحزابه مع الحركة الشعبية والتي تناولت مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان حتى تعكس هذه السلسلة الصورة كاملةً. ونأمل أن يبدأ بعدها نقاشٌ موضوعي حول قرارات الحكومة والمعارضة الموافقة على حقِّ تقرير المصير الذي أدى إلى انفصال جنوب السودان. 2 ركّز مانيفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان والذي تمّ إصداره في يوليو عام 1983 على وحدة السودان. وتناولت الفقرة الثالثة من المانيفستو مبدأ "السودان الجديد"، القائم على المواطنة التي تُساوي في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العِرق أو الدين أو اللغة أو الثقافة. وقد أنشأت الحركة الشعبية منذ قيامها في مايو عام 1983 تحالفاً وطيداً مع نظام منقستو هايلي مريم، وأصبحت أديس أبابا مصدراً رئيسياً للعون العسكري والمادي للحركة، وصارت أراضي اثيوبيا المتاخمة للحدود مع ولاية أعالي النيل في جنوب السودان ميداناً للتدريب والاجتماعات للحركة الشعبية ومعسكراً للاجئين. ويعتقد الكثيرون أن شعار السودان الجديد المُوحّد فرضته وأملته العلاقة مع نظام منقستو. إذ لايعقل أن تتوقع الحركة الشعبية عوناً متكاملاً من اثيوبيا التي كانت تحارب الحركات الاريترية المنادية بالانفصال إذا كانت الحركة نفسها تطالب بالانفصال أو حتى حقّ تقرير المصير. عليه فقد نتج عن سقوط نظام منقستو هايلي مريم في مايو عام 1991 دويٌّ هائلٌ داخل الحركة الشعبية. فجأةً توقفت الإمدادات العسكرية والمادية، وكان على الحركة إغلاق معسكرات التدريب الواقعة داخل اثيوبيا والبحث عن حلفاء جدد لن تتوفر في أيٍ منهم الميزات الاثيوبية. من الجانب الآخر سعدت الخرطوم كثيرأ للتغيير في أديس أبابا (والذي كانت قد ساهمت فيه)، وفتح هذا التغيير فصلاً جديداً للعلاقات بين الحكومة والحركة من جهة، وداخل الحركة نفسها من الجهة الأخرى. 3 كانت أولى تداعيات سقوط نظام منقستو هايلي مريم هو الانشقاق داخل الحركة نفسها. ففي 27 أغسطس عام 1991، أي بعد ثلاثة أشهرٍ فقط من سقوط منقستو، أعلن الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول عن انقلابٍ عسكريٍ زعما أنهما أطاحا من خلاله بالدكتور جون قرنق. غير أن الانقلاب لم ينجح في هدفه الأساسي، وانتهى الأمر بحدوث انقسامٍ كبيرٍ داخل الحركة الشعبية وبروز فصيل الناصر (أو الفصيل المتّحد) من الحركة الشعبية بقيادة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول. وقد تبنّى هذا الفصيل شعاراتٍ عدّة منها تقرير المصير والانفصال في مواجهة شعار السودان الجديد الموحّد الذي كان يدعو له مانيفستو الحركة الشعبية الأم. وأشار عددٌ من التقارير إلى دور الخرطوم في ذلك الانقسام ودعمها العسكري والمادي لفصيل الناصر قبل وبعد الانقسام. في السادس من شهر سبتمبر عام 1991، أي بعد أقل من أسبوعين من الانقسام، عقدت الحركة الشعبية الأم اجتماعاً لمكتبها السياسي بمدينة توريت التي كانت تحت سيطرتها. وأصدرت الحركة عدّة قرارات أهمها القرار رقم (3) الذي نصّت الفقرة الثانية منه على الآتي: "النظام المركزي للحكم في السودان والذي يستند على دعائم العروبة والإسلام مع إتاحة الحق بإقامة نظمٍ لحكمٍ محليٍ ذاتي أو دولٍ فيدرالية في الجنوب (أو أي أقاليم أخرى) تمّ تجربته ولكنه فشل فشلاً ذريعاً، لذلك تأرجح السودان بين الحرب والسلام منذ الاستقلال، وأخذت الحرب 25 من 36 عاماً من هذه الفترة. في أية مبادرةٍ للسلام مستقبلاً سيكون موقف الحركة الشعبية من نظام الحكم هو وقف الحرب باعتماد نظامٍ موحّدٍ وعلمانيٍ وديمقراطي، أو نظامٍ كونفيدرالي أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة أو تقرير المصير." 4 وهكذا بين ليلةٍ وضحاها انتقلت الحركة الشعبية لتحرير السودان من شعار السودان الجديد الموحّد إلى المطالبة بنظامٍ كونفيدرالي أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة أو تقرير المصير. كان هذا هو أول شرخٍ لمبدأ السودان الجديد ابن الثمانية أعوام. وهو دون أدنى شكٍّ شرخٌ كبير. فحركات التحرير لا تطالب بحقِّ تقرير المصير من أجل إرضاء طموحاتٍ نظرية، أو لغرضٍ أكاديمي. إنها تطالب بحقِّ تقرير المصير من أجل أن يقودها إلى غايتها النهائية وهي الانفصال. لقد كان سقوط نظام منقستو هايلي مريم دون شكٍ هو عود الكبريت الذي فجّر قنبلة الخلاف داخل الحركة الشعبية وقاد إلى بروز جناح الناصر. وأدى هذان التطوران معاً إلى تبنّي الحركة الشعبية الأم لمبدأ حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وإلى البدء في وداع شعار السودان الجديد الموحّد الذي كان المكوّن الأساسي لبرنامج الحركة الشعبية منذ عام 1983. 5 واصلت الحكومة السودانية اتصالاتها مع فصيل الناصر الذي كان يقوده الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول. وقد تمّ أول اجتماعٍ بين مسؤولين كبار من الحكومة والفصيل المنشق في أكتوبر عام 1991 في نيروبي، حيث التقى الدكتور علي الحاج مع القانوني السيد جون لوك الذي كان أحد أبرز القادة المنشقين من الحركة الشعبية الأم. اتفق الطرفان على لقاءٍ موسّعٍ ورسميٍ في احدى الدول الأوروبية. وقد وافقت جمهورية المانيا الاتحادية على عقد اللقاء في مدينة فرانكفورت. وصل الوفدان إلى فرانكفورت وبدأت مفاوضاتهما في 22 يناير عام 1992 واستمرت حتى يوم 25 يناير. قاد وفد الحكومة السودانية الدكتور علي الحاج وشملت عضوية الوفد العميد كمال علي مختار، والسيد موسى علي سليمان، والسكرتير الأول بالسفارة السودانية بالمانيا السيد محمد حسين زروق. وقاد وفد مجموعة الناصر الدكتور لام أكول وشملت عضوية وفده السادة جون لوك، وتيلار دينق، وتعبان دينق والدكتور كاستيلو قرنق. تمّ التوصل في يوم 25 يناير عام 1992 إلى إعلان فرانكفورت والذي تضمّن سبع فقرات. نصّت الفقرتان الأولى والثانية من الإعلان على أنه ستكون هناك فترة انتقالية يتفق عليها الطرفان من يوم توقيع اتفاقية السلام بين الطرفين، يتمتّع جنوب السودان خلالها بنظامٍ قانونيٍ ودستوريٍ خاص في إطار السودان الموحّد. وتتضمّن الفقرة الثالثة من إعلان فرانكفورت مبدأ حقّ تقرير المصير وتنصّ على الآتي: "بعد نهاية الفترة الانتقالية يُجرى استفتاء عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار." ولتجنّب النزاع المسلّح مستقبلاً بين الجنوب والحكومة المركزية اتفق الطرفان على وضع قواعد دستورية وقانونية لحل الخلافات عبر المؤسسات السياسية والدستورية. واتفق الطرفان أيضاً على عقد جولة المفاوضات القادمة في مدّةٍ أقصاها مارس عام 1992 في أبوجا تحت مظلّة الوساطة النيجيرية، على أن يبدأ وقف إطلاق النار الشامل في الجنوب والمناطق المتأثرة بالحرب في الشمال عند بدء المحادثات. أوضحت الفقرة الأخيرة من إعلان فرانكفورت أن المسائل التي سيتقدم الطرفان بمقترحاتٍ مفصّلةٍ للتفاوض حولها هي نظام الحكم خلال الفترة الانتقالية، واقتسام السلطة والثروة، بالإضافة إلى الأمن والإغاثة وإعادة التوطين وإعادة التعمير. 6 نصّت الديباجة على أن الوفدين اللذين أصدرا ذلك الإعلان هما حكومة السودان واللجنة التنفيذية الوطنية الانتقالية للحركة الشعبية لتحرير السودان. وهكذا وافقت حكومة السودان ببساطةٍ شديدةٍ ومتناهية ولأول مرةٍ في تاريخ السودان على حقّ شعب جنوب السودان في تقرير مصيره دون استبعاد أي خيار. ورغم أن إعلان فرانكفورت لم يستعمل مصطلح "تقرير المصير" إلاّ أنه اشتمل على المُقوِّم الأساسي لهذا المبدأ وهو الاستفتاء. كما أن الإعلان لم يستبعد أي خيارٍ، بما في ذلك بالطبع خيار الانفصال، وهو الشعار الذي رفعه فصيل الناصر. من الواضح أنّ هذا الاستحياء قد فرضته حقيقة أنّ هذه أول مرةٍ في تاريخ السودان توافق فيها حكومةٌ في الخرطوم على حقِّ تقرير المصير لمواطني جنوب السودان. من الجانب الآخر فإن أي مصطلحٍ يفيد باستفتاء شعب جنوب السودان ويعطيه كلَّ الخيارات هو انتصارٌ كبيرٌ للدكتور لام أكول ولفصيله المنشق ابن الخمسة أشهر. فتح إعلان فرانكفورت القمقم وخرج المارد ولم يعد بإمكان أحدٍ إعادته إلى.مكانه. لم يعد حقّ تقرير المصير بعد 25 يناير عام 1992 جُرماً يُعاقِب القانون من يتبناه أو يدافع عنه، بل أصبح حقّاً لشعب جنوب السودان بمقتضى اتفاقٍ وقّع عليه أحد كبار المسؤولين السودانيين في الدولة والحزب الحاكم، وتمّ التوصّل إليه في دولةٍ أوروبيةٍ دون وسيطٍ أو طرفٍ ثالث يمكن أن يُتهم بأنه مارس ضغطاً ً على الطرفين، أو على أحدهما. ولم يعد هذا الاعتراف حكراً على الطرفين بل انتشر خبره وأنشأ سابقةً سيعتمد عليها الوسطاء منذ تلك اللحظة في كل مبادراتهم القادمة. 7 بدأت تداعيات إعلان فرانكفورت في الظهور دون تأخير، وبدأت كرة الثلج في التدحرج. فقد عبّد إعلان فرانكفورت الطريق لإعلان مبادئ الايقاد التي تمّت صياغتها في مايو عام 1994 خلال جولة مفاوضات الايقاد الثانية، وتمّ إصدارها في يوليو عام 1994 خلال جولة الايقاد الثالثة. وتضمّنت مبادئ الايقاد حقّ تقرير المصير لجنوب السودان، وأشارت ديباجة الإعلان صراحةً إلى إعلان فرانكفورت. وعند ما ذهب الدكتور غازي العتباني إلى نيروبي في سبتمبر عام 1994 لينقل رفض السودان لمبادئ الايقاد لم يقبل الوسطاء طلبه وذكّروه بإعلان فرانكفورت، وأوضحوا له أنه لا فرق بين الوثيقتين. شهد عقد التسعينيات بعد إعلان فرانكفورت تنافساً حاداً بين الحكومة وأحزاب المعارضة المُمثّلة في التجمّع الوطني الديمقراطي في تبنّي مبدأ تقرير المصير في اتفاقاتهما مع الحركة الشعبية ومع الفصائل المنشقّة عنها، كما سنناقش في المقالات القادمة. وسوف نلاحظ في تلك المقالات أن اتفاقيات الحكومة كانت مع الفصائل المنشقّة بينما كانت اتفاقيات أحزاب المعارضة مع الحركة الشعبية الأم. وقد كان إعلان فرانكفورت المرجعية الأساسية للفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية بقيادة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول في مفاوضاتها واتفاقياتها مع الحكومة والتي خُتِمتْ باتفاقية الخرطوم للسلام عام 1997. من الجانب الآخر، وكما سنناقش في المقالات القادمة، فقد قامت الحركة الشعبية الأم بانتزاع حقّ تقرير المصير من أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي من خلال الاتفاقيات التي وقّعتها الحركة الشعبية على انفرادٍ مع كلٍّ من الحزب الاتحادي الديمقراطي، ثم حزب الأمة. وقد مهّدت هذه الاتفاقيات لإعلان أسمرا لعام 1995 الذي وقّع عليه كلُّ قادة التجمّع الوطني الديمقراطي (مؤتمر القضايا المصيرية – قرار حول قضيّة تقرير المصير)، والذي توّجت الحركة الشعبية بمقتضاه نجاحاتها في انتزاع حقّ تقرير المصير من كلِّ أحزاب وتجمّعات المعارضة. وقد كان إعلان الايقاد المبنيُّ على إعلان فرانكفورت هو المرجعية الأساسية للحركة الشعبية الأم في مفاوضاتها مع أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي. 8 نخلص من هذا العرض الموجز إلى أن إعلان فرانكفورت قد فتح الباب واسعاً أمام مبدأ حقّ تقرير المصير، وهيّأ كلَّ القوى السياسية الشمالية (الحاكمة والمعارِضة) لقبوله، وفتح شهيّة الحركة الشعبية وفصائلها المنشقة لمزيدٍ من التنازلات (أن يشمل حقُّ تقرير المصير ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ومنطقة أبيى). وقد عبّد الإعلانُ الذي صدر عام 1992 الطريقَ لمبادرة الايقاد عام 1994 ولاتفاقية الخرطوم لعام 1997. وفتحت مبادرة الايقاد بدورها الباب واسعاً لتدخل من خلاله اتفاقيات الحركة الشعبية الأم مع أحزاب المعارضة، وليصدر دستور السودان لعام 1998 مُتضمّنا حقّ تقرير المصير. وتجمّعت كل هذه الروافد لتجعل من حقِّ تقرير المصير المعلمَ الرئيسي لبروتوكول مشاكوس لعام 2002، ولاتفاقية السلام الشامل لعام 2005. وعند ما اعترض الوفد الحكومي على مبدأ حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان أثناء مفاوضات مشاكوس عام 2002 ذكّرهم الوسطاء ببساطة بكل تلك الاتفاقيات التي وقّعتها الحكومة وبنصوص الدستور، وأوضحوا لهم أنه لايمكن النكوص عنها. سنتعرّض في المقال القادم بشئٍ من التفصيل إلى الاتفاقيات اللاحقة التي وقّعتها الحكومة مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية والتي تمّت تحت المبادرة المُسمّاة "السلام من الداخل." وتشمل هذه الاتفاقيات الميثاق السياسي لعام 1996، واتفاقية الخرطوم لعام 1997، ثم اتفاقية فشودة لعام 1997. وسنناقش كيف تمّ تأكيد هذه الاتفاقيات في دستور السودان لعام 1998. وسوف ننتقل بعد ذلك المقال إلى اتفاقيات أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي مع الحركة الشعبية التي تضمّنت حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان. [email protected]
| |

|
|
|
|
|
|
|