|
الإنتحار بلحآ..(قصة قصيرة)
|
...كانت هذه هى المرة العاشرة التى يَهِمُ فيها بوضع حدً لحياته, ولكن دونما جدوى؛ ففى كل المرات المنصرمة يكتشف فى اللحظات الأخيرة إكتشافاً عظيماً, مفاده أن الطريقة التى إنتخبها لمغادرة هذا القرية المُتسخة دونما أوبة، لا تليق البتة بمكانته وإمكانياته, ولا تنسجم فى الأساس مع المضمون الفلسفى لوصيته ذات المائة ورقة ناصعة البياض والمكتوبة بالحبر الأحمر دون سواه, والتى عكف على كتابتها طوال عام ونيف وبإنهماك نادر, معدِّداً فيها كل الأسباب التى جعلته يختار مغادرة القرية, إبتداءاً بشخير جاره الذى لا ينقطع إلا بعد طلوع الشمس,و ليس انتهاءً بتلك الأسطورة التى نسجها باكراً والتى مفادها أنه إذا ما وصل إلى سن الأربعين ولم يتسنم مهمة إمامة مسجد القرية فهذا مؤشر لخلل ما فى النواميس التى تحكم قريته, مع أنه كان يعرف مسبقاً رأى أهالى القرية تجاهه, للدرجة التى جعلت إمام المسجد وبإيعاز من والده بالذات، يختار الجمعة الأولى من كل شهر مخصصاً خطبة كاملة عن عقوبة شاربى الخمر وتاركى الصلاة فى تلميح واضح ما كان يُخطئ هدفه, ومع ذلك كان يحلم بإمامة مسجد القرية كحُلم أبدى مسنوداً بدوافع شخصية؛ لا لشئ سوى أن المسجد هو المكان الوحيد الذى يمكن أن يرتاده أكبر عدد من سكان القرية بعد أن تم إغلاق النادى بإيعاز من إمام المسجد ذاته، وهو فى الأساس مغرم بالجمهرة والحشود,وقبل ذلك كان يعرف تاريخ إمام المسجد جيداً؛ فقد كانا رفقاء فى ذلك الحزب الطليعى وهذا وحده مبرر ليكون هو ذاته إماماً فى المستقبل، هكذا كان يشيد مداميك منطقه الراسخ.فى العام الثانى بعد الأربعين من عمره اكتشف أنه لن يقوى على احتمال الشخير الأزلى لجاره,وتوصَّل أيضاً لإستحالة تسنمه إمامة المسجد فى ظل وجود الإمام عينه.بإختصار وجد أن أحلامه قد تبخرت واستحالت إلى كوابيس مزعجة...
|
|
 
|
|
|
|
|
|
Re: الإنتحار بلحآ..(قصة قصيرة) (Re: خالد خليل محمد بحر)
|
لذا قرَّر بحزم ثورى ودونما تردد، الانتقال لسديم آخر هروباً من شخير جاره ومؤامرات إمام المسجد التى لا تنتهى,مع أن السديم الجديد قد يكون غير متضح المعالم لكنه، بأى حال من الأحوال، لن يكون بإتساخ هذه القرية , هكذا كان يحدث نفسه بإستمرار كلما أندلق التكاسل فى مجرى خطته.
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الإنتحار بلحآ..(قصة قصيرة) (Re: خالد خليل محمد بحر)
|
هذه المرة بالذات أِلف نفسه عاجزاً عن الصعود إلى المنضدة ليضع الحبل المتدلى من السقف المتهالك حول عنقه, "هذه طريقة مستهلكة فقد سبقنى إليها أحد شباب الحى فى العام الفائت"، هكذا أخذ يحاور نفسه, فى النهاية عدل عن هذه الوسيلة أيضاً لتضاف إلى قائمة وسائله المفترضة للإنتحار, بدءاً بصبغة الشعر التى عدل عنها هى الأخرى وهى على بعد سنتمرات من فمه بعد أن تذكر معلومة عابرة مفادها أن الانتحار بالصبغة يترك أثار على وجه المنتحر. وقبلها كان قد إستهوته فكرة أن ينتحر عن طريق الكهرباء, بيد أن التيار الكهربائى ظل يخذله كل مره بإنقطاعاته المتواصلة وغير المبررة،نكاية فى هذه الإنقطاعات المتواصلة تجاوز الفكرة بعد أن ألفها مرهقة نفسياً وتحول دون التركيز التام فى طقوس الإنتحار, وكانت جائحة الرغبه فى الخلاص الأبدى عبر الإنتحار قد بدأها بطلقة من مسدس عتيق صوبه نحو صدغه الأيمن, ولكنها أخطأت هدفها لتهشم صورة والده المعلقة على الحائط , يومها اكتفى بابتسامة خبيثة قبل أن يلقى المسدس فى المرحاض ومعه فكرة تجريب هذه الوسيلة مرة أخرى.
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: الإنتحار بلحآ..(قصة قصيرة) (Re: خالد خليل محمد بحر)
|
قذف المنضدة بعيداً وخرج متذمراً قاصداً تخوم القرية. فى طريقه مرَّ أمام منزل جاره ذي الشخير المزعج، أغلق أذنيه بشكل تلقائى,متأففاً مضى، ليجد نفسه داخل الباحة الأمامية لمسجد القرية ذاك الذى تحطمت أحلامه على عتباته,كتم حسرته وخرج. بعد هنيهة وجد نفسه أمام الإنداية, تلك التى تعوَّد داوم على الحضور إليها كلما أحس وطأة الإحباط, ساعة دخوله تصايح الحضور بلا استثناء وبصوت ملئه التهكم(أووو مولانا وصل)، نظر إليهم شذراً و بكبرياء ملك مخلوع. ومضى ليجلس فى ذات مكانه المفضل,على يسار(عنقريب) الحاجة (بِت مرجى) صاحبة الإنداية. همست له فى أذنه:(أوعاك تشتغل بيهم ديل حيارى ساكت). قبل أن يَهُم بشرب الكأس الأول تعالت الصرخات لتُطوق محيط الإنداية. لم يكترث، رفع رأسه بعد أن سمع عبارة : (عم دلدماى المسكين ,,شقاهو العرقى, عمرو ده كلو بسكر ما حصل شكى ولا بَكى). قام من مقعده, تحرك صوب الجثة الهامدة وسط الإنداية, نظر إلى صاحبها نظرة شكر أكثر من كونها نظرة حزن.مسرعاً غادر وهو يصيح بصوت عالى غطى على النحيب الصادر من الإنداية ...وجدتها... وجدتها. سيعود غداً فى ذات المواعيد،لذات المكان، وهو فى كامل هندامه متأبطاً رزمة أوراق ناصعة البياض, وسيطلُب من (بِت مرجى)،تحت دهشة الجميع،كل الكمية المتوفرة, لينتخبه ذات مصير دلدماى.
| |
 
|
|
|
|
|
|
|