الإعلام وما جرى في ليبيا !مأمون فندي

Quote: الإعلام وما جرى في ليبيا مأمون فندي الاثنيـن 04 ذو الحجـة 1432 هـ 31 اكتوبر 2011 العدد 12025 جريدة الشرق الاوسط الصفحة: الــــــرأي في عادات بعض القبائل الأفريقية، عندما يموت رجل من نوعية القذافي عُرف عنه الشر، يحفر أهل الميت تحت الدار حفرة يخرجونه منها من قدميه، ثم يمرون به في طرق ملتوية إلى حيث مكان الدفن، ثم بعدها يزرعون طريق العودة إلى البيت بالأشواك، من خلال متاهة مضللة، كتلك التي كتب عنها الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وذلك بهدف التأكيد على أن الروح الشريرة لن تعرف طريقها إلى البيت أو إلى المجتمع مرة أخرى. فهل بعد عرض القذافي وابنه في ثلاجة لحوم الماشية في مصراتة ستعرف الروح الشريرة للعقيد الطريق إلى ليبيا الجديدة؟ ما نعرفه عن ليبيا حتى الآن هو أن نظام العقيد معمر القذافي قد دفن في مكان غير معلوم في الصحراء الليبية، حيث دفنت الجثة، ما عدا ذلك لا نعلم الكثير، خصوصا فيما يخص الثمن الذي دفعته ليبيا كمجتمع ودولة للتخلص من طاغية وروح شريرة، مثل روح القذافي. لم نعرف الكثير عن عمليات الناتو، التي صورها إعلامنا كأنها أشباح، إذ لم نر صورة طائرة واحدة أو قنبلة واحدة تسقط على مدينة، قصة نهاية القذافي مكتملة فقط في رؤوس المؤيدين، أما المراقب المحايد فلا يعرف عما حدث إلا النذر القليل. بداية، لم يخرج الليبيون القذافي من قدميه، كما يفعل الأفارقة، حتى يضل الطريق، بل عرضوه على القوم في ثلاجة للحوم الماشية في مصراتة هو وابنه المعتصم، وتفحص الليبيون (شيوخا وأطفالا ونساء) وجه العقيد، وابنه، ليتأكدوا من موتهما؛ تفحصوا وجهه وتفحص هو وجوههم، عرفوه وخبرهم هو أيضا، أعتقد أنه وابنه عرفا مصراتة جيدا، وإن عادت روحاهما الشريرتان، فعلى ما يبدو قد تعودان لمصراتة. ليس لدي شك في قدرة الشعوب على النسيان، أو في قدرة الليبيين على بناء دولة جديدة تنسيهم الماضي القبيح للعقيد، ولكن المؤشرات الأولى مخيفة على مستويات عدة، وحتى يطمئن العالم إلى النظام الجديد هناك أشياء ملحة ومطلوبة. النقطة الأولى التحقيق المقنع الذي يوضح للعالم كيف أن رجلا، مثل القذافي، كان حيا عندما قبض عليه، ثم فجأة مات في أيدي الثوار وكيف أن المعتصم الذي رأيناه في الصور يدخن السجائر ويشرب الماء في هدوء لقي نهايته بهذه السرعة؟ وهل قبض شباب الثورة على القذافي الجريح نتيجة لضربة من طائرات الناتو على موكبه؟ إذا كان القذافي هدفا لطائرات الناتو وهي التي إصابته أولا، فلا بد للعالم أن يعرف ما إذا كان الناتو تورط فيما يمكن أن يكون جريمة حرب. العالم يريد أن يعرف شيئا عن مستوى التنسيق بين طائرات الناتو والثوار على الأرض ومن أمر بقتل القذافي وابنه؛ هل القيادة العسكرية والسياسية للثوار (متمثلة في المجلس الانتقالي ورجاله) بمعزل عن الناتو؟ وما علاقة زيارة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية إلى ليبيا قبل موت القذافي بيومين بقرار تصفية الرجل؟ بالتأكيد ستبقى هناك شكوك تصل إلى حد الأساطير عن لقاءات القذافي في آخر أيامه بالأميركيين والأوروبيين؛ ماذا حدث في لقاءاته مع وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، أو رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، أو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، أو رئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني من صفقات؟ وهل تصفية الرجل كبديل عن محاكمته كانت مدروسة أم أنها طيش من شباب الثورة؟ أما النقطة الثانية، التي لم نعرفها حتى الآن من إعلامنا العربي أو الغربي هو دور الناتو في إنهاء نظام القذافي، وهنا أقصد كم طلعة طيران قام بها الناتو علي طرابلس وبني الوليد وسرت؟ وما نوعية الحمولة التي كانت تلقيها هذه الطائرات؟ وكم قتلت من المدنيين؟ هذا ليس سؤالا اعتذاريا، وإنما هو سؤال حقيقي؛ فلم يبق أحد من نظام القذافي كي ننافقه. الهدف من السؤال هو جلاء الحقيقة، فهناك تقارير أولية لوكالات الأنباء تقول إن الناتو قد ضرب مدينة سرت ضربا حوّل المدينة التي كانت تجهز نفسها لكي تكون عاصمة لأفريقيا إلى مدينة من عالم العصر الحجري. وهناك لقاءات خجولة مع أهالي سرت وبني الوليد تحمل لغة الثأر، ولا تبشر بخير بالنسبة لمستقبل ليبيا. لكي تكون هناك ليبيا جديدة ومختلفة عن ليبيا القذافي، لا بد أن يكون النظام الجديد تماما ضد قيم النظام القديم، فبدلا من العالم الغامض والأسطوري الذي نسجه القذافي حول نفسه وحول رجاله، يكون المبدأ الحاكم للنظام الجديد هو الشفافية للأشياء. ليبيا بلد صعب حكمه، كما بينت في مقال سابق، ولذا تتطلب عملية المصالحة الوطنية أمورا يجب أن يبتلع فيها الجميع مرارة الماضي من أجل مستقبل جديد، وإلا فإن عودة الرجل برجليه إلى ثلاجة لحوم الماشية في مصراتة ستكون محتملة، ولن تكون جثة القذافي هي الجثة الأخيرة المعروضة في السوق، وفي ثلاجة لحوم. أمام المجلس الانتقالي مسؤولية كبيرة في تجاوز روح الانتقام التي مثلها القذافي وأبناؤه، وكبح جماح المتطرفين الذين بدأت ملامح سيطرتهم على الثورة تظهر وبوضوح شديد. الشفافية فيما حدث تطهر الثورة الليبية من أي دنس لحق بها، أما محاولة إخفاء الحقائق فهي بذرة لعودة روح الشر، لأن نفس إعلام الغرب الذي غطى على الثورة وعلى الناتو اليوم هو الذي سيفضحهما غدا. درس القذافي هو أن ذات الغرب الذي كان يراوده عن نفسه ويخطب وده منذ شهور، ويسمح له بخيمة إلى جوار الإليزيه، هو ذات الغرب الذي قضى عليه. لم يسحب الليبيون القذافي من قدميه خارج المنزل الليبي، ولم يدفنوا النظام القديم، لذا لا بد أن يتحسب الليبيون لعودة القذافي بظهره، فروح الانتقام فيروس إذا ما تملك وطنا فلا فكاك منه إلا بعد حين.