رواية الهزيمة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-14-2025, 12:47 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-29-2011, 06:36 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18820

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رواية الهزيمة

    alhazimabook.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  

08-29-2011, 06:37 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18820

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: بكرى ابوبكر)

    Quote: السلام عليكم
    الأخ بكري أبوبكر

    منذ عام 2009 م وأنا أفكر في هذه الرواية , كتبتها ثلاث مرات ,
    وحاولت نشرها , لكن للأسف الشديد ( وقف المال حاجزاً أمامي . ولم أجد من أصحاب دور النشر من يتعامل مع كاتب ممبتدئ !! ؟؟ )
    ففكرت كثيراً
    إلى أن توصلت إلى فكرة نشرها عن طريق مواقع في الإنترنت
    وبالطبع لا يوجد موقع أفضل من النشر بوقع سودانيز أون لاين
    فأتمنى أن تساعدني على نشرها في موقعكم الموقر
    ولك مني أفضل التحايا والإحترام

    موضوع الرواية -
    1/ الرواية تتحدث عن حرب العبور 1973 م بإعتبار أنها كانت هزيمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى !!
    2/ تتحدث عن علاقة مصر بالسودان
    3/ تناقش في فكرة الفشل والصراع بين دول عالم الأول والثالث
    4/ علاقة أسرائيل بالمنطقة العربية من خلال علاقتها بمصر من خلال اتفاقية السلام التي وقعها أنور السادات
    5/ تتحدث عن فكرة فلسفة الحياة ورئية عامة للمجتمعين السوداني والمصري والإسرائيلي

    مع تحياتي
    حاتم محمد
                  

08-29-2011, 06:40 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18820

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: بكرى ابوبكر)

    الهـزيمــة

    حاتم محمد
    [email protected] : mail-e












    تصحيح وتدقيق :
    الأستاذ. ضياء الدين ميرغني







    إهداء :
    في هذا الزمن الملوث بالخطيئة
    يستحق أُناس كُثر
    أن أٌهدي لهم هذا العمل ,
    ذلك حقهم الطبيعي كبشر ..
    أهديه لكل : مَن قال ( لا ) في وجه مَن قالوا ( نعم ) ...
    إلا إنني أستميحكم عُذراً ....
    في إهداءٍ خاص إلى زوجتي ..... سارة تاج السر
    ( هذا ما تبقى من مهر , عزيزتي )
    حاتم محمد ..













    هكذا وجدتُ نفسي في مقابل التاريخ
    أمسك القلم , فيبكي
    هل نحن المظلومون حقاً , أم التاريخ ليس هو التاريخ
    عندما كنا ناعمِي الأظافر , صغاراً , نُلملم بقايا الحروف , نُعفر الشوارع بالصراخ العنيف , حينها كنا نشعل الأرض بالغبار , فيملأ شقوق المباني القديمة , أذكر - الآن - بوضوح أكثر , العصّي الخشبية المكسورة , تطرقُ شرائح الصفيح , الأواني القديمة , طشت الغسيل النحاسي , كل ما يخرج صوتاً , فقط كان الهدف صنع ضجيج , وضجيج عالٍ جداً , يملأ سماء المدن بالخوف .
    لاعبي فريق كرة القدم بالمدرسة , كنا نشجعهم بهذه الطريقة دائماً , جعلناهم نسوراً تخطف الأهداف من مرمى الفريق الخصم , حينها لا نأهبه بوعيد سِياط الأستاذة , ولا تهديدات مدير المدرسة , أو فكرة استدعاء أولياء الأمور , الرجل – أي المدير - كان يُدمن هذا النوع من الخطابات , المهم أولاً وأخيراً , في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة , أن ننتصر في المباراة الحالية , والأهم – بالتأكيد - أن نحسم الصراع لصالح مدرستنا , حينها كنا نبكي عندما تفوز مدرستنا بالقرعة أو عن طريق ضربات الجزاء , لا يُسعدنا هذا أبداً , حتى على مستوى مباريات كرة الشُراب ( الجوارب ) في الحي , كنا نبحث عن النصر فقط , النصر هو المطلوب في كل الأحوال , النصر الحاسم , لا غير .
    كانت المباني القديمة تهاب أصواتنا الحادة ....
    والإذاعات المحلية , بالأزقة , والدروب الرئيسية , تخشى هديرنا ...
    حتى الصخور والشجيرات المشتتة عشوائياً عند حواف الأحياء , تخضع لإرادة مدرستنا , فتشجعها رغماً عن أنفها ...
    حينما نأتي , تعلم المدارس الأخرى أن مدرستنا - هي - المنتصرة , لا تعادل أو اتفاقيات ...
    كل شيء حولنا , يجب أن يعلم بنصرنا , بطريقتنا الخاصة , الأرض والحجر , التاريخ الشفوي في المنطقة , يجب أن يسجل انتصارنا الحقيقي , لا مجال غير انتزاع النصر , وسحق العدو عن بكرة أبيه ....
    حينها سن أساتذة المدرسة قانوناً للفريق , إذا انتهت المباراة بالتعادل تنسحب المدرسة مباشرةً من المباراة , هذا أول مفهوم استقر في قلوبنا عن ماهية النصر ؟ , المدارس الأخرى – معظمها – يلعب مع فريق مدرستنا من أجل التعادل , لا غير !! , وفي لغتنا الخاصة , التعادل هو الهزيمة المبينة , التعادل اتفاقية للسلام لا معنى لها , في مدرستنا الهدف هو النصر , وفي زمن المباراة الأصلي , لا غير .
    كنا نُمطر العدو بالأهداف , إلى أن تُزال مُزع اللحم من وجوههم , كنا ننتصر بقوة , بلا مراء أو تمويه , النصر أثناء تلكم المراحل الفرويدية , إحساسٌ نبيل كامل , نوع من الفخر الأبدي , شيءٌ مثل شق ألمانيا إلى جزيئين , شرقي اشتراكي , وآخر غربي رأسمالي , شيء كبقايا جدار برلين السياحية بألمانيا الاتحادية الآن , والنصر بطريقة أكثر سذاجةً , شيءٌ مثل إعدام صدام حسين , صبيحة عيد الذبح العظيم .
    ( 1 )
    ما إن استقرت قدماي في جنوب الوادي حتى بدأت لي الأشياء مختلفة الإيقاع والانتظام , ألوان مشتته , لا يربط بينها رابط في الأصل , اجتمعت بطريقة ما , شبه مستحيلة , كونت ما نسميه نحن ( دولة ) , حينها كنت أبان مراهقتي , غريب هابط إلى أرض أغرب , لا علاقة لي بها إلا ذلك الإله الأفعى , الإله الذي أتيت منه , هبطت هنا لظروف عائلية محضة , عمي كُسرت قدمه فجأة , دخل المستشفى , ثم خرج ملفوف الساق , الجبس أخذ من عمره ثلاثة أشهر كاملة , بعدما أذيل , لم تصل رجله المكسورة إلى الثرى , ظلت معلقة في الهواء , على بُعد ثلاث سنتمترات من سطح الأرض شبه المستوي , فتحول خلال عُدة أشهر من الأستاذ عبد الستار عشماوي , إلى الأستاذ عبد الستار الأعرج , كما كان يناديه طلبته بمدرسة جمال عبد الناصر الثانوية بالخرطوم .
    حينها قرر أبي التنازل عني , فأصدر مرسوم عائلي رسمي , متنازلاً عني ببذخ ملكي كريم , معيراً إياي لأخيه لفترة مفتوحة , غير محددة الأجل , وحقيقةً كنت سعيداً بذلك , فكانت هذه الإعارة بالنسبة لي كطوق النجاة للغريق , حمدتُ السماء أولاً , ثم شكرتُ الله الذي خلصني من أحلام أبي المفرطة , الحلم المزعج الذي رُسِم لي , الفاضل الكاروري كان يردد في كل حين , بمناسبة أو غير مناسبة , قائلاً : ( الحياة صدفة ######ة ) , لقد منحتني الحياة أخيراً فرصة ######ة للهرب , أسرجتُ عقال بعيري نحو منابع النيل الكبير , عن غير عمد أو تخطيط مسبق بالطبع , فقط كانت هي – أي منابع النيل - المهرب الوحيد والمنقذ الأسطوري من أحلام أبي الصبيانية , تركت أخوتي خلفي يعانون ويلات أبي المخمور دائماً , ويتحملون عبء أحلامه القاسيات .
    وجدت نفسي في عالم غريب , عالم تأخذ الكلمات فيه نبرة أخرى , لهجات مختلفة , تتفاوت درجة نقاءها اللغوي , بمقدار بُعدها التاريخي من المركز , في هذه الأرض سمعت لأول مرة في حياتي لفظة ( انتماء ) , معارفي المتواضعة في ذلك الحين لم تكن تحوي بين طياتها معناً واضح لهذه العبارة الغريبة , لم أفهما ؟؟ في الواقع , أو أُحاول من الأساس الاجتهاد في معرفتها , معناها ؟؟ مدلولها ؟؟ , تعاملت معها بمفهومها اللفظي المباشر , الانتماء إلى شيء ما , باختصار ( أنا أنتمي لمصر , إذاً أنا مصري ) انتهى الأمر على هذا النحو .
    لكن كان هنالك انتماء آخر , ألذّ وأشهى , الانتماء إلى الحبيبة , في الخرطوم هن كُثر , يتقاطرن عليك بشدة , يتوقف ذلك على مقدار توفر درجات اللون الأبيض في بشرتك , الدرجة اللونية كانت سلاح فعّال في أغلب الظروف , أما إن كنت أبيض البشرة , وسيم السحنة , وحلو اللسان , فإنك تصبح في مركز قوة بلا منازع , أي صاحب قرارات الرفض والإيجاب , ويمكن أن تكون محايد لسلام عاطفي لذيذ , وأنا كنت كذلك , ولا فخر , هذه مننٌ الطبيعة أو الإله , إياهما لن يغير من الحقيقة شيء , سنتعرض لهذه التفاصيل فيما بعد , المهم وجدت نفسي أتسكع في شوارع الخرطوم , حينها كانت الفوضى منتشرة في الشوارع , الديمقراطية المغلوطة , مع توفر اللاوعي بكثرة , مضت عدة أشهر على حكومة السيد الصادق المهدي , ما يسميه أهل البلاد – جزافاً - الديمقراطية الثالثة , عندما استيقظت صباحاً , اكتشفت هذا الانهيار المفاجئ من أقصى الحضارة إلى أدناها .
    من الوهلة الأولى , وجدتني هكذا , لا شيء , ندبت حظي لعدة أشهر بعد ذلك , وواقعياً لعنت كل التقاليد الأسرية المعمول بها في العالم بأسره , طُمست داخل كياني فرحة الهروب الأولى , شعرت بعد حين من وصولي , بطعم الهزيمة لأول مرة في حياتي أمام دكتاتورية الآباء , بل كفرت بفكرة التحرر من وصايا الوالدين المباشرة على الأبناء , كنت أعتقد ساعتها أنه أسوأ خيار اُتخذ لي في بدياتي كفرد في مجتمع أبوي التكوين والأفكار , فلعنت أبي مرةً أخرى , وأحلامه أيضاً , خاصةً عند تملأ العواصف الرملية سماء المدينة , يقولون لها الكتاحة , لماذا هذا الاسم بالذات , أصل التسمية على ما أعتقد – والله أعلم – كما يقول علماء الدين واللغة العربية , جاء من اسم الفاعل لفعل كَتح , وهو رمي الجسم بما يؤثر فيه , والسودان عملياً يَكتح أبنائه منذ استقلاله عنا .
    في تلكم السويعات كانت تضيق عليّ الدنيا بما رُحُبت , وكنت أظل ساهداً طوال الليل , إن خرجت إلى فناء المنزل فسيكون مشروع وأدي تحت رمال الكتاحة , وإن دخلت إلى الصالون الكبير , لعمري سيتفسخ جلدي إلى شرائح من اللحم المتعفن تحت الحرارة , لا أستطيع فتح شباك الديوان بسبب هذه الآنسة الثقيلة ( الكتاحة ) , الآنسة المتسترة بالظلام في أغلب زيارتها الصيفية من كل عام , مثل فتيات الخرطوم اللاتي يرفضن مصافحتي إلا على حافة فراشي الوثير في الصالون .
    بعد عدة أيام من وصولي للخرطوم , أهداني عمي عبد الستار رشوة قدومي الميمون , كانت رحلة عائلية ليوم واحد , أنا وزوجته وبنتاه سامية وسحر , كانتا على التوالي , الأولى في الرابعة عشر والثانية في العاشرة من العمر , كنتُ كما الفرخ الصغير الذي بدأ يتعلم المشي والطيران , على أرض طينية مُنهارة , خالية من المعالم والثوابت , في ذلك الحين ,كنتُ مثل الطفل الصغير المدلل , مشمئزاً من كل شيء , عينايّ تفيضان بالدمع لأتفه الأسباب , خلفي أحلام أبي الصبيانية , وأمامي الخرطوم وتناقضاتها , كنت أبحث عن مكان أنعي فيه نفسي في هذا الزخم المتوتر طيلة أيام العام .
    عمي عبد الستار , كان نقيضي في مُقرن النيليين بالخرطوم , يتبختر بقدمه العرجاء , مملوء الرئتين بالهواء الرطب القادم من الضفاف الإله الأفعى , سعيداً فخوراً بشيء ما , لم أكن أعلمه بعد , لقد كان مميزاً في كل شيء , في مشيته , في عينيه , في خياراته الصحيحة , هنالك رأيت اتحاد المتناقضين في عنصر محايد طاغي , شاهدتُ هذا التناقض الرهيب بأم عيني , التحام العناصر المتنافرة في عنصر حيادي ثابت , يُدعى النيل .
    الإله الأسطورة , الذي كان ينبع من السماء في فترات ما قبل ميلاد المسيح ابن مريم العذراء , النيل المقدس , ينطلق من هذه النقطة من العالم , هنا تحت هذا الجسر الأُمدرماني العتيق , الكُوبري القديم , عند نهايات جزيرة توتي في اتجاه الشمال , كنت أسمع في القاهرة عن الأهزوجة الجنائزية ( النيل , السد العالي , جمال عبد الناصر ) نشأت ورأسي يعج بهذا الثالوث الحديث , وما خلاه من لغطٍ , يدور حول إثبات الذات والوجود , انتهاءاً إلى تفاهات الأمور التي يتشبث بها المهزوزون في العالم الإنساني العجيب .
    احتلت أُسرة عمى مكاناً مقابلاً لمدينة الملاهي بالمُقرن , زوجة عمي أحضرت كل لوازم التسكع العائلي في هذا الاحتفال الهندوسي المقدس , هدية مقدمي الميمون ؟؟ ولا عجب !! . في صبيحة هذه الجمعة المباركة , بنت عمي لم تنتظر انتهاء طقوس الأم الآلية , ولم تحاول مساعدتها , كانت سحر مشغولة مع أمها , من الناحية العامة سامية تمتعت بطباع جريئة , واللا مبالاة متعمدة , وشذى المحسي – أيضاً - كانت مثلها تماماً , كلاهما مثل عمي تماماً , بينما سحر اتخذت السلوك الأنثوي المعتاد في ثقافة الرجل الشرقي , الثقافة المنتشرة إلى حد السأم على جانبي النيل وفروعه , أخذت سامية يدي وقالت لعمي ( سنذهب إلى المُقرن ثم نعود ) , لم أفهم شيئاً من العبارة حينها , وبعدها فهمت أشياء لم تمر في أحلامي المبتورة , في اليقظة أو أثناء النوم , لكن المحصلة كنت سامي الذي يكتب الآن مقالاته الأخيرة .
    هذا المكان , أصبح أهم ملجأ لي من قذارة الطقس في الخرطوم , تحول إلى وحدة اجترار الذكريات أثناء أشهري الأولى بالغربة , وأيضاً مكاناً لصب اللعنات على الصدفة ال######ة التي قذفتني بها الحياة , الأب وتسلّط أحلامه من جانب , وساق عمي المكسور من جانب آخر , المُقرن أضحى أنيس وحدتي وحياتي آنذاك , ذهبت إليه أول مرة مع عمي وعائلته , بعد أسبوع واحد فقط من الهبوط للقاع , منذ أن وطئت قدماي الخرطوم , ارتبطت به قلباً وغالباً , الجو حاراً كالعادة , طيلة أيام العام , صيفاً أم شتاءاً الأمر سيان , الشمس تُسخن في سماء الخرطوم أولاً , ثم تُوزع حرارتها على بقية أرجاء العالم , درجات الحرارة العنيفة ساقت قدماي إلى هذا المكان بعد ذلك , مراراً وتكراراً , يوم الجمعة أو في أثناء الأسبوع , من غير سابق إنذار , ليلاً كان ذلك أو نهاراً , أحياناً بصحبة ندى مصطفى , أو الرشيد الجيلاني أو كلاهما معاً , لكن في تلك المرة الأولى , كنت مستسلماً لضجيج سامية بنت عمي , هبطنا أسفل الجسر العتيق ذو الحلقات الفولاذية المعلقة , رأيت مبتدأ النيل لأول مرة , كان شعوراً غريباً , لم أندهش أو أشعر بالفخر , بالأحرى لم تخامرني تلكم الأحاسيس التي يملأ بها الشعراء عواطف العشاق , الأمر كان مزيج من الخوف والشفقة , آنذاك .
    النيل الأبيض , منذ مولده وهو ملتحف مساحات شاسعة من الزمن , ساكناً إلى اليسار من الكوبري الأمدرماني العتيق , اتجاه جريان النيل الكبير إلى الشمال دائماً , يُرسل المياه في موجات هجرة غير شرعية أخرى اتجاه البحر الأوربي الكبير , لكن النيل الأبيض على ما يبدو من انتشاره الأفقي , رافضاً لفكرة الهجرة غير الشرعية لبلاد الكُفار , اتخذ موقفاً مناهضاً للنيل الكبير , كان منتشراً , حزيناً , كئيباً , دواماته هادئة , أمواجه تكاد لا تذكر , شيء غريب , لا عنفوان أو قوة , ضفته رملية هشة , هذا الجزء من النيل سوداني التفاصيل بكل ما تحمل الكلمة من معنى , بل يحدد العقلية السودانية ويجسدها , مساحة منتشرة بلا قوة أو قرار .
    ثم التفت فجأة إلى اليمين , حيث النقيض الثائر , النيل الأزرق الهائج , مُعكّر برائحة الطمي , أزرق اللون , لا بل أسود , نافر من مجراه الضيق , سامية قالت لي ( الناس هنا يهابونه ) , هززت رأسي استعجاباً , لكن أنا - أيضاً - كنت أهابه , عنيف تماماً , ينفي وجود الآخر ويسحقه , أعتقد هو السبب الأولي والمباشر , في تعليم الخرطوم نفي الآخر وقهره , هو المسئول عن نشر ثقافة القهر كاملة من غير نقصان , من منبع نشأته الأولى في حنايا الصخور بمرتفعات أثيوبيا , إلى ثنايا رمال الصحراء , من بحيرة تانا إلى دلتاه بشمال الوادي , منذ نزول هذا الأزرق من السماء , على يد آمون-رع , أو غيره , قبل عشرات القرون , والناس تفسر النيل على ليلاها , هذا هو الدكتاتوري العنيف على أرض اللا شيء , هو من جلب اللعنة لهذه البلاد , سرحت بعيداً , عُدت إلى أبي وأمي , أخوتي تامر وحازم وعبير , هنالك بين أحضان هضاب المقطم الثلاث , أصدقائي القدامى , شوارع القاهرة , الأمواج البشرية المتدفقة إلى المدينة طيلة اليوم , المباني المكتظة , القهوة الشعبية في ناصية الشارع , عم علي البقال , الفول المصري في الصباح , كرة القدم على جدران الحارة , الباحة الصغيرة خلف العمارة , اختصاراً شعرت بأنني هاوٍ في هاوية لا قرار لها .
    حينها انتابني شعور مبهم , فراغ هائل في جوفي , اهتزاز ما , دقات قلبي تأتي من مصدر آخر , ليس صدري , شيء لا استطيع أن أصِفه بالكلمات , إحساس بعلاقة تربطني بلا علاقة , سألت نفسي لماذا أنا هنا ؟ نفس السؤال سألته في مكان آخر سأتحدث عنه لاحقاً , فقط الإحساس بالسؤالين يختلف من حيث المعنى والكيف , ولكنهما يمتلكان نفس صبغة التعريف ( الهوية ) .
    بعد عدة سنوات من تلك الحادثة عدتُ إلى ذات النقطة الشهيرة , أسفل الكوبري القديم , بعدما أذابت حرارة الشمس , الحنين إلى الماضي , بدأ الأمر رمادياً , ثم شيئاً فشيئاً استطاعت عيناي بالتعود , التفريق بين درجات اللون الأسمر , وضحت لي العلامات المميزة بين الأشخاص , أصبحت أتعرف عليهم واحداً تلو الآخر , فقد كانوا يتشابهون , وفي مرحلة لاحقة بدأت التمييز الشهواني , بين درجات الجمال المعروضة لشخصي الكريم .
    نقاط التحول بدأت واحدة تلو الأخرى , عباس الشايقي علمني نطق اللهجة المحلية قسراً , أجبرتُ لساني على التعامل بلهجة الخرطوم , وتذوقها لأسبابٍ قذرة في مجملها , لم يكن الأمر سهلاً في البداية , إلا أنني لا أملك أي خيار آخر , للحصول على أهدافي الخاصة , المالي منها والشهواني , عشقت القراءة أولاً , ثم توجتها بالكتابة , فخرجت ( بائعة الحب ) .
    بدأت أول محاولاتي الكتابية بين الحنين والوحدة , الحب والعشق والكُره , الأسئلة الفلسفية العميقة في حياة المراهق , كم هائل من التحولات , عندما هبت نسمة النيل القادمة من الجنوب الغربي , تقودها الريح المعبأة بالسحب وإنذارات العواصف , كنت هناك للمرة الثانية , كنت في بداية النهاية , بداية النيل ونهاية الفروع , عند الملتقى بالضبط , ووجدتني بلا حائل أمام ( الهوية ) مجردة من كل الرتوش اللغوية , في المكان السليم , والزمان الصحيح , عندما يصطدم النيل الأبيض بالنيل الأزرق بالتحديد .
    تحت الجسر الأمدرماني القديم , داهمتني مباشرةً كلمة ( هوية ) , بين العربية والأفريقية , رأيتُ سرطان الهوية – حقيقةً – يُدمر أرض الوطن ويفتت إنسانها إلى صراعات جزئية حول الذات العميق , جعل الأرض مكتظّة باللهيب والنار في كل مراحل التاريخ , الحالي منه والمستقبلي أيضاً , لمست جراحها في صراعات سُكان البلاد الأصليين بحثاً عنها , رأيت قبائل الجنوبيين , تناضل لتثبيت جذورها الأفريقية , السمراء منها والسوداء , من منابع نيل ما بعد ميلاد السيد المسيح ( الدينكا , الشلك , النوير , الزاندي , ... إلى آخره ) من قبائل النيل الأقوى , إلى ذات الوتر الأفريقي العنيف في الشمال القديم , أحفاد الحضارة الأولى على ضفاف النيل , بقايا حضارة النوبة القديمة , بأنواعهم المختلفة ( حلفاويين , دَناقلة , مَحس , كُنوز , ... الخ ) , مَن تناثر منهم – قسراً - في الصحراء الكبرى وأختلط بالعرب , الغزاة , الحفاة , العراة , العالة , رعاة الإبل , قارضي الشعر , عُشاق الخمر والنساء , ليخرج منهم هجين , أُسميه قبائل ( ما بينهما ) , مَن ادعى - عنوةً – الأصل العربي الشريف ( جَعلية , شَايقية , حسّانية , ... الخ ) , الذين أخذوا يلوثون الأرض بعدوى التفوق العرقي , إلى النوبيين الأوائل الذين فضلوا الهروب من الغزاة الجدد إلى جبال النوبة في كُردفان , محتفظين بكيانهم الأفريقي كاملاً .
    كانت تجتاحني مشاعر عدة متناقضة , عصفت بثوابتي في ذلك المكان أسفل النيل , أسئلة لا إجابة لها , عناوين مبتورة لا تقبل التأويل , ولكنها حقيقة ماثلة على كراسي الحكم في الشمال أو الجنوب على حد السواء .
    في العاصمة المثلثة , سألت نفسي عن داء داحس والغبراء , عن طاعون هذه البلاد , من نشر الجماعات الرافضة لفكرة البعث العربي والقومية العباسية في الشمال , من هي القبائل ذات اللغة العربية الواحدة ؟ أعراب ود مدني منتسبون – أصلاً - لعالم ضائع الهوية والذات , أعراب السُلطة والجاه , أبناء الجعلية يدعون أنهم أحفاد العباس مباشرةً , هل هم حقاً كذلك ؟ , لست أدري !! , بدأت مقالاتي من هنا في وقت لاحق , مما أهلني بلا تردد أو عناء إلى قمة من قمم الحزب الوطني الحاكم في شمال الوادي , فجأة وبدون مقدمات , وبفضل تحركات فريد الطويل المشبوهه , تحولتُ من هاوٍ للقصة إلى المتخصص في شئون جنوب الوادي , حلايب مسمار جُحا المغروس بدقة في المنطقة , كانت هي واحة قلمي السياسي المشهور , من الروث أنشأتُ منظومة أدفع ثمنها الآن , وها أنا ذا أرسم نهاياتي الأخيرة مع القلم , وإلى الأبد .
    عمي كان يقرأ القصص التي أكتبها بشغف , كان معجب بها كثيراً , نشر لي في القاهرة , عدة مرات , ( بائعة الحب ) كسبتُ بها الجائزة العربية للقصة القصيرة في العام 1988 م , عموماً عندما انتهت الثانوية , كان اسمي قد جاء من جنوب الوادي وحط في الشمال بقوة , وبددت حلم أبي العسكري نهائياً .
    لا أستطيع الإقرار بالتحرر , أو إدعاء العبقرية , أنا مثلي مثل غيري , حُدِدت له الأشياء والمعاني سلفاً , قبل مخاضي , وبعده أيضاً , مثل فكرة جواز سفري الجديد , هذا !! , الذي يوضح المعنى الحقيقي لفكرة الهوية السابقة في الخرطوم , بل هو الذي يحدد انتماءاتي المعنوية والنفسية في آن واحد , فهو الإطار العالمي الذي يحدد هويتي الإنسانية , ويحصرها في مجموعة أوراق , غلافه يشير إلى أي قذارة بشرية أنتمي لها , بينما تُبين صفحته الأولى تعريف شخصيتي الوطنية , أما صفحاته الأخرى فارغة , خُصصت لضم تأشيرات سفر إلى عوالم إنسانية أخرى , أكثر قذارةً وضياعاً في واقع الحال .
    جواز السفر الذي يضع الأطر الخارجية لملامح القانون المستعمل ضدي , المسموح منه , والممنوع به , الحصانة الدبلوماسية أو الشرعية السياحية , وهو – أي جواز السفر - يُعرّف نوع العالم الذي ينتمي له صاحب وثيقة السفر المعينة , الجواز الوهم , كغيره من الأوهام التي ملأنا بها عقولنا , الفكرة والأسطورة , الحدود بين الدول , العالم الأول والثاني والثالث , جوازات كثيرة مختلفة الألوان والتصاميم , مثل هذا الذي يحتل جزءاً كبيراً من شبكة عيني , يرمُقَني بقوة , يصفعني بعنف , ما يزال قابعاً على المنضدة أمامي , لا يتحرك لوحدة , جامد كالجمادات الأخرى , هل أعيبه أم أعيب نفسي !! , فأنا من ذهب لأخذه , ليس هو من أتى إليّ , كان يمكن أن أرفض و لكن لا خيار آخر , الملايين سيدفعون ثمن خياري الآخر .
    في طريقي لأخذه فكرتُ في الانتحار , عبد الحكيم عامر انتحر لأسباب ######## , الهزيمة وما تخيله في عقله , أنا أتخيل كغيري , ثم أُصدق الأوهام التي نحدد بها إنسانيتنا , في جماجمنا أولاً , ثم نسقطها على عالم الخرائط الدولية .
    من المفارقات المثيرة للضحك , هناك فرع من علم الجغرافيا الطبيعية , يسمى علم الخرائط , أي خرائط هذه التي نتعلمها , إنها مثل الجواز الذي يُزيّن منضدتي الآن , يحتل مكاناً بالقرب من أوراقي المتناثرة , يمنةً ويسرة , أكتب مقالاتي الأخيرة , على نحو مرتب واضح , وبعدها سأعتزل كل شيء , وأتبع الغواني الجميلات , لا أرغب في الكتابة ثانيةً , إنها الخدعة التي لا تغني من جوع , سأسافر إلى أوربا , لا بل أمريكا , العالم الأول الأزلي , هنالك , يُقال أن النساء عاهرات , وممتعات على الأسِرة , لست أدري , لكن سأكتشفهن يوماً ما ؟ , إنها هويةٌ أخرى أكثر وضوحاً وجلاءً , في ذاك العالم يمكنني أن أعيش على نحو جيد بأوراقي هذه , لا أحتاج إلى تأشيرة سفر , أنا لست من هناك , أنا في كل مكان , أحمل اثنان وعشرون جيناً في خلاياي على ما أظن , أليس هذا جواز كافي لأعيش حيث أحب !!! .
    لا إنهم قالوا أنا من هُناك , لكنني أنا من هُنا , هُنا وهُنالك وهُناك , نظرية الأوهام التي لا تنتهي , مثل جوازي هذا , أنه أقوى من لساني , وقلمي , وصوتي , بل أغلى من ملايين الفقراء في العالم , تعيسو الحظ لا يحملون مثل هذه الجواز , سأسافر إلى بلدانٍ شتى من غير تأشيرة دخول , هكذا , فجأة سأصبح أحد القادمين من هُناك , سأصبح من المحميين قانوناً بأمر الدولة , سأُقّدم على الذي من هُنا , وأنا الذي كنت يوماً ما , من هُنا , مهضوم الحقوق كالباقين من أهلي وأخوتي , جوازي الجديد – فقط – كَفل لي كل الحقوق القانونية والسياحية أيضاً , جوازي من ذوات الخاصية الهُناكية , مع إنني – عقلياً وقلبياً - من مخلوقات الخاصية الهُنائية , ولا فخر .
    في بادئ الأمر فكرت أن بدأ بمدخل ركيك لهذا المحَفل الاعترافي , كنت أحب أن أتعّرى أمام قداسة القسيس المبجل , في كنيسته العذراء , بحثاً عن صكٍ أرشي به الرب بطريقةٍ ما , عُدّة أسئلة اقتحمت انطلاقة نهايتي الأبدية , نهاية البداية , أو نهاية بطل , أعتقد أن هنالك تعبير شعبي يحمل هذا المعنى , هل مولدي كان خطئاً أم حظاً عاثر ؟ أم إنها اللعنة الموروثة من الآلهة النوبية القديمة , اللعنة التي كانت في قلمي ! في كلماتي ! في خياراتي ! وفي صراعاتي أيضاً , كل شيء تدحرج من آمون -رع , كان يمكن أن أقتنع بخيارات أبي الموضوعة لي منذ زمن بعيد , لم تكن خيارات بالمعنى الديمقراطي للكلمة , بل أوامر , أحلام الغير , الخطط التي وضعت لي قبل أن أتعلم حرفاً واحداً , من أي لغة من لغات العالم الحديث , الفشل الأبوي الذي يجب أن يحققه الأبناء رغماً عن أنوفهم , المستقبل المُعد سلفاً , التاريخ القادم , مؤرخ له من قبل , وبقوة .
    كان أبي يقف أمامي , وهو سكران , يضرب الأرض بقدمه اليمني , ثم يرفع يده أمام جبهته اليمني , بالقرب من أثر جرح قديم أعلى عينه بالضبط , فوق الحاجب بالتحديد , للجرح قصة لم يحن وقتها بعد , كان يقف من غير اعوجاج جسدي , إذا استثنينا الاعوجاج العقلي الذي شربه في الحانة قبل عدة ساعات , كان يقف منتصباً مثل حرف الهمزة في أول السطر , الحرف الذي يترجم فكرة الانتصاب , ويجسدها , أول حرف يتعلمه التلاميذ من هذه اللغة , التي فقد لسانها فكرة الانتصاب منذ أمد بعيد , الأحرف التي فُرِغت من محتوياتها الحقيقية , وأصبحت جافة , فارغة , لا تعني شيئاً , مثل فكرة الجواز الذي يحتل جزءاَ من واقعي الآن , الجزء الذي صرته بأمرٍ من سادتنا الأفاضل , بل - حقيقةً – هو تنازل واضح وصريح!!.
    حينها كانت ملامح أبي جادة , صارمة , قوية , حاقدة , يشع الشرف منها , كنت أخاف من الفكرة التي تسيطر عليه , ملامحه كانت حارقة , جعلتني ارفض فكرة تنفيذ الحلم في وقت لاحق , فتحولت للنقيض من حامل للرشاش إلى حامل للقلم , أقول تحسّراً ( يا ليتني كنت حاملاً لرشاش !!! ) لكن فات الأوان على الترجي والتمني , وأنا الذي لن استطيع أن أحمل الجواز السابق , الورقة الرسمية التي كانت تحدد هويتي وانتمائي الحقيقي , وتُفسر المشاعر التي أحملها الآن بقوة , توجه الانفعالات , تضع ردود الأفعال في اتجاهها الصحيح , المسار القوى ضد الظلم والتزييف , فكرة الإنسانية , الهوية المطموسة في الخرافة الكبرى , مع أنني لو ذهبت إلى هناك سيخُّر لي جبابرة الهُنا ساجدين , فقد أصبحتُ واحداً من جبابرة الهُناك , أبي كان صارماً تحت وطأت الخمر البلدي الرخيص , حينها لعنت الخمر لأسباب يعلمها الجميع .
    لكن – حقيقةً - كرهِتُ الفكرة الأساسية التي ولدتُ من أجلها , في الواقع تكونت عقدةٌ نفسية في خبايا ذاتي , بسبب أحلام أبي الشاذة , انبثقت عنها ردود فعلي العنيفة , اتجاه الحلم الأبوي العنيد , ومع التراكم المعرفي المكتسب كرهت الفكرة البتة , وأصبحت هاجساً ينفرني من حمل السلاح بقدر ما كونت هاجساً آخر , أسمه الوطن , مع أنني لا أعرف المعنى الحقيقي لهذه الكلمة , وما مقصودها اللفظي أو المعنوي , سألت عنها درويش , قُوبِلت به عن سوء قصد من شيخ طريقته الصوفية , كان ذلك في إحدى بداياتي الصحفية , أجريت معه حواراً صحفياً أثناء المولد النبوي الذي غطيته في حي السجانة بالخرطوم , الرجل عاش هنا أكثر من عشرون عاماً , قادم من شمال الوادي , من موطني , شممت في طيات جلبابه , رائحة الطين في أسوان والاُقصر , حقول القمح الممتدة , البط والأرانب , الجبن أبو دود والرغيف البلدي , منتجات الفرن المحلي بالصعيد - جدتي كانت تحترف صناعة هذا الخبز البلدي , قبل أن تذهب إلى رحلتها الأخيرة للسماء - الرجل كان مُقّرب لشيخ الطريقة القادرية السمانية , قدمه لي الشيخ كدليل على المحبة الصوفية , لكن فلسفياً ,كان الرجل بُرهان لدحض فكرة الوطن , والذات , والأوهام أيضاً , قال لي الدرويش ( يا أبني الوطن هو المكان الذي تجد فيه لقمة عيشك ) ثم صمت قليلاً , ثم أضاف قائلاً ( الوطن هو المكان الذي تعيش فيه مرتاح الضمير ) , الفلسفة واقعياً صحيحة مائة بالمائة , وعندما عدتُ لاحقاً للقاهرة , رأيت أمي نازك الزعتري , فأدركت حقيقة المعنى الذي قاله لي الدرويش عن الوطن .
    حتى أكون صادقاً معكم , في ذاك العصر من تطوري المرحلي , لم أتأثر بهذه الجملة , أو أضعها في جدول نقاشاتي العقلية , نسيت الجملة تماماً , بل اعتبرتها نكته خرجت من فم أحد المجاذيب , نوع من أنواع الحكمة التي يتلفظ بها المجانين كما يقول المثل الشهير ( خذوا الحكمة من أفواه المجانين ) , لكن الآن أذكر الحادثة في مكانها الصحيح , فمن الغباء بما كان أن لا أذكر هذا الرجل أو لا أعطيه حقه الأدبي في الجملة مع أنه درويش , فقط الفرق الشاذ بيني وبين الدرويش , أن الدرويش لفظ فكرة الوطن وفلسفها بالأسلوب الصحيح للكلمة , بينما – أنا – فسّرني الوطن بالأسلوب الذي يوافق أزمة الخوف والفشل في منخاريه قبل أن يعطس .
    وبعدما عطس , تمخّطنا نحن جميعاً للا شيء , فأضاع كل شيء , الأرض والمستقبل وراحة الضمير كما قال درويشي الحكيم سابقاً , أما أبي المخمور فقد كان يقول شيء آخر تماماً , جملة أخرى شتت القوى الداخلية لمقاومتي , بل نشّطت منابع الذُعر في أركاني , واخترت بسببها الطريق الشائك حول فكرة الوطن , بل تعديت هذا المضمون فحاربت الأضعف , واستسلمت للأقوى فيما بعد أو الآن , إن صح التعبير , لم يكن أمامي خيار آخر , غير هذا , للأسف الشديد .
    كلمات أبي الأولى فهمتها , بعد أن فات الأوان , بعد أن مات مخموراً غير مأسوفاً عليه , كنت أعده فاشلاً , بل خائباً , هارباً , عميلاً , كل المعاني السيئة التي عجت بها اللغة العربية , اللغة التي نسيت أهم ما يميزها عن الألسن الأخرى في العالم , اللغة التي كانت هي الأقوى لفظاً ومعناً وسيفاً .
    لكن الآن – فقط – في هذا الجزء من العالم بالتحديد , في هذا الوقت من التاريخ , أعلن بفخر شديد , أن أبي كان على حق , كان رجلاً عظيماً وهو مخمور , وهو يضرب الأرض بقدمه اليمني ثم يرفع التحية العسكرية , ويرفع صوته عالياً , ذبذبات صوته كانت تهز أركان التاريخ وتفضحه , كانت تحرك الضمائر التي تربت على قمح الذئاب السنوي , تؤرق القادة الذين يقتاتون من حصاد عُهرهم , كان يقف ويرفع عقيرته بحلمه الكبير قائلاً : ( سلام عظيم لقائد اللواء الخامس مدرعات , اللواء سامي إبراهيم عشماوي ) , ثم يضيف من جديد كلاماً آخر لا أفهمه , ممزوج بهمهمة , محمومة متوترة .
    أمي نازك الزعتري كانت تهوّن عليه , سمعتها تصرخ فيه ذات مرة ( سامي ابني مثل ما هو أبنك ) , صفعها , اغتظت منه , لكن الآن أقول أنه كان على حق , رجل كان كاملاً , لا بل فريداً من نوعه , لابد أن أصرّح بذلك , بكيت وأنا داخل المعتقل الحكومي عندما تذكرته , الخمر التي شربها كانت بطولة , وهرب من الفشل , دموعه كانت على التاريخ المزيف , لقد كان أبي هو الرجل الوحيد , وكنا نحن الوهم الكبير الذي لا طائل منه غير الموت , بل كنا نحن الوهم , وهم الحقيقة , الأرض لنا , والعيش لهم , الحقيقة تُنظم على موسيقى شعرهم , والراقصون منا , ليس منهم , وبالرغم من ذلك صرت أنا منهم , وصارت أمي – أيضاً – منهم , كما كانت , أما ذكرى أبي وأخوتي فظلوا دائماً منا نحن , لا مراء في ذلك , فها هو جواز سفري الجديد على المنضدة , يحدد هذه الهوية , ويصبغها بصبغتهم , التي رسموها لنا , فنحن الهُنا هم الهُناك , والأصل أنني أنا , لا من هُنا , أو من هُناك , فإنا المبتور خلف فكرة النصر والهزيمة , أنا الرهينة في سجن الغبينة , وهم المنتصرون , ونحن نقيم كل عام ( احتفالات الهزيمة ) .
    إنها العدوى المتمددة في العروق , العدوى التي استنشقتها من شوارع المدن , من تجمعات الفقراء في الأحياء المنفية , جرثومة بُعِثت من غياهب الماضي البعيد , أحداث ومغامرات لا تربطني بها علاقة مباشرة , استقرت في جسدي , لا بل في عقلي مباشرةً , لا أعلم متى حدث ذلك ؟ , ولكنها كانت تنخر عظامي , كل صباح , سرطان أُصبت به منذ طفولتي , كنت سعيداً به , في بداياته , أضع فيه أحلامي المبتورة , أُترجم أحاسيسي المقهورة , من إسقاطات التربية والطقوس الاجتماعية , لست أنا الاستثناء الوحيد من هذه المنظومة المعقدة , بل أنا جزء منها , كغيري من الملايين التي وجدت نفسها هُنا , وهكذا بالصدفة , أو لأسباب أخرى تختلف من شخص للآخر .
    وجدتُ نفسي في هذه الدنيا , صدفة أم خطأ غير متعمد , لم أعّنِف والدي أو أحكامه على ذنب شهوته علناً , بل كنت ألعن حظي العاثر , وأسب أبي بطريقة أو بأخرى , سألت نفسي ذات مرة ( لماذا يحسن الآباء الظن عندما يَلدُون الأطفال ؟ ) لم أجد إجابة منطقية لهذا السؤال , لكنه كان يدور في خلدي مع كل أزمة أمر بها , مالية كانت , أم عاطفية , فالأمر سيّان , فقط أسأل هذا السؤال , عند لحظات الفشل والإحباط , وفي الصباح أتناول الإفطار مع أمي وأبي وإخوتي الثلاث , لم يكونوا مثلي , فالدنيا بخلت علي بنعمة الرضا والسكون , القناعة ببساطة , للأسف كنت أنا الأول , الذكر , الذي يجب أن يحقق أحلام والده أو نقيضها تماماً , جئت أنا كالقدر المفاجئ , إعصار حط على الأرض فقلب موازينها رأساً على عقب , أمي كانت تقول لي ( أتيت إلى الدنيا في لحظة غضب شخصي ) سأحدثكم عن هذه الحادثة عندما يأتي أوان الكلام عنها.
    بدأت أفهم الأشياء من هذا المدخل المعقد , مثل فكرة اللعنة والحقيقة , الشيطان والرحمن , النقيض والنقيض له , كل شيء يوصف الحياة على وجهين , ويفرغها من مضمونها المعنوي , ثم يشرح لنا التفاصيل مجردة , كعالم رياضيات عشق فتاة نابغة في الفيزياء , من هنا أخذت طريقي بين الغثاء الذي نتعلمه , من خزعبلات الأكبر سناً , الأوصياء المفروضين علينا , برغبتهم – هم - لا نحن , لا نناقش أو نستفسر , تربيت على وصايا أبي , التي كنت أرفضها , لكن في هذا المكان بالتحديد , أذكر تعليق قاله أبي منذ أعوام , كنت يافعاً في السابعة من العمر , حينها كنت أعيش بشخصيتين , الشخصية التي يفرضها جلادو المقررات الحكومية , الأساتذة , والشخصية المناقضة التي فرضها عليّ البيت والسلوك العائلي , أحلام والداي في شخصي , الخطة المعدة سلفاً للأطفال , ليتخذوها , اللا خيار , أذكر جيداً أنني استيقظت في صباح تلك الجمعة , كنت نشيطاً , أشعر بسعادة مذهلة , لا أدري لماذا ؟ ذلك اليوم بالتحديد , لقد كانت أول مرة سأواجه فيها جمهوراً حقيقياً , جمهور أولياء الأمور , مع أنني كنت أعلم يقين العلم , أن أبي – بالتحديد – لن يحضر ذلك الاحتفال .
    ذاك اليوم , ارتديت ملابس المدرسة الرسمية , عبرت الصالة حيث يستقر أبي يُطالع جريدته الصباحية , مازلت أذكره إلى الآن , جالس , خالف رجل على الأخرى , يرتدي جلباب أزرق باهت , كان يقرأ صفحةً من وسط الجريدة كالعادة , الصُحف اليومية التي كان تأخذ الجُل الأعظم من مرتبه , وتقاعده الحربي , كانت ترهبني صُحفه تلك , خوف ورغبة في آن واحد , كان يحتفظ بها في خزانة صُنعت خصيصاً لهذا الغرض , كنت أدور حوله عندما يتصفحها , أحياناً أقرأ معه بصعوبة , اكتسبتُ عدوى الكتابة من صُحفه تلك , ثم وجدتني في هذا المجال المميت , القاتل والشاهد , المضاد والمضاد له , ربطتني علاقة ما , من حيث لا أدري بالصحف والمجلات والجرائد اليومية , لقد كانت الجرثومة التي اكتسبتها من أبي ببطء , مع الأيام وتقدم سرعة قراءتي , دخلت إلى هذا العالم , أتقنته تحت زوابع الخرطوم الترابية , وأحضان نسائها الكريمات , ووجدت نفسي هكذا بالصدفة , كاتب ومحلل سياسي معترف بكفاءته في كل آن وحين , بل مختص في شئون جنوب الوادي , بدأت قاصاً , وأخيراً انتهيت الي سامي عشماوي الذي يكتب الآن .
    في الخرطوم , بدأت أكتب , العدوى والسرطان , تحولت إلى شخص بين الأزمتين , العقل والقلب , التفكير المنطقي ورد الفعل العاطفي , إي صحفي خلاصة الموضوع .
    الهيئة التي كنت عليها تلك الجمعة , أثارت غريزة والدي الفطرية , فنظر إلى بنوع من الحيرة بعض الشيء , كفى الصحيفة من أعلاها , ثم ركز بصرة عليّ , وهو يسأل بنوع من الدهشة عن سبب ارتدائي لزى المدرسة الرسمي , قلت له بلا تردد ( سأشارك المدرسة في احتفالات أكتوبر المجيد !! ) , ولا أخفي كنت فخوراً بذلك حينها , كنت الابن الوحيد لأحد العابرين في أكتوبر المجيد , الابن الذي ستواجه به مدرسة المقطم الجمهور , كانت أول مشاركاتي الجماعية , لم أكن خائفاً من أبي , بقدر ما خفت أن أُعطل من اللحاق بزملائي , تبسم أبي على نحو مبهم , ثم قال الكلمة التي فهمتها الآن , بعد أكثر من ثلاثة وعشرون عاماً , هنا في هذا المكان , الذي أكتب فيه قصة حياتي .
    هنا سأدون الجملة التي رسخت في ذهني دون غيرها من الأحداث المبهمة في حياتي الأولى , لا أذكر بالتحديد ما فعلته أمي عندما عُدتُ إلى وطني السابق , حاملاً الشهادة الثانوية , نساء الخرطوم يزغردن عند نجاح أبنائهن عادةً , لكنها لم تفعل ذلك , لا أذكر ردة فعلها حين نجحت إلى المرحلة الوسطى , الشيء المهم الذي حدث , كان مأساة عمي بالخرطوم في تلك فترة , فتغير بسببها مجرى نيلي برمته , عندما نشرت أول مقالاتي لم أكترث كثيراً لردة فعل عمي في الخرطوم , أو أهلي في المقطم , لكن أذكر تألمها الواضح عندما رفضت الالتحاق بالكلية الحربية , حسب وصية أبي قبل الموت , لم أهتم بالموضوع أيضاً حين نجحت , تفاصيل أعياد ميلاد طفولتي , تؤرخها الصور التي أخذت بهذه المناسبة السعيدة , بالنسبة لأمي بالطبع , ليس لي , أما جُملة أبي في تلك الجمعة المباركة , هي التي استقرت كاملة في ذهني , لسبب مبهم , أستطيع أن أجيب عليه بصراحة واضحة في هذه السيرة التي أدونها الآن , في هذا المكان بالتحديد , أكتب ما قاله أبي لي حينها , وأنا خارج للاحتفال بأكتوبر , الشهر الذي أُلحقت به كلمة المجيد دائماً , قال لي أبي حينها : ( وهل انتصرنا أصلاً , لنحتفل !! ) .
    ( 2 )
    قُرع جرس بابي فجأة , تبعثرت كلماتي بين سطور الذاكرة , ضُعفت سيطرتي على رص الحروف , متناسقة الشكل والمعنى , وفقدتُ القدرة على استخدامها في جمل مفيدة , واضحة الهدف , فقدتُ ترتيب الأحداث على الورق , ليس من السهل المحافظة على التركيز في هذا الجو الملغوم بالتخلي , صوت الجرس كان عالياً , نذر شؤم على أوراقي , سأهجر تاريخي زمناً لا أدري كم هو ؟ سأفتح الباب , تبدل إحساس الماضي الصادق , وتحول إلى انفعال لحظي محسوب الاتجاه والمقدار , حَددتُ له زاويا حركة الحواجب بعناية فائقة , ورسمتُ له درجة التقاء نظرات العيون مع الزائر , كنوع من أنواع النفاق الاجتماعي , شئت أنا أم أبيت , لا مناص من استعمال النفاق , وممارسته الآن , في هذه الحالات تتنحى القيم الفلسفية والأخلاقية عادةً , مع علمي التام , وعلم زائري أيضاً , أننا لا يمكننا أن نعشق بعضنا البعض مهما اختلفت الأسباب والمسببات , بالرغم من تنازلات الساسة , ولعبة المصالح , ومجاورة التناقض , فالوعي شيء , والإحساس مختلفٌ تماماً .
    لكن كلانا يعلم مقدار الجذب والشد الفاصل بين قلبينا , قرون عدة على هذه الحال , لا يمكن أن نلتقي أبداً , فكرة الأفضلية أطّرت الصراع في جُملٍ عقلية فاصلة , الخيارات العقلية تنبع من طريقة تفكير ذات رواسب دموية مُثبتة الأرقام والتواريخ , منذ أن مُلأت خنادق المدينة المنورة بالدماء , بعد غزوة الأحزاب مباشرةً , حينها أُثير نقاشٌ مستفيض حول فكرة أداء صلاة العصر , لأول وآخر مرة في سيرة الصراع القديم بين أبناء العمومة على مر التاريخ , أو تاريخ المنطقة على نحو خاص جداً .
    لم أكن أتوقع أن يزورني أحدهم الآن , وأنا ليس لي إلا بضع ساعات في هذا الوطن الإجباري , لا أعلم لي شخصاً آخر غير السيد بنيامين سليمان , قد صرح لي من قبل في المطار , بأنه سيزورني بعد يومين من الآن , في نفس الوقت كانت كل حاجاتي اليومية مُعدة سلفاً داخل المنزل , من الصاروخ إلى الإبرة , الخضروات والتوابل حتى الخبز والمعلبات , وهو الأمر الذي ينفي احتمال وصول أي خدمات إضافية للمنزل , اختصاراً لا يوجد أي مبرر , لاتصالي بأحد أو اتصال أحد بي .
    لا يمكن أن أستقبل الهزيمة بهذه السهولة , لابد أن أفعل شيء , لا أدري ما هو ؟ غالباً سأهرب من هذا الوطن الشاذ إلى مكان أخف شذوذاً , فكرة الانتحار أو القتل , لن تخدم القضية بأي حال من الأحوال , لكن في هذه اللحظة الراهنة , فهو النفاق على حد أفعال عبد الله بن أبي سلول , لكن حتى نضع الفكرة على ورق أبيض , أكثر ديمقراطية في تقيم الأمور , سنسميه نفاق اجتماعي أو ديني , للوصول لأهداف بعيدة المدى , أي أُبرر لنفاقي وابتسامتي الصفراء تاريخياً , هذا النوع من المبررات هواية تستهويني منذ أن تعلمت أن السياسية فن المصالح أو فن النفاق كما كنا نكتب على أوراق صُحفنا الكثيرة , القديم منها والحديث .
    الزائر واحد , لا غيره سيزورني هنا , بيتي يعاني من نقصٍ حاد في الجرذان البشرية , حيز معارفي ليس فيها شخص معرّف غيره , أنا – هنا - مازلت طفل بدأ السير واكتشاف خبايا المدينة , لم تتعلم أُذني فك طلاسم اللغة المسموعة في الأماكن العامة والأسواق الشعبية يوم السبت والأحد من كل أسبوع , رنين الكلمات على أرض الحياد السياسي , له وقعٌ مقزز على طبلة أذني , لا أدري لماذا ؟.
    لقد أتى بسرعة , قال لي أنه سيأتي بعد يومين , لم أتى هكذا بسرعة ؟ لا أدري لماذا تسرّع ؟ أنا الآن أرسم بدياتي مع الأشياء , أتنسم رياح البحر الأبيض المتوسط من الواجهة الشرقية لأول مرة , ها أنا ذا في مدينة صحراء الظمأ للماضي , بين براثن العدو الأقوى , قالوا أن الحياة تعطي بقوة , إحدى الصحف المصرية كتبت عن الموضوع بلسان سادتها قالوا : ( عاد الرجل إلى موطنه الأصلي !! ) , في رواية أخرى ذكروا لفظة ( العميل المزدوج ) , الأخوان المسلمون طالبوا بقص رأسي وسط ميدان التحرير بالقاهرة , خرجت مُظاهرات في كل الشوارع الرئيسة , صاحوا بأعلى أصواتهم ( الموت للعميل !! ) الموضوع أثار منطق الأقوى في العالم , الشعب بكى على الضعف والوهن , بنحيب مسموع , له صدى تردد في صحراء سيناء منذ زمان كامب ديفيد إلى الآن .
    أئمة المساجد وصفوا الأمر بطريقة مضحكة , رفعت مؤشر اشمئزاز الساسة الخالدين على رقاب التاريخ , كانوا يتحسرون على التاريخ القوي , لا خيار آخر غير الاستمرار إلى النهاية , لكنه طرق الباب من غير موعد سابق , كنت أظن أنه لن يأتي قبل أن يخطرني بمجيئه المشئوم , الإجازة الرسمية في الدولة يوم السبت والأحد من كل أسبوع , قمت من مكاني متثاقل إلى مقعدي حسب قانون الجاذبية , قال لي : ( سيزورك السيد وليم إسحاق , نهاية هذا الأسبوع ) , لم أكن مهيأ له , السيد بنيامين سليمان , أوفى بوعده لي , وها أنا ذا في الهُناك من غير إرادتي , توقفت عن كل شيء , داهمت خيالي كمية كبيرة من الهواجس , سيطرت على أفكاري لأسبوع كامل , أرقّت منامي ليل ونهار , مشاعرٌ عدة , متناثرة الاتجاهات والانفعال .
    في الواقع لم يكن هناك سبب يدفعني للخروج هذا المساء , ولكن شعرت برغبة جامحة لتنسم هواء وطني الجديد , ريما سيكون طعمه مختلف , فهذا وطني الجديد الذي يترجم هويتي الصادرة بقرارٍ جمهوري وثوري أيضاً , إن لم أُحرّف العبارات , أستطيع أن أضيف الجملة الاعتبارية التي أدلى بها الريس ( أننا لن نجازف بمصالح الأمة ) لماذا قال الأمة ؟ لو كان قال ( الوطن ) , كان أهون , ولكن هذه هي أصول اللعب والمال .
    اليوم الأول في وطني الجديد , وطني ذو القرار الجمهوري , الوطن الذي صُدرت له على مضض , من الجحيم إلى السعير , مراتب النار هنا متساوية الحرارة والعذاب , قال أنه سيأتي , في أول عطلاتي الرسمية في هذا الوطن - الأم - الجديد , السيد وليم إسحاق , عدو أمي اللدود , الرجل الذي أعلمه جيداً , سبب وجودي في الحياة تمرداً , قالت لي أمي ( لقد ولدتك في لحظة ثورة شخصية ! ) أخبرتني بذلك في آخر لحظات صراعي مع الهنا , حيث الضعف والخنوع , قصتي بدأت هنا , من أرض الفرعون الأكبر , ثم انتقلت إلى الهناك , لأعود من جديد إلى الأصل الذي خرجت منه , لا أدري لماذا فعلوا بي ذلك ؟ لماذا ضاجع أبي أمي من الأساس ؟ ولماذا ؟ ولماذا ؟ أسئلة لا حصر لها أو أجوبة , بطبيعة الحال .
    ( 3 )
    عندما كنت في جنوب الوادي , كانت تُنشر مقالاتي كاملة , القصص والأخبار تحمل إمضاء سامي إبراهيم عشماوي , كانوا يقبلون أن أكتب عن أمريكا , علاقة إيران بالسودان , الوضع الإيراني , المد الصيني المتقدم , كل شيء أكتب عنه في هذا الإطار يُقبل , لكن أن أكتب رواية عن مجتمع لم أعيش فيه , ستقوم الدنيا ولن تقعد .
    أما أن أكتب مقال عن توريث الحكم من منظور التاريخ والفقه الإسلامي , فهذه هي الطامة الكبرى بالطبع ...
    مع إن الإنسان قولاً ومعنى , وهو الإنسان , الفقراء في العالم , هم ذات الفقراء بأي بقعة من بقع الأرض , أليس كذلك ؟؟؟
    الرأسماليون يتعاملون بذات العقلية ...
    الماسوني هو الماسوني , برغم اختلاف اللغة والمسافة ...
    توجد فواصل حدودية بين الدول , لكن لا توجد فواصل تحدد دوافع العقل البشري وتصنفها ...
    في المجتمعات البشرية تختلف أشكال الناس ومعتقداتهم ولغاتهم , لكن المخ يغلفه لون رمادي , يسيطر على قشرة الدماغ ...
    لا يوجد قاسم مشترك أدق من الدافع العقلي ....
    عُقدة الدونية أمام الأبيض منتشرة كالسرطان ...
    تتوفر بترف زائد , عند العرب , والأفارقة , والهنود الحُمر بأمريكا الجنوبية على حد السواء ...
    عُقدة التفوق اللوني لا يمكن تجاوزها داخل أي حيز جغرافي ...
    ذات الدوافع , ونفس الأهواء ...
    لا تختلف كثيراً ....
    قد نستنكر التفاصيل , ثم نغوص في المفردات ...
    ننظر للموضوع بعين الشك والنقد معاً ...
    لكن لا يسعنا سوى أن نعترف بأن التكوين الحرفي للمجتمعات يختلف في بعض الهوامش والمصطلحات ليس أكثر من ذلك أو أقل ...
    خرج السيد بنيامين سليمان من حيث أتى , وتركني لغربتي المبتورة , الشعور القديم بالقهر , سأقابله الأسبوع القادم , لا أدري ماذا سأفعل ؟ هل أنتقم لأمي , أم لنفسي , أأنتقم لأمة كاملة في شخصه , التاريخ ينتحر أمام قدمي الآن , الناس يهللون لابن بن لادن في أقاصي العالم الإسلامي , الوطن ألعوبة بين براثن الشاشات البلورية , الغرب يسّيرنا , والساسة يحبوننا أن نقول لهم ( نعم ) بالكيفية التي تخدم مصالحهم – هم – لا نحن , لقد قال لي نبيل فاروق من قبل , شيئاً بهذا المعنى , كانت لحظة صفاء استثنائية :
    أتعلم عزيزي سامي ....
    في هذا العالم , يمكن لسادتنا في غفوة تاريخية ....
    أن يحولوا الهزيمة ... إلى نصر مجهول ...
    ثم قسراً ....
    يُفرضون علينا تصديق أكاذيبهم ...
    بل ....
    والسجود لها أيضاً ...
    في العام , مرةً على الأقل ....

    ( 4 )
    ما أن وطأت قدمي وطني الجديد , واخترقت عذرية شقتي الحالية , ثم امتطيتُ ثناياها منقباً عن شيءٍ ما , لا أدري ما هو ؟؟ , فجأة وبلا مقدمات، اجتاح أحشائي شعور قديم , شعور مؤلم إلى حد الغثيان , شعور حقيقي , إحساس مكتوم داخلي , منذ أمد طويل , إحساس قوي ليس كذاك الوهن الذي كنت أذكره دوماً أسفل الجسر القديم بإمدرمان , أو أعلاه – أي الجسر - عندما اجتازه عابراً إلى مدينة أمدرمان , تلك المدينة الصخرية التي تجسد التشرد والرخاء , أرضٌ نبعت من عدم , أرض بُعث إليها المجد المهدوي الأول , مدينة نبعت من ثورة الدراويش , جاءوا من كل صوب وحدب , مثل تاجوج وماجوج , من خلف رايات الأمام المهدي , يحملون الحراب والسيوف , قاتلوا الأتراك بالكثرة , شعب نهض فجأة , ثورة الدرويش الأعظم , يقال أنه كان بالجزيرة أبا , بين موجات النهر الخامل طيلة أيام العام , قال لي الفاضل الكاروري في جامعة القاهرة قبل سنوات :- ( تخيل أن الأنصار ردموا النيل الأبيض بالسلال , من أجل أن يعبر المفتش الإنجليزي بسيارته , من مدينة ربك إلى الجزيرة أبا ) لم أتخيل الفكرة , تخيلت أن يردم جدول صغير بالتراب , لكن أن يردم نهر , الفكرة تبدو هوليودية الإخراج , لكنه جمح حبال خيالي , ثم اختصر لي قصة الاعتقاد الصوفي العميق , فقال : ( رُدم النيل الأبيض بالتراب , كالجدول ال######## , لمسافة لا بأس بها ) .
    الإيمان والسخف العقلي , صنع من الدرويش ثورة عارمة , جهاد الكفار - الأتراك - كان بقايا الإرث الذي أعتلي به الحفيد رئاسة الوزراء بعد تخرجه من إنجلترا , كان نوع من الهراء اللا منطقي , أنه أول رجل على مر التاريخ , أول مهنة يعمل بها كانت رئيس وزراء , أمة مثل هذه لا تستحق أن يعلق لها علمٌ في هيئة الأمم المتحدة , الأمر يثير الاستغراب و الغثيان في نفس الوقت .
    هناك تعلمت معنى الغربة , كنت أعتقد أنني غريب , لكن الغربة هي الآن , الغربة تكون في وطن لا تربطك به شروط ثقافية أو لغوية , الغربة تكون في وطن تربطك به علاقة عداء مستترة , الوطن هو المكان الذي يرتاح فيه ضميرك , كما قال درويشي الحكيم سابقاً , ليس كوطني هذا الذي بُعثت إليه من جديد .
    منذ اليوم الأول اكتشفت الهوة شاسعة بين جنوب الوادي وشماله , المساحة الشاسعة بين الحضارة وشبة الحضارة , بين أهرمات الفراعنة ومقابر النوبة القديمة , وجدت هذه الأشياء في انتظاري , من أين أبدأ علاقتي مع الغربة , سامية – ابنة عمي - كانت في بدايات مراهقتها , بلغت قبل عامين من الآن , من الصعب توفر أيدلوجية حوار بيننا , كانت تلهو كبقية أترابها في المدرسة , دائرة معارفها لا تعنيني في شيء , وجدتُ نفسي في موقف لا أُحسد عليه , غربة المدينة , غربة اللغة واللهجة , العربية كانت اللغة الرسمية في البلاد , لكنها ذات لكنة أخرى , وإحساس مختلف , البنايات العالية تُعد على أصابع اليد , الخرطوم عاصمة بلا ثوابت , شبه عاصمة , لم أجد تشبيه مناسب أصف به أرض الرثاء الحضاري , فكرة الهوية والذات , البحث عن الوجود في زحمة الأنا العالمية , من أين أبدأ الوصف ؟ , فجأة خُيل لي أن الخرطوم تمثل مرحلة أولية للقاهرة , كأنها الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص , أحراش متراصة من الجالوص , سُميت لسبب ما مدينة , فيما عدا ما تركه الأتراك والإنجليز فيها , لا يوجد شيء يثير الخيال في أرجاء الوطن المسمى جزافاً السودان , البلد الذي سُرق فيه الآخر لتكوين دولة , من هذا التناقض رسمت خطوط علاقتي مع الأشياء والتحليل المنطقي , قبل سنوات ذهبت إلى شارع السفارة الأمريكية , بالقرب من الفوال , الشارع والمنطقة برمتها إذا استثنينا منها مبنى السفارة الأمريكية , سيتبقى منها مدينة عشوائية الترتيب والسُكان .
    أذكر عندما وضعت قدمي على شارع الثقافة السودانية , شارع انتشار مكاتب الجرائد اليومية , السخيف والجاد منها , التجاري والهادف , تراصوا كيفما اتفق , كم هائل من الصحف والجرائد تصدر من هذا الشارع الرملي كل صباح , تنتشر في سماء هذه الأرض الملّبدة بالتجاهل واحتقار الآخر , جرائد تخرج لوطن يحتفل بالغريب ويقدمه على مواطنه , عندما ذهبت إلى هناك كان لي عامان منذ وصولي للخرطوم , لم أكن أدرك هذا الشيء الذي يصدع العقل إلى نصفين , والحقيقة تُقال استخدمت هذه الخصلة – في هذا الشعب – إلى أبعد حدود يمكن أن يتوقعها العقل .
    الخرطوم عاصمة الغرباء , السودان برمته يقدمنا - نحن - الغرباء على أبناء جلدتهم , وصلت إلى ذلك الشارع حوالي الساعة العاشرة صباحاً , الفوال يكتظ بالزبائن , صحون الفول تخرج إلى اتجاهات عدة , دخلت إلى شارع السفارة , من شارع البلدية إلى اتجاه شارع على عبد اللطيف حيث تفتح السفارة الأمريكية في اتجاه الغرب , لماذا كانت تفتح في اتجاه الغرب ؟ الأمر لم يكن بمحض الصدفة بأي حال من الأحوال .
    وقفت أمام الفوال , الرجل كان يرتدي جلابية سودانية , بيضاء , غير مكوية , متسخة الأكمام , جالس على منضدة عالية , يقارب ارتفاعها المتر والنصف , مصممة لإغراض خاصة بالزبائن , فالدفع – هنا -مقدماً كالعادة , قد يكون ذلك بسبب أزمة ثقة حادة في الخرطوم , تذاكر المأكولات لها ألوان مميزة , اللون يعطي إشارة لنوعية الوجبة المطلوبة , الأحمر يعني الكبد المحمّر , الأخضر للكباب , الأبيض للفول , وهكذا , إلا طلب واحد فقط غير معرّف , تشتريه بدون تذكرة ملونة أو مرقمة بهذا المطعم الشعبي بالخرطوم , ألا هو فتة موية الفول , هكذا تنطق كلمة ماء في الخرطوم , هذه الوجبة : ( الخبز المرشوش بحساء الفول الساخن ) عليه قطع من الطعمية والجبن , وغيره من المُقبِلات , كيفما أتفق مع القدرات المالية لزبون , فتة الفول المشهورة , الغذاء الرسمي للعمال , والطلبة , والمبدعين في هذا الشارع , الوجبة التي يقوم عليها اقتصاد الدولة , لولا هذا الفول وماءه الساخن , لماتت الخرطوم جوعاً وحرارةً في آن واحد .
    بادرني الرجل بابتسامة يغلب عليها النُعاس , كانت ابتسامة صادقة , ليست كابتسامات المحلات التجارية , بمنطقة الأسواق الحرة بالقاهرة , الرجل كان مذهول الملامح , شيء مثل أطفال المجاعة في أطراف القطر البهي , كان يلوك مِسّواكاًَ , شجر الأراك متوفر طيلة أيام السنة , المنظر تراجيدي , خالٍ من العواطف , قال لي ببلاهة ( مرحباً بالأخو ) , ترددت لحظة , تلعثم لساني , نظرت إلى المكان بعين الشفقة , حاولت الانصراف , لا يمكن أن يتوفر شاعر بهامة الجيلاني في هذا المكان , الشقوق محتجة على لون الحائط , الأرض كانت مرقعّة ببلاط , يمثل مَعْلماً يُجسِّد حضارات ما قبل الميلاد , المناضد الحديدية الصدئة , الكراسي ذات الحبال البلاستيكية المقطعة , هل هذا الفوال المقصود !؟ , هنا يجب أن أسأل عن الرشيد الجيلاني الشاعر المشهور , يا للهول والسخافة .
    ترددتُ أمام الرجل للحظة , ثم جمعت كلماتي , وسألت دفعة واحدة , حقيقةً شكلي كان مضحكاً , قلت ( هل هذا فوال السفارة ؟ ) , أجاب الرجل بغيظ واضح ( أآي ) أي يعني ( نعم ) , يبدو أنه اعتقد لسبب ما أنني استخف به , ثم تفل على يمينه بالقرب من طبق كبير , به قطع من الطعمية الساخنة , تُرص داخل أكياس بلاستيكية , تُباع لزبائن المحل الكرام , من مصدرها هذا مباشرةً , قلت بنوع من الحشمة والتردد ( هل مر السيد الرشيد الجيلاني اليوم ) , مع أنني كنت على موعد مسبق معه , كما أخبرني عمي عبد الستار عشماوي .
    أشار الرجل في اتجاه منضدة تحتل ركنٍ منزوٍ قليلاً , فهمت من خلال أصابعه ذات التمدد الكروكي أن أذهب في ذلك الاتجاه , بينما تشاغل هو بالعامل ذو سنوات تُقارب الثمانية أعوام , استدرت إلى اتجاه المنضدة تاركاً خلفي ثورة سباب عارمة على العامل , التقطت أذني منها بعض الجمل ال######ة ( العن أبو العبيد من هنا إلى جوبا , أنت أصلك ما بتفهم ) .
    حقيقة لم يكن أمامي وقت للتعجب , مع إن الفارق اللوني بينهما , لا يتعدى سوى هذه الجلابية التي يرتضيها الرجل , ساتراً لعورته , وتلك الضلوع البارزة التي تزيّن صدر الطفل البائس , وتستر جوعه وقهره , فالأمر لا يبدو غريباً أو شاذاً في هذا البلد , قيمة أجر الصبي اليومية , تحسم هذا الصراع , وتوضح أبعاده الفلسفية والتاريخية , فكرة العروبة متوفرة أكثر من لون البشرة الداكن , السمرة , هي السمة المناهضة والفاضحة لفكرة العروبة في العالم الحديث .
    المهم أن تكون قادم من الشمال حتى تكون عربي المنشأ , وإن لم تكن رغبتك أو شعورك من الأصل , لو كنت تتكلم اللغات النوبية , فأنت عربي , وما عدا ذلك فهم عبيد , لكن بالنسبة لي فهُم جميعاً على حد السواء , إذا استثنيا الأقباط السودانيين , من هذا الزخم الفكري المتنافر مع الحقيقة , فالجميع بالنسبة لي لا يمثلون في قلبي سوى علاقة مبتورة كتلك التي جمعت بين أبو الطيب المتنبئ وكافور الإخشيدي فيما مضى من قرون .
    وقفت أمام الطاولة المعنية , وأنا في حالة ذهول تام , ها هو الشاعر المعني , البطن الكبير المنتفخ , الجلباب مترامي الأطراف , الشفة الغليظة المملوءة بالتمباك , بجانبه حقيبة كبيرة تئن من ثقل الأوراق , ها أنا ذا أمامه , كدتُ أرجع من حيث أتيت , فجأة سمعت الفوال يقول ( يا الجيلاني , الشاب المصري ده عاوزك ) هبطت الكلمات على أذني كالصاعقة , فوقفت مكاني كأبي الهول , أترقب الأحداث , ولم أتحرك .
    ( 5 )
    هل سيأتي الأسبوع القادم بذات السلام الذي نهك به أمي , أم بنفس العداء الذي اقتلعني به من جذوري ؟ , وليم إسحاق الرجل الذي تكرر في سمائي – فجأةً - أعواماً من الحقد , لماذا أخبرتني أمي عنه بعد كل هذه السنوات ؟ , لماذا لم تكتم ما قالت ؟ , لماذا تلت أمي قصة أبي كاملة ؟ , ومعاناتها هي شخصياً معه ؟ لماذا لم تخفي عليّ حتى تفاصيل اغتصابها وحياتها الجنسية ؟ لماذا كانت واضحة إلى هذا الحد ؟ لماذا لم تخفي ما يثير رغبتي في الانتقام ؟ ولماذا جعلتني أشعر بالعجز أمامه أيضاً ؟ لماذا ؟ لماذا أخبرتني عنه , من الأساس ؟ , أنه رجلٌ مثل الكثيرين هنا , هل أحقد عليه من أجل أمي ! أم من أجل عشيرتي ! أم أعاقبه بسبب انتماءه العرقي ! أنه يهودي , وفي اليهودية هو صهيوني , ماسوني فكراً وسلوكاً .
    سأكرهه لذلك !! , مع إننا نتعصب لفكرة الكُره أكثر منهم , إنها ذات القوة التي يقرأها كلٌ على ليلاه , الرجال عندنا يفعلون بالنساء أحقر مما فعله وليم إسحاق بأمي , لماذا أدافع عنه الآن , إنه عدوي , سأفترض ذلك !!
    لا لن أسامحه , أليس من حقه أن يحلم بوطن مثالي !! , يحقق فيه ميتافيزيقا الانتماء , أليس من حقه أن يصنع وطن !! يُقاتل باسمه , ويُقتل من أجله , ويقهر الآخر من أجل الحصول على اعتراف تاريخي كبقية سكان العالم , نحن لدينا أوطان صنعناها من ذات الغرض الدموي , , شذى المحسي , تزُوجها ابن عمها ليسترها , كانت حامل في شهرها الثاني , عند زواجها , لقد كانت فتاة بائسة فقدت عذريتها بحثاً عن العشيق ذو البشرة البيضاء , كانت ضعيفة وجميلة كما القرنفل , لماذا فعلوا بها ذلك ؟ لماذا أنافق ؟ وأضحك على نفسي , لقد قتلوها بالحياة , لقد كنت حقيراً معها , وليم إسحاق كذلك , كان حقيراً مع أمي , ما الفرق بيننا إذناً !!.
    لقد رفضت أن أُقتل بسببها , ضربوها ولم تتفوه ببنت شفة , كانت عذراء عندما دخلت إلى غرفتي , ثم خرجت إلى حتفها الأخير , ابن عمها كان مثالي بطريقة ما , لا أدري ماذا أقول عنه , ولكنه رجل حقيقي , نادر الوجود , في زمان أشباه الرجال , غطى عرضة , بسعادة أو ألم , فالأمر سيان , القصة معقّدة إلى أبعد الحدود , سأعبِّر عنها بقوة وعمق , أو بتجّرد تام بلا منمقّات معنوية , سأخاطب العقل مباشرةً لأول مرة في حياتي , مع إن الصحافة علمتني أن أتحدث مع العاطفة والقلب ليس إلا.
    الرشيد الجيلاني , وقفتُ أمامه , أبلهاً . اعتقدَ لغروره أن عظمة شعره المُغنى كانت هي السبب , صوت الفوال نبهه إلى وجودي الشاذ , في أرض التناقض , رفع رأسه , تصنّع التواضع , الرجل كان ########اً , كغالبية المشاهير من الشعراء والكتاب في كلِ آن وحين , وأنا أيضاً أصبحت مثلهم فيما بعد , أتصّنع التواضع والزهد في النساء والمعجبين , لم أكن شاعراً مثله , بل كنت الكاتب الأبيض الأنيق , المثقف ذو الشعر الناعم المسدل , عُقدة النساء في ما بين النيلين بالخرطوم , وعموم السودان .
    رفع رأسه ثم قال لي : ( أنت صاحب ( بائعة الحب ) على ما أعتقد ؟ عمك كلمني كثيراً عنك ) , لم أستلطف تلك البداية الغريبة , لكن لاحقاً , اكتشفت أنها أهم سمات الشاعر المبجل , الرجل الذي غنى له أحد الثوريين كثيراً , لقد كان ذاك المُغني يشكل أحد الأعمدة الإغريقية في النضال والثبات على المواقف , كان يستعمله مدعو الثقافة كديكور يفضح جهلهم وتقولهم على الأشياء , لقد جعلوا منه هالة ضخمة يتسّترون وراءها بلا وعي أو بوعي , فالأواني الفارغة أكثر ضجيجاً في أغلب الأحيان , شيء عند ترجمته يُقابل فيروز وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ إلى ماجدة الرومي وأخيراً كاظم الساهر , وكل القشور التي يتعلق بها الذباب على حواف الكتب والملصقات الثورية .
    يُقال عندما مات المغني الراحل , أعلن الرشيد الجيلاني التوقف عن ممارسة الشعر , بل دخل في حالة حداد بيزنطي رهيب , ثم اعتزل الكتابة تماماً , ولم يكتب إلا بعد أن تدخلت أسرة الراحل في الموضوع , الرجل كوّن هالة لا بأس بها حول نفسه , تعرفت عليه مثل عمي , ويا ليت لم أتعرّف عليه , أصبح مثل غيره تمثال ضخم انهار مع الأيام , أراء الفاضل الكاروري , كانت دائماً على صواب , قال لي يوماً ( من الأفضل أن لا تقترب من المشاهير , أو تتعلق بهم , حتى لا تفقد احترامك لهم ) , هذه القاعدة انطبقت لفظاً ومعناً على هذا الرجل فاحم السواد , بدين العُهر والأخلاق , المدعو الرشيد الجيلاني .
    كان هو – أي الرشيد - كاتب الشعر الرمزي المغنى في كافيتريات الخرطوم , عند كل نقطة تتجمع فيها المواصلات العامة , تسمع له أغنية أو أثنين , شرائط الكاسيت يُندر أن لا تكون بها أغنية من أشعاره المنتشرة كما السرطان في الجسد .
    أجبته بصوت خافض ( أنا سامي عشماوي , بن أخ الأستاذ عبد الستار الأعرج ) , قال ( مرحباً بابن عم أستاذي الأول ) , كانت العبارات مبتورة , فيها الكثير من المجاملة الفرنسية , الود , الترحاب , وغيره من هذه التفاصيل الاجتماعية .
    في القاهرة لم يكن الأمر كذلك , لم يستقبلني شاعر أو يفتح الباب لي كاتب , بل دخلت من أبواب الجنوب إلى قمة الشمال مباشرةً , دخلت إلى جريدة الأخبار في القاهرة , بواسطة فريد الطويل , ولا فخر , ببساطة كنت أحد أهم الأدوات التي تخدم إحدى أقوى مراحل التاريخ الحديث في الشرق الأوسط , من خلال منظومة الصراع ( العربي – العربي , من أجل الآخر ) سأسميه كذلك إن وفقت في اختيار التعبير الدقيق لوصف حالة الوهن الأندلسي بين أمارات جامعة الدول العربية .
    بدأت أكتب تحت عنوان عمودي ( من جنوب الوادي ) في ذلك الوقت , كانت بداية الثورة التكنولوجية المنتشرة في العالم , كنت أرسل مقالاتي عن طريق الانترنت من المحلات العامة في الخرطوم , بين الحين والآخر , ( من جنوب الوادي ) اسم العمود الذي أكتبه , ضّم مقالات تشرح حال المتضررين من حكومة الإنقاذ الوطني , الأمر كان مثمراً جداً , عندما تخدمك الظروف أو الصدفة ال######ة , ستصبح مثل هذا الشاعر الضخم الرشيد الجيلاني , أو تصير مثلي – أيضاً – سامي عشماوي .
    في بداية الأمر شعرت أن الأمر فيه نوع من الإرضاء لعمي , لقد كانت تربط عمي علاقة ما بالرشيد , اكتشفتها لاحقاً , أثناء مناقشات رسائل الدراسات الأدبية العُليا , كان الرشيد يهوى الكتابة عن النقد الأدبي , ويستلف له عمي تلكم الدراسات من مكتبة الجامعة , فقد كان ممنوع تسليف هذه الدراسات لغير الأساتذة المصريين والطلبة في الدراسات العليا , الرشيد – تحديداً - لا هذا ولا ذلك , فقط رجل تقوّل على الثقافة , وأصبح شاعراً مرموقاً , بعد أن كان عسكري للمرور , أضحى أحد الأرقام في أرض النيل .
    قال لي : ( تفضل ! ) , لم يسألني ماذا أشرب , العادة هنا كذلك , فقط أمر صاحب الفوال بصحن الفتة , الخبز المرشوش بماء الفول الحار , الطعمية والجبن وسلطة الخضار الشعبية ( الطماطم , والجرجير ) بالإضافة للشطة الخضراء والحمراء معاً , خلطة غريبة , خاصة هذه الشطة السودانية , شهية إلى درجة المبالغة حقاً , أخذت شهوراً قبل أن أعتاد على هذه الخلطة الشعبية , فتة الفول .
    بعد وصولي للخرطوم , بعدة أشهر , كانت زوجة عمي تجهِّز لي سندوتشات المدرسة في الصباح , كعادة أهلي منذ أن نشأت , في بداياتي هنا كنت آخذها في حقيبتي المدرسية , جمال عبد الناصر , المدرسة مشهورة بالفسق والفجور في الخرطوم , مدرسة اللا انضباط , طلبة هذه المدرسة هم المتساقطون من ثقوب القبول العام للمدارس الثانوية العامة , طلبتها هم الفاشلون في استيعاب وهضم مقررات التعليم السودانية , المغضوب عليهم من المجتمع العام , وواقعياً غير محترمي القدرات العقلية أو العلمية في الشارع الطلابي بالخرطوم .
    دخلت إلى هناك وأنا أحلم بالعودة إلى أرض الوطن , كانت علاقتي مبتورة بالمقررات العلمية , المقررات التي تُدرس هي المقررات المصرية , مدرسة جمال عبد الناصر الواجهة المصرية في جنوب الوادي , الامتداد العقلي في الخرطوم , الفكر الفرعوني حول منابع النيل , كانت كذلك , ذات مرة قال لي عمي عبد الستار ( أتعلم أن الأستاذ فريد الطويل , يعمل في الأمن القومي المصري ) , حقيقة اندهشتُ من الفكرة , عمي لا يتحدث من فراغ , من المؤكد أن الفكرة إن لم تكن خطأ , فهي صحيحة بنسبة مائة بالمائة , بعد أعوام من هذه الحادثة , طردت الحكومة السودانية البعثة المصرية من الخرطوم , واستولت على مباني جامعة القاهرة فيما بعد , لم أتعجب !! فقد كنت أعلم الكثير عن هذه الأمور الشائكة بين الشد والجذب والتهميش العنصري , في هذه الأرض مزدوجة المعايير , الأرض التي عرّفها مثقفو الشمال ( الامتداد الطبيعي لجمهورية مصر في الجنوب ) إلى آخره من بقية هذا الهُراء , الذي يثار بين الحين والآخر , أذكر عندما طالبت بالمحاكمة التاريخية للصاغ صلاح سالم بسبب تفريطه في الحقوق المصرية في جنوب الوادي , كنت أعني هذا الأمر , بل كنت مقتنع به تماماً , خلاصة الفكرة , هو الهراء الذي أتحدث عنه فيما مضى .
    بدأت حياتي المدرسية في جمال عبد الناصر , سلحفائية السلوك والقرارات , ما أن ولجتُ ذلك العالم , وجدتُ نفسي محور شد بين الأقباط من جهة , والمصريين من جهة أخرى , نفس الحلقة القديمة المتوترة , الأقباط الاسم المصري القديم , الاسم المنفصل , أصبح قبيلة قائمة بذاتها , قبيلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى , ذات دين صليبي خاص , وعقيدة لاهوت عالمية , في شمال الوادي وجنوبه , الاسم التاريخي القديم , يناضل الآن لإقامة دولة مسيحية , جنوب مصر , المؤتمر الأول للأقباط المصريين بالولايات المتحدة الأميركية , آلية الصراع العالمي الجديد , ورقة ضغط أخرى مفروضة على الحكومة من حيث لا تدري , في الشوارع الملتوية بالقاهرة كلمة قبطي تعني التذمر والجهاد في كثير من الأحيان , جرجس اسم يحسب له ألف حساب في مجتمع يحتقر الآخر , ولا ينصفه في أي زمان ومكان .
    الالتفاف اللولبي حول الذات الإلهية , يخلق هالة من الخوف والموت البطيء , ساري المفعول بين الدول والجماعات .
    لكن في سماء الخرطوم , تُنزع هذه الصراعات المنتشرة بين أرجاء الذات , وتتحد ضد الغريب , الغربة – إن صح التعبير – تُقتل الصراعات الجانبية في المكان , من ثم تحول الذات إلي بحثٍ عن التاريخ والأصل , التعود والعادة , سلوكٌ فطري يصعب على الشخص العادي التخلص منه , بهذا المنطق الضعيف اختصرت علاقاتي داخل مدرسة جمال عبد الناصر بالخرطوم , بين أبناء العاملين في البعثة المصرية , وهم أيضاً كانوا من الفئات العقلية المنغلقة .
    الأستاذ فريد الطويل , أقترح علىّ فكرة العمل الصحفي في الخرطوم لاحقاً , لأسباب أمنية من الطراز الأول , بعد أن شاهد تغلغلي المشبوه بين قلوب السودانيات بالمنطقة , وقرأ بعضاً من كتاباتي القصصية على الجرائد الحائطية بالمدرسة .
    العمل في حد ذاته يعني تحرري من تأثير عمي على قراراتي الشخصية , ( من لا يملك قوته , لا يملك قراره ) هذا أهم شعار اعتمدت عليه حكومة عمر البشير , في تسيّر وضغط الشعب السوداني , منذ إن اغتصبت ديمقراطية الشعب الثالثة , فريد الطويل كان من أكثر المتحمسين لفكرة الانقلاب العسكري , بل كان أول من اعترف بالحكومة الانقلابية بالخرطوم نهاراً , ومساءاً اعترفت حكومة القاهرة في الشمال بالانقلاب , ليتبعها آخرون في أرجاء العالم بمختلف الدرجات الاقتصادية والفكرية والديمقراطية معاً .
    قال لي عمي : ( لقد وجدت تقارير أمنية في مكتب فريد الطويل بالصدفة !!! ) اندهشت للفكرة الغريبة التي يتحدث عنها عمي عبد الستار الأعرج , لكن لاحقاً تأكد من ادعاءات عمي بعد عدة سنوات من تلك الحادثة , عموماً عمي عبد الستار كان يخاف من الأستاذ فريد الطويل ويضع له ألف حساب , حتى عندما عرض على عمي , اختياري كمراسل وصحفي لجريدة الأخبار في الخرطوم , لم يُبدي أي اعتراض أو تحفظ سياسي أو مدني قطعاً .
    جمال عبد الناصر , مدرسةٌ كانت تحمل بين طياتها تحالف الغرباء , ضد أهل الأرض غير المرغوب فيهم بتاتاً , , كان هنالك تحالف نصفه , قبطي مسيحي , حيث التحفظ والسلوك المتقوقع بين الذات والحنين لمصر , وجزءه الآخر هم الطلاب المصريين , أبناء البعثة التعليمية والدبلوماسية والمؤسسات المصرية في السودان , أما هؤلاء كانوا يعتقدون أنهم - هم - الأصل والبقية كانوا تقليداً , لقد كانوا فكرة مصغرة لفقاعة فرعونية خاوية المعنى والمضمون , مثل جوازي هذا الآن .
    ( 6 )
    وضع العامل الجنوبي الصحن على المنضدة الصدئة , حسب تقاطيع وجهه وملامح بشرته , يبدو أن الولد من مشردي نفايات حرب الجنوب في العاصمة , عله من الدينكا أو النوبة , ربما مخلوط النسب , من الصعب على شخص مثلي تحديد الأصل القبلي للسوداني بدقة متناهية , عموماً , يجب أن أأكل مع الشاعر المبجل , عليك أن تأكل بالقوة , العادة هنا كذلك , والحقيقة من الأفضل أن تأكل مباشرة قبل أن يمطرك المضيف بسيل من التوسلات ( والله العظيم لازم تأكل , وعلي بالطلاق لازم تتفضل , جاملنا يا زول عليك الله ولو بلقمة واحدة , يعني أنت بخيل ولا شنو يا زول , .... الخ ) اختصاراً بدأت أأكل مع الرشيد في صحن فتة الفول , تفل الرجل سفة التمباك , ثم مضمض فمه في نفس المكان تقريباً , وقال ( بسم الله , تفضل يا سامي ) من غير ألقاب أو معاني إضافية , الناس هنا يتعاملون بتحفظ في البداية , وبعد ذلك يتعاملون بعفوية عميقة , بل كأنهم أصدقائك منذ نعومة الأظافر , سألت الرشيد قائلاً ( يا أستاذ , ما رأيك في بائعة الحب ) , أجاب مباشرةً ( ما في داعي لأستاذ دي , الرشيد بس كفاية !! ) , كنت أتوقع ذلك , أدخلت يدي في صحن الشطة السودانية أولاً , بذات الطريقة التي أدخلت فيها يدي إلى صحن الشطة قبل عدة سنوات , فقط يكمن الفرق هنا بإرادتي , أما ذاك اليوم , فقد كنت فيه مجاملاً , كان نوع من سياسة إبداء حسن النوايا قبل الجلوس في مفاوضات السلام التي نلهث وراءها دائماً , وإليك ما حدث :-
    عندما كنت طالباً في مدرسة جمال عبد الناصر , كنت مستسلماً لكآبة المجتمع الأبيض فيها , القبط والمصريين , بطريقة أخرى المسيحيين والمسلمين , قبطي تعني مسيحي مباشرةً , بدأت من هذه الدائرة المغلقة , المصريين كانوا قلة في المكان , نزلت برحالهم أولاً , حدثت أشياء لم ترق لي وقتها , تحولت للقبط وحدثت أشياء أخرى , نفرتني منهم أيضاً , المجتمعين متناحرين بطرق سلمية , كان هنالك جرجس الذي احتفظت بصداقته , ومحمود المصري أيضاً , كل مشبّع بثقافة قبلية بدرجة ممتاز .
    عموماً مللت هذه الحياة المتقوقعة , أذكر بعد أيام من دخولي المدرسة لاحظت أن كل السودانيون في الفصل يخرجون دفعة واحدة عند ساعة الإفطار , يتجهون إلى مطعم يقع في ناصية الشارع , بالقرب من جامع الملك فاروق , سألت محمود المصري عن الأمر فقال لي ( ياعم ديل بياكلوا أرف !! ) , لم تعجبني صيغة التشبيه , بل حينها غامرني إحساس مبهم يمكن أن أصفه الآن بدقة واضحة جداً .
    محمود المصري , الشاب والجيل اليتيم , مبتور الذات والتفاصيل , الجيل الذي لا يربطه بالماضي غير الأحلام القديمة الرثة , شيء مثل صور المتاحف العتيقة , لا أدرك من أين ؟ أو كيف أبدأ ؟ فمحمود , الشخص الذي يمثلني ويمثل كل جيلي , هو – أي محمود - نقطة ما , تائهة في رحاب الكون العظيم , شيء مثل فقاعة ماء الصابون , ينفسها طفل في الهواء , فتتجه إلى اللا مكان حيث اللا زمان , وقد تموت منذ نشأتها الأولى , ككل قضايانا المعلقة في قصور ساستنا , والمتجمدة بخوفهم الأبدي .
    محمود جيل الهزيمة , جيل ما بعد هزيمة وحرب العبور , ضحايا ثغرة الدفرسوار , بلغة أخرى يمكننا أن نعبر عنه , بتابع تابعي أصحاب الهزيمة , من حيث الواقع المنطقي – نحن – جيل السبعينات :-
    جيل نشأ على أنقاض ذكرى حرب العبور ...
    عاصرها أطفال الستينات ....
    وشهد هزيمتها شباب الخمسينات ....
    وانتحبها جيل الأربعينات ....
    ودفع ثمنها أجيال ما بعد الاتفاقيات ...
    أما أنا , سامي إبراهيم , شخصٌ مسلوب الإرادة أمام النص , يسير كما اخطط – أنا - للأحداث وأرسمها , لا مجال آخر , غير الانصياع لأوامر الكتابة , ودون تمرد , نصنع ثورة على التاريخ , على الهزيمة النكراء والخنوع , على الأصل المقلوب بالصحراء , نرسم رواية غريبة , عن المجد المزيف الموروث , عن المجد للشيطان معبود الرياح , عن أمجاد ( أمل دنقل ) , عن تعليم الانحناء كل عام , المجد في ( كلمات سبارتكوس الأخيرة ) : -
    ( مزج أول ) :
    المجد للشيطان .. معبود الرياحْ
    مَن قال (( لا )) في وجِه مَن قالوا (( نَعَمْ ))
    مَن عَلَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
    مَن قال (( لا )) .. فلم يَمُتْ .،
    وظل روُحاً أبديّة الألمْ!
    ..
    أجابني جرجس قائلاً : ( بيمشوا المطعم , ياكلو الفتة ) , كانت أول مرة أسمع عن هذه الفتة السودانية والشطة الحارة والتمباك وبعض التفاصيل الجنسية المغرية , الكسرة والقُرّاصة والعصيدة إلى غيره من الأكلات الشعبية التي عبر عنها الصلف المصري بلسان محمود ( بالقرف ) , جرجس نشأ هنا , ودرس هنا في الخرطوم , قبطي سوداني من أولاد أمدرمان , يقطن حي الملازمين بالتحديد , الرجل الذي أثار حفيظتي , ثم قال لي جملة بسيطة ( هنا يحترمون الغريب أكثر من أولاد البلد , ولديهم معرفة الغرباء فخر , فقط جاملهم وتواضع ستكتشف الكثير فيهم , اختصاراً يثقون في الغرباء أكثر من أبناء جلدتهم , كبقية العرب ) وتوقف هنا , ولم يضف بقية الجملة عن عمد , لكنني عرفت البقية فيما بعد ( خاصة إن كان الغريب أبيض اللون , كالأوربي مثلاً !! ) , هذه هي المعلومة التي أخذت بها شذا المحسي إلى فراشي من غير جدل أو مثابرة كما تفعل فتيات القاهرة , قررت التريث قبل الدخول إلى هذا العالم المتناقض .
    في اليوم التالي , حدثت حادثة أخرى جعلتني أُقيم الأمور على نحو أفضل , واختصرت لي مشوار طويل كنت سأسلكه في حياتي هنا .
    في الصف المدرسي - عادةً - المصريين والأقباط أن يحتلوا المقاعد الأمامية , بينما يصطف السودانيون في المقاعد الخلفية , تقريباً من الصف الثالث إلى الصف الخامس من المقاعد داخل حجرة الدراسة , فجأة من غير مقدمات سمعنا صوت تصادم واحتكاك فرامل السيارة على نحو مزعج جداً , قال الأستاذ تلقائياً ( يا لطيف ) , تعالت صيحات فوضوية , من غير أي مقدمات تحول التلاميذ – وأنا معهم – إلى قطط حب الاستطلاع , وخرجت رؤوسنا عبر النوافذ المطلة على الشارع العام , شارع الجمهورية , حيث الحادثة , لم أتبين ما حدث من شدة الزحام , أشعة الشمس الحارة وبياض الجلابيب ملتفة حول المكان , شوشت رؤيتنا , قال لي محمود ( ده شعب غريب يا عمي , الراجل ح يموت من الزحمة ) , لم أعلق !! , رأيت فجأة المُصاب محمول على الأكتاف , وضع على سيارة نص نقل مفتوحة , الاصطدام لم يكن مروعاً إلى تلك الدرجة , مع أن منظر الشارع لم يكن يوحي بذلك .
    فيما بعد علمت أن المصاب كان رجلاً عبر الشارع خطأً , السائق لم يتمكن من الوقوف في الوقت المناسب , ولم يستطيع الانحراف من الشارع , أطاح بالرجل , فكسر ساقه , لم أتابع ما حدث , ولم أهتم أيضاً , لكن الجدل الذي أثير فيما بعد هو الذي أختصر لي مسافة كنت سأقطعها متأنياً , فجأة نهرنا أستاذ اللغة العربية , أمرنا بالجلوس , وأن ننتبه للدراسة , سألت أنا ببلاهة تامة ( ليه ما أخدوش الراجل على الإسعاف , ما فيش حد يتصل بالإسعاف ) , عموماً ضحك محمود المصري بنوع من الاستهزاء , بينما أجاب الأستاذ بسخرية ######ة ( يا بني أنت آيل روحك في مصر , يا عمي ديل ماعندهمش أي حاجة , إسعاف مين وبتاع أيه ) .
    فجأة برز إلى عالمي عباس الشايقي , سمعت من خلفي مباشرةً صوته , حازم , قاطع , موجه للأستاذ ( اسمع يا مصري يا بن ال###### أحترم نفسك , ولا أقوم عليك هسع , وما ح تخش بيتك تاني ؟ ) , صمت الفصل برمته , ولم يتحدث أحد , مع إن لغة التهديد كانت واضحة المعالم والتصريحات , حتى الأستاذ أيضاً لم يتفوه بعدها بكلمة , وواصل درسه , بلا انقطاع , أما محمود فكأنه لم يكن موجود من الأساس .
    ( عباس الشايقي , شاب قارب العشرين من العمر , طويل القامة , قوي العضلات , يُقال أنه ساعده ذو عظمة واحدة , يعمل في قسم الشرطة بالخرطوم جنوب , برتبة رقيب أول , حاد الطباع , مستقيم الكلمات والأداء , يكره النفاق الاجتماعي , والمصريين بصورة عامة , أصبح ملازم في الأمن ما إن انتهى من الجامعة في الحكومة الحالية , الآن هو برتبة مقدم على ما أعتقد , آخر مرة زار القاهرة أخبرني بترقيته القادمة بعد أشهر , لكن آنذاك كان هو المسئول عن أمن الطلبة في جامعة النيلين فيما بعد , وتولى ترحيل البعثة المصرية من الخرطوم عام 1992 م .)
    ما إن انتهى عباس الشايقي حتى غامرني ذات الإحساس البغيض الذي سيطر على أركان الفصل وحنايا الأجانب المتسترين خلف الأستاذ , سرت رعشة الخوف بين أركان الفصل , وابتأس الطلبة السودانيون من الأستاذ ومحمود المصري , الذي كان غير مرغوباً فيه من الأساس , أما أنا انتظرت إلى حين أن سمعنا جرس ساعة الإفطار لنخرج من الصف , أخذت سندوتشاتي من الحقيبة , ونظرت إلى عباس بجرأة بعض الشيء , بادرني عباس بالكلام قال لي ( عارف أنا ما كنت قاصدك بالكلام , عارف إنك جديد , وعمك عبد الستار الأعرج أحسن مصري أنا شفتو في الدنيا دي , بس الحيوانات ديل لازم نتعامل معاهم كده , هم بيعتبروا انفسهم أحسن العرب والعالم , عالمين فيها أصحاب حضارة , والكلام الفارغ الما عندو معنى في زمنا ده , بمعنى آخر لسع متخيلين أنهم محتلين السودان , وكل الدول العربية الأخرى ) .
    الموقف كان تراجيدي الإخراج , ومخجل في آن واحد , وجدتني مُحرج أمام الرجل , فسألت ( بالجد ما عندكمش سيارات إسعاف ) , أجابني عباس ( يا سيدي البلد عايزه شغل كتير , بس مع الأيام ح تفهم اكتر ) , تحدثت معه قليلاً ثم ذهبت إلى حال سبيلي , وعلمت من جرجس ما ذكرته لك سابقاً عن عباس الشايقي , وعباس هذا هو الذي ساعد عمي عبد الستار الأعرج في الحصول على الجنسية السودانية , ومن ثَم العمل بجامعة النيليين لاحقاً , فقد كان هو الاستثناء الوحيد الذي تبقى من البعثة التعليمية المطرودة , بعد سودنة جامعة القاهرة فرع الخرطوم , وعُين فيها أستاذ جامعي بدل أستاذ في المدرسة الثانوية .
    مع الأيام تبدلت سلوكيات حياتي , فأخذت أتوغل في هذا العالم الأسمر , وبطبيعة الحال بدأت بعباس الشايقي , بدأت الأشياء متوترة , اللهجة والسلوك اليومي للشعب كانت عقبة حللت طلاسمها مع الأيام , والممارسة اليومية , وبفضل مساهمات نفيسة الأحمر أيضاً , بعد يومين من تلك الحادثة سألت عباس عن فتة الفول , وفي ذلك اليوم – تحديداً - بدأت علاقتي مع الشطة السودانية الحارة .
    بطبيعة الحال دعاني عباس لتناول الإفطار معهم , كنا جماعة حوالي خمسة أشخاص وأنا سادسهم , ليس مهما أن أذكر أسمائهم أو سلوكياتهم الآن , المهم ذهبت مع عباس ورأيت كيف تُعد هذه الوجبة الفقيرة , كانت تقريباً بذات التفاصيل التي يحملها صحن الرشيد الجيلاني الآن , فقط الفرق أنني تذوقت الشطة السودانية الحمراء في ذلك اليوم بصحبة عباس الشايقي لأول مرة في حياتي , وُضعت أمامي , قال لي عباس ( هذه الشطة والزنجبيل , يساعدان على الجنس كثيراً ) , من ذلك الحين رسخت في عقلي هذا النوع من الوهم النفسي , أو الإيحاء الميتافيزيقي للإثارة , كانت مُعدة بدقة متناهية , قرون الشطة الحمراء المسحونه , الفول السوداني المسحون أو ( الدكوة ) كما يقال له هنا , مع الليمون .
    أكلت منها اللقمة الأول , لم يحدث شيء , وثانية كذلك , لم يحدث شيء , أما في الثالثة , شعرت أن جنهم ستنبع من معدتي , وأخذت الحرارة تنبعث كبركان ثائر , الحلق واللسان بدءا نبضاً أوتوماتيكياً , تحول لون وجهي إلى الأحمر , طلبت ماءاً للتبريد , منعني عباس من ذلك , وأمرني بمواصلة الأكل , ثم شرب الشاي فيما بعد , أعترى وجهي العرق من كل اتجاه , كاد يغمي علي من اللهيب الذي اندلع في كل أركان جسدي , تعلمت السادية من هذه الشطة الحمراء , وبين فخذي نفيسة الأحمر كنت أشاهد مفعول هذه الشطة على وجهها بعد القذف , عندما تصطدم ناري بجدار رحمها , حارة , شهية , كانت تعصرني بشدة ثم تصيح ( سامي كتلتني !! أي قتلتني ) ثم تتأوه , كانت تعد لي الشطة قبل أن ألج بين فخذيها السمراوين , علمتني تناول الشاي الأحمر بالزنجبيل من أجل المتعة , وتأخير القذف , كانت تعشقني بشدة , عندما عاد زوجها من السعودية , قالت لي ( كنت أُناديه سامي كتلتني ) في قمة النشوة , لم يسمعها , بعد ذلك اكتشفت الفرق في الممارسة والمتعة , أي الحب بمعنى أكثر إنصافاً , قالت لي كُنت أتمدد فاتحة فخذي له , مثل البقرة , لا تأوه أو متعة , ثم تطلب منه أن يغطيها بعد أن يقضي وطره منها , الرجل كان يعود في كل أربع أعوام شهر واحد , ثم يرحل تاركها مرتعاً لشهوتي , كانت فاتنة , ليس ذنبها , بقدر ما هو ثمن الاغتراب من أجل المال والعمل , الهجرة سرطان الوطن الجديد , طفلاها لم يكن يعلمان ما أفعله بأمهما مساءاً , فقط كنت متزوج من غير زواج , نفيسة الأحمر , كانت ضحية الهجرة والتقاليد في كل آن وحين .
    قال لي الرشيد الجيلاني ( بتآكل الشطة السودانية ) , أجبته عملياً , ثم أخبرني فيما بعد عن أعماله الشعرية , كيف بدأ ؟ وأين التقى بالفنان الراحل ؟ , الرجل كان يحب صيغة الأنا بشراهة مفرطة , عسكري المرور السابق , قال لي ( الشيء الوحيد الذي كسبته من المرور , أني أعطيت قصيدتي للفنان الراحل , فغناها ) , ثم أردف أتعلم ( أن هذه الحياة صدفة ######ة دائماً ) كنت أدرك ذلك , والفضل يرجع للفاضل الكاروري , بل كنت مقنعاً بذلك , فان جوخ اشتهر من فراش الموت , وحسني مبارك اختبئ من الرصاص عندما قُتل السادات فيما مضى , كلٌ تصنعه الصدفة ال######ة بطريقةٍ أو بأخرى .
    الفاضل الكاروري كان على حق دائماً , أكل الرجل بتلذذ , كمن يعاشر فتاة في السابعة عشر , من هنالك ذهبنا إلي ( بائعة الحب ) , كانت امرأة نوباوية ذات جسد نحيل ( الخالة ليلى ) , جلست في مكانها المعتاد تحت أسفل العمارة المكسورة في ناصية الشارع , أشهر بائعة شاي وقهوة في شارع السفارة , بل في أرجاء الخرطوم , عندها قابلت ( عاطف خيري , عثمان بشرى , الصادق الرضي , القدال ) قابلت شعراء الأرض السوداء , ال######## منهم والنبيل , ومع الأيام تعرفت عليهم عن قرب , ومنهم انتقلت إلى الفنانين والرسامين والكتاب , إلى غيرهم من المثقفين وأنصافهم ومدعيّ الثقافة أيضاً , إلى متعاطي السياسة , كوادر ( الحزب الشيوعي , حزب البعث , حزب الأمة , الحزب لاتحادي الديمقراطي , الحركة الشعبية , وآخرون أقل تأثيراً ) .
    المرأة باختصار كانت تشكل مركز المعارضة السودانية , عباس الشايقي كان يكنيها ( بأم المعارضة ) , أخذني الجيلاني إلى هناك , جلست معه , ثم طلب قهوة له , والشاي لي , وقال لي مداعباً ( هذه بائعة الحب التي كتبت عنها ) , مع إن خالة ليلى لم تكن من ذلك النوع الذي كتبت عنه , أنا كتبت عن بائعة الهوى التي تقبض ثمن غباء الثقافة الذكورية , من يدفع أكثر , من أجل الجنس ولا يصل إلى شيء غير الاحتقار , في نهاية ذات اليوم استلمت عملي الجديد , كان في الصفحة الثقافية على كل حال , في جريدة يومية , يرأس تحريرها الرشيد الجيلاني شخصياً , وسكرتيرته ندى مصطفى .
    ( 7 )
    في ذلك اليوم المشئوم , استيقظتُ صباحاً حوالي الساعة التاسعة , كانت عادتي التي اتخذتها سلوكاً يومياً أثناء الإجازة الصيفية وعُطل نهاية الأسبوع ( الحمام الصباحي , تناول الشاي في المنزل , ثم الخروج للجريدة حوالي الحادية عشر ) حينها كنت انتظر نتيجة الثانوية العامة , حسب قانون القبول المصري , الحصول على نسبة خمسين في المائة كافية لدخول جامعة القاهرة فرع الخرطوم , ذلك العام قررت الالتحاق بكلية الآداب , قسم الفلسفة بالتحديد , حيث قابلت الفاضل الكاروري , ربما كان هذا الاختيار له اعتبارات برد الفعل الذي خلفه سلوك أبي أثناء طفولتي الأولى بالقاهرة , لقد حدثتكم عنه على ما أذكر , ولسبب آخر بسيط هو عملي كصحفي , في جريدة الرشيد الجيلاني .
    ذلك الصباح استيقظتُ من النوم متأخراً بعض الشيء , عدتُ من نفيسة الأحمر بعد منتصف الليل تقريباً , كنت نافذ القوى , ومنهك , في طريقي إلى الحمام , ألقيت التحية على بنات عمي , نهضت سامية بآلية تامة لإعداد الشاي , بعد خروجي من الحمام ظل رأسي مبللاً بالمياه , بالأحرى لم أُجففه من الأساس , فالصيف هذا العام لا يطاق , أشعلت الراديو , إذا بي أسمع الموسيقى العسكرية تملأ فراغات الحرية في أركان العالم الكبير, الأمر كان غريباً جداً , لقد كانت – ببساطة - صبيحة يوم الجمعة الموافق 30 يونيو 1989 م بالخرطوم .
    لقد أدهشتني الموسيقى العسكرية , برغم من أن الرشيد الجيلاني أخبرني قبل عدة أيام قائلاً ( ربما ستشهد البلاد حدثاً ضخماً عما قريب ) لم أدرك من أين له بهذه المعلومة المهمة , إلا أنني لم أتخيل أن هذا هو الحدث الذي تحدث عنه الرشيد , لقد كانت للرشيد صلاتٍ وثيقة بحزب الأمة , لكن نهاية العام بالتحديد أصبح الجيلاني مسئولاً عن الصحافة والمطبوعات في السودان , انقلب حاله رأساً على عقب , تأكدتُ تماماً من الفكرة الحالية عندما أعلن المذيع في الراديو ( سيذاع بيان هام بعد قليل , فترقبوه ) , حينها لا أخفي عليك , جف شعر رأسي دفعة واحدة , وكأنني خارج من الصحراء , وليس من الحمام .
    لم تكن لدي سابق خبرة بالانقلابات العسكرية , هذه أول مرة أشاهد فيها هذا الأمر , وأتمنى أن تكون آخر مرة تتكرر فيها , هذه المأساة في العالم أجمع , خرجت إلى شارع , كان هنالك عساكر في كل مكان , ومن كل حدب وصوب , بين كل ذرتي رمل , عسكري بزيه الأخضر الغامض , يقف نحيلاً بائساً كشجيرات السافنا الطفيلية , تعطلت المواصلات , وأعلن حظر التجول من الساعة السادسة مساءاً , في الساعة الحادي عشر والنصف قبل منتصف النهار , تلا العميد عمر حسن أحمد البشير بيان الثورة .
    ثورة الإنقاذ , ثورة الإسلاميين كما علمنا لاحقاً , في ذات اليوم مّر الأستاذ فريد الطويل بعمي , يعلمه بتأيده للانقلاب العسكري الذي تم , لم استغرب التصريح , فالرئيس مبارك كان أول المؤيدين للانقلاب العسكري رسمياً وعالمياً , ثم تبعه بقية الحلفاء الدكتاتوريين في العالم العربي أولاً , ثم لاحقاً بقية المستفيدين من قمع شعوب المواد الخام , والأسواق المفتوحة , بواسطة هذا النوع من السفلة , مخربي الحريات , ساتري دفاتر المال العام , سارقي أقوات الأمم , عموماً تم الاعتراف بالانقلاب عالمياً وإقليمياً , فكلهم سواء الدكتاتوري منهم , والديمقراطي أيضاً.
    خرجت من منزل عمي , في طريقي للجريدة , كل وسائل المواصلات كانت معطلة , لا توجد كلاب مشردة أو أغنام تتناول إفطارها من الأكياس العالقة على الأسلاك الشائكة , قوات الجيش منعت عنها حتى الاحتكاك بالجدران , كانت الأغنام بائسة حزينة متكورة تحت الأشجار وظلال البيوت , مجموعات بشرية أخرى ملتفة حول المذياع تنتظر البيان المشئوم .
    كان نبيل فاروق يتكئ على ظهره ثم ينظر إلى السقف , تجحظ عيناه , يغور صدره , يبدأ همهمةً يحفظها عن ظهر القلب , من عيناه تنزل دمعة تتوه داخل تجاعيد خده الغائرة في دائرة الفشل :
    ( كنا أبان الحصار , نعاني الأمرين , حرارة الحصى نهاراً , وبرودة الرمال ليلاً , أمواج الرصاص ,كالمطر المنهمر , لا نجد ما نتقوى به , الجنود تحاصرهم صحراء كبيرة , اللا أمل , واللا معرفة , وإلى متى سنقاتل ؟ , لا ندري ماذا حصل ؟ , الراديو الذي كان بحوزتنا نفذت بطاريته , فصمت إلى الأبد , العساكر كانوا يتلون القرآن في صمت , العدو يتصيدنا كالغزلان , دباباتنا هي المدافعة , ودبابتهم تتواثب كالنمور , نفذت الذخيرة , خمسة أيام مرت , كانت أعواماً من النزيف المستمر , عبد الوهاب الأشول كان أعظم قناص رأيته في حياتي , كان يمكن أن يكون لاعباً أولمبياً ممتازاً , راح ببساطة , خالد بيومي , حسن المنير , أفراد دفعتي , أخي أيضاً , كلهم راحوا بلا مقابل , لماذا نجوت أنا من الموت ؟ , لست أدري ؟ أنا من دون الآخرين , كانت الرصاصة قادمة في جنح الليل , كالومضة المارقة من براثن الشياطين , أُرسلت لحتفي , أنا !! , دفعني بيومي ثم راح إلى السماء , دماءه كانت حارة , تفور داخل الخندق كالبركان , مات شهيداً , وعشت أنا لأشهد الذل الذي لم يخطر على بال أحد , منذ خروج القوافل بحثاً عن الماء والنار , لماذا ؟ لماذا ؟ ) .
    ثم يذهب في غيبوبة طويلة , أراه صباحاً في مقر عملنا , كأنه شخص آخر , شخص ولد من جديد , يمر بمكتبي أولاً يشرب قهوته ثم ينصرف إلى أعماله بعد ذلك .
    جاءوا فجراً , كاللصوص , والناس نيام , حطوا كإعصار أسود مفاجئ , يقذف الحمم والكبريت على الجميع , الغريب منهم والحبيب , شوارع الخرطوم تترقب النزيف القادم , جاءوا من العدم , كقنبلة موقوتة الأجل , مدسوسة في جسم الوطن المهدود , العالم كان يتربص , ولم يفهم شيئاً , من القادمون الجدد ؟ من أين جاء هؤلاء ؟ , الطيور في أوكارها , تركت رزقها للآخرين , ولم تجد منذ ذاك الوقت رزقاً , ولو من أوراق الحنظل الجافة , أخذوا كل شيء , ولم يتركوا للبقية سوى الدموع والعجز فقط , الكل كان يبحث عن الحقيقة , حمّالي البضائع في الأسواق بسراويلهم الداكنة الملطخة بالزيوت والشحوم , عمال البناء بطينهم وأوساخهم العالقة , الموظفون الكسالى , الأطفال المشردين أسفل الجسر القديم , يستنشقون آخر جرعات الحشيش , تجار الجملة في السوق العربي , أصابتهم رعشة منافس جديد , قادم من خلف المآذن وبيوت الدين , متستر بلحية صغيرة , ممشوق إلى أعلي , مطموس , ليست له لحية أو ذقن حُرٍ طليق , كانوا نصفين , جزء شيطاني , وآخر ديني لعين , مزيج بين العسكر واستغلال الدين , كانوا هم السادة أصحاب الانقلاب العسكري الجديد , والبقية كلهم متفرجين . على حد السواء .
    أخرسوا طلاب المدارس البؤساء , أخرجوا المجرمين من السجون , ثم وضعوا البرلمانيين , سجن كوبر أصبح مأوى للشرعيين , الرشيد الجيلاني مُنع من إصدار الجريدة في الأسبوع الأول من الثورة .
    تحولت البلدة إلى معضلة غير مفهومة المتغيرات , ماذا سيحدث ؟ من سيعُتقل ؟ مَن المستفيد من هذا العبث الإسلامي ؟ الفوضوية الفكرية والأيدلوجية في آن واحد , أسئلة كثيرة لا حصر لها .
    نساء المطربين والمغنيين , سعدن بعمق من حظر التجول , جميع البشر يدخلون إلى أعشاشهم قبل غروب الشمس , المغنين لن يبيتون خارج أسرتهم كما كان سابقاً , حفلات الزواج ستقام الثانية ظهراً , نهاراً جهاراً , شذى المحسي تزوجت في هذه الظروف مبتورة الأُسس .
    أخيراً ستعاشر نساء المغنين , أزواجهن ليلاً , كبقية النساء في العالم , أنه الجانب الإيجابي الوحيد من حظر التجول , بالنسبة لهن , نقاط الجيش منتشرة في كل أنحاء الخرطوم , الحظر يبدأ من السادسة مساءاً , الطامة الكبرى هبطت على سُكان الخرطوم , وشياطينها معاً , فُسّاق الخرطوم – واقعياً - لم يكترثوا للأمر عند بداياته الغامضة .
    ذلك الصباح الأسود , الجمعة العشواء , كانت يوم المصائب الشخصي , بالنسبة لي , خرجت من منزل عمي تطفلاً , من الخرطوم ثلاثة , إلى السوق العربي في قلب الخرطوم , ذهبت من الطريق الذي أسلكه كل يوم سيراً على الأقدام , لم يكن هناك ما يعيق مسيرتي سوى هذا الكم من البيارق المنتشرة على رقعة الخرطوم , بهذا الصلف ال###### , أخذت السير في اتجاه شارع الحرية , منه لأعبر كوبري الحرية , ثم أذهب إلى مكان عملي المعتاد .
    الطريق اليومي الذي أسلكه , تقريباً كان خالياً من كل أنواع المارة والمشاة , الانقلاب فجرّ فيّ رغبة ملِّحة لرؤية الخرطوم صبيحة اغتصاب الديمقراطية الثالثة , رؤية الخوف الجماعي بديعة في حد ذاتها , الشوارع خالية من السكان , كانت هنالك رزمة من الصعاليك تحت كوبري الحرية , تتعاط العرق البلدي خلسة من المُصلين , الناس مشغلون بصلاة الجمعة , عموماً اختار مجلس الثورة الجديد إعلان بيانه في الثانية بعد الظهر , بعد أن يخرج المؤمنون من صلاة الجمعة الأسبوعية , أذاع القائد البيان , كنت أنا في طريقي لرؤية الأحداث , كيف ستسير , عندما ووصلت إلى ركن مستشفى الخرطوم تعالت صيحات الفرح هنا وهناك , بلا انتظام ثابت , صيحات ذات حنين خاص للعهد القديم , معادلة اليأس من الحاضر والحنين إلى الماضي , الحنين إلى عصر نميري , عصر الهدوء وبيع الضمير , المواطن لا تتعدى السياسة لديه أكثر من ثبات ثمن الخبز بالدكان صباحاً , الأحزاب صارحت الشعب بحقيقة نميري , ودفعوا – أي الأحزاب - ثمن كشف أسرار تجاوزات نميري وفساد نظامه الدكتاتوري المُنقرض , فكانت المأساة أن كرههم الوطن والمواطن , الإسلاميون دعموا موجة الكُره بالاحتكار , صفوف الخبز أثناء الديمقراطية لعبت في صف الانقلاب الجديد ودعمته كثيراً .
    صيحات غضب مكتوم , انفجرت , أيدت الانقلاب الوليد , نددت بحكومة الأحزاب الفانية , ذلك بحسابات تلكم المرحلة من حياة الشعب , وبعد سنوات بكوا عليها من جديد , كما بكوا على عبود من قبل , وتحسروا على الديمقراطية الثانية , وعاودوا نفس السيرة مع نميري , ثم الأحزاب , وأخيراً الإسلاميون , وقد تتوالى السلاسل فيما أظن مستقبلاً , نحن فُطرنا على خدعة الحنين للماضي , وأدمنا الثورة على الحاضر , وهوينا التشكك والخوف من القادم والجديد , والله غالب كما يقولون في مثل هذه الاستثناءات الرثائية !!.
    بينما كنت أسير تراءى لي من بعيد شبح إبراهيم عشماوي , أبي , كان صغيراً , بدا لي كما كان طفلاً حينها , تنظيم الضباط الأحرار !! , هبط على رأسي فجأة , جموع الفلاحين التي خرجت من أجل الثورة عام 1952 م , لماذا تخيلت الفكرة مزدوجة الزمان , مع أُحادية التعبير , لا توجد علاقة منطقية بين الصادق المهدي والملك فاروق , لكن بالنسبة للفاضل الكاروري كانوا متماثلين تماماً , كمثلثين في حالة تطابق تام , قال فجأة ( أتعلم أن محمد نجيب ولد من أم سودانية ) حينها أجبت ( أعلم أنه تربى وعمل بالسودان ) , أما هو – الفاضل – قال لي ( لو افترضنا صحة المقولة التي يتبناها مثقفونا , لا يضر هذا أو يقدم , في واقعنا المخجل نحن وأنتم ؟ ) , وواقعياً كان الرجل على حق , نحن – جميعاً – حثالة لا تسمن أو تغني من جوع .
    الآن أذكر هذه اللحظات وكأنها مقولات حقيقية , الفاضل الكاروري , كان يمكن أن يكون أقوى فيلسوف مر على هذه الأمة , قرأ التاريخ كما يجب , وتنبأ بالمستقبل أيضاً كما حدث , بل تنبأ بمستقبلي أنا شخصياً , وجوازي الجديد يشهد على ذلك .
    ( عندما أعلن ناصر قرار التأميم , رقص جدي الليل بطوله ) , ذكر لي أبي ذلك عن كثب , مراراً وتكراراً , قال ( أنه كان صغيراً ) , ذكر لي أن جدته حملته في مظاهرات التأيد لمحمد نجيب والضباط الأحرار , لقد أيدوا ناصر عقب الهزيمة واستقبلوه كما المنتصر .
    قال أبي في حرب 67 : ( كنت يافعاً أقل من سن التجنيد , كان عمري 17 عاماً ) انتبهت فجأة لعمره , إذن فقد كُنتَ في الثالثة عند قيام الثورة ؟ , قال لي ( نعم , لكن ذكريات الثورة وناصر , يحفظها كل الجيل البائس آنذاك تحت حكم الإنجليز ) ثم أضاف ( لا أذكر بالتحديد الثورة , لكن عندما زارنا ناصر كنت في الخامسة أو السادسة , كان رجلاً عظيماً ) ذلك كان رأي أبي .
    لكن رأي الفاضل الكاروري , كان مناقضاً تماماً في كل التفاصيل , قال ( عبد الناصر أختار تبني شعار الوحدة العربية , الوحدة وأحلام اليقظة المنتشرة حينها , تبناها ناصر , لكن عند قراءة الأحداث على وجهها صحيح , نجد أن ناصر أفضل من خدم القضية الإسرائيلية , أكثر من أي شخص آخر , والسادات سلم مصر لليهود , بمعنى أن ناصر عندما استسلم لفكرة العرب والعربية , فأخرج الأمة الإسلامية من الصراع أولاً , ثم جاء دور السادات وأخرج مصر من الصراع تماماً , كانت كل الجيوش تُحارب باسم العرب والجيش العربي , ثم أصبحت قضية القدس صراع بين العرب واليهود , وأخيراً في زماننا هذا أضحت قضية القدس قضية بقاء وصراع بين اليهود والفلسطينيين , خلاصة القول إسرائيل كانت منتصرة في كل المراحل التاريخية , ونحن المهزومون دائماً وأبداً ) .
    بالنسبة لي كانت الأشياء تبدو متناقضة انقلاب عسكري في الخرطوم , وانقلاب أيدلوجي بالقاهرة , الفكرة تبدو متوازنة نوعاً ما , حقيقة كنت معجب بآراء الفاضل الكاروري , كانت عميقة وصحيحة , على الأقل بالنسبة لي .
    كانت هذه الأفكار تدور برأسي عندما وصلتُ إلى شارع السفارة , كان مغلفاً بالعساكر , مقر الجريدة محروس بدبابة حديثة الصنع والاستعمال , جنازيرها تلمع من الشحم , ومدافعها مستعدة لإطلاق النار في أي لحظة , بينما ملأ جنود القوات الأميركيين الخاصة , شقوق السفارة وثناياها , كانوا مدججين بالسلاح إلى أخمص أقدامهم , على جوانب السفارة , فوق سطحها , بالمداخل الرئيسية , خلاصة القول كانت السفارة وشارعها عبارة عن فيتنام أخرى , تحت غبار الخرطوم .
    عدلت رأي عن فكرة الدخول إلى مقر عملي بالصحيفة , وقررت التحاق بالسوق العربي , فكرتُ أولاً في الذهاب لسوق الخضار القديم , مكان المكتبة القبة الخضراء , بالخرطوم حالياً , المكان يبدو شهياً ومغرياً , عرجت من مكاني ذاك هابطاً باتجاه شارع النيل , على أمل أن أدور لاحقاً بشارع الجمهورية للوصول إلى سوق الخضار ماراً بجامع الملك فاروق , حينها كانت الساعة قد قاربت الواحدة بعد الظهر , فضلت تناول بعض القهوة , الخالة ليلي لم تكن في مكانها مع هذه الترسانة العسكرية , عموماً لجأت إلى امرأة أخرى , تناثر حولها بعض العاطلين فكرياً والباعة المتجولين .
    كانت تلك السيدة قاربت الأربعين من العمر , بائعة الحب التي كتبت عنها , جلست إلى حضرة زبائنها الكرام , بعضهم كان يتناقش حول مباراة الهلال والمريخ الأخيرة , في نهائي الدوري المحلي للكرة القدم , وبعض آخر يلغطون في حديث فاجر معها , بائعة الحب أو ست الشاي فالأمر سيان , عن يميني جلس ثلاث أشخاص يتحدثون عن أسعار الدولار في السوق الأسود , صبت لي الفتاة أو المرأة - لست أدري – كوباً من القهوة , ارتشفت بعض الجرعات منه , بينما كنت أتابع هذا المسخ الغريب , الذي كان خارج دائرة الأحداث تماماً , كان عبارة عن صورة ليس لها علاقة بالواقع الجديد , كشريط أعلاني ثقيل أثناء مسلسل ( ليالي الحلمية ) الشهير .
    فجأة جاء أحدهم , وقال لصديق له ( الحاصل شنو الليلة ؟ البلد دي مقلوبة كده ) يبدو إن الرجل كان غائباً لسبب ما , جاءت الإجابة فاترة ومحبطة أيضاً ( في انقلاب عسكري ! ) أجاب ذات الصوت ( يعني ح نرتاح من الدوشة بتاعت الأحزاب والكلام الفارغ بتاعهم ده ) ثم واصل ( عارف يا زول , المصيبة الشربناها أمبارح دي شنو , خلي بالك العرق كان مغشوش ) , مع الجملة الأخيرة فهمت أن الرجل كان ثملاً قلباً وغالباً .
    الجمع استهواني , واستمتعت بوجودي بينهم , البشر اللذين لا مبالاة لهم . هؤلاء هم من يقول فيهم الفاضل الكاروري ( يطبلون لمن يحكمهم , ويسبون من يرحل عنهم , يلعنون الحاضر , ويحنون للماضي , ويتخيلون المستقبل ) , بالضبط هم كذلك , فجأة أثناء هذه التأملات خرجت الجموع من جامع الملك فاروق إلى الشوارع , تؤيد الانقلاب الجديد , إنهم الإسلاميون , تأكدتُ من ذلك , بما لا يقبل أدنى مجال للشك .
    لا يوجد حزب واحد تنتشر كوادره داخل الجوامع , إلا هم , لذلك كان توقيت انقلابهم يوم الجمعة , وفي شهر يونيو , المدارس والجامعات مغلقة , الموظفين في عطلة نهاية الأسبوع , الكثير منهم خارج الخرطوم , فهذا أول الشهر , أهالي المدن القريبة - عادة – يزورن أهاليهم , بعد صرف المرتب الشهري بالطبع , عموماً الانقلاب خطط له بعناية فائقة , وكانت ثمرة نجاحه أمامي في هذه اللحظة , الحرارة والسموم المنتشر في الخرطوم في هذه اللحظة , الانقلاب وتبعاته لم يتبرجا بعد , وهذه الجموع التي نشرت الغبار في كل اتجاه , جعلت أقدامي تعود من حيث أتت , ببساطة عدتُ أدراجي إلى منزل عمي بالخرطوم ثلاثة خلف محطة السكك الحديد بالتحديد .
    دخلت إلى الديوان مباشرةً , اليوم كان استثنائي الأحداث , يوم غير عادي , أخذتُ كتاباً أقرأه على ما أذكر ( مذكرات حرب أكتوبر 73 , للمشير محمد عبد الغني الجمسي ) لقد كان برتبة لواء أثناء الحرب السابقة .
    في الخرطوم - تحديداً - بدأت علاقتي بأكتوبر , التي أعلم خباياها أكثر من أي شخص غيري , الحرب التي أخرجت أُسرتي إلى حيز الوجود , أمي إيليا سمحون أو نازك الزعتري كما أعلم وتربيت , زوجة الأسير المدلل الرقيب إبراهيم عشماوي , القصة التي رُويت لي تفاصيلها في وقت متأخر جداً , بدأت قراءة كتاب عنها , حينها لأغراض ثقافية بحته من جانب , ولمناقشة الفاضل الكاروري من جانب آخر , الشاب الذي هزمني كثيراً في كل شيء , في الجامعة , في البيت , بيني وبين نفسي , أخذت في التعمق في المذكرات , لكن عندما وصلت صفحة 159 بالتحديد , عند هذه الفقرة .



    حدث ما لم يكن في الحسبان أبداً , لم أضع له أي احتمال من قبل , شيءٌ أخطر من احتمالات حرب 67 , بالنسبة لعبد الحكيم عامر .
    عندما كان عبد الناصر قد تبنى هذه اللاءات الثلاثة في أغسطس 1967 م , كانت شذا المحسي في ذات الليلة تبنت ( لا ) أخرى , كانت الأهم بالنسبة لي , من لاءات عبد الناصر الثلاث , التي صفع بها السادات عرض الحائط , وقذفها إلى سلة النسيان , بينما اعتبر التاريخ , هزيمته الفلسفية , نصراً مبيناً , وأخذوا يحتفلون به كل عام , الرجل قُتِل لذات السبب , لكن التاريخ لم يبخل عليه بالتأييد , وأبي ضاع تحت شرب الخمر , دواء النسيان , خلّده تاريخي الخاص في عقلي , بينما ينعم السادات بالتبجيل , رغم أنف المعترضين على تزييف التاريخ وحقائق الوقائع في سيناء , بينما الحاجز الحديدي المنصوب على قطاع غزة , يحدد من المنتصر حقاً .
    لاءات عبد الناصر ضاعت في سماء الخرطوم بعد توقيع السادات إعلان الهزيمة في اتفاقية المنتصر , قال لي الفاضل الكاروري ( هذه أول اتفاقية في العالم يخضع المنتصر في الحرب , لشروط المهزوم !!! ) هل كان الرجل حقاً هو المنتصر ؟؟؟ السؤال لك عزيزي القارئ , وأنا أثق في قدرتك العقلية على التقييم الأمور , من هو المهزوم في حرب لا علاقة لها بالنصر من قريب أو بعيد , سوى البيع السلمي لأمة كاملة تحت شروط المهزوم , الانتصار أو الهزيمة يُحّدد بلغة نتائج الحرب على حد قول الكاروري في هذا الشأن .
    المهم هذه الـ( لا ) الثابتة التي برزت لحياتي فجأة , أتت مع شذا المحسي , أثناء تعمقي في مذكرات اللواء الجمسي , نادتني سحر , كانت الساعة حينها حوالي الرابعة مساءاً , قالت لي ( أن شذا تريد التحدث معك ! ) صُعِقت في الواقع , قلت ( لها ماذا حدث ؟ ) , أجابت ببساطة ( لست أدري ؟ ربما تريد أن تسأل عن الانقلاب العسكري المفاجئ ؟ ) , حينها أتت إلى الديوان ومعها سحر , سامية كانت غائبة لسبب ما , خارج منزل أبيها , طلبت من سحر أن تعد لنا شاي وتأتي به , كانت مُطرِقةٌ رأسها إلى الأرض , باهته , غريبة , توجد سحنة أضافية للحزن في عينيها , لم تكن كما هي , فجأة قالت لي , من غير مقدمات ( سامي أنا حامل منك ! ) .
    حينها لو وقف شارون أمام عيني وحلف بكتابه المقدس عن براءته من هزيمة أبي , لما شعرت بهذا الفجوة في الأعماق , ولو أعلنت المحكمة العليا لجرائم الحرب عن محاكمة وليم إسحاق بسبب أمي , لما تأثرت , لكن أن يكون لي ابن في جوف امرأة أعلمُ يقين العلم , باستحالة زواجي منها لأسباب عرقية , فهو المستحيل بعينه .
    الفتاة لابن عمها حتى ولو كان أعوراً , وأبلهاً أيضاً , كنت أعلم ذلك , وهي تعلمه , بل أخبرتني عن هذه العقيدة منذ أول يوم أحببتها فيه , قبل أن تخرج قالت لي كلمات , أحسبها أصدق ما قيل في تاريخ القرن العشرين , بل بمجموع تاريخ ( الثبات على المواقف ) حينها قالت ( لا تخف , لن أذكر اسمك ولو قطعوا جسدي إلى شرموط ( هو شرائح اللحم المجفف بلغة أهل البلد ) , ثم خرجت .
    فجأة , رأيت سماء غرفتي مليئة بدماء الشهداء أثناء عبور خط بارليف , وويلات نبيل فاروق من الجوع أثناء حصار الجيش الثالث , سمعت صيحات أبي أثناء التعذيب داخل الثغرة , وشاهدتُ السادات يمضي على إقرار الهزيمة , وفي نفس الوقت تداخل خيال شذى مع تلك الجمل الشرطية , ثم انفصلت صورة الخيال من المنظر تماماً , واتخذت موقفاً مناهضاً لسفِر الهزيمة , لكنني كنت أعلم يقين علم بصدقها فيما قالته لي , أكثر من لاءات الخرطوم الثلاثة , التي تخلوا عنها جميعاً .
    ( 8 )
    عندما عُدت للقاهرة , بعد غياب سبع سنوات كاملة , بدت لي الأشياء مُربكة , حدثت أشياء ليس مهماً ذكرها , لكنها سارت في ذات الاتجاه الجديد لحياتي .
    عدتُ لأخواني الثلاثة , وعملي بجريدة الأخبار ككاتب لذات العمود ( من جنوب الوادي ) لكن أصبحتُ أتحدث عن مواضيع أخرى ( تناغم الحضارات , النوبة وفلسفة الحضارات الأفريقية ) نوعاً ما السياسة وتحليل العلاقات بين دول القارة الأفريقية الناشئة .
    حياتي أخذت تسير بوتيرة ثابتة لا تتغير , بين العمل والبيت لفترة من الزمن , لكن اكتشفت لاحقاً لابد من أتحصن بشيء قوي , وهذا الحصن لابد أن يكون قوة مالية وحزبية , كما أشار على فريد الطويل , منذ أن كان يستخدمني في الخرطوم لأغراضه الدنيئة تلك , اختصاراً انضممت للحزب الحاكم مباشرةً , وليس عن قناعة أو ابتزاز , كان انضمامي له نوع من التكتيك المرحلي على نحو واضح , بعد أن أُغلِقت أمامي خيارات الإثبات المهني من حيث القدرات البلاغية والتحليلية , وجدارة الأسلوب الكتابي , إلى آخره من شروط لجان اختيار الموظفين والعمال الحقيقية والمحايدة , عموماً أعني مجموع خيارات ، المميز والجدير بالمهنة المعينة , الخيار المبني على التفوق المهني والإبداعي معاً , الخيار الذي أصبح مثل أحلام الحضارات القديمة , التي نَحُن لها مع كل أزمة فشل .
    في شمال الوادي , فقدتُ ذلك التمييز الذي كنت أجده هنالك في جنوب الوادي , فقط وجدتني أبدأ من جديد , من نقطة الصفر , بلا حدود أو قيود , علىّ أثبات ذاتي بأي وسيلة كانت , فلم أجد سلاح أفضل من السباحة في اتجاه التيار , بين هؤلاء الرأسمالية العتاة , قراصنة عالم الصحافة , عليّ الدخول من أضيق الأبواب للوصول للأهداف , فتسللت من باب فريد الطويل , لقد كفاني شر الكثير من التنازلات والتهكمات التي كان يمكن أن أسمعها هنا , من سلاطين المهنة المفروضين علينا غالباً وأبداً , هذا أهم درس تعلمته من الرشيد الجيلاني .
    القاهرة ليست كالخرطوم , بل لا يمكن المقارنة بينهما قطعاً , على الأقل في ذلك الزمان الذي كنت فيه بالخرطوم , قبل أن يُحلل الثوار الجدد الفساد الإداري والرشوة عياناً بياناً , في أرجاء ذلك الفيل الكبير الذي يُدعى السودان .
    الدرس الأول الذي تعلمته عندما دخلتُ مقر عملي بجريدة الأخبار كان قاسياً جداً .
    ذهبت إلى هنالك وأنا أحمل خطاب التعيين من مكتب العمل بالقاهرة , ذهبت إلى مكتب رئيس تحرير الجريدة , رأيته يومها , لأول مرة في حياتي قط , كان آنذاك السيد نبيل فاروق , قابلت سكرتيرته , كانت جميلة جداً , عزبة , ساحرة العينين , ذات شعر طويل فاحم غريب , طرقتُ الباب , طلبت مني الدخول , ابتسمت تلك الابتسامة الصفراء التي أعرفها تماماً , لكن بفطرتي أدركت بُعد المسافة التي تفصل ندى مصطفى عن هذه الآنسة التي لم تتعامل معي حتى كإنسان .
    ندى مصطفى , كانت تأتي هي لتسألني عن الأوراق والمقالات , كثيراً ما كانت تتذلل لأقدامي حتى أظهر معها بمكان عام , عندما دعتني إلى حفل زواج أختها , ذهبت مع بقية الزملاء , فكنت – أنا - المعنى بالحفل , والبقية هم كومبارس , كانوا كخيال مآته , وكنت أنا الأصل وهم الصورة , الرشيد الجيلاني دعّم علاقته بي لأخذ سقط المتاع من حسناواتي الكثيرات , مجتمع الشعراء تاريخياً , حقيراً جداً , وهنا أحقر مما كنت تتصور , إذا استثنيا واحد أو أثنين منهم , البقية الباقية لا يصلحون إلا للعُهر والفساد , الرشيد كان كذلك , ######## , حقير , يصطاد في الماء العكر , مثقف للأسف الشديد .
    عندما ولجت الباب , شعرت برغبة ملحة في التقيؤ , انتظرت ما يقارب الساعة أمام مكتب رئيس التحرير , قبل أن تأذن لي في الدخول إلى عالم المجهول , عالم الأنا والنحن , دخلت إلى عالم الهُنا والهُناك مباشرة , كان السيد نبيل فاروق متحّصنٌ بمكتبة , جالس متكور , نحيل , عنيف , يعاني من جفاف الشعر في الرأس , حقير العينين , رجل يبدو عليه الخبث أكثر من الصحافة , مثل الكثيرين من أتباع النظام عندنا , يظهر خلاف ما يُبطن , كان هذا انطباعي الأول عنه , ما أن دخلت تصّنع الانشغال ببعض الأوراق , حركته كانت مسرحية واهية , قال لي : ( تفضل ) , فولجتُ إلى حصارِ الجيش الثالث من غير سابق إنذار أو ترتيب , كما فعل شارون بالضبط .
    كانت حركاته بهلوانية الطابع , انتظرتُ أن يعتبرني إنساناً على أقل تقدير , تململت قليلاً , ثم تنحنحتُ بعض الشيء , بعد زمن ليس بالقصير قال لي : ( أنت سامي عشماوي ) , أجبت بنوع من الغيظ ( نعم ) , أردف في تمهل , كأنه يلوك الكلمات ويمضغها بتلذذ أولاً , ثم يخرجها بعد حين قائلاً : ( من هو واسطتك في مكتب العمل ؟ ) , عندما كنت في الخرطوم , كنت أعتقد أنهم ينشرون لي بسبب الكفاءة , لكن الآن بدأت تتضح لي الأشياء , مثل الضوء الباهر القوي , الأمر ليس له علاقة بالكفاءة من قريب أو بعيد , يبدو أن فكرة شوارع الخرطوم الثقافية , منتشرة هنا بطريقة أسخف من ما هو عليه هنالك , فجأة هب الفاضل الكاروري ثانية : ( في جميع أنحاء العالم , المتخلف منهم أو المتقدم , تتساوى معدلات الفساد الاجتماعي والسياسي والثقافي أيضاً ) .
    اختصاراً , واحتقاراً , قلت مباشرةً : ( الأستاذ فريد الطويل ) .
    لا أدري ما حدث للرجل !! , فإذا به هب من مكتبه قائماً , واعتلت عينيه نظرة مبهمة , خوف , ورغبة , وتمني , وانقلب الحال رأساً على عقب , أصبحت أنا المُستضيف وهو الضيف , نبرات صوته أصبحت تدل على احترام فائق لشخصي , دبَّ فيه النشاط فجأة , وإذا بي أسمع ( يا مرحباً , يا أهلاً , شرفتا يا أفندم ) , لم يسألني عن ( أي المشروبات أفضل ) بل ضغط مباشرةً , على ذر السكرتيرة , دخلت بمشيتها العوجاء , قال : ( أحلى قهوة عندك للأستاذ سامي عشماوي ) ثم أضاف جملة قوية , فسرتها فيما بعد ( الأستاذ من طرف فريد الطويل ).
    حينها لاحت لي كلمات عمي عبد الستار عندما كنت طالباًً في المدرسة , قال لي : ( فريد الطويل يعمل في أمن الدولة !! ) , حقيقة كنت أتجاهلها كثيراً , لكن هنا في القاهرة شطح خيالي منها , وضاجعت شياطين وادي عبقر رأسي , طيلة الليل , لم أتخيل أن هذا الرجل بهذا المقدار من السيطرة والنفوذ في أرجاء المعمورة , عمي قال حينها : ( يمكنني أن أرجع مع البعثة إلى مصر , حينها سيكون أمامي عدة خيارات , إما التلوث والنفاق ومدُّ اليد , وانتظار البقشيش والدروس الخصوصية , أو أعيش هنا بسلام , محايد , لا مع هؤلاء أو أولئك , أعتقد أنني سأميلُ للخيار الثاني , القانون السوداني يسمح بازدواجية الجنسية , سأبقى هنا , أنه أكرم لي من العودة إلى الوطن , فإنا غريب هنا , لن أستشيط فيهم إن أُهنت , لكن أن تُهان في بلدك , لعمري هذا ذل ليس بعده إلا الموت فقط !! ) .
    يبدو أن خيار عمي كان سليماً جداً , لقد فضل الاختباء , وراء الغربة , كانت نظريته سليمة , سامية تزوجت من رأسمالي طُفيلي , مثل أثرياء الحرب ,كما كنا نسميهم دائماً , وأما سحر فقد تزوجت بعباس الشايقي فيما بعد , وعمي - كما أسلفت - يعمل في جامعة النيلين , أستاذ محاضر بكلية الآداب , يعمل بعد الظهر كمصحح لغوي في جريدة حكومية , على العموم وضعه أصبح بين الثري والمستور الحال , نوعاً ما أفضل من هنا بكل المقاييس , على الأقل تحت حماية عباس الشايقي لن يتجرأ عليه أحد مهما كان , لا توجد مسافة شاسعة تفصل بين فريد الطويل هنا في القاهرة , وعباس الشايقي في الخرطوم , الفارق بينهما لا يتعدى أكثر من قلب عملة معدنية على وجهها الآخر , فالخرطوم أكثر سهولةً للوصول للأهداف , بينما القاهرة فهو صراع القراصنة المحترفين بكل ما تحمل الكلمة من معنى .
    حينها تغيرت ملامح السكرتيرة , وأصبحت لطيفة ساحرة , ثم قالت ( مش كان تقولي يا بيه أنت من طرف فريد الطويل !! ) حقيقة استعجبتُ من الفكرة , وأنا القادم من سلسلة نجاحات , جائزة 1989 م للقصة القصيرة , مُحرر الصفحة الثقافية في جريدة يومية , بكالوريوس فلسفة جامعة القاهرة فرع الخرطوم , مشاركات ثقافية وكتابات نشرت في مجلة العربي , والدوحة الثقافية , وعدة مجمعات ثقافية , .... الخ من السيرة الذاتية الطويلة , يقف أمامي هذا الرجل الذي كنت أنشر عنده مقالاتي , عن المتضررين من حكومة الإنقاذ – مجاناً – فقط لأنني من طرف فريد الطويل .
    حقيقةً , شعرت أني أسقط في هاوية سحيقة , لا قرار لها , مملوءة بالجليد , وأنا عار تماماً , خلفي كم هائل من النسور الجائعة , لا أدري لماذا تخيلتُ حينها قلمي مزيف ومصنوع , أو أنني شاعر أتلصص دنانير سيف الدولة الحمداني , لا أدري لماذا ؟ شعرت بالأسى من أجل أبو الطيب المتنبئ وسقراط في آن واحد , عندما اكتشفت الحقيقة الوحيدة الصحيحة ( أن الحياة حقاً , عبارة عن صدفة ######ة ) , هذه الأرض تقوم على الصدفة , لو لم يكن فريد الطويل أستاذي , هل كنت سأكون ( سامي عشماوي ) , ببساطة أجبت وأنا أبتسم مرارةً , وراداً على سكرتيرة الأستاذ نبيل فاروق : ( لماذا الأمر لا يعُنيك في شيء عزيزتي ؟ ) , في نفس اللحظة برق وجه نبيل فاروق من الفرح , عندما ابتسمت , ربما تخيل أنني فرحٌ بمقابلته واستقباله الحار لي.
    ( أتعلم أنك خدمت القضية المصرية بقوة في حربنا ضد حكومة عمر البشير , الرجل يبدو معتوهاً ! إنه يحارب مصر العظمى !! ) , كلمة عظمى هذه – صراحةً – لم تعجبني , في تلك اللحظة خُيّل لي أن محمود المصري , مَن كان يتحدث !! , وواقعياً لم يشجع رغبتي في الحديث , واعتبرته – مع سوء الظن - مستثمراً انتهازياً فقط , كان ذلك حسب قراءاتي الأولية له , بعد فترة اكتشفت الحقائق المُرة التي كان يسترها داخل قلبه وشرفه المجروحين في سيناء , عندما كان شاباً , يتطلع لهزيمة العدو , وأداء صلاة الظهر بالقدس الشريف , لكن للأسف الشديد , تناثر حلمه بين أوراق كامب ديفيد كالباقين , وأنا منهم أيضاً , فتركته يواصل : ( هل صحيح أن السودان بلد , لا يعمل أهله أبداً , اعتقد أنهم كُسالى , إذا استثنيا الطيب صالح منهم لا أعتقد أنهم جديرون بالاستقلال عنا ) , حقيقة استفزني الحديث , فأجبت تلقائياً : ( أنهم شعب كغيرهم لهم نقاط ضعفهم الثقافية وأحلامهم الوطنية , أي نعم توجد مشكلة هوية , لكن ليس معنى ذلك إنهم أقل منا , وما كنت أكتبه هو الواقع العام للحكومة السودانية الحالية , هذا الواقع لا يختلف كثيراً عن أمن الدولة هنا في مصر , أم ماذا تعتقد أنت ؟ ) .
    استمعت إلى مسلسل طويل كان يتلوه عليّ محمود المصري كثيراً من قبل , أثناء دراستي بمدرسة جمال عبد الناصر بالخرطوم , ثم أخذ يتكرر علي هنا كل يوم , مع كل نشرة راديو أو دعاية تلفزيونيه , أشاهده بين طيات المجلات , بين أوساخ المقطم وبناياته المتساقطة على رؤوس الناس , نحن القوة والباقي هم أشلاء , مصر أم الدنيا والآخرين لا أمهات لهم , حضارة أكثر من 7000 سنة , لا بل قل عشرة آلاف من السنين , دوامة الأفضلية على العربي الآخر , أو الأفريقي , بينما نمسح أقدام المستعمر الشمالي , إليّ أيها الفاضل الكاروري , أين أنت في ظل هذا الرماد السرطاني , الذي يغطي العيون ويعميها .
    الأرض , والوطن , الديار , الأهل , الأصدقاء القدامى , حياتي السابقة , التي سأُنشِّطها من جديد , على أن أبدأ في التعرف على الأشياء بقرب أكثر في وطني القديم .
    قضيت سنتين في جريدة الأخبار , كنت أعمل في قسم الثقافة , أحّرِر هذا القسم وأكتب فيه , الأحداث كانت تسير على وتيرة ثابتة , مصر , القاهرة , النظام , الأرض والحدود الجغرافية , ومع الأيام زادت علاقتي بالمعارضة السودانية المنتشرة في القاهرة , لا أخفي عليك خلال السنوات الأولى التي قضيتها في السودان كنت قد تعلمت الكثير , وغاب عني أكثر , فقد زادت علاقتي بالكم الذي يدعى المعارضة السودانية , في نهايات عام 1995 م أرسل فريد الطويل طالباً مقابلتي في مكتبه , حينها كنت أتممت عام ونصف منذ أن عُدت إلى أرض الوطن , الأمر لم يكن غريباً , بل كان من التكاليف التي يجب أن أدفع ثمنها بالنسبة للحكومة من أجل الاستمرار في العمل , ليس دائماً يجب أن نميل لعواطفنا ومبادئنا العامة والخاصة معاً , النضال شيء , والحاجة شيء آخر .
    في الجريدة كنت أدخل إلى مكتب المدير من غير استئذان , السكرتيرة حاولت التقرب مني , فلفظتها , كانت من شيعة المدير , وأي شرخ قد يؤثر في حياتي , وواقعياً في القاهرة لست محتاجاً للعبث وراء الموظفات , أو الالتفاف حول النساء , فالفساد متوفر بما يكفي ببلاد العرب , من غير مبررات كثيرة , ولا أخفي عليك عزيزي القارئ , حينها كانت لي علاقة مع امرأة من ذلك النوع المريح , كانت تسهل لي الحصول على الفتيات , زوجة بواب العمارة , وهبتني بنتها , كانت في 16 عشر من العمر , عندما قدمتها لى على طبق من الذهب , مقابل جزء من المرتب أصبه في جيبها أول الشهر , وبعض المواد التموينية التي أعطيها لها مجاناً , الفتاة كانت مغرية جداً , فإنا قذر كالرشيد الجيلاني في هذا المضمار , السُكان هنا يرتعبون من فكرة أمن الدولة .
    أذكر أول ما وصلت إلى المقطم , زارني فريد الطويل في المنزل مرة أو أثنين , أعتقد أن هنالك مَن تربطهم علاقة به , بطريقة ما , سلبية كانت أو ايجابية , ففي حالة فريد الطويل كل الاحتمالات واردة وصحيحة بلا شك , منهم مَن يعمل معه , ومنهم مَن مر به خلال مؤسسات الرعب التي كان يتولى فصولها , انتشر الخبر كالهشيم في النار , وفجأة رأيت الجميع يضع لي ألف حساب , وأنا لا ناقة لي ولا جمل في الموضوع , المهم فقط أنني كنت محسوباً على النظام المسيطر على مداخل الهواء في المدن والقرى والحارات أيضاً , والصحيفة تؤيد هذه الفكرة بطلاقة , وتعني أنني الأقوى في أرض الوطن , كل العاملين بها هم من أتباع هيئات عدة , تغطي الأحداث بالطرق الملائمة لخفض الضغط على الشعب , نوع من التخدير الإستراتيجي لشعوب , بالضبط مثل رحلات المفاوضات بين غزة وتل أبيب , نوع من الهيروين دقيق الصنع والإخراج والتمثيل , والمستفيدين – دائما- قلة , مثل فريد الطويل وأمثاله تابعي هذا النظام الحقير علناً .
    ذهبت إلى مكتب فريد الطويل في الميعاد , كان بوزارة الداخلية , ما أن جلست حتى رحب الرجل بي بقوة مفرطة , وقال لي : ( عامل أيه يا بطل ؟ ) , أجبت بفتور ( ممتاز ؟ ) , ثم أضاف الراجل : ( نبيل فاروق ما يكونش بيطول لسانو عليك , وهو واحد تعملوا ألف حساب ؟ ) هذه العبارة لم أنتبه لها – في ذلك الوقت - جيداً , حسبتها من قبل المعاكسات الشخصية بين المستفيدين من هامش أرباح الدولة , نوع من أنواع مكايد الصراع السياسي , لكن لاحقاً فهمتها تماماً , بعد اعتقال نبيل فاروق بعدة سنوات من هذه الحادثة بالتحديد , حينها لم أرد على السؤال لحساباتي الخاصة , تجاهلت الفكرة , ثم دخلت في الموضوع مباشرة ( أنت عايزني في شغل ؟ مش كده ) .
    بعد يومين من ذلك الحوار نشرت المقال الذي حدثتك عنه فيما مضى , بأمر من فريد الطويل ( المحاكمة التاريخية للصاغ صلاح سالم في التفريط بحقوق مصر بالسودان ) , وهو كان من مجموع شرر الحرب بين الحكومتين , الاعتبارات السياسية لا يمكن الاعتماد عليها , بعد عدة سنوات رأيت فريد الطويل في وفد السيد الرئيس حسني مبارك , عندما وقعوا اتفاقيات تصالح بين البلدين , ثم كشر ذات الرجل – فريد الطويل – أنيابه للمعارضة السودانية واللاجئين في مصر .
    بدأت حياتي السياسية من أوسع أبوابها , حين كنت متشبع بما يعرف بمصر , أم الدنيا , كنت تائه مثل البقية , لا أقول لك , أن كل ذلك مبرر حقيقي وصادق لي , ولكن عندما تعمل مديراً من الصعب جداً , أن تعود بواباً لشركة , والعكس صحيح .
    ( 9 )
    نازك الزعتري كانت هي الأم التي نشأت على معرفتها منذ أن وعيت هذه الحياة , المرأة التي علمتني كيف أكتب , وكيف أحدد أهدافي بدقة , منذ أن نشأت تعلمت من أبي شيئاً واحداً , هو ( مصر فوق كل شيء ) , فوق الأنا والنحن , أكبر من السادات وناصر وحسني مبارك , مصر الفرعون الأول , مصر فرعون موسى , نبيل فاروق كان يصيح دائماً ( 7000 سنة حضارة ) , كنت فخوراً بذلك , نفيسة الأحمر كانت لا تفهم هذا الصراع من الأساس , قالت لي : ( الدُخان , والدلكة , والخُمرة , والختان , والحنة , أجمل ما يميز البت السودانية عن العربية , شُفت ( بمعنى رأيت ) التوب ده ما تلقاه إلا في السودان ) , حقيقةً نسيت – نفيسة الأحمر - أن ذات العدوى منتشرة في موريتانيا , أي الثوب السوداني أو الموريتاني , الأمر لا يغير شيئاً في هوية البحث عن انتماء , لثقافة ترفض اللون الأسمر بطريقة أو بأخرى.
    كانت فخورة بذلك , كانت تدلكني , قبل أن أنام معها , لقد كانت شهية , فخذان سمراوان تحت جنح الليل , كنت أنا أكثر وضوحاً بين فخذيها , قالت : ( كم تمنيت أن تكون زوجي ؟ ) , لا أدري لماذا ؟ , عندما قابلت شذا المحسي , لم انتبه لها أولاً , أذكر أنني كنت جالساً في حافلة ذات 24 راكب , في المقعد خلف السائق مباشرةً , كانتا خلفي تماماً , سمعت همسهما , قالت لصديقتها : ( الولد ده شكلوا خواجة , شعره ناعم , ولونه أصفر !! ) بغريزتي الذكورية أدركت أنني على مقربة من صيد ثمين , كانت شهية , ذات أرداف فاخرة , من النوع غالي الثمن , مهرها أكثر من 350 بقرة عند قبيلة الدينكا , طويلة , عالية , ممتلئة , ذات عود يضاهي النخيل عراقة , من حسن حظي أنها نزلت في نفس المحطة التي هبطتُ فيها , كانت تسكن في الخرطوم ثلاثة , على مقربة منا , في الجزء الآخر من المنطقة , من السهل الوصول لها , حسب خبراتي بالمنطقة , عليّ التقدم خطوة لأمام , ما أن تحركت السيارة حتى بادرتها بالسؤال التقليدي : ( لو سمحت هل تسكنين هنا ؟ ) , قابلتني بالعداء , لغة النساء هنا كذلك ( يتمنعن وهن الراغبات ) هذه حقيقة لا مراء فيها بين النساء , عكفت حاجبيها بلطف , قلت كاسراً الحاجز الهلامي : ( أنا غريب , قادم لزيارة الأستاذ عبد الستار عشماوي ) , أجابت بلطف أكثر , زال خوفها , قالت لي أن سامية بنت الأستاذ صديقتها , الأمر يسير كما أحب , ووصفت لي المنزل , كما أعلمه تماماً , فأنا احتله , منذ ثلاث أعوام تقريباً , كنت لا أحتك كثيراً بأهل البلد , الخوف منهم هو الذي أقعدني داخل زجاجه أسمها ( الأنا العليا أو الأنا الفرعونية ) سمها ما شئت ؟.
    التعرف على النساء والتحدث لهن من أصعب الأشياء التي تتم فيه هذه الأرض , في ذاك الزمان القديم , بعد عدة أيام زارت سامية في المنزل , لم أكن موجوداً , تلت لي سامية الحكاية وهي تضحك , قالت لي : ( خلي بالك أهلها صعبين , ما تلعبش بالنار ) , كانت في السابعة عشر من العمر عندما قابلتها , قالت لي : ( أنت كاذب , لست غريباً يسأل عن الأستاذ ؟ أنت سامي ولد عم سامية ) , أجبت متعمداً ( أنت جميلة ومستحيلة , كما يغني محمد وردي ) , كانت طالبة في مدرسة الخرطوم الجديدة عندما اكتشفت حقيقتها الثرة , كانت تزورني في أحلامي كثيراً منذ ذاك الحين , عندما فككت طلاسم ثديها قالت لي : ( لولا أنني أعلم أنه من المستحيل الزواج منك , لما فعلت ذلك ؟ ) , غابت في صدري , نفيسة الأحمر تركت لي البيت على مضض , كانت مرتعاً لشهواتي الدنيئة , لقد كانت مختونة , من حسن الحظ ختان السنة أخف قدراً من الختان الفرعوني , قالت لي ( لا تفعل ؟ ) , لم أكن ألجها أبداً , لم أفض عذريتها , كنت نبيلاً معها , أما مع نفيسة الأحمر , فالأمر كان مختلفاً , هنالك كنت أفعل ما أريد , فالأرض محروثة من قبل , لم يكن هنالك ما يعيقني , كنت أفعل ذلك , عند قمة الشهوة , أري أثر الزنجبيل والشطة الحمراء على عينيها , شذا المحسي , كانت تتأوه عندما ألامس ثديها , تذوب مثل قطعة السُكر في الشاي الساخن , تتلوى كسمك الساردين عند مدخل جبل طارق بإسبانيا , أحلف بأنني لم أزيل بكارتها , كنت أصبه بين فخذيها فقط , قبل أسبوعين أو ثلاث من الانقلاب قالت لي ( أشعر أن هنالك شيئاً تسرب عفواً , إلى مكمن أسراري ؟ ) , قلت : ( هو وهم , يستحيل أن أفعل ذلك معك ؟ ) , بعد شهر من تلك الحادثة حدث ما لم يكن في الحسبان , لقد نبتت أحشائها من بذرتي , لا أدري هل كان ولداً أم بنتاً , أنين لذتها مازال يصك أذناي إلى يومنا هذا , كانت مثمرة أكثر من نفيسة الأحمر التي كنت أمزق أحشائها كما يجب أو أكثر , كانت تقول : ( اللعنة على الاغتراب وسنينه , ولولا أهلي لطلقته وتزوجتك , لكن نحن خلقنا للعذاب بس ) .
    بنت البواب , لم تكن مختونة , كانت تتعاط حبوب منع الحمل بأمر من أمها شخصياً , علمتها الشهوة المستفزة , كانت لا تصيح أو تتأوه , فتاة فارغة , أحياناً كنت أناديها شذا , مرة غضبت مني وقالت : ( مازال قلبك معلق بالسودانية ؟ ) , صفعتها , نهرتها , أمها اعتذرت مني لاحقاً , أما الآن يمكنني أن أقول ذلك صراحة بلا خوف ( ما زلت أعشقك شذا المحسي , فهل من سبيل ؟ )
    ( 10 )
    في كل عام تأتي احتفالات أكتوبر المجيد , ليلة الخامس من أكتوبر من كل عام , بالنسبة للموظفين المهم أن يقع هذا الاحتفال يوم الخميس أو السبت , أما بالنسبة لأمي الأمر يعني الحزن والبُكاء دائماً , قالت لي : ( لقد عاد – كالعادة - ثملاً , جلس هنا وقال لي , أنا ذاهب , ولن أعود , أنا مِتُ منذ أن وقّع الريس الاتفاقية , أنا لم أكن موجوداً من الأساس , لقد كنت خدعة , وطن بلا شهيد , أو شهيد بلا وطن , لقد باعني الريس ببساطة , مثل اللذين ماتوا من قبل , كاللذين عبروا تحت الرصاص , كاللذين ماتوا تحت الخنادق , أنا ميت منذ عام 1978 م ) .
    ثم واصلت , قالت : ( كنت أحسبها ككل مرة , منذ أن وقع السادات الاتفاقية وهو يشرب الخمر , قبل ليلة الاحتفالات , يشرب إلى أن يغيب من الوعي , هو كذلك , منذ أعوام , آخر مرة قال ذلك ثم .... , وفي الصبيحة يوم السادس من أكتوبر , حاولت إيقاظه , لكنه رحل إلى ما لا نهاية , منذ تسعة وسبعين , وهو يقول يا ليتني مت داخل الثغرة , أو كنت من العابرين الأوائل , هاهو فعل ؟ الآن مات كما يشتهي , مات يوم العبور , كما تمنى . لقد كان رجلاً عظيماً ) .
    كنت أسمع تلاوة أمي كل عام , حينها لم أفهم , فالجزء الكبير من القصة قُص عليّ لاحقاً , لكنني كنت أعلم بقية الكلمات التي كانت تعبر عنها دموع أمي منذ ليلة الخامس من أكتوبر حتى صبيحة السادس من أكتوبر من كل عام , الدموع التي كانت تقول :
    ( يا ليته مات برصاص العدو عند العبور , كان سيكون فخوراً بذلك , ولكنه مات كما تمنى يوم العبور , مات متحسراً على كذبة النصر بعد العبور ) ؟! .
    ( 11 )
    بعد خروجي من مكتب فريد الطويل أخذت الأحداث تتصاعد على نحو مقيت , بدأت حملة سياسية مناهضة لحكومة الإنقاذ , تراشق إعلامي غبي جداً , تغذية معارضة الجهتين , ذهب إسلاميو مصر للخرطوم , وجاء علمانيو السودان للقاهرة , أما أنا فكنت المكلف بإدارة الحملة الصحفية ضد الحكومة السودانية في القاهرة , فأصبحت جزء فعّال من منظومة لعنة السياسة العالمية , لقد أخذ الصراع منحى خطر وعملي جداً.
    فتاريخياً ما أن يكون هنالك توتر بين اللا شرعيين في البلدين , إلا وتظهر مشكلة مثلث برمودا الصحراوي على السطح , مثلث حلايب , الأرض المصرية المغتصبة من قبل السودانيين , مع أنني أعلم تاريخياً أيضاً : ( أن هذه الجزء من الأرض المعروف بمثلث حلايب كان تحت إدارة الحكم التركي في مصر بين عام 1889 م إلى عام 1902 م , هذه هي الفترة التي تشبثتُ بها لإثبات نظرية استقامة خط الحدود بين مصر والسودان , مع أن الجزء عاد للإدارة السودانية بعد ذلك أثناء حكم الإنجليز والحكومات والوطنية والدكتاتورية اللاحقة جنوب الوادي ) . المهم في لعبة السياسة الكل وارد التصديق والتأويل , فالفلسطينيون مازالوا يفاوضون على جزء من أرضهم , صاحب الأرض يفاوض المغتصب , ألا يدعوا ذلك للانتحار ؟.
    مع اجتهادات السيد فريد الطويل , أصبحت واحد من المتخصصين في شئون السودان , والرافعين لشعار ( مثلث حلايب , خط بارليف الجديد ) أنه رمز العزة والكرامة والسيادة , شيء مثل فكرة سور غزة الحديدي الحديث , بعد كل فترة تحتاج الحكومة لكبش فداء تشغل به الرأي العام إن صح التعبير , فمحطات الإعلام , تغذي جيداً الصراعات وتزيد التوتر بين الدول والجماعات , كان لي لقاء هنا في تلك القناة , وحوار مفتوح في ذلك المحفل الإعلامي , فجأة أصبحت سامي إبراهيم عشماوي الاسم الذي أصبح يرن في كل بيت فيما بعد .
    حينها كنت أدرك أنني لم أكن سوى مجرد أداة لخدمة المصالح الدولية , ولم يخطر في بالي أنني تحولت لوسيلة إثبات القدرات والقوة السياسية في جميع أنحاء المنطقة , كنت سعيداً جداً , سكرتيرة نبيل فاروق , أصبحت مثل ندى مصطفى تلعق حذائي لتعمل معي , نبيل فاروق أصبح يزورني في مكتبي صباحاً قبل أن يذهب إلى مكتبة بالجريدة , دعاني لسهرات خاصة معه , عدة مرات , وحينها اكتشفت النصف الخفي من نبيل فاروق .
    تحولت إلى رجلٍ ذو أهمية مفرطة في كل أرجاء الوطن , لعدة أعوام وأنا أتحدث باسم الحزب الحاكم عن قضية الصراع مع الجنوب , توطدت علاقتي مع الطرفين , الحكومة المصرية والمعارضة السودانية , انقلب الحال رأساً على عقب , أصبحت شخصية مؤثرة في كل الأطراف في ذلك الوقت , على العموم أستمر الحال كذلك , إلى أن أعلنت الحكومة السودانية قرارات الرابع من رمضان عام 1998 م , حينها انقلب السحر على الساحر , نقض التلميذ أستاذه , ورُمي بحسن عبد الله الترابي إلى زمرة المغضوب عليهم , مثل بقية المعارضين , بعد أن كان الرأس المدبر للحكومة الحالية في السودان , وزارع شرايينها الأخطبوطية في كل مكان من العالم , وتلقائياً اشترت الحكومة السودانية رضاء الفرعون بالمنطقة , مقابل حلايب , فعدتُ أنا إلى نقطة البداية من جديد , مع شيء من حفظ ماء الوجه , صحفي فقط .
    لكن كان الإله الأكبر قد بدأ يخطط كل شيء ليثبت ذاته وسيطرته على جميع اللاعبين بالمنطقة العربية , وجاء خطابه الرسمي فيما بعد ليخرجني من معتقلات فريد الطويل , بل ويعيد لي حريتي وبأمر جمهوري قال فيه الفرعون نفسه : ( لن نفرّض في مصالح الأمة ).
    ( 12 )
    ما أن عادت علاقات اللا شرعيين في وادي النيل , على ما كانت عليه من قبل , إلا وبدأت حياتي تخمد من جديد , حينها قدمت لي سكرتيرة نبيل فاروق عروض مغرية جداً , رفضتها جميعاً , ليس لأنها جميلة , لكن – صراحةً - كنت قد تعودت على بنت البواب وأترابها , الفتيات صغار السن , فالسكرتيرة كانت خارج هذه المقاييس التي كنت أحبذها , مع أنني كنت أعلم أنها تُرضي نبيل فاروق بآليات أخرى غير التي تستعملها معي , وعملياً لا تستطيع منافسة أعمار الشبق الأنثوي , فأنا ضعيف أمام فحولتي وعقليتي الشرقية المحضة , ولا خجل من ذلك , فلفظتها بتعالٍ بالغ الشراسة والزهو , فصغار السن شهيات , بأحلامهن المحدودة , ومطالبهن المحصورة في اُطرٍ ######## , علبة ماكياج حديثة , فستان سهرة رخيص الثمن , وأشياء من هذا القبيل , مع بعض الكلام المعسول , كن يغرقن حياتي سروراً , قياماً , وجلوساً , ورقاداً أيضاً .
    ظللت على هذه الحال سنوات أدور في ساقية يومية , لا يوجد شيئاً يدعو للذكر , أو مغري لكتابي هذا , ذات الحياة الفاترة التي احتوتني , بين السياسة وسفاحيها , الثقافة ومدعيها , بين الداعرات ومدعيات الشرف , ذوات الآراء اللذيذة في المعنى والمضمون , فهذه المجتمعات متشابه من هذا الاتجاه الأخلاقي , من حيث الكم والكيف دائماً وأبداً .
    عموماً , خلال فترة الخمود البركاني تلك , حدثت في القاهرة أحداث غيّرت من مواقفي السياسية العامة , بدأت أحلم بالتجديد كغيري , مللت الفكرة العامة المسيطرة على الكيان السياسي بالمنطقة , وأخذت أستشعر الأشياء بنوع من الترقب المستمر للتطور الأحداث , مع بداية القرن الجديد تغير موقف الإسلاميين نهائياً , وقرروا خوض الحرب دستورياً , من داخل أروقة البرلمان الحاكم , مما قلب المواقف السياسية في مصر رأساً على عقب , وحركها بعد الركود الطويل , وأخرجها من قصر الرئيس وحاشيته الحاكمة بعض الشيء , فانتقلنا إلى عهد الضغط الداخلي على الحكومة , عصر الصراع المدني الكبير , أو الانفتاح المحسوب بدقة أمنية عالية , أما الشيء الذي لم أكن أتوقعه أبداً , ولم يكن في الحسبان من قبل , حدث ذلك اليوم بالتحديد قبل عام ونصف , من هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات الآن .
    أعتقد عزيزي , أنني أخبرتك من قبل أن السيد نبيل فاروق , كان الرجل يمر بمكتبي صباحاً قبل أن يذهب إلى حُجرتِه في الجريدة , ذلك الصباح لم يأتي , ولم يتصل بي أو بغيري أبداً , حينها اندهشت للموضوع , سألتني سكرتيرته عن هذا الأمر الغريب , لم يحدث أن قام الرجل بهذه الأعمال الصبيانية من قبل , قلت : ( لا أعلم !! ) , ثم أضافت ببرود وتوتر بعض الشيء : ( ليس من عادته فعل ذلك ؟ ) مع أنني أعلم , واقع الأمر كان شاذاً , اتصلت بهاتفه النقال لم يرد !! , ظللت على هذه الحال يومين , لا خبر أو أثر لنبيل فاروق البتة , وما زاد الأمر سوءاً أن زوجته اتصلت في اليوم التالي بالجريدة مُخبرة ( أن زوجها لم يعد إلى المنزل منذ أمس الأول ) عندها بدا أن الأمر به شيء غير واضح المعالم , بل مُريب , لكن ما حدث فيما بعد أوضح الفكرة على نحو جليِّ وقوي , فقد صدر قرار جمهوري , مساء ذات اليوم من وزارة الأعلام , بتعيين السيد أحمد شاويش رئيس تحرير جريدة الأخبار , بدلاً عن السيد نبيل فاروق .
    وواقعياً كان يعني ذلك أن أذهب إلى قائمة المغضوب عليهم في الأرض , وأن أحجز لي مكاناً بين جموع موسى ( عليه السلام ) , هرباً وخوفاً من البطش القادم الجديد .
    ( 13 )
    عندما حدثت تلك الحادثة قبل أعوام كان الرشيد الجيلاني هو المستفيد من انقلاب الثورة العنيفة التي حدثت , لكن هنا لن أكون أنا المستفيد بأي حال من الأحوال , لقد قالت لي ندى مصطفى ذات مرة : ( الرشيد رجل ######## , وحقير , بتاع بنات ) , حينها لم أصدقها في ذلك الزمان , فقد كنت حديث الدخول إلى عالم الثقافة السودانية , لاحقاً أصبحت مثله تماماً , فقط الفرق هو كان يقنع الفتيات بواسطة الشعر والكلام المعسول , وكنت أنا لا أتحدث , فشعري الحريري ولوني الأصفر , كافيان لفتح أدق الأسرار في عالم البنات .
    ما أن وضعت قدمي اليمنى في الجريدة بدأت لي هذه الحقيقة واضحة - وحتى أكون منصفاً - منذ أول أيام في مدرسة جمال عبد الناصر الثانوية العامة , أذكر أنني أخبرتك عن المدعو جرجس القبطي ومحمود المصري وعباس الشايقي فيما مضى , هذا الثلاثي المتناقض , الثلاثي العجيب في حياتي , بينهم علمت مقدار حجمي الحقيقي , محمود المصري كان من عجينة أخرى , ليس كباقي البشر , كأنه لم يُخلق من طين لازب , عباس الشايقي كان له رأي قاطع فيه ( قال أنا لا أثق في محمود المصري , لا أعلم لماذا ؟ , لكن هو مخادع ذو وجهين , لا تهمه إلا مصلحته فقط ) , جرجس كان يضحك ويقول : ( الناس هنا ينظرون لكم باحتقار شديد , مصري يعني ابو الثلاث ورقات فقط ) , المعادلة غير متزنة البتة , ندى مصطفى , فتاة ذات تقدير عال آخر , كانت تناديني ( يا مصري ) , سمعتها تتحدث مع صديقتها عن الكاتب الوسيم , وهو أنا ولا فخر , كانت تراودني في كل آن وحين , فقط بسبب معالم انتماءاتي الشكلية , أخي رامي كان يلعب مع تامر كرة القدم في الشرفة كل مساء , ولم يشعر بما كنت أشعر به , أمي أفضل من كان يصنع وجبة الكشري بالمنطقة , أين تعلمت هذا لست أدري ؟ , كانت شبه مضطهده من ناحية الأصل , بعض النساء كن يغرن منها لأسباب جمالية بحته , عندما ذهبت إلى مكتب نبيل فاروق سألني عن جنوب الوادي كثيراً , لقد كان ساذجاً جداً , في أسئلته استشفيت شيئاً عن صراع استراتيجي ( أمن مصر في سوريا والسودان ) , لماذا قدم مصر دون الباقين , هل نحن نحب وطننا أكثر من الباقين ؟ لماذا بدت لي الأشياء مقلوبة ؟ , لا أعلم .
    ( 14 )
    مع استلام السيد أحمد شاويش جريدة الأخبار , أخذت حياتي منحى آخر منحرف , مؤشرات أسهمي مالت إلى الهبوط , والواقع أن رئيس التحرير الجديد كان يشبه كثيراً محمود المصري في أشياء متعددة , يتطابقان على بعضهما البعض , كأنهما توأمان وُلِدا بتواريخ ميلاد مختلفة , الخلاف الجذري بينهما كان يكمن في تفاصيل الوجه والجسد والسن فقط , أحمد شاويش ( قصير القامة , مستدير , قصير اليدين والأصابع , يمشي كأنه يتدحرج من مكان عال , يتكلم كما النسناس المجروح ) , حذرني منه فريد الطويل , قال لي : ( الرجل من المنوفية ) , وبقية التفاصيل هي : ( المنوفية تعني مسقط رأس الريس وأهله , ورئاسة تحرير الجريدة تؤكد متانة علاقته بالأسرة الحاكمة , اختصاراً الرجل كان ينتمي إلى طبقة النبلاء في القصر الإمبراطوري ) , في الاجتماع الأول الذي عقده هذا المسئول الحاكم , صرح بالآتي :
    ( سنغير اتجاه الرأي العام , ونبدأ حياتنا الجديدة , في عهدي هذا , سنعيد مجد أرض الحضارة هذه , لابد لها من منهج جديد ومؤسس وواضح , لهذا أنا أتيت , القوى العالمية متربصة بوطننا , الجيران والأصدقاء يتربصون بنا , والريس يعاني من الأعداء داخلياً وخارجياً , وأي شخص يخرج عن هذا المسار الجديد سيذهب إلى الشارع ) , خُيل لي وكأنه يعنيني بهذا الحديث .
    أثناء كلمته تلك , داهمت عقلي مقولة قرأتها سابقاً , تُنسب لجنكيز خان , استحوذت على إعجابي حينها , فأتت كاملة إلى عقلي الواعي , وكأن جنكيز بُعث من جديد وهو يخطب حين فتح بخارى عام 1219 م ( أنا آفة من الله , أرسلت للناس قصاصاً على معاصيهم ) , لا أدري ما هو وجه الشبه بين المقولتين , الموضوع يحتاج لمختص في علم النفس والدكتاتوريات على ما أظن !! ؟؟
    لم أفهم قصده من كلمته الأولى , ولم أحاول أن أفهم من الأساس , لكن ما أن أستقر مدير التحرير الجديد أسبوعاً , إلا وظهر كنه الخط الجديد الذي تحدث عنه , وتحولت الجريدة من مرحلة الناطق الرسمي باسم الحكومة , إلى المتحدث الرسمي باسم ( وريث العرش ) , من حسن نواياي اعتقدتُ أن الأمر صدفة , سألت السكرتيرة ذات مرة عن الموضوع , قالت : ( الرجل من مناصري هذه الأسرة الواحدة والثلاثين في مصر , ومخلص لها , تربطه علاقات شائكة وقوية بالمملكة الجديدة ) .
    ( 15 )
    جلست في مكتبي شارد الذهن , عادت لي صورة الرشيد الجيلاني قوية , ومحمود المصري , ها هي ذات التفاصيل القديمة تعود من حيث بدأت , الرجل قادم من أجل مهمة معينة , يجب ترويض الشارع من جديد , نبيل فاروق لم يتوقع هذا من قبل , كان يقول لي : ( يوماً ما سنعود لننتصر ) إنه مثل أبي تماماً من هذا القبيل , بل كان هو - أي نبيل - محتار من فكرة عدم وجود وظيفة النائب الأول في البلاط الإمبراطوري الحاكم , الصورة قاتمة ومشوه جداً من أين أبدأ المسيرة الجديدة ؟ , نفيسة الأحمر كانت أحسن حالاً , دائماً وأبداً , لا علاقة لها بصراعات البلاط , عندما قررت خيانة زوجها لأول مرة , طلبت أن أقدم دروس لأطفالها الصغار في الرياضيات , توددت لي بطريقة فاجرة , ومع الأيام بدأت تحكي لي قصة زوجها الذي تراه مرةً في كل أربعة أعوام , تزوجت وعمرها لم يتجاوز الثامنة عشر , أُخرجت من المدرسة , لهذا السبب , قالت لي ( أحبك , أنت من طينة أخرى ) , حقيقة كان لها أسباب منطقية للخيانة , أما الآخرين لا أجد لهم مبررات مقنعة , لا أدري لماذا ؟
    محمود المصري كان يتعالى على الجميع ( نحن أهل حضارة , وهم لا حضارة لهم , نحن هزمنا العدو , وهم لم يفعلوا شيئاً , نحن الأفضل , في لحظات التاريخ الحاسمة , لقد تركونا نقاتل لوحدنا ؟ ) , اعتقد أنه كان سعيداً جداً عندما تأزمت العلاقات بين الدولتين , وطُردت البعثة التعليمة من الخرطوم , الأمر كان يحلو له , بل كان سعيداً , فريد الطويل , لم يتأثر بفكرة الطرد هذه , عاد أقوى إلى مكان أرفع في السلم الحكومي , جرجس القبطي قال : ( هذه الأرض لا علاقة لها بالصراعات , نحن نعيش في حاضر آخر الآن , ليس معنى أنك في موقع مميز ثابت , أو أن جغرافية الملاحة الدولية وهبتك معبر مهم في الكون , لا يعني ذلك أنك الأفضل , ولا يمكن استغلال تراكم الاحتلال الحضاري المتعاقب بهذه الصورة الأنانية , هذا كله ليس معناه أن تبيع الجميع , لابد أن تكون لك كلمة ثابتة وواضحة , في كل المواقف الإنسانية والسياسية , على الأقل ) .
    في جامعة النيلين , قابلت الفاضل الكاروري , الفلسفة خلقت منه إنسان عميق التأمل والتفكير , قال لي : ( السياسة ليست لعبة قذرة , نحن القذرون , للسلطة دور فعّال في تحديد أوليات الصراع ) , طلب مني أحمد شاويش الكتابة عن الوريث وأعماله الثقافية , لم تكن لي رغبة في الاستمرار في هذه اللعبة , وحقيقة رفضت لسبب لا اعلم ما هو ؟ لكن تخيلت حينها رفضي كان تضامناً مع نبيل فاروق , فقد كان الرجل صديقي على كل حال .
    بالنسبة لي أن أكتب في الثقافة من أجل الحزب المحاكم هذا شيء , أما أن أكتب من أجل الوراثة فكان شيئاً آخر , عموماً حدثت بيننا مشادة كلامية , وتمرد على هذه المأساة الجديدة .
    وعندما تحرك الشارع بعد سكون دام أعوام من الركون , وهتفوا ( ما يحكمشِ !! ) خرجت في أول مظاهرة من أجل منع التوريث .
    لقد كان نبيل فاروق على حق , جاءت كلاب الثورة من كل حدب وصوب , نقابة الصحفيين المصريين امتلأت بالثائرين على فكرة التوريث هذه , أقلام كثيرة تحولت من النقيض إلى النقيض له , أمي كانت خارج هذه الصراعات , قالت لي : ( أبوك كان يحلم أن تكون ضابطاً في الجيش ) , لم أشأ أن أفعل ذلك , برغبتي حقيقةً , كنت واقف أمام النقابة مع فئات المعارضين لمبدأ التوريث , ليس لدي سوى رأي واحد , نبيل فاروق كان له رأي جميل : ( يبدو أننا في مرحلة توريث الجمهوريات بدلاً عن توريث العروش الملكية ) , على هذا جاءت وحدات أمن الدولة , عندما جاءت ثورة الإنقاذ الوطني في جنوب الوادي , قال لي الرشيد الجيلاني : ( سأغير اتجاهاتي السياسية , أريد أن أنتفض بحالي هذا ) , ندى مصطفى تزوجت به بعد إلحاح طويل , عندما عُدت إلى القاهرة , أوصلني بسيارته الجديدة إلى مطار الخرطوم , نفيسة الأحمر بكت كثيراً وبحرقة تامة على عودتي , ويا ليتني لم أعد , لأي حال آل مصير شذا المحسي ؟؟ , بنت البواب بكت كثيراً عندما رأت صورتي في التلفاز متقدماً المشاغبين الديمقراطيين ؟ , أتباع الاستعمار ! , ولا عجب , كنا نواجه عدة تهم ( إثارة الشغب والرأي العام , تخريب ممتلكات الشعب والدولة , وتهم أخرى أقل ضحالة من تلك ) , المهم وجدت نفسي داخل فنادق أمن الدولة الموقرة , أجلس في مكان لا أُحسد عليه , ضيف ثقيل هذه المرة على السيد فريد الطويل وغلمانه الغلاظ , الأنظمة العربية الأخرى لها غلمان كُثر من هذا النوع , أتعلمون أن هذا النوع من الغلمان الغلاظ والشداد , لا يتوفر إلا في أرجاء الشرق الأوسط , بل نحن – والحمد لله - رواد هذه البضاعة في العالم القديم والحديث على حد السواء .
    عندما جاءت الثورة , تحول الرشيد الجيلاني إلى رجل آخر , أما أنا لا أدري إلى أي مصير سأذهب إليه , الغرفة ضيقة ومعتمة , الأرض الرطبة , بها عدد لا بأس به من البراغيث ورجال فريد الطويل , كانوا يأخذونا واحداً تلو الآخر , رجل ثم يليه أخيه , إلى أن جاء دوري , حينها بدأت تظهر الحقائق المستورة في غياهب الزمن الطويل , من أنا ؟ ومن هي نازك الزعتري ؟ , ومن هو إبراهيم عشماوي ؟ .
    ( 16 )
    في طريقي إلى مكتب التحقيقات , رمز حضارتنا الجديدة , تذكرتُ تلك السهرة – الخاصة - التي قضيتها مع نبيل فاروق في منزله قبل ستة أشهر , كانت بعد أن اطمأن الرجل إلى جانبي تماماً , قال لي :
    قبل يوم 23 أكتوبر 1973 م , كنا نتقدم في اتجاه العدو , على بعد 11 أو 12 كيلو شرق القنال , كنا نمطرهم بالرصاص , وهم يختفون كالأرانب , أخي كان على بعد مترين مني , نتقدم , النصر كان على الأبواب , المدفعية تقذف في ذات الاتجاه , أخي كان يحلم , كان يصيح دائماً ( ح تدفعوا الثمن يا ولاد ال###### ) , يتقدم في اتجاه القدس الشريف , القيادة أصدرت بيانات عدة , منذ اليوم الأول للحرب , ونحن نتقدم , كنا منتصرين بلا ريب أو جدل , كنت أنا وأخي مع القوات الأمامية التي عبرت خط بارليف في اليوم الثاني للحرب , حينها الحرب كانت تميل إلى كفتنا .
    قاتلنا العدو من كل جانب , الأرض والسماء كانوا يصفقون لفرحنا , ها نحن ننتقم لشهداء الهزائم السابقة 48 و 56 و 67 , شيء لا يوصف , شعور غريب , أن يقع اليهود أسرى تحت أيدينا , أخي كان يتقدم , لا يبالي بنيران العدو , سقط عدة شهداء في الطريق , للنصر شهوة وحلاوة مميزة , وللذل مثلها , ابني سامي , لم نكن ندرك ما يحدث في الخلف , القيادة بالسويس , كانت تُرسل لنا التعزيزات ,كنا نضرب , بقوة , كنا نحن الأقوى والأفضل , هذا ما تعلمه أنت وجيلك عزيزي سامي , هذا ما صّوره خيال إحسان عبد القدوس بالضبط , وما رسمه ضمن شخصيات قصة وحوار فلم ( الرصاصة لا تزال في جيبي ) , هذا ما أخذه المُخرج من الأفلام العسكرية المصورة داخل ساحة المعركة , أثناء عمليات العبور في الثمانية أيام الأولى , فإنا - أي نبيل فاروق – كنت هناك في سيناء , حقيقة ماثلة , لم أكن أحد ممثلي الفلم , ولم ألوث وجهي بأصباغ حسام الدين مصطفى التنكرية - مخرج الفلم - أنا لم يؤخذ رأي في نوعية المشاهد المسروقة بعناية , من تسجيلات العمليات العسكرية , أثناء العبور , الفلم عُرض مبتوراً وناقصاً عزيزي سامي , جزء من الحقيقة لا كلها , زُورت به الهزيمة الرابعة , سامي هذه السفارة تنسف ما تبقى من أساطير النصر , هذا المبنى يحدد من المنتصر حقاً , ليس كما رسموا لكم أنتم جيل السبعينات لاحقاً , تفاصيل اللوحة المطموسة في عالم اللا وعي بعد رحلة تأمل صوفي عميق .
    كنا كذلك نحتفل بانتصار مبتور ناقص , إلى أن جاء اليوم المشئوم , اليوم الذي اكتشفت فيه , أنا ليس هو أنا الذي أعلم , بل أنا إنسان آخر , خارج هذه المنظومة المعقدة , وجدتُ نفسي ظلٌ بلا حقيقة , بل وجدتني شخص حُددت هويته في كامب ديفيد بعد هزيمة حرب العبور .
    جاء اليوم الذي ظهرت فيه الحقيقة مجردة , مُرة , حارقة , كاملة , كما الحنظل .
    حينها كنت مثل غيري , نحتفل بنصرنا المؤزر , في يوم 22 أكتوبر بالتحديد , بعدما أُعلن وقف إطلاق النار , احتفلنا بالخطوط الأمامية , سجدنا شكراً لله , رقصنا فرحاً , وقف إطلاق النار , كان يعني حينها , أن إسرائيل استسلمت , لكن هيهات .
    سامي لا أستطيع أن أصف لك ما حدث بدقة , كنا نرقص إلى منتصف الليل , أخي كان بالقرب مني , كان فرحاً يرقص , هذه صورته على الحائط , تشرح النصر المزعوم وتدحضه , صنعنا دائرة كبيرة , من أفراد الجيش الثالث , كل الفرق والجماعات كانت تحتفل بالنصر المزيف , الضباط , الجنود , أنوار الدبابات , المدافع , دموع الفرح والنصر .
    ثم فجأة
    سمعنا صوت طائرة حربية , قادمة من بعيد ...
    من جوف التاريخ الحقيقي داخل سيناء ...
    بعدها ...
    صفارة إنذار ...
    ثم ...
    هبط صاروخ وسط الحفل ...
    استشهد أخي وبقية الموجودين في وسط الدائرة ...
    وبدءًأ من يوم 23 أكتوبر ...
    العدو بات ينهض من جديد , الأسد المجروح أكثر ضراوة في القتال , الانتقام يكون أقوى وأشرس , كانت هجماتهم مثل مقولة ( نكون أو لا نكون !! ) , بدأ العد التنازلي والحقيقي لفكرة النصر , لم نفهم شيئاً .
    فجأة أخذت النار تأتي من كل اتجاه , من أعلى , من أسفل , من الأمام , من الخلف , من كل مكان , انقطع خط الإمداد العسكري من اتجاه غرب القنال , في ليلة واحدة تقدم العدو 35 كيلو متر اتجاه السويس , في طابور ليلي , الجنود المصريين كانوا يظنون أنها دباباتنا الحزينة , بل كانت دبابات شارون تقصفنا من الخلف , ضربوا مركز قيادة الجيش الثالث بالسويس , نجا القائد بأعجوبة , تبدل الحال , صرنا عرضة لنار العدو , رأيت الصاروخ جو- أرض الأميركي لأول مرة وآخرة مرة في حياتي , كان يدمر الدبابات داخل الخنادق الترابية , تحول الليل إلى نهار , خمسة أيام , ونحن على هذه الحال , الجيش الثالث محاصر في انتظار النجدة , دارت الحرب دائرتها , هل خسرنا الحرب ؟ سؤال استفحل في أذهان الجميع , الأشلاء الممزقة , الجثث المتناثرة هنا وهناك , الرؤوس حُزت بقوة وحقد , العدو لا يرحم , ولن يرحم أبنائنا من بعد , كنا ندفن الرجال على سطح الرمال , القيادة الميدانية قررت الانسحاب مراراً وتكراراً , الخزي والعار رأيته بأم عيني , وعندما عُدت وجدتهم يحتفلون كل عام بالعبور , هذا هو التاريخ الحقيقي للعبور , أُغلقت فمي , ودفنت ذكرياتي بين خلايا الدماغ , لقد هُزمنا , وأنا شاهد عيان على ذلك , فنحن أدمنا دفن الرؤوس في الرمال كما النعام تماماً , بل أسوأ.
    كنا نريد أن نقاوم إلى آخر طلقة , نفذت الذخيرة الحية , حتى بقايا الطعام , كنا بلا قوى , أصبحنا نحن العبيد وهم السادة , نحن الأرانب وهم النسور , كانوا يلتقطوننا كالجراد , هم الأقوى ونحن الأضعف , لم نكن ندري ما يحدث خلفنا , خطوط الاتصال بالقيادة انقطعت , المئونة والذخائر نفذت , أصبح كل شيء مكشوف , ثم فجأة توقفت نيران العدو يوم 28 أكتوبر , أُعلن وقف إطلاق النار النهائي , لكن برغبتهم – هم - لا برغبتنا نحن الغازون , حقيقة لم نكن نعلم من هو المنتصر , لكن بالنسبة للجيش الثالث كانت هزيمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى , شيء كغزوة أُحد بالتحديد .
    في ذلك اليوم مساءاً , كنا نلملم أعقاب هزيمتنا , نضمد جراح زملاءنا , كنت جالساً منهوكاً , البرد القارص , والأرض القاسية , الليل والظلمة والهزيمة , وأخي الشهيد , النار في قلبي تتأجج .
    في زحمة هذه الأشياء المتشابكة , جاء الضابط المناوب وطلب منا الذهاب لتفريغ شحنات التموين , ذهبت مع زملائي إلى المخزن , كنت سعيداً جداً , غامرني إحساس مضلل حينها أننا سنقاتل من جديد , لقد جاءت ذخيرة الاستمرار , فرح زملائي وهللوا , سننتقم لإخواننا السابقين .
    لكن , للأسف الشديد , اكتشفت الحقيقة المُرة ...
    ما أن اقتربت من مخزن الجيش , إلا ورأيتُ الحقيقة كاملة , بلا ريب أو تشويش , كان هنالك عسكري واقف , طُلب منا وضع البنادق والأسلحة قبل الدخول لتفريغ شحنات التموين , الأمر كان غريباً , لم أسأل حينها !! , من التعب والجوع , زملائي كانوا مثلي , دخلت يا سامي إلى مخزن التموين , وقفت للحظات , لكن بعدها حسدتُ أخي الشهيد على شهادته من هول ما رأيت .
    المخزن كان مطفأ الأنوار , لم يقولوا لنا ما حدث , والضابط قال لنا : ( ما في حد يعمل أي حاجة مش كويسه عشان الباقين ) .
    لم أفهم , صوته كان به حشرجة مكبوتة , صوته كأنه النحيب , ثم فجأة أُضيئت الأنوار , ونزل سائقي الشاحنات , لقد كانوا إسرائيليين , كانوا مبتسمين بسخرية لم أشهدها منذ ذاك الحين , أتعلم ابتسامة مثل ماذا ؟ ابتسامة منتصر حقيقي , ليس مزيفاً مثلنا.
    حينها لم تستطع قدامي الوقوف فسقطتُ فاقداً الوعي من التعب والانهيار , فقط في هذه اللحظة من التاريخ علمت بهزيمتنا المُرة , وللمرة الرابعة في تاريخنا الحديث .
    ( 17 )
    الفاضل الكاروري , كان كثيراً ما يردد : ( من الصعب جداً أن نثق في التاريخ ) , كنت أوافقه الرأي فقط , أما - الآن - فإنا متأكد من تلك الحقيقة , من الصعب جداً الثقة في التاريخ , لكن إلى تلك اللحظة كنت أثق في التاريخ , أثناء طريقي إلى غرفة ضابط الأمن , أخذت أكتشف عوالم مخفية , علاقتي بها كانت سماعية من الطراز الأول , لم أذق طعمها في حياتي قط , حكي لي الرشيد الجيلاني بعض فظائعها , لكن لم أكن أتخيل أنها بهذه البشاعة , كانوا يضربونني بين دهاليز الزنزانات , في غرفة التحقيقات , لا أدري كم من الصفعات أخذت ؟ , أي رجل مرَّ بالقرب مني , صفعني أو ركلني , أو عبّر عن شعوره بطرق ملتوية , دخلت إلى الغرفة المغلقة , جُرِدتُ من قميصي الذي كان ممزق من الأصل , ثم انهالوا عليّ ضرباً , في كل مكان , مع مَن ؟ إلى مَن ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ . أسئلة لا حصر لها ولا عدد , لا ينتظرون الإجابة , فقط سؤال فصفعه , ثم سؤال آخر .
    نهار كامل وأنا على هذه الحال , لا أدري لماذا ؟ سألت عن فريد الطويل فجأة , أيضاً لم يتوقفوا , كنت أصيح من الألم , وقوة اللسعات , تشقق حلقي من العطش , شيئاً فشيئاً بدأت أسيل في اتجاه اللا وعي , رشوني بالماء البارد , آلام جراحي أيقظتني ودخل الضابط يحمل التاريخ الجديد لسامي إبراهيم عشماوي , أنا بين قوسين .
    حقيقةً شعرت بأهميتي الوطنية بعد أن دخل علي الضابط المحقق , وفي النفس الوقت تأكدتُ تماماً من الكذبة الكبرى التي تُدعى التاريخ , نجيب محفوظ ليس ذلك الكاتب الذي يستحق جائزة نوبل للأدب , كتبه أصبحت غالية الثمن بعد الجائزة العالمية الموجه , لا سلام مع إسرائيل , نبيل فاروق يؤمن بذلك , إيليا سمحون لها رأي واضح في ما يُعرف بحكومة إسرائيل , هي كذبة أخرى من جملة الأكاذيب التي تحيط بالعالم الحالي , محمود عباس يطالب بدولة على أرضه الشرعية , أليس الأمر يدعو للغثيان ؟
    القضية في حد ذاتها , لم تكن مهمة في رأي المحقق , لكن فلنضع الحروف على الأقلام .
    المحقق فتح المحضر بالجمل التالية : -
    - سامي إبراهيم عشماوي , هذا اسمك الرسمي حسب شهادة الميلاد ..
    تجاهلت الرد , ثم نظرتُ بصلف متعالٍ بعض الشيء للمحقق , رمقته بنظرة احتقار من أسفل إلى أعلى ثم واصل المحقق كلامه ....
    - الأب مصري , نوبي , شارك في حرب أكتوبر 73 , أعتقل داخل الثغرة وعاد إلى مصر بعد أربعة سنوات من الاختفاء , متزوج من امرأة فلسطينية تُدعى نازك الزعتري , أليس الأمر يدعو للغرابة بعض الشيء ؟ , مع إن زملاءه الخمسة قتلوا إلا هو الوحيد الذي عاد !!!!
    فتحت فمي هذه المرة راداً عليه :
    - ماذا تريد أن تقول يا أيها السيد ؟
    أجابني ببساطة :
    - لا أريد أن أقول شيئاً فقط استعجب من الأمر !!! , أن يعود أبوك هكذا , لوحده كما ذهب لوحده ؟؟ !! .
    - أبي وطني وشريف !!!
    - أمك أيضاً , السيدة نازك الزعتري , فلسطينية , وطنية وتحب أرضها
    وأهلها ! أليس كذلك ؟؟
    - ما دخل أمي في هذا الموضوع الآن !!
    ثم بدأ يتحدث كما يتلو قراراً جمهورياً :
    - السيدة نازك الزعتري , مواليد القدس الشرقية 1955 م , من أصل فلسطيني
    , أليس تلك أمك عزيزي سامي عشماوي ؟
    - إلى أين تريد أن تذهب يا هذا ؟؟؟
    واصل المحقق على نحو آلي هو يلعب بالقلم على طريقة سامي حداد مقدم برنامج ( أكثر من رأي ) بقناة الجزيرة , فالقياديون عندنا – عادةً - مصابون بعدوى التقليد , يقلدون الحركات , وينسون المضمون , بنفس الأسلوب واصل الرجل كلامه : -
    - السيدة نازك الزعتري , سأدعوها باسمها الحقيقي إيليا سمحون , الفتاة الإسرائيلية التي كانت تعمل في الجيش الإسرائيلي , ممرضة بالمستشفى العسكري بتل أبيب , المشرفة على علاج الأسير المدلل إبراهيم عشماوي , تحت إشراف السيد وليم إسحاق , مدير العمليات الخاصة بالموساد , هذه السيدة , هي التي تُدعى اليوم نازك الزعتري , أمك عزيزي سامي إبراهيم عشماوي , أليس هذا كافٍ للاعتراف أيها السيد العميل ؟ .
    وكانت هذه أول مرة أسمع فيها بفكرة الإله الأكبر , أو فكرة المدعو وليم إسحاق , الرجل الذي سأقابله في عطلة نهاية الأسبوع القادم , الشخص الذي خطط حياتي من بدايتها إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المحفل الاعترافي , لقضايا لا ذنب لي فيها قطعاً , سوى الصدفة ال######ة التي منّت عليَّ الحياة بها .
    لا أخفي عليكم أعزائي , حينها نظرتُ إليّ مستعجباً , أو مستنجداً من هذه الوضعية الغريبة التي وجدتني فيها , فانتفضتُ مباشرةً , فصحت :
    - كاذب , حقير , نذل
    رد الرجل آلياً :
    -كثيرين غيرك قالوا ذلك , هذه مصر أرض الشرفاء .
    ثم صفعني على وجهي , إنه التقليد الراقي المتوارث في مكاتب التحقيقات الخاصة , كالشرطة والأمن , وما شابه ذلك , الكل – فيها - يتكلم بلغة اليد في هذه الأماكن التي ترحب بضيوفها الكرام بهذه الطريقة المبتذلة .
    عقب صفعته انهرت تماماً , لدرجة أنني غُصت في حلقة من الهذيان العميق , شيء مثل الوقوف على الأطلال , بالضبط كالمسلسلات التاريخية التي تُعرض كل رمضان بالتلفزيونات العربية , فالمجد والقوة عندنا أضحيا أفلام تاريخية تُعرض بين الحين والآخر , الفخر بالماضي كذباً , مرضٌ بُلينا به منذ سنون غابرة في القدم , شعراء المعلقات القدامى كعمرو بن كلثوم وغيرهم , أبدعوا في الفخر المكذوب والهجاء , امرؤ القيس - شخصياً - أشهر الأعراب وقوفاً وبكاءاً على الأطلال , يُروى أنه ( كان مخموراً عندما أتاه خبر مقتل والده , فقال ببساطة ( اليوم خمر , وغداً أمرُ ) .
    في الواقع , هيئتي في مكان مثل هذا , مفاجئة مخجلة جداً بالنسبة لي – أنا الراوي شخصياً - فأمي بريئة من التهمة الموجه لها والقارئ سوف يعلم ذلك , لكن عدوى المحاسبة بأصل الإنسان لن تنتهي أبداً , ولا توجد قوى في العالم ستغير هذا المفهوم بالعقلية المسيطرة على طريقة تفكيرنا الحالي , فعلي المواصلة للنهاية , أمي يهودية شئت ذلك أم أبيت , هذه حقيقة لا مراء فيها .
    وواقعياً , بالنسبة للمحقق الأمر ليس مهماً , يمكنه أثبات تهمة التجسس بسهولة أكثر من نشر العدالة في أرجاء الوطن , ثم ينتهي كل شيء , من نضال إلى مساعدة النظام وغيره , لكن هنالك ثَمة جرائم أخرى أجمل , تمكن من استدرار الرأي العام لصالح الأسرة الحاكمة , ( العمل على قلب نظام الحكم في مصر ) واقعياً تهمة أدق تعبيراً وجمالاً , تملأ فراغات المنابر العامة لزمن طويل نسبياً , وأحمد شاويش بارع جداً في هذا النوع من الألعاب الإعلامية , ثم يُزج بي في متاهات المحاكم العسكرية , كغيري من الضحايا , طويلي اللسان , وهذا ما لم يحدث لي أنا على الأقل , فالقضية بيعت بإمضاء السادات في كامب ديفيد , ولن يحاسب على ذلك أبداً , فالإله الأكبر تدخل في مشيئتنا منذ زمن بعيد .
    هذه الحقائق علمتها بعد عدة أشهر من هذا المسلسل الإجرامي الضخم , حينما بدأت أمي تقص علي حكايتها بالتفصيل الممل , الحسن منه والقبيح , سمعت منها ما جعل الدم يغلي في شراييني الشرقية , وعلمت منها ما لا يخطر على بال أحد في هذا الزمن الممزق بزيف الحقائق والتاريخ .
    ( 18 )
    أن يُعتقل إنسان أو يُعذب , في ارثنا العقلي والأخلاقي لا يعد خرقاً للقانون , أو حدثاً فريداً من نوعه , وأن يُقهر الآدمي فقط , لعدم سيطرته على لسانه , أمر عادي جداً أكثر من توفير فكرة الاحترام بين الجار والجار , وطبيعي أيضاً ,كأن ننسب للمذكر قول ( كلنا أخوات تسعة ) .
    إقصاء الآخر , ثم احتقاره مع سبق الإصرار والترصد , إرث تاريخي مخزي , يتعلمه الأطفال من الشوارع , عندما تُقهر الأم بالبيت , وتُضرب , عندما يتلفظ أصحاب المعاشات بالسباب في الأركان المنزوية , إننا نشأنا بعدوى احتقار الآخر وتقديس الذات , اليرقات تُداس بالأقدام قبل أن تتنفس النسيم المعطر بالعبير , وكأننا ولدنا بناءاً على أيدلوجية الغُبن , صفعتنا الحياة من الجانب الأيسر , لندير الخد الأيمن ليصفعنا قادتنا , لقد أوصى السيد المسيح عليه السلام بذلك , الدعوة مقبولة بقرار برلماني , أجيز بالإجماع لأول مرة منذ مخاضه الاستثنائي الموقر , الدنيا تقوم وتقعد من أجل تقرير غولدوستون , نثور للاشيء , ونسكت عن الشيء , الألسن أصبحت مبتورة التكوين , يبدو أن هنالك طفرة متعمدة لقص الزيادات غير المرغوب فيها , السرقة والرشوة شعار يوجب الاحترام في أحيانٍ كثيرة , أن تموت في المعتقل خير ألف مرة , من أن تعيش بين شعب لا يعرف ما هي حقوقه ؟؟ , وأن تموت قبل أن تتلوث بدماء الفقراء خير من أن تنتصر للثورة , وتقهر الآخر من جديد , وباسمها أيضاً .
    لهذا كذب إبراهيم عليه السلام للمرة الثالثة والأخيرة في عمره أمام الفرعون الأول , تضحيةًً في سبيل بقاء فكره على الأرض , ربما من أجل الاستمرار على وجه البسيطة , شهوة فرعون كانت عالية , وأوامره مقدسة بما فيه كفاية , الابن – الحفيد - هرب من الأرض الظالم أهلها أولاً , ثم مزق أحفاده الآويين إلى فُتات , فموسى عليه السلام فر بقومه منها , أثار غباره مازالت عالقة بالصحراء , هنا سُجن يوسف عليه السلام – هكذا - بسبب امرأةٍ راودته عن نفسها.
    هذه الأرض لن تثور لسجنك وتعذيبك يا سيدي المخدوع , وهي – أصلاً – لم تعرف الثورة في تاريخها المزيف أو الحقيقي , فالبحر لن ينفلق من أجلك , أو أجليِّ , ولن يمكث فرعون الليل ساهداً , بسبب سبع بقرات سمان يأكلهن سبعٍ عجاف , لا ضير في ذلك , طالما الفرعون سيتناول وجباته الثلاث كاملة , ويعاشر وصيفاته كما يشاء , وليس من أجل سواد عينيك , لن يجرأ فرعون على مس سارا زوج إبراهيم عليه السلام .
    هذا المكان عزيزي , لم يرى – قط - منذ وجوده شعاع واحد للرأي الآخر , أو يستشعر المعنى العملي – المباشر- لكلمة حرية , هذه هي الأرض التي لم يحكمها أبناءها أكثر من ثلاث ألف سنة , قُتل الملك فاروق في إيطاليا , أم الدنيا مازلت موبوءة وملوثة بحكم الآخرين لها , وإن جلس الأقباط عليها , مازالت ملونة بدرجات القمح المجاني كل عام .
    من الطبيعي أن تُعذب عزيزي , بسلاح الجلاد وأبناءه مرةً , ومرات ثم مرات بألسنة أهله , لكن الذي أعلمه – أنا الراوي - أن الراويات الدينية التي أتت عن آدم عليه السلام قالت : ( أنه أُنزل إلى اليمن أو الهند , بعدما خالف وصايا الرب ) وتجتمع هذه الروايات الدينية , حول رواية واحدة فقط , مع أنهم لم يحدث إن اتفقوا على أرث تاريخي قط , جميعهم أقروا بأن ( بابل هي أصل الدنيا والتاريخ , ولهذا سُميت بابل , لبلبلة ألسنة أهلها عقاباً لهم , لمخالفتهم تعاليم الرب ) من العراق أُخرج العالم الجديد , لم يكن من وحي الصدفة كما قال داروين , بل هي – أي بابل – أساس التاريخ وانتشار الإنسان في الأصقاع النائية المعمورة , بنات آوى غرب النيل , تحكي أختامهم أصل الوجود الأول لحضارة الإنسان , بينما تُشير بعض الدراسات والنظريات إلى أن الإنسان يعود أصله إلى القرود الإفريقية , إلا أن النوبيين يقولون أن أهرامات مروي لها من القرون ما يفقأ عين التاريخ بقسوة .
    لكن كما قال نبيل فاروق , فنحن في آنٍ , يخترع أهل الأرض الكذبة , ثم يصدقونها , وبعد ذلك يفرضون على الآخرين الإيمان بها , كما يعتقد مخترعوها , شيء مثل تبني الولايات المتحدة فكرة الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم , لكن الرئيس جون كندي قُتل , كما قتل مارتن لوثر كنج , سُمح للسود بالذهاب للمدارس مع البيض , وقُرر تساويهم في المركبات العامة , بعد صراع طويل , في بلدٍ يموت فقرائها من شدة البرد والكوارث .
    عادةً , تعذيب الأسير يختلف من حيث الكيفية العامة عن تعذيب السياسي , ربما التقارير المتداولة في لجان حقوق الإنسان بالأمم المتحدة تحمل أوصاف دقيقة وواضحة لهذا النوع من السلوك البيزنطي الخاص , سجون أبو غريب في العراق , وحالة سجن كونتانامو بكوبا , حالات استثنائية , لا يمكن وضعها أو دراستها إلا من خلال منظومتها السياسية الخاصة , لكننا يمكن أن نعتبرها تجارب عملية لشرح كيفية تعذيب الأبرياء والمجرمين على حد السواء .
    الحالة التي أمامنا كانت حالة أخرى خاصة بطريقة ما , بل هي أكثر من خاصة بالنسبة للمدعو أريل شارون , من حيث أهمية الاعتراف والحقائق المطلوبة , أي لا قتل بل تعذيب مع الحرص على حياة الأسير إبراهيم عشماوي , وليس من أجل إيليا سمحون بالطبع , بل من أجل وجه إسرائيل في العالم أجمع , ولمستقبلها القادم , البعيد منه والقريب .
    وقعت القنبلة على الجانب الأيمن لسيارة الجيب العسكرية ذات الجنود الخمس , السائق وجندي في المقاعد الأمامية , وإبراهيم وجنديان آخران في المقاعد الثلاث الخلفية , هذه هي الحكاية نقلاً عن لسان – أمي - إيليا سمحون أو نازك الزعتري , كما علمت منذ لحظات , لا يعنيني الاسم كثيراً في الواقع , فهي أمي على كل الأحوال , المهم غادر السائق والجندي الذي يجلس بالقرب منه , مباشرةً إلى الآخرة , بينما الجندي الجالس خلف السائق على نحو مُريب , سقط رأسه إلى الجانب الأيسر - بلا مقدمات - على فخذي زميله , الذي ثقبت شظية رأسه بلا رحمة , ثم تفرقت بقية أجسادهم على بقعة واسعة بعض الشيء , رحلوا جميعاً إلى السماء , ونجا إبراهيم بأعجوبة منطق الرواية بالطبع !! , السيارة انقلبت على وجهها عدة مرات بعد الصدمة غير المرغوب فيها من الأصل , ثم تعطلت تماماً , نسبة الشظايا النحاسية التي انتشرت مع الانفجار كانت أقل من حيث العدد والتأثير على إبراهيم , الرجلان الآخران أخذا النصيب الأوفر منها , مما دعا أن تسلك حوالي عشرة شظايا أخرى , طريقاً معوجاً لتسكن في جسد إبراهيم , الأولى التي ذكرتها فيما مضى , في الجزء الأعلى من العين اليمنى فوق الحاجب تماماً , أما بقية الشظايا فقد استقرت في مناطق متفرقة من جسده , نذكر منها التي استقرت في الجزء الأعلى من الركبة , وأخرى كانت على مقربة من الصدر , وأخرى أحدثت شرخاً على ذراعه الأيسر , أما جهاز اللاسلكي , أُس الأزمة الإبراهيمية فقد تعطل بعد أن وقع إبراهيم عليه أثناء تقلب السيارة حسب قانون نيوتن الثاني ( إذا أثرت قوة خارجية على جسم , فإنها تكسبه تسارعاً يتناسب مع مقدار القوة المؤثرة ) .
    جهاز اللاسلكي المعطل الذي كان يحمله إبراهيم يعطي كم هائل من التحليلات الاستخباراتية في تلك اللحظة من الحرب , ويحدد – بالتحديد - نوعية وسائل القسر المساعدة لفتح فم الأسير على نحو أسرع , كان بالجهاز بقايا أصوات باهته , قبل أن يُصمت إلى الأبد , وهمهمة أخرى غير واضحة , امتزجت بألم الجراح وأنين خافض يخرج من أوصال الرقيب الأسير , الشظية المهمة اتخذت الحجاب الحاجز موطناً لها , ثغرة أخرى قوية داخل الجسد , فهي من الخطورة بحيث أنها قد تؤدي إلى فقدان حياة الشاب بنسبة احتمالات عالية جداً , قبل أن يستخرج الأقوال المأثورة من فمه , في هذه المرحلة الانتقالية من الحرب الانتقامية الدائرة على أرض سيناء , من المهم جداً معرفة نوع الشفرة المستخدمة في محادثات الجيش العربي المشترك , اللغة النوبية لا يتحدثها إسرائيلي واحد داخل حدود 67 , كما أن اللغة العبرية لا يُعرف عنها شيء في الدول التي تشاطر شارون العداء , هذه اللغة النوبية , صوتت في صالح حياة إبراهيم عشماوي , وواقعياً لم يكن هنالك أيتها خيار آخر غير ذلك ليفعله أريل شارون , للمرة الأولى والأخيرة في حربة الشخصية ضد الكفار , خلاصة الموضوع .
    من عادات فرعون إسرائيل شارون , أنه يتلذذ بقتل الأبرياء منذ عمليات التصفية العرقية التي كان يقوم بها مع وحداته العسكرية من قبل , فصبرا وشاتيلا تجسدان الفكرة بجدارة , أما العسكريون فهو بلا شك يتلذذ بتمزيقهم برفق شديد , لكن بالنسبة للأسير المدلل إبراهيم , التعذيب ذهب بوعيه بعد الضربة الأولى داخل المعسكر الإسرائيلي , لقد فقد الكثير من الدم بسبب الشظايا المتناثرة داخل الثغرة , بالقرب من مزارع الدفرسوار التجريبية , ولولا الإجراءات الأمنية التي أدت لخروج قائد الدبابة إلى الأرض , ومن ثَم تفقد الموت الأبدي للرجال , لما أُنقذت حياة إبراهيم , فقط من أجل استجوابه عسكرياً ليس حرصاً على حياته بأي حال من الأحوال , فقائد فريق الدبابة أُضيفت له رتبة أعلى , إثر اعتقال إبراهيم , أما طاقم الدبابة حمل بعض الأشرطة العسكرية الإضافية والشهادات الوطنية , في نفس الليلة على يد شارون شخصياً .
    إبراهيم تلقى الإسعاف الأولي داخل الدبابة , حُرق بارود إحدى رصاصات الرشاش على الجرح لوقف النزيف , هذا هو كل الذي فُعل , منذ أن أصر شارون على مخالفة أوامر القيادة العامة للجيش الإسرائيلي , ودخل الثغرة , كان إبراهيم أول أسير يقع بين يديه .
    إسرائيل لم تكن تعلم أنها ستنتصر في حرب أكتوبر على الجيش العربي المشترك , الثغرة لم تأتي أُكلها بعد , ضُرب رأس إبراهيم بالحذاء , فرغ الجنود حقدهم عليه , التشرد قروناً في أصقاع الأرض , يولد نوع من الحقد المتراكم على المستقرين مكانياً وتاريخياً , سيكولوجية التشرد يمكنها فهمها ودراستها نفسياً واجتماعياً على نحو أفضل بين أطفال الشوارع في عواصم العالم الثالث .
    تلقى ركلة أخرى على رأسه , ترجمت انهيار فكرة القوة الإسرائيلية القاهرة , الهزيمة – أبداً – لم تكن المتوقعة من قبل , لأول مرة وآخر مرة أيضاً , شربت إسرائيل طعم الهزيمة لمدة ثمانية أيام منذ أن خرجت إلى الوجود العالمي خلسةً .
    الرأس يئن وصاحبه معذّب تحت حريق الشظايا , مأساة تاريخية موغلة في العفن , إبراهيم شرب الخمر أول مرة في حياته ليلة 17 / سبتمبر / 1978 م , ثم صب بقية الخمر على أثر الشظية الذي تبقى أعلى عينيه ,ثم انتحب وهو يئن من فرط الألم ...
    ( 19 )
    ثم جاء عام 1992 م , العام الذي حدد حجمنا الطبيعي في جنوب الوادي , عندما أقرأ الأحداث الآن أستطيع أن أفهم شعوري في الحالتين عندما كنت في مظاهرات جامعة القاهرة فرع الخرطوم 1992 م , بجانب الفاضل الكاروري , وأنا هنا في هذا المعتقل العتيق , أستطيع الآن أن أفهم الأشياء جيداً , أستطيع أن أفهم لماذا حملت عدوى المعارضة في المعتقل .
    لا توجد قوى في الأرض يمكن أن تثبط عزمي , أو تثنيه , طريق المعارضة وعر , التعبير عن الرأي الآخر ليس بهذه البساطة في هذا الجزء من العالم , التحول من أقصى اليمين إلى نهايات الشمال , من الحكومة إلى المعارضة , مسلسل يُجتر في القرى النائية البعيدة والقريبة , من الأوطان الحديثة إلى الحضارات القديمة , منذ فجر التاريخ , هنالك من يبحث عن الثورة , وهنا من يبحث عن الحق الطبيعي للشعب , أحمد فؤاد نجم قرأ قصيدة ( البتاع ) بعد سنوات من الفشل :-
    آدي اللي جابوا البتاع جاب الخراب مشمول
    لأن حتت بتاع مخلب لرأس الغول
    باع البتاع بالبتاع
    وعشان يعيش على طول
    عين حرس للبتاع وبرضو مات مقتول !!!
    ثورة يوليو القديمة , تلك الكذبة الناصرية السخيفة , كانت نوع من البُكاءٌ على الأطلال , قام في عصر الأحلام الساذجة , الحلم العربي السخيف , الدوامة الرملية تنتهي كما بدأت في صحراء العرب , ما زالوا يصرون على حلمهم المبتور , الأمم كانت تائهة تبحث عن فكرة الاستقلال والتحرر :
    الجيل الأول تأثر بالاستعمار
    والجيل الثاني عاش على ذكراه
    والجيل الثالث نشأ يحقد عليه
    وجيل سيأتي لا أثر للاستعمار بين عينيه
    الخواجات لا يقلون عنا شأناً , فكلنا يصارع كما تقضي ظروفه , التي تفرض وتحدد آلية الصراع مع الآخر .
    كلٌ يصور الحقائق أو التاريخ كما يشتهي , العدسات اللاصقة أقوى في تغير لغة البصر , الحرباء تحترف تقلب الألوان لتدافع عن نفسها , التلوّن خاصية مهمة تميّز لوحات الفنان التشكيلي العالمي عن غيره , مع إن الفنانين غير المشهورين , لا يقلون إبداعاً عن غيرهم .
    في جبال الباو بالدمازيين , داخل أرض السودان السمراء , يوجد نحات لم يذهب لكلية الفنون في جامعة السودان , يُدعى ( والله ) , وتقرأ ( ولاي ) اسمه هكذا .
    التشكيلي غسان عباس , كان غامر الذكر في كلية الفنون بالجامعة السودان , عندما كان طالباً بقسم التلوين , الآن من الأسماء التي يتصارع الناس بدعاء معرفتهم , تشكيلي يعيش في أستراليا , غسان هو غسان منذ أن كان طالباً , إلى أن طار إلى أرض الأقوياء كما تصورهم أفلامهم مصبوغة السيناريو , والديكور .
    أسامة أنور عكاشة , مؤلف لن يتكرر في تاريخ التلفيزيون المصري ثانية , إنها لعنة الاعتراف بالوطني في بلد الآخر , بلد العدو الضمني , زين الدين الزيدان , كان يمكن أن يكون أحد تجار المخدرات العرب في محطة باربس (Barbès–Rochechouart) بباريس , عند نقطة تقاطع مترو ( 2 , 4 ) في باريس , الكثيرين كذلك يُعترف بهم عندما يذهبون إلى خلف البحار .
    ( 20 )
    بهذا المنطق خرجنا ندافع عن الجامعة , قوات الحكومة احتلت مباني الجامعة المصرية , نار السودنه استعرت , حرقت كل شيء , فجأة وهكذا طُردت البعثة التعليمية من الخرطوم , دائماً يتصارع الأطفال , ثم يدفع الثمن الكبار , خرجنا إلى شوارع الخرطوم , طلبة وطالبات , الكل ناقم على الحكومة , الجميع ضد المشروع الحضاري الكبير , كنا نسير وسط الجموع , قوات الحكومة أتت , تحمل العصي والغاز المسيل للدموع , جماعات الحكومة وحزبها أخرجوا أسياخهم يضربون الطلبة في كل مكان , اتحاد الطلبة كان من الإسلاميين , هم بذات الكيفية في كل أرجاء الكون الكبير , كنت منعدم الإحساس والتفكير , الفاضل الكاروري ناضل بشدة , جامعة النيلين ما يعني هذا ؟ , الاغتصاب والسرقة علناً , أيدي الطلبة كانت متشابكة , شتتوا وحدتنا ضرباً , أخذونا كالعبيد تحت الأسر , فقدنا السيطرة على الأحداث , التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرين , شذى المحسي كانت الضحية الأولى , لهذا الفكر المتعفن بين براثن التقاليد والأخلاق , نفيسة الأحمر لا يمكن أن تلام على شيء , ندي مصطفي ضحية بطريقة المجتمع النسائي , كانت تبحث عن عريس وسيم , الرشيد الجيلاني لاعب محترف ممتاز , لم يضيع وقته في المزاح , اللعبة واضحة التعبير والتفاصيل , أخذني في جلسة غناء خاصة كانت تضم أفراداً من الحكومة والمعارضة , قال مُبرراً ( هذا شيء , وذاك شيءٌ آخر ) الجميع كانوا يضحكون علناً , قال لي دفاعاً عن نفسه : ( أليس من حقي أن أتزوج , وأضمن مستقبل أفضل لأبنائي , الصراع يعني التشرد والضياع ) , فريد الطويل قال ذات الشيء , نبيل فاروق قال لي : ( لا يمكن أن أبيع ذكرى أخي , لقد أستشهد من أجل مصر ) , لن ألومه هو الآخر , كل يفلسف الأشياء كما يجب , ويبرر لنفسه بما يحب , بنيامين سليمان قال لي : ( من حقنا أيضاً أن يكون لنا وطن , ونثبت أقدامنا فيه ) , المحقق كان يعلم الجزء المبتور من القصة , أمي بريئة من كل هذا , في المحكمة كنت ضئيل الحجم والتفاصيل , قادوني إلى زنزانة أخرى , وتركوا الباقين , كنت حدثاً خاصاً , جاء ذات المحقق , سألني بلطف وتودد هذه المرة :
    - هل أنت إسرائيلي حقاً
    صعقت بالسؤال في بادي الأمر
    أجبيت :
    - بالطبع ( لا ) , أني مصري قلباً وغالباً
    قال لي خلسةً :
    - الدنيا تقوم وتقعد من أجلك , أنت مواطن يهودي مفقود في مصر
    ثم أضاف :
    - منذ زمن بعيد
    قلت :
    - أنت بالتأكيد تهزأ بي , أخي تامر وحازم وأختي عبير كلنا يهود , لا وألف لا , أنا شربت من هذا النيل وتشبعت به , أذاً أنا مصري , لا يمكن أكون شيئاً آخر غير ذلك
    - لا خيار أمامك رئيس الوزراء الإسرائيلي هنا من أجلك
    - لا !! ؟؟
    فقال متحسراً :
    - الآن أنت فوق الجميع عزيزي سامي
    - أنا لست جاسوساً , أنا مواطن مثلك
    ثم أردف صادقاً هذه المرة :
    - أعلم عزيزي , لعنة الله على السياسة , يثبتوا قوتهم دائماً وأبداً .
    قلت :
    - لن اذهب إلى هناك
    قال لي المحقق
    - لا ستذهب ، الريس قال لن يلعب بقوت الشعب , إما القمح أو سامي عشماوي , ونحن لن نموت جوعاً , ستذهب !!
    فجأة من خلف القضبان , وقف أمامي , الفاضل الكاروري , قال لي : ( ألم أقل لك نحن أمة لا حول لها ولا قوة ) سأذهب , لن أذهب , أخوتي الثلاث , هم مصريون , أنت لست كذلك , شهادة ميلادك يهودية , من قال هذا , إنها السيدة إيليا سمحون , أمك عزيزي .
    حقيقة عندما استيقظت من الصدمة كانت هي أمامي , قالوا لي ( أخوتك لا يعلمون شيئاً , هم مصريون كما اتفقت حكومتنا المبجلة مع حكومتكم الموقرة , فقط أنت من يجب أن يعود إلى أرض الوطن , ثم أنت حر بعد ذلك , سنرى لاحقاً ماذا نفعل , قوت الشعب بين يديك , وحياة أخوتك أيضاً ) .
    كانوا يتحدثون , ضابط الأمن , فريد الطويل , نبيل فاروق , الفاضل الكاروري , شذى المحسي , الرشيد الجيلاني , أبي إبراهيم عشماوي , نفيسة الأحمر , جرجس القبطي , محمود المصري , عباس الشايقي , ندى مصطفي , أخوتي تامر وحازم وعبير , بنات عمي سامية سحر , الجميع يقول يجب أن أرحل , أمي أيضاً , عمي عبد الستار , جاءوا من مكان ما في العالم , اجتمعوا بالصدفة , قدم لي فريد الطويل ورقتين , واحدة تحمل موافقتي والتسهيلات الدولية التي يمكن أن نربحها , وأخرى أيضاً الخسائر لو رفضت , نظرت إلى نبيل فاروق , بقية الوجوه التي في عقلي , قال لي الفاضل من قبل : ( أحياناً يجب أن تكون خيارتنا عقلية ومنطقية ) , أمي قالت لي : ( وافق يا أبني , لا خيار أمامك ) ثم صمتت , جاء شبح أبي من العدم , كان يصرخ بصوت عالي ( ونحن أصلاً انتصرنا عشان نحتفل ) , بينما قالت لي بعد حين : ( إنها قصة طويلة يا أبني ) .
    (21 )
    وقفت على قارعة التاريخ أتأمل ما كان يرسمه أبوك لك , يا أبني سامي ..
    وقفت على حافة الشجون والمراهنات العتيقة , سؤال خطر على بالي بلا مقدمات , فجأة , لا أعلم لماذا ؟ ومن أين ؟ وإلى متى ؟ ....
    أسئلة من النوعية التي تقتحم عقولنا بلا مبرر , تحت أسطورة ( أنا أفكر , أنا أعيش ) ...
    لا معنى لها بطبيعة الحال ...
    لكن هنا جلستُ للحظة متأملاً , هيئة إيليا سمحون , في تكوينها الثنائي , عندما كنت فتاة متمردة , وعندما تحولت إلى نازك الزعتري المستسلمة , للقدر , وإرادة السادة الحكام ...
    العقل ينفطر كل يوم بالمقارنات ...
    يجمح الخيال في عالم الأدب ...
    الأدب الروائي محصور داخل بيئة الكاتب ...
    فقراء العالم , نهاراً يجمعون العوز , وليلاً لقمة العيش , شتاءاً يتدثرون بالأحلام المبتورة , الماركسيون في المشارق الأرض ومغاربها يحنون للثورة البروليتاريا في العالم , الأرستقراطيون أهدافهم متشابه مهما اختلفت الألوان والأشكال والبيئات , التحوّر البيولوجي والتفاعل العقلي ميزة فصلت الإنسان عن القرد كما حُللت نظرية داروين .
    كنت فتاة فارعة الأنوثة ...
    بلون القرنفل الأخضر ....
    برائحة الثوم العتيقة ....
    فتاة من أصل آخر , شبيه بالأمل المعقود على طلقة الانتقام الأخيرة ....
    جزء من سلسلة ألم كربونية ...
    إبراهيم عشماوي وأبنه ( سامي ) ,كانا جزءاً من أصل كلمة ( النصر ) التراكمي , في اللحظة الحاسمة للتاريخ والصراعات , مع تأسيس الحضارات العتيقة , القديم منها والحديث , في منابع الأمم التي نشأت بعد فناء الأقوياء الهالكين , الأمم التي غاصت في سلة المهملات , من غير عودة , كانا جزءاً منطقي للصراع , في كل أمة امتلكت ناصية الماضي , أو احتلت ركن واسع من الجدول الزمني للحضارات الإنسانية .
    هما تكوينان في كل القوى , من أي نوع كانت ...
    فالنصر ما ذهب إبراهيم للبحث عنه , أينما ذاع صيت الكلمة وخبا , عندما تُطلق فخراً , للتخصيص الذاتي بالنسبة للمتكلم , أو من أجل النحن الجماعية – بنحو مباشر – عندما تستخدم الكلمة نكرة الأصل والاتجاه , بلا تعريف أو مدلول معنويٌ كان , أو مادي ...
    فهي كلمة – بالنسبة لإبراهيم - لا تقبل أي معنى آخر , غير سحق العدو ومحوه من الوجود ....
    على هذا حارب إبراهيم ...
    من أجل هذا أُذيبت رمال البحر الأحمر في العبور ...
    ومن أجله – أيضاً – دُمر خط بارليف ...
    إبراهيم كان هو الشاهد والضحية ...
    إبراهيم كان أمة كاملة ...
    إبراهيم حارب الأصل والتقليد في وقت واحد ...
    إبراهيم من دفع فاتورة الهزيمة في النهاية ....
    مع كل طلقة رشاش أثناء التدريب العسكري ...
    عند اتخاذه مواضع الهجوم أو الدفاع ...
    كان يعلم أنه سينتصر بقوة هذه المرة ... بلا جدال أو تعادل ....
    إبراهيم هو أنا وأنت ...
    إبراهيم هو كل من يعلم أن الحق لابد أن يعود يوماً ما إلى أصحابه , أطفال المخيمات والحجارة ....
    إبراهيم الأمة التي تحلم بالمجد الضائع في طيات الكتب , في المساء عندما يعود منهكاً , مع لحظات التدريب القوي , عندما تطلق صفارة الإنذار ليلاً , في المعسكر , ينهض غير مرتب , يحمل البندقية , ثم يجري ...
    اتجاه الخنادق ...
    التدريب على الغارات المفاجئة ...
    صد الغارة أولاً , ثم الهجوم , التدريب لابد أن يقوم به كل قادر على حمل السلاح ....
    ينام يحمل بالنصر , بإزالة العار , إعادة الشرف القديم يوماً , عندما يسير ليلاً , بين الحروف المتناثرة على قائمة الأفراح الليلية , يسمع لفظة ( نصر ) , متوفرة في الشوارع بمعدلات إنتاج فائضة عن الحاجة , تلوكها المدن , وتمضغها تُرهات الساحات الشعبية , بين العتاة والصعاليك , عندما تُشكل منتهيات الحكايات الشعبية , حينما ينتصر السلطان المقهور على لسان الجدة كل مساء ...
    كلمة نصر , لا تقبل المترادفات , الناقص منها والمزيد بحرف أو حرفين وربما أكثر من ذلك بكثير, حتى على هيئة تعبير ناقص المعنى من الأساس , في الأزمنة الثلاثة ( الماضي والحاضر والمستقبل ) مع إن هذه الكلمة بالتحديد , عندما تُحور في قالب ( فعل الأمر ) , لتصبح جزء من منطق التحالفات العسكرية , وتصبح ( أنصر ) حليفك أو أخاك , وفي الحالتين , الأمر يأخذ ناصية الذي يدفع أكثر .
    ( نصر , ينصر , انصر , انتصار , منصور , ناصر ) وحقيقة الأمر , اكتسبت – أنا - وعي بهذه الكلمة حينما كنت فتاة غضة , عندما كنت أنتصر على رفيقاتي أثناء لعبة الحرب بين العرب واليهود في القدس الغربية , عندما أثارتني الكلمة على لسان إبراهيم , أبوك , فتشتُ عنها كثيراً , وجدتها عند صاحب لسان العرب في باب نصر ( قال الأَزهري: يكون الانْتصَارَ من الظالم الانْتِصاف والانْتِقام، وانْتَصَر منه: انْتَقَم. قال الله تعالى مُخْبِراً عن نُوح ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ودعائِه إِياه بأَن يَنصره على قومه: فانْتَصِرْ ففتحنا ، كأَنه قال لِرَبِّه: انتقم منهم كما قال: رَبِّ لا تَذَرْ على الأَرض من الكافرين دَيَّاراً. والانتصار: الانتقام.) ...
    هذا الرجل – بن منظور - يتحدث عن انتصار لا علاقة له بانتصاراتكم ....
    عن زمانٍ لا علاقة له بزمانكم ....
    مدلول الكلمة - الآن - أتخذ حقائق أخرى ...
    يرسم ملامحها المكان والزمان , حسابات كراسي الحكم غير الشرعية ...
    الحاجة وبيع الضمير في أغلب الأحوال ...
    المستفيد هو الذي يضع الأُسس الحقيقية للمعادلة ...
    الجزء الخفي من استخدام هذه الكلمة , يتوقف على نوع رد فعل الشعب , بالغضب أو الاستحسان , وفي الحالتين الشعب هو الذي يحدد النصر الاعتباري للأمة أو الوطن , ساعتها تنطلق عبارات شيطانية , تهلل وتكبر بحرقة وخوف في آن واحد , مثل الثورة المزيفة .
    معلقي المباريات الرياضية المنقولة على الهواء مباشرةً , يدَعون الوطنية كغيرهم , ثُم يلوكون ذات اللفظة – النصر - على نحوٍ شاذ , يصورون النصر المزعوم بطريقتهم الخاصة , يجعلون رياضيهم المبجلين أبطالاً , حتى عند الخسارة – مثل غيرهم من حكام زمانكم هذا – لكن الهدف أولاً وأخيراً من النصر هو الهزيمة والانتقام من الطرف الآخر , وقهره تماماً إن صح التعبير.
    في قوانين الحرب ولغة السلام , هذه الكلمة بالتحديد , تجرعها إبراهيم في الحانات , كأساً تُلهب الكبد وتتلفه , شربها سماً ينتحر به المقاتل ببطء كل ليلة , عبد الحكيم عامر انتحر بعد الهزيمة , لم يتقبل صيحات الطرف الآخر عندما يُستعمل الكلمة , للتعظيم والتخصيص في آن واحد , عندما يُضاف لها ضمير ( لنا ) دون الغير , فتصبح ( النصر لنا ) ولنا هذه تعني نحن , إسرائيل مثلاً , ونحن مجهولة الهوية والتعداد , يوم افتتاح مبنى السفارة في القاهرة , عاد ثملاً لا يستطيع الوقوف قال لي :
    ( إيليا أترين الآن بين شوارع قاهرة المعز الكبرى , هذا المبنى , يشهد على معالم هزيمة النصر المبين , بل يقرر فراغ الجُملة العتيقة من معنى بن المنظور , المعنى الأصلي للكلمة , المعنى المنقول من ألسن أعراب نجد والربع الخالي في جغرافيتنا الحالية ).
    كانت العبارة المذكورة , رأيتها عند افتتاح السفارة , لقد تعمد المُخرج التلفزيوني إظهارها على الشاشة الوطن البلورية , كانت ومازالت , مُعلقة داخل إطار رباعي مُذهب , خلفيته نجمة داؤود السداسية , منمقة بخط بهي واضح , وباللغة العبرية - بطبيعة الحال - مكتوب عليها عبارة (הניצחון הוא שלנו) أي النصر لنا ببساطة , كغيرهم من الدول التي تسعى لتحقيق النصر , لكن الإحساس المفقود – هنا - بالنسبة للآخرين .
    إن النصر - هنا - في هذا المكان , وهذا الزمان , يعني قهر الآخر وفرض الشروط عليه بلا منن أو ترجي , أي نصر واضح الهدف , مفهوم المعنى والمدلول , وهو هنا في هذا الحيز العرقي يعني نصر حقيقي ببين جملة وتفصيلا , في سماء الوطن وتحت أنظاره.
    كان نصراً ومازال ...
    نصرهم كان هزيمتنا ...
    نصر نُزع من براثن الجميع عنوةً ....
    برغبتهم أو بغيرها ...
    فالأمر سيان ...
    ولا يحتاج للكثيرٍ من التنظير , فهنا النصر هو قهر الآخر والانتقام منه , كما قال ابن منظور صاحب لسان العرب في صحيحة المشهور )
    ( 22 )

    (عدل بواسطة بكرى ابوبكر on 08-29-2011, 09:12 PM)

                  

08-29-2011, 06:41 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18820

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: بكرى ابوبكر)

    صمتت أمي لحظة , غاصت في عالم غامض حزين , تجرعت كوباً من الماء , ثم واصلت ما انقطع من حديث , وأنا ضئيل الحجم والتعبير قالت :
    إبراهيم عشماوي , الرقيب الأسمر , عشماوي القيادة العامة للقوات المسلحة , رجل قوات الاستطلاع المعروف في حينها , العائد بعد أربعة أعوام من خروجه , في أول دورية استطلاع ميدانية قادها , خرج الرجل صبيحة السادس عشر من أكتوبر 73 ....
    إبراهيم عشماوي الجزء المبتور من فكرة النصر ...
    الجزء الذي يُثبت الهزيمة , ويشرحها ....
    إبراهيم الحقيقة الحية التي نعلمها الآن ...
    كان إبراهيم حقيقة الدفرسوار , الثغرة المشهورة , قال عنها الفريق سعد الدين الشاذلي ( عدم سد الثغرة , أخطأ قرار أُتخذ أثناء الحرب ) , خرج الرقيب إلى عالم الحقيقة , يقود خمسة عساكر على سطح سيارة جيب , دخل إلى الثغرة صبيحة ذلك اليوم – بالتحديد - ثم عاد بعد أربعة أعوام وفي صُحبته أنا ( نازك الزعتري ) , وأنت ابنه سامي إبراهيم عشماوي .
    أريل شارون المشهور , صاحب صبرا وشاتيلا في تاريخنا الحديث , كان هنالك , في طريقه إلى المجد , إلى قمم قصر الرئاسة بتل أبيب , الرجل كان هنالك بقوة , خالف التعليمات العسكرية فجلب النصر المؤزر , بطل الثغرة وصانع النصر الإسرائيلي الرابع , الرجل الذي لم يهزم قط , وهو مجرم حرب , ظل كما هو الحقيقة الوحيدة الماثلة للنصر .
    عاد إبراهيم يحملك يا سامي مزعه لحم , كانت بقايا مخاط الرحم مازالت ملتصقة ببشرتك , كنت منتفض البشرة كوالدك , اُشتريت لك شهادة ميلاد محلية , عدد من الجنيهات أزال عُقد السجل المدني القانونية , في خانة اسم الوالدة وُضع أسمي الجديد , السيدة نازك الزعتري , عملية التزوير , لم تكن مرهقة في حي المقطم , الحاجة تُأسس للفساد الإداري بسهولة , في واحد من أفقر أحياء القاهرة , حي الصخرة المنهارة .
    اسم الوالدة , السيدة نازك الزعتري , الجنسية فلسطينية , من مواليد القدس الغربية لعام 1955 م تحت خانة الأم , ذات الجواز الأردني , بينما في السجل المدني الإسرائيلي , سُجل اسمي بإيليا سمحون , آنذاك .
    إلى هنا انتهى حديث أمي , في هذه النقطة , لم أكن متعجلاً لمعرفة كل التفاصيل دفعة واحدة , لكن أخذت الحكايات تتفتح لي كاملة شيئاً فشيئاً , المستور منها في ذاكرة أمي نازك الزعتري , والأجزاء الأخرى التي أدارها بنيامين سليمان , والإله الأكبر وليم إسحاق من خلف الكواليس الحكومية والإعلامية في آن واحد .
    قبل عدة أشهر من الآن , أُرسل تعليق , بخط رديء بعض الشيء إلى السفارة الإسرائيلية بالقاهرة , يجدد قوى السيطرة والنفوذ في الشرق الأوسط , يُخرس الكثير من الألسن المصابة بمرض السيلان , ويشرح آلية الانتصار ويفسرها جيداً , بعد أن تصدر أسمي قائمة المغضوب عليهم في بلاطنا الإمبراطوري المعظم , تحولت – فجأة - بين عشية وضحاها , من المحكوم عليهم باسم خيانة الوطن , إلى المحميين باسم الوطنية والوطن والمصلحة العامة للشعب , كان الخطاب يحمل إمضاء الإله الأكبر , أُرسل إلى المسئول عن الجالية اليهودية في مصر , السيد بنيامين سليمان .
    فالتعليق من الأهمية , بحيث لا أجد مفر من ذكره هنا , وكاملاً , لأهميته المفرطة للقارئ , وهو التعليق التالي كما قراناه أنا وأمي , داخل مكتب السيد بنيامين سليمان بالسفارة الإسرائيلية في القاهرة ( نازك الزعتري أو إيليا سمحون وابنها الصحفي المشهور سامي إبراهيم عشماوي , يهوديان فقد أثرهما تماماً في مصر منذ عام 1977 م , بعد دخولهما بصحبة الأسير المدلل إبراهيم عشماوي ) .
    حينها اكتشفت الفرق الشاسع بيننا , وعلمت لماذا هم دائماً منتصرون ومتفوقون , ولماذا هم أحسن منا , ونحن أتفه منهم , فنحن لا حقوق للمرأة أو رجل عندنا , بينما هم لديهم حقوق لمواطنيهم كاملة , تقوم إسرائيل ولا تقعد من أجل مقتل مواطن إسرائيلي واحد , ثم تنتقم له , عياناً بياناً , لا تستريح ديمقراطيتهم على مقاعدها , فالشعب لها بالمرصاد , جندي يهودي واحد , أسير , تقايضه إسرائيل بخمسمائة من العرب , اليهود يعتبرون المرأة إنساناً , عاقلاً , كاملاً , له حقوق وواجبات كالجميع , قانون المواطنة والجنسية عندهم مرتبط بالأم , النساء كن يملكن الكثير في العصور البالية , ينسبون المولود إلى الأم وليس الأب , ويورثونه عن طريقها أيضاً , هذا النسب القديم - بالتحديد - أخرج أول دولة عربية جنوب الوادي , تقلد به العرب شئون قبيلة الفونج , ليدخلوا حرب طويلة بقيادة عمارة دُنقس , خرجت دولة سنار ذات الصبغة الرعوية في السودان لأول مرة في تاريخه , بدأ نزيف الهوية الذي يشربون كأسه الآن , قد لا تكون هنالك علاقة منطقية بين مشكلة سامي والنوبيين في جنوب وشمال بحيرة ناصر , فقط الأمر له صلة قوية ومباشرة بالمدعو إبراهيم عشماوي , الرجل الذي أوجد سامي للوجود .
    ثم وجدتني – هكذا - داخل السفارة الإسرائيلية , جالساً , مطمئناً , هادئ , ساكن السريرة , واحد من رعايا دولة صديقة للحكومة بالطبع , وليس الشعب , أصبحت فجأة أجنبي ينتمي إلى الهُناك .
    أخيراً أمست لي حقوق وواجبات معلومة ومحددة باسم قانون حقيقي , وتحت حماية وطن حقيقي , غير مزيف , أضحيت أحد الرعايا الأجانب , المحميين في وطن الآخر , موطني السابق , للأسف الشديد .
    أصبحت مواطن أجنبي محمي باسم وزارة السياحة المصرية , الآن فقط , أستطيع أن أضاجع بنت البواب عياناً بياناً , بلا خوف أو رهبة , تحت حماية قانون السياحة المصري , ولن تعاقبني محكمة الآداب أبداً , بل سيحمينني القانون , لأول مرة في تاريخي مواطنتي الشخصية داخل الهُنا , سأكون محمي باسم القانون في بلد عربي مخيف , تنهدتُ حينها حسرةً على البقية , وتذكرت نبيل فاروق , المواطن الذي ينتمي إلى الهُنا من غير حقوق أو قانون .
    لكن أخيراً صارت لي حقوق سآخذها بلا رشوة أو كبير عناء , صارت لي حقوق ووجبات بالضبط مثل فريد الطويل , بل وأكثر بلا فخر , أخيراً داخل الهُنا , أستطيع الاستنجاد برجال الشرطة , ويخدمونني رغم أنوفهم , فقط لأنني من رعايا الهُناك , ولن تتفوه بنت البواب ببنت شفة , ليس هذا وحسب , بل ستصب محكمة الآداب جُل غضبها ولعناتها على العاهرة الزانية , بنت البواب وكل الفقيرات اللاتي لجأن لهذا السبيل , وللمفارقة سأكون أنا الشاهد , وليس المشترك في الجريمة , لأنني أصبحت أنتمي إلى الهُناك , وهي المجرمة تنتمي إلى الهُنا , ليس نحن الاثنان , مع إننا كنا معاً , عراه , وفي سرير واحد , أفعل فيها ما أشاء , فقط لأنني أجنبي , وأكرر لأنني أجنبي , وأنتمي إلى الُهناك , حيث القوة والنصر , وهي من الهُنا , حيث الضعف والهزيمة .
    وعند النطق بالحكم , ستذهب هي إلى السجن والغرامة , وأعود أنا إلى سفارتي , سالماً , مطمئناً , مثل الآن , كأنني لم أمزق بكارتها مقابل حفنة من المال والهدايا من قبل , حيث أجلس الآن مع السيد بنامين سليمان , بجانب أمي , تقص علينا بقية تفاصيل انتمائي إلى الهُناك .
    الآن فقط , سأكون حُراً طليقاً , يمكنني أن أشتري الخمر المستورد الفاخر من فنادق الخرطوم , لأنني أصبحت من الهُناك , وتحت اسم القانون , يمكنني أن أشرب , ولا أجلد , أربعين جلدة , ولن تقوم الدنيا وتقعد من أجل أن لبني حسين ارتدت بنطلون في مكانٍ عام , ولن تُحاسبني أجهزة النظام العام في الخرطوم , أستطيع الآن الطيران لدول كنت سأقضي دهراً من الزمان أمام سفارتها , أتسول تأشيرة دخول , سأذهب للخليج , المغرب العربي , جنوب أفريقا , أوربا وأمريكا والصين واليابان , أماكن عدة من العالم الكبير , سأزورها , كضيف كريم , فقط لأنني أصبحت من الهُناك , أما كل الخارجين عن حماية الهُناك , والمنتمين إلى واقع الهُنا , يمكنهم رؤية البلدان والأماكن في المجلات والأفلام والصور , ثم يحَلُمون , كلٍ قدر استطاعته , فهذا أفضل وصحي , ومختصر للزمن والمال , فهم فقراء وضعفاء , لا حول لهم ولا قوة , يقولون ( لله في خلقه شئون ) أعتقد أن هذا النوع من الرثاء مفيد في مثل هذه الحالات التي تسبب الغثيان وفقدان الشهية على حد السواء .
    لكن إبراهيم عشماوي كان ينتمي إلى الهُنا , نوبي الشكل واللون واللغة , يتحدث النوبية بطلاقة , الشفرة السرية التي كانت تتم بها محادثات الجيش العابر للهزيمة في ذاك الزمان المغشوش , هذه اللغة كانت المفتاح المباشر والوحيد الذي جعله يقود الجنود الخمس في ثغرة الدفرسوار , وواقعياً لم ينتبه السادة القائمون على أمر الجيش , لسواد لون بشرته الفاحم , فقد كان أحسن حظاً من أحمد ذكي ومحمد منير , تجاهل القادة هذا الأمر عنوةً , لأسباب أيدلوجية طبعاً , وتمسكوا بطبيعة خُصل شعره التي تميل لنعومة , أكثر منها للخشونة ,كأي دم مختلط يفرض جينات تخلق أزمات أيدلوجية , وأسئلة ديكتاتورية , تدور حول حقيقة الأصل والهوية , ونوعية التركيب الاجتماعي , في وقت لاحق من التاريخ اللحظي لإنتاج الجيل الأول من الهجين الجديد .
    يتحرك الجين الأوليّ في رحم المرأة , بحثاً عن أي بويضة , تتنازل لهذه الأزمة المستقبلية , فيلقحها بتلكم النطفة الأولى , إن كان ذلك برغبة الرحم , أو رغماً عن أنفه , ولا يهم نوع ودرجة الآلة الجنسية اجتماعياً , أثناء مرور تلك النزوة اللحظية , إن كانت هي الزوجة أو الأمة أم الخادم المنزلية , فالأمر سيان المهم فقط تلكم الفتحة ومن ثم فليأتي الطوفان .
    قالت أمي بصوت منخفض :
    ( نساء تل أبيب , ما عدا جارتي العجوز ,كن يُمطرنني بأسئلة سخيفة من ذلك النوع البغيض , هل الأسود يمتلك آلة عاتية وقوية ؟ يقال أن العبيد يتحدثون مع الشياطين ؟ إبراهيم رجل أم شيطان ؟ كانوا يتعوذون منه أحياناً , وليم إسحاق كان من أكثر الناس فرحاً عندما غادرت السيارة في اتجاه الأردن , ومن ثَم إلى القاهرة , شعر بالانتصار عليّ , لأول مرة في حياته . )
    ثم واصلت : ( لكن رأيت بين أهل الضاد من صنف وليم إسحاق , ألف وليم آخر , بل ملايين , أعداداً هائلة , أكثر من الأسماء المزورة في الانتخابات الوهمية , حيث يجد العاطلين عن العمل بعض المال والرواتب , تكفيهم شر الجوع والأزمات إلى حين , ربما لقرون أخري , سيتطاير الشرر منها إلى الدول المغضوب عليها بالجوار , أزمة الهوية والبحث عن الذات , أكثر الأسئلة تعقيداً تمر بحياة الشخص , من أنا ؟ وماذا أريد ؟ .... الخ , المحظوظ من يجيب عليها في مقتبل العمر , أما عاثرو الحظ , فيظلون أطفالاً , يبحثون عن الآمان في أحضانٍ أخرى , يدمنون أحلام اليقظة , كسادتهم الأجلاء , الغارقين في الخيال البعيد , في اللاوعي ) .
    دخل المكتب – فجأة - موظف الاستقبال في السفارة , قطع اعترافات أمي , تحدث إلى السيد بنيامين بخصوص بعض الحضور في الخارج , كانوا في انتظار مقابلة مسئول العلاقات العامة في السفارة , المسئول لم يكن موجوداً , صوت الرجل كان آتٍ من عُمق سحيقٍ , به بقايا حشرجة الموتى , كتاريخ مزيف ######## , بالضبط مثل جيش العبور.
    ولجت موجات صوته الغليظة إلى أذني , دفعة واحدة , هبّ وعيّ نشطاً , وفي صدري حوار طويل مازلت أحدثكم عنه في هذا الكتاب , رنين خطواته الثابت على أرض السفارة الأسمنتية , ملأ أثير المكتب بالكبرياء , كان الحضور تجاراً , لم يأتوا عن طريق الصدفة , بل بسبب مشكلة تتعلق بتفسير بعض بنود الاتفاقية التجارية بين البلدين الشقيقين , أقدم اعتذاري الشديد لأولئك الذين قالوا ( لا ) في وجه من قالوا ( نعم ) في كل حدب وصوب من العالم .
    هؤلاء النفر تضايقوا – بالطبع – من وجودنا , ومن طرقات كعب حذاء موظف الاستقبال , الكعب كان إيطالي الصنع , لكن الشخص الذي أستطيع أن أجزم أنه كان سعيداً جداً بهذا الإيقاع الثابت المنتظم , كان وهو السيد بنيامين سليمان مسئول عن الجالية اليهودية في مصر .
    في عالم الرواية اعتاد جهابذته الكُتاب الهروب والتخفي خلف شخصياتهم التي يخلقونها , مؤرخونا الجدد كانوا يعلمون تمام العلم , أنني مُقبل على صراع دموي عنيف مع أبي , إبراهيم عشماوي , فالرواة لم يكونوا من النوع الذي يخلق الشخصيات , إنما كانوا هم الجزء الذي يطمس البدايات الأولية للحقائق , كانوا مثل ذرات الغبار التي انهارت مع صخور المقطم , كأنهم جزيئات فولاذية بجدار عربي لحصار قطاع غزه , جزء من عقل هذه الأمة , ذرة من المكان الذي خرج منه سامي , ليأخذ نصيبه من التلوث الأخلاقي المُستنشق , في نشرات الأخبار اليومية , جزء من البقعة التي نشأت فيها أسطورة الانتصارات الطفيلية , مع الّذين يتقاسمون مع الموتى مضاجعهم , سكان المقابر , ضحايا قرارات ثورة 23 يونيو 1952 م , وورثتها الأجلاء , القتيل والحي منهم , الذي يحلم بالاستمرار على هيئة أبنه , وأيضاً كان هو المسئول الأول عن مفتاح معبر رفح المغلق دائماً , في اللحظات التاريخية الحرجة , في ما وراء خط بارليف العتيق .
    الخوف كان موجوداً عندما اُسِر الجريح عشماوي في الثغرة , رضخ عشماوي ساعتئذ لقوات شارون في الدفرسوار , مثل غيره في زمان شارون الحقيقي لاحقاً , بعدما غافل الجيش الثالث , حيث كان نبيل فاروق يحتفل بفقاعات النصر الكرتوني , دار الرجل حول القناة , جاء من خلف خط بارليف الممزق , اخترق إلى غرب قنال السويس , قالت أمي بيأس :
    وحتى لا نظلم الرجل – شارون – فإنه لم يقتل إبراهيم زوجي , بل أخذه إلى قلب إسرائيل , إلى عالمي أنا , إلى عالم إيليا سمحون ونقيضها وليم إسحاق , إلى عالم الإله الأكبر في مقره الطبيعي من العالم الحديث .
    شارون الدموي في كل لحظة وحين , سيرته حمراء قانية اللون والأفعال , استثنى بطلي المخمور عشماوي الكبير , لكن برغبة التاريخ ليس شارون كما تعتقدون , بينما بيع ابنه , كجزء من صفقة سلام مزيف , وقعه السادات في 1978 م , صفقة السلام من جانب واحد في الواقع , وأكثر وضوحاً - الجانب الأضعف - إن صح التعبير .
    أما الحدث الغريب والشاذ , الذي لم يكن يتوقعه سامي , أن إبراهيم رضخ ورمى السلاح من غير جدل أو نقاش , بينما كنت أنت – الابن ليس الأب – هو المناضل , والشجاع , الرجل الثابت الشريف عندما كنت تخدم بلاط الأسرة الحاكمة , كنت ذلك الفارس المغوار الذي يأبى أن يستسلم ويرضخ لإرادة السلام من جانب واحد , أما إبراهيم لم يتنازل لمشيئة القائد أو لغيره , بل لم يكتفي بالعناد والرفض فقط , فقام بثورةٍ عرمرم على الوعي والمعرفة , وزاد عليّ من قسوة العالم والتاريخ , أساء للمجد القديم أيضاً , وتنكر للنسب الرفيع على كل حال , حدثتني أمي , أنه قال لها نهاية الليل :-
    - أتعلمين يا نازك أنني سليلٌ رمسيس الثاني وأمنحوتب , أتعلمين أن أبائي شرفاء العالم .
    قالت لي أمي ( هُلعت يومها , لم أتوقع يوماً قط , أن يغنى لي أنشودة الفخر الأثري الرخيم , أو أن يتلو علي معلقة من معلقات شعر جداريات غرب النيل , وأغنية القبور الصخرية الشاهقة , المعابد الملطخة بالغبار الجنائزي للعبيد , النوبيين الأوائل , جذور عشماوي الكبير , المسحوقين بوجبتي البصل والخبز , صباحاً ومساءاً في ذاك الآن القديم , تلجم لساني حينها من الفخر غير المنطقي والمبرر في اللحظة الذاتية الراهنة , فبُهِتُ لبرهة قصيرة .
    لم يعطي دهشتي الوقت الكافي , فلاحقني بعد ذلك مكملاً , أخذ رشفةً من كأسه ثم قال لي :
    ( عالم اليوم ليس له علاقة من قريب أو بعيد بمقتضيات ما جرى فيما قبل الميلاد , الولايات الأمريكية المتحدة لا تاريخ لها أو أجداد , أمريكا حضارة تجمعت من فتات الاستعمار , وبالرغم من ذلك تُنفذ أحلامها قبل أن تستيقظ صباحاً , ولكن بناءاً على قواعد حفظ ماء الوجه , سأتخذ مكاناً قصياً , لن أتحيز للفئة أو أهرب , كما سيقول السادة النقاد لاحقاً , بل سأتأهب لفرض مشيئتي على سامي فقط , ابني , ليس علي أنا , أبيه , فأنا ميتٌ منذ أمد بعيد , لن أستخدم قلمي ضد أو مع عشماوي الكبير , لقد كان رجلاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى , حارب ثم ناضل , وأخيراً خُدع , أما سامي هو المستقبل , ليس – كغيره – لن يعيش على أمجاد الغابرين من الأمة الكبرى , أمة ( لا إله إلا الله ) ) .
    فجأة بدأ يوجه حديثة ليّ , وكأنني سامي , بل كان كأنه يقرأ التاريخ أيضاً , كان يقول لي سامي يشبهك تماماً , أخذ لون جسدك , نعومة شعرك , هو أبنك شكلياً , لكنه أبني أنا معنوياً , ثم واصل مستهزئاً :
    ( سامي لا خيار آخر لك غير الانتصار , أنت سليل جمال عبد الناصر , و الحجاج بن يوسف , وعبد الله السفاح , أنت ابن جعفر نميري , والقذافي , والملك فهد , أنت تربية حسني مبارك وحافظ الأسد , أنت دكتاتوري قلباً وقالباً , حاضراً وماضياً , ومستقبلاً إن شئت , أنت الراوي عن سيوف عنترة وتأبط شراً , أنت من صعاليك صحراء الربع الخالي , أنت الحاضر والهزيمة , أما أنا فالماضي والشتيمة , ليس لك سوى الانصياع والتجرد من نفخة المومياء الفرعونية التي تعتريك , أنت مهزوم في الماضي , وذليل في الحاضر , ومغبون في المستقبل , لا إرادة لك هنا , فإنا من يحدد معالم الأشياء وتفاصيل الأحداث , بل أنا من صمم الديكور والأماكن , أنا من وضع ملامح الشخصيات أيضاً , أنا كما أشاء عزيزي سامي , سأدعوك عشماوي الصغير احتراماً لكرامتك المخدوعة سلفاً , لكن هنا , أنا أبوك , أنا من يقرر من هو المهزوم , ومن هو المنتصر حيناً , أنا من يُقِّر مَن هو القاتل , ومَن هو المقتول , بل مَن هي الرهينة . )
    ثم واصل بلا انقطاع :
    ( أتدرين ماذا سيحدث بعد ذهابي ؟!! )
    حينها بكيت , لا أدري لماذا بكيت , لقد نعى نفسه أولاً , لم يكترث لدموعي , أو نحيبي العالي , بل واصل , سخريته من القدر :
    ( سيقولون , إنكم تحقدون علينا , وتكرهوننا , وتسبوننا , نحن أبناء أم الدنيا وبداية التاريخ )
    ثم تبسم أراد أن يتكلم , ثم توقف فجأة , تذكر أشياء كانت غائبة في ذاكرته , منذ عصور عدة , أحداث خرجت مُتوالية من اللاوعي في الدماغ , على هيئة صف طويل من السيارات تنتظر حصتها من الوقود , لأول وآخر مرة في تاريخ الولايات الأمريكية في عام 1973 م , ثم أجاب نفسه :
    ( أنا لست كذلك , لا أحقد عليكم , ولا أكرهكم , ولكن أحب أن أعيد الحق لأصحابه , أريد أن أفتح معبر رفح كما كان أيام عمرو بن العاص , وأن أسمع صهيل خيل عساكر أبني وقعقعة سلاحهم
    عند بوابة صلاح الدين بالقدس , أن اجلب القمح من مكان قريب من العالم على أقل تقدير , وأكفيكم ذل التسول وبيع الضمير , بل أكفيكم شر المعونات سابقة الشروط والأثمان , يا عزيزي سامي , لا أريد أن أجرح كبريائك بتزوير التاريخ , كما يفعل هؤلاء !! , أتمنى أن أوفر لك الحرية لتدفعك لنصر حقيقي قريب ) .
    صمت ثانيةً من جديد , ثم وقف , ورفع يده عاليةً , قارب أن يلامس سقف غرفتي , وأخذ يصيح , كالثورة :
    ( لكنهم جبناء : ( نحن انتصرنا , نحن عبرنا , نحن حررنا سيناء , ونحن قهرنا العدو )
    ثم خفض صوته من جديد وهو يقول :
    ( كله هراء , نحن ... ونحن .... ونحن .... فعلنا , ونحن – أيضاً - تركنا , ... نحن أصلاً لا شيء سوى أصوات جوفاء , الأواني الفارغة أكثر ضجيجاً , أنا لا قرار لي ولا عزة , عالمياً أو محلياً , وهنا أيضاً لن تكون لك رغبة أو كلمة , وستسير الخطة كما أُحدد لها , كأي باحثٍ عن السلطة يعمل في أمن الدولة داخل حدود أمة ( لا إله إلا الله ) أو خارجها , كلهم جبناء ) .
    ( 23 )
    عموماً أبي ليس استثناءاً شاذاً , فهو كغيره من الرجال الحقيقيين , الثابتين على لاءات الخرطوم الثلاث , ليس مثلنا نحن وارثي المجد الشفوي القديم , مجد أيام زمان , الفكرة التي يتبناها السادة أصحاب عُقدة الأنا أو النحن , القوة المعاكسة للفشل اللحظي , الذين خلقوا قصور وردية على رمال متحركة , الذين حولوا التاريخ لصراعات ( عرقية , لونية , عنصرية , وأحياناً كثيراً دينية ) .
    شيء مثل أغنية القومية العربية , الشعار الذي تخلوا عنه عقب هزيمة 1967 م , فهذا التاريخ لا يمكن قراءته بطريقة أخرى غير طريقة رد الفعل المضاد للفشل الراهن , مثل عدوى أيام زمان المنتشرة في سماء الخرطوم , منذ أيام الاستقلال إلى هذه اللحظة التي أسطر فيها هذه الصفحات .
    أيام زمان , مسخرة الماضي البعيد , عندما تلوكها ألسنة المنتصرين في عصرنا الحالي , تكون قد أصبحت وسيلة ككل وسائل الصراع الأخرى , شيء مثل العزف على المحارق النازية , وفي الوقت المناسب عزف بنيامين نتياهو مقطوعته أمام الأمم المتحدة , يدفع الدول المعنية بحوار المصالح , نحو معركة جديد على إيران .
    هذه هي أصول اللعب بالتاريخ والماضي , يجب أن نتعلم متى نعزف على نفس الوتر التاريخي – مثلهم تماماً - للوصول لأهداف مادية , محددة , وواضحة , إن كان المستمع مصدقاً أو مكذباً لها , لن يضير الشاة السلخ بعد الذبح , في الحالتين سيدفع التعويضات المالية المقررة عليه من قبل المنتصر الفعلي في الحرب , بينما الآخرون , جمهور للتصفيق .
    المحرقة النازية , أنشودة الأوبرا المملة , وصراحةً لا أحد يجرؤ على رفض سماعها , خاصة اللاعبين المستفيدين من الكعكة المقسمة بعد هزيمة الطرف الآخر , حتى في حالة عدم الاقتناع بها , يُجبر اللاعب على الاحتفاظ برأيه عنوةً , إلا إيليا سمحون , أمي , استطاعت أن توصل رأيها بطريقة أخرى , تجعلنا نحترمها مع غيرها اللذين يقفون على أسوار النضال , من أجل الطرف المهزوم , في حربٍ لا كفاءة فيها بين الطرفين .
    من الطبيعي جداً , أن تكتسب إيليا الفكر المجرد , عند اكتشاف الخدعة الكبرى , التي نشرت الضباب في منزل السيد بُرهان سمحون , والد إيليا الشخصي , أو الرسمي , وهو كذلك فعلاً حتى لا يسرح خيال القارئ بعيداً .
    فالسؤال الأول الذي يتولد للقارئ ما هو الفكر المجرد ؟ , ممكن أن أطلق عليه عموماً , الفكر المحايد , تجنب أخطاء الغير في الذات الجديدة , نوع من التجارب العملية التي كانت تدرس في المدارس , وبعض أساطير الجدات الليلية , ليس كلها , الحبوبة هي الجدة في لهجة أولاد الخرطوم القدماء , الأجيال الحديثة غيرت كل شيء , إلا الركون للهزيمة , لم تحاول أن تستبدلها بنصر , لكن حولت الهزيمة إلى معاهدات سلام , هذه هي أصول اللعب مثل لفظ ( يُمه ) التي تحولت ( ماما ) , وكلمة ( حبوبة ) بطبيعة الحال أصبحت كلمة أخرى , تقليد قردي أعمى , ثقافة الهامش المستعارة من الغرب , نوع من الاستلاب الحضاري كما يقولون , كاستعمال الشوكة والسكين , شيء كاستخدام مصطلح ( بنجور , وهاي ) بدلاً عن ( السلام عليكم ) .
    تحولت ( الجدة ) إلى ( نينة ) , مع إن بعض الأسر المحافظة تستعمل كلمة ( الأم الكبيرة ) , ككلمة وسطية تجمع بين الثقافة والبعد الأثري بين مترادفات الأجيال , صراع ثقافة الهامش والموضة , وثقافة الموروث الجيد القديم , على العموم هذا النوع من الأمور , يفتي فيه أصحاب علم الاجتماع , على نحو جيد , وفي كل الأحوال هو علم لا يقدم أمة أو يؤخرها , ربما يعقد الأمم والمجتمعات أكثر من مما هي تائهة فيه , بين العولمة والتقليدية , الإسلام والمادية , الحرية الجنسية والانحلال الأخلاقي , التفكك الأسري والوهم الفكري , وهلم جرا , وحقيقة كانت تسمع إيليا هذه التعليقات من جدتها السيدة سوزان شالوم صاحبة التاريخ الشفوي القديم لأرض هتلر الأولى .
    بالتحديد كان ذلك في يوم 5 يونيو 1968 م , حينها بلغت إيليا من العمر ثلاثة عشر عاماً في القدس الغربية مكان ولادتها , هذا اليوم يوافق الذكرى السنوية الأولى لانتصارات حرب النكسة في إسرائيل , في ذلك اليوم جرى الاحتفال في القدس بشقيها الغربي المُحتل منذ عام 1947 م , والقسم الحديث المُضاف في العام السابق ليوم الذكرى , حينها كان هنالك شح شديد في أجهزة التلفاز ببيوت الفقراء , بينما كانت تتوفر لأثرياء بني صهيون , في أماكن متفرقة من مدينة القدس الغربية .
    المهم أن إيليا الفتاة ذات النهد البارز , الفاتن والمثير معاً , كما استنتجت من صور أمي القديمة , عندما كانت شابة وصغيرة السن , كانت تمتلك نهد مثل نهود حسناوات الموساد المشهورات , في الصور التذكارية مع العملاء المفيدين , داخل أروقة عالم الجنس والجريمة الأخلاقية من أجل إسرائيل ,كما يدعون سراًً .
    بمقياس ذلك الزمان كانت الفتاة سلعة غير متوفرة إلا في المواسم الاحتفالية , أو بمقدار مشوار تمشية الفتاة منتصف النهار وبدايته , ساعة ذهابهن جميعاً إلى المدرسة اليهودية في الكنيست بقرية صوبا بالقدس الغربية , كل الفتيات القدامى , جدات الآن , جميلات ومثيرات جملةً وتفصيلاً في زمانهن , حتى العربيات اللاتي نجون من التصفية العرقية والانتقامية التي نفذتها وحدات الهجانة الإسرائيلية في المدينة عقب الانتصار في الحرب 48 . كُنّ جميلات بمقاييس ذاك الزمان.
    في ذلك اليوم تشكّلت بذرة الوعي الأولية لأمي , الوعي المناهض للظلم واغتصاب الحقوق , أما بعد رد فعل أبو عفراء تغيرت اتجاه بنية وعي أمي تماماً , وبلا عودة , فالذي حدث باختصار شديد , يوم احتفالات الانتصار بالنكسة 67 كالآتي : -
    خرجت أسرة السيد بُرهان سمحون ( جدي الأصلي , ليس الزعتري كما كنت أعتقد ) كبقية فقراء اليهود إلى الشوارع الرئيسة , التي تمر بالأحياء العربية في القدس الغربية , هنالك سيعفر الجنود بأحذيتهم الثقيلة السُكان , احتلت الأسرة موقعاً استراتيجياً بين مقدمة الصفوف المنتظرة والمتشوقة للرؤية الاستعراض العسكري , حيث يستطيعون مشاهدة لون قبعات الجنود قصار القامة .
    منذ الصباح وهم في ذلك الموقع الممتاز , الاستعراض العسكري سيبدأ بعد الواحدة ظهراً , ولسوء حظ السيد سمحون أنه من الفقراء , لا يستطيع دفع الثمن التلفاز البرجوازي , حتى لو كان تلفازاً من لونين فقط , أبيض وأسود , كان سيشاهد الاستعراض العسكري في منزله هانئاً مرتاحاً , وهذا الفقر كان من حسن حظنا - نحن – بعد أكثر من أربعين عاماً على الحادثة .
    بدأت المشكلة بعد منتصف النهار , عندما داهم الظمأ العذراء المراهقة , الفتاة التي لا تتحدث كثيراً في اجتماعات الأسرة أو غيرها , لعن أبوها برهان سمحون الفقر باسم ( يهوه ) إله بني إسرائيل الوحيد , نضبت ذخيرة المياه العذبة التي كانت تحملها الأسرة في جعبتها لهذا الاحتفال الفخم , المقام على شرف عودة القدس إلى أصحابها الأصليين , أصحاب الهيكل السليماني , كما يعتقد اليهود المتطرفون دون غيرهم بهذه الفكرة , أُحادية الصراع الدموي , التي يدعو لها الكتاب الذي صدر في 230 صفحة وكشفت عنه صحيفة معاريف , عن حاخامين يقيمان في مستوطنة يتسهار المجاورة لنابلس هما يتسحاق شبيرا رئيس مدرسة ( يوسف ما زال حياً ) اليهودية وزميله الحاخام يوسي إيليتسور , كما قالت قناة الجزيرة يوم 11/ 11 / 2009 م , إنهما يُبيحان قتل العرب والمسلمين .
    البحث عن الماء , وتحقيق حاجة الأبناء , في هذه اللحظة بالذات , نوع من المجازفة المتناقضة بين الأبوة والرغبات الشخصية , نهض الأب نصف وقفة , اللحظة كانت مشحونة بالترقب , في الجانب المقابل , وعلى مرمى البصر , وضعت أول قدم رسمية , موطئها على أرض الوطن البديل , الأقدام التي تحمل شعار نجمة داؤود المقدس على البيرق , قائد الكتيبة الأولى هجانة تبطر على الأرض والسماء في آن واحد ...
    كبرياء المنتصر وغروره ...
    الطريق المقدس الموعود ...
    على أرض الميعاد , وبالقدس , الحلم القديم قد تحقق ...
    بلا فواصل زمنية مستحيلة ...
    في الساعة المقدسة , التي تُعلن قرب مجيء المسيح عليه السلام ...
    المسيح يُقال له المشيح باللغة العبرية , في المعتقد اليهودي القديم أو المعاصر يؤمنون بعودته يوماً ما , لقد جاء زمانه الآن بلا جدل أو اشمئزاز , المسلمون - أيضاً – يؤمنون بموعد عودته القريبة على طريقتهم الخاصة , يتلون القرآن عندما يتذكرون الهزيمة في الصلوات المقدسة , أئمة الجوامع يقولون ( وإذا جاء وعد آخرهما , أرسلنا عليكم عباد لنا أولي بأسٍ شديد ) , اللهم أنصر أخواننا في فلسطين !!؟ لا يجدون غير الصياح والعويل والدعاء , بصراحة لا خيار آخر أمامهم غير هذا , لولا دعائهم وصياحهم لماتوا كمداً وحسرةً , لولا دعم الأوربيين لمات أهل غزة – أيضاً - من الاحتلال والجوع , هذه هي الحقيقة متناقضة ومجردة وغريبة وغبية جداً !!!؟ .
    قام الأب ضجراً من مكانه ...
    وخرج بقلبين من مكان الاحتفال ...
    قلب معلق بكتائب النصر المُقدس , وآخر مُعلق بجفاف حلق الآنسة الجميلة إيليا , عموماً شق الأب - المعذب - الجموع بهدوء وعنف , ثم انعطف إلى شارع ضيق ملتوي بحثاً عن منبعٍ للماء في الحي , وفي لحظة ما , حين تجتمع القذارة والحقد التاريخي وإقصاء الآخر , شاهد الرجل طفل عربي في ركن حقير , منزوي على عائلته , جسدوا قمة عربية استثنائية , كانوا كتماثيل تصور الهزيمة والذل في إبعادها الثلاث , الأب كان متحسراً , من هذه الأقدام التي تسير على بقايا جماجم الرجال الذين كانوا هنا , قبل عام من الآن , رحل منهم من رحل للأردن أو أي بقعة أخرى من العالم القديم , ومات منهم من مات , والسعداء – بالطبع - هم اللذين ماتوا في الحرب أو أثناء الترحيل بالقوة في الواقع .
    بدأت الواقعة بأن طلب الرجل بعض الماء من الأسرة العربية , والحقيقة بأدب جم على العكس الصورة المتكونة لليهودي في اللاوعي الإسلامي والعربي في آن واحد , بالنسبة للأب الأمر ليس له علاقة بالصراع العرقي القديم من أيام إسماعيل وإسحاق عليهم السلام جميعاً , تلقائياً , أمر الأب ابنه البائس بالماء .
    لا داعي يُوجب أن أشرح الموضوع برمته , فقط من ردة فعل الصبي ذو الخمس أعوام , نستطيع استنتاج خفايا الحوارات السرية التي كانت تدور بين جدران المنزل الفلسطيني المنكوب , وكل البيوت التي تتجرع الغُصة عند هذه الذكرى السنوية , مع بث نشرات الأخبار الرسمية وغيرها , بأي بقعة من الكون الإسلامي في العالم الديمقراطي الحديث , فالإجابة التي قالها الصبي كافية لتكوين تحليل منطقي وعقلاني جداً للقارئ , ليفهم ما حدث بناءاً على ذلك , فالأطفال يقولون ما لا يستطيع البالغون أن يقولونه صراحةً , قال الصبي :-
    - لا .... لن أجلب الماء لليهودي !
    في الواقع تدخلت يد الأب بسرعة خاطفة , حركة اليد يصعب وصفها بمقاييس سرعة التاريخ العادية التي نستعملها الآن في وصف هزائمنا , فصفع أبنه , ثم أتبع ذلك كله بركله بقدمه اليمنى , فتدحرج الطفل لمسافة مترين , مُدداً ( محمد الدُرة ) على الأرض , فاقد الوعي , ساكن , لا يتحرك .
    لم يتدخل أب إيليا لينقذ الطفل أو ليهدّئ الأب , بل انصرف مع فتاته الحسناء إيليا في هدوء , كأن شيء ما , لم يحدث .
    سألت إيليا أباها عن ما الحدث , لماذا ؟ وكيف ؟ وعن ؟ لم يجد إيجابه واضحة , الحادثة بكل حيثياتها وردود أفعالها , احتلت ركن مهم جداً من ذاكرة إيليا سمحون منذ ذاك الحين , الحادثة استقرت في البقعة التي تؤثر مباشرةً على الخيارات العقلية للفعل ورد الفعل في العقل الثوري للفتاة , منذ ذاك الحين , وإيليا تستمع إلى قصص سوزان شالوم ( جدتها ) التي تتلوها عن العدالة السماء وتحيزها الشاذ لبني صهيون , كجزء متمم لهرطقة بابوية عميقة في إحدى كنائس القرون الوسطى , أو كجزء من حوار قومي سخيف , شيء مثل ملء أوقات فراغ أصحاب المعاشات في منطقة شعبية نائية من العالم الحديث .
    تلكم الحادثة لم تتزحزح من مكانها أبداً , رافقتها إلى القاهرة , أثناء تقمصها فكرة نازك الزعتري وممارستها هواية الأم المثالية في أسرتنا , هذه اللكمة منحتها القوة الإلهية في مكتب وليم إسحاق فيما بعد , وبالرغم من ذلك منحتني شهادة نجاتي وانتمائي للهُناك , رغم أنف تاريخ انتصارنا المزعوم , سلمتها لي , قبل أن أذهب إلى مكتب السيد بنيامين سليمان في مقر عمله بالقاهرة فيما بعد , لكن هذه المرة , أعطتها لي بأمر من الإله الأكبر العربي , وليس اليهودي قطعاً .
    ( 24 )
    اختفى جفاف الحلق من عقل الفتاة الصغيرة إيليا سمحون , ولم تعد لها رغبة في الحصول على الماء , بل لم يعد الماء حينها يشكل ضرورة حياتية أثناء هذا التوتر العنيف , أخذت تفتش في العلاقة بين كُره اليهود المصور إعلامياً , وتلك الصفعة على حرية الطفل , مع ذلك تهرّب السيد سمحون من الإجابة على السؤال الذي طرحته الفتاة على أبيها آن ذاك , منذ ذلك الحين وهي تفتش عن إجابة لهذه السؤال بالتحديد .
    السيدة سوزان شالوم جدتها , أجابت على هذه السؤال بأسلوب كرة القدم الأثري , الهجوم خير وسيلة للدفاع , مع إن هنالك خطط أتت بعد ذلك الأسلوب , طريقة اللعب ( أربعة , ثلاثة , ثلاثة ) , ثم خطة ( أربعة , أربعة , أثنين ) وأخيراً استقر الحال منذ كأس العالم 1994 م على خطة ( ثلاثة , خمس , اثنين ) , ربما لم تسمع بها الجدة , أو أنها تجاهلتها عن سوء قصد منها , إلا أنها أخذت تجتر تلاوتها المقدسة , صور المعاناة القديمة التي شاهدتها داخل محارق هتلر الأولى , عندما كانت في مقتبل العمر , القصة سمعتها إيليا مراراً وتكراراً منذ نعومة أظافرها قبل سنوات عُدة , عندما كانت تمارس لعبة عريس وعروس , اللعبة المنتشرة في كل ثقافات العالم والجنسيات المختلفة , حينها مثلت إيليا دور الزوجة المثالية , تنظف , تغسل , تطبخ , تجهز الطعام للرجل عندما يعود من العمل , تلعب ذلك في الصباح , لتعود في المساء تستمع إلي حكايات جدتها الأسطورية , عن المملكة السليمانية كما يتلوها التلمود والحاخامات في الكنيست المجاور , وبالطبع مع قليل من الحبكة القصصية .
    أذكر حوار دار بيني وبين الفاضل الكاروري عن حكايات الجدات الأسطورية , كنا دخلنا في مقارنة بين الجدات في الغرب , والجدات في الشرق , قال حينها ( أما نحن كنا عندما نسأل جداتنا رحمة الله عليهن جميعاً , أحياءاً وأمواتاً , نسمع منهن كثيراً عن الغول الذي يأكل الأطفال , الثعلب والنعجات الثلاث , الثعلب الذكي والديك الغبي , حدثونا عن الجن الذي سكن وادي عبقر والشياطين , بعدما كبرنا قليلاً تغير الأمر لنسمع عن نبي الله الخضر والشيخ عبد القادر الجيلاني اللذان يساعدان المسلمين فقط دون العالمين , ثم زادوا على ذلك , أنهما يسيطران على الجن – الروحاني منهم والشيطاني أيضاً - والجان والشياطين جميعاً , بما فيهم إبليس ( لعنة الله تخشاه ) , وهذا النبي الخضر تحديداً متخصص في خدمة الصوفية فقط , لا علاقة له ببقية البشر , مثل الأولياء اللذين يعملون كالآلهة الخاصة بالجنود الرومان , لكن هنا من أجل المُريدين , أولاد الشيخ الواصل للحضرة الإلهية أو النبوية , فالأمر سيان , وهو هُراء في واقع الحال العقلي منه والديني أيضاً ) .
    الجدات يضِفن وينقِصن من وحي خياليهن المليء بالجن والشياطين , هكذا هم أينما كانوا أو ذهبوا , لا يترددن في اختراع مخلوقات ما ورائية خاصة , تعج عقولهن بالخيالات الرهيبة , لا توجد فيها مساحات أخرى فارغة , تستقبل معلومة ثابتة ومؤرخ لها بحياد تام ومنطقي , عادت إيليا إلى نفس المكان القديم الأول , إلى حضن الجدة سوزان شالوم لتسأل نفس السؤال الذي هرب منه أبيها السيد بُرهان سمحون منتصف نهار اليوم .
    لكن في واقع السيدة سوزان شالوم , كان إبليس هو هتلر , والشيطان هو موسليني , والرحمن هو تشرشل أما الأمام الأكبر فهو روزفلت الأمريكي , ولا شك في ذلك .
    من هذه المحطات انطلق سيل من التبريرات المنطقية , جعلت شعب الله المختار , مكروه من بقية شعوب الخطيئة المنتشرة في أرجاء العالم الشيطاني , بدأت الجدة المؤمنة أقصوصتها , بالرقم المنصوص عليه في وسائل الإعلام الغربي , هو ستة ملايين يهودي , قُتلوا في محارق هتلر النازية , وتناست – بتعمد واضح - قتلى آخرون , الإرث الإيماني يقول أن ( اللعنة والمباركة , أمران يُخص بهما الإله شعبه الخاص , دون العالمين ) على حد تعليقات الفاضل الكاروري , فالآلهة لهم سلوك خاص تجاه أصفِيائهم وشعوبهم فقط , الرقم كان يتصاعد في أحيانٍ كثيرة , نادر ما يهبط , وكأن هتلر قتل اليهود فقط وحرقهم دون العالمين , عموماً الرقم الحقيقي هو حوالي 1.5 شخص يهودي ماتوا , على حد قول عبد الوهاب المسيري في موسوعته ( اليهود واليهودية والصهيونية ) في الجزء الرابع ص 447 , في زماننا هذا الحقائق لا تقدم أو تأخر , الذي يملك المال والقوة هو الذي يحدد الأشياء , كما يحب , كما أن التاريخ يكتبه – دائماً – المنتصر , فكلامه مقدّس عند القادة والعامة , من غير أدنى شك في نبل القائد , ومقاصده الحسنة , منطق بسيط ومقنع جداً , كحديث السيدة سوزان شالوم الراهن .
    لكن ما لم يكن في الحسبان أن ابنتها إيليا , اتخذت موقفاً مناهضاً لجدتها بعد أربع أعوام فقط من هذه الحادثة , بالتحديد داخل المدرسة الثانوية .
    فقراء اليهود , كبقية فقراء العالم أجمع , لا علاقة لهم بالصهيونية من قريب أو بعيد , جُلبوا إلى جنة بني صهيون في القدس , الوطن المثالي المصنوع , أبان نهاية حرب 1948 م .
    التهجير والاستيطان في أرض الميعاد الإلهي ...
    وُزِع المهاجرين الجدد على بيوت القتلى والمطرودين من القدس القديمة , بين العرب رافضي التهجير والتهويد , أصحاب الأرض الحقيقيين ...
    شكل المُهاجرين أحياء الفقراء , حيث تعلمت إيليا سمحون , بين اليهود والعرب , المدرسة الثانوية كانت تُدّرِس المقررات العبرية , الأساتذة اليهود , محاولة التهويد تسير على نحو جيد , وبخطى ثابتة , دخلت الكثيرات من العربيات في الثقافة اليهودية , وخرج عدد غير قليل من اليهودية , في هذه الأحوال كل النتائج غير مضمونه العواقب .
    طالبات يهوديات وعربيات في ذاك الحين , محاولة بائسة لتهويد الأجيال القادمة للعرب , قدوة بالسياسة الفرنسية في مستعمراتها السابقة , طمس الهوية والثقافة جملةً وتفصيلاً , في باريس وعموم فرنسا , نسى العرب – تحديداً - أي ارتباط لهم بالجذور القديمة , هذا موضوع آخر .
    ( 25 )
    أستاذ مادة الفيزياء بمدرسة إيليا سمحون , الشاب ذو المرتب الضعيف ,كان له رأي آخر في مشروع تهويد العرب , بل كان يُهّوِد الطالبات بأسلوبه الخاص , فالمدرسة مثمره على نحو رهيب , خاصةً عندما تُعّلِم فتيات في سن السابعة عشر , سن الشهوة وغباء الأنوثة ...
    سياسة الترغيب والترهيب ....
    الحنان المصطنع ...
    كل هذا يأتي أُكله بعد حين ...
    الفيزياء كما الرياضيات , أحد مواد المستحيل , كبوة التعليم الثانوي , يستوي أمامها الجميع , ذوي القدرات العقلية العالية والأدنى معاً , حجر عثرة في طريق التعليم العالي والجامعة , بسبب نشاطات نيوتن واينشتاين المريبة , فجعلها الأساتذة معقدة جداً , بشرحهم الرديء لها ...
    في ذلك الزمان لا يُلام الأستاذ ...
    فالفتاة كانت مخطئة من الأساس , لقد كانت مثيرة على نحو شاذ , فلسطينية , نافرة , غراء , فرعاء , ممتلئة ... محاولات الأستاذ الأولية كانت تميل إلى أسلوب الحرب والسلام , كاتفاقية وادي عرفة مع الأردن , مارس معها نفس الأسلوب التمهيدي للوصول للضحية , أحياناً تأنيبها وتوبيخها أمام الطالبات , وأحياناً أخرى أهانتها أمام ملأ من النواعم , ثم مبدأ الحنان الزائف وإعلان السلام , أخيراً تطبيع العلاقات , ومن ثَم المساعدات المجانية الخاصة .
    ثم الوصول إلى القمة ...
    وإعلان النصر على رأس قمة الأرض الخصبة العذراء ...
    الخطة أتت أُكلها بعد حين , ووصل الأستاذ للقمة مباشرةً …
    لكن المفاجئة كانت أن الفتاة تلوث رحمها بهذه الدماء اليهودية , الخصب متوفر في النساء الفلسطينيات بغزارة , وليس بمحض الصدفة , هن هكذا منذ أن قُذفن للملاجئ , المصائب تولد طفرات بيولوجية , هذه هي نظرية التطور بعينها , ما أن يذهب ( محمد الدُرة ) تحت أنقاض الغارات , إلا وتُخِرج نساء فلسطين ألف دُرةً أخرى , تحمل الحجر وتقذفه في وجه العدو من جديد , بالرغم من الحصار , والجوع , وتكالب أبناء العمومة , والأصدقاء , الأعداء , معاً , صفاً واحد عليهم كالبنيان المرصوص ...
    لقد فعل الرجل فعلته ليس لأنه يهودي , أو كما سيتخيل البعض , الأمر ليس كذلك أعزائي , فالرجل هو الرجل بغض النظر عن عرقه ودينه ولونه , يفعل الرجال المستحيل من أجل هذا الشيء , ولا عجب , فهذا الممارسات متوفرة في كل زمان ومكان , وفي المجتمعات العربية أكثر منها في غيرها , لأسباب تتعلق بغلاء الزواج وليس للكبت الجنسي , كما يقول إعلاميو العولمة والانفتاح المغلوط , وبسبب ارتفاع أسهم المناقصات في بورصات المهر العربي , مَن يشتري الفتاة بثمن أعلى , هو الذي يكسبها في نهاية المطاف .
    بدأ خصر الفتاة يأخذ شكل المرآة المقعرة , ما بين ثلاثة أو أربع أشهر , الذي حدث أن الفتاة لم تكن تعلم بأنها حامل من هذا الرجل , المهم عندها أن الأستاذ الشاب يحبها ويريد الزواج منها , وقبل هذا وذاك , يعطيها دروس مجانية وخاصة في الفيزياء , وعندما اشتد عليها ألم الحمل , اضطرت الفتاة لمصارحة أمها بآلام البطن التي تعاني منها , المغص الشديد , فقد الشهية , الوحم , .... الخ .
    لكنها لم تذكر توقف الدورة منذ اليوم الأول الذي جلست على أرجل حبيبها – مدرس الفيزياء - في المدرسة نهاية اليوم الدراسي ...
    المرأة عندنا تُربى على أن تخجل حتى من طبيعة جسدها الذي فُطرت به , نحن نربي الفتاة على أن تكون ضعيفة دائماً , كما نربي أبنائنا على الخنوع والهزيمة , الفتاة – عندنا – تخجل من أمها وزوجها , يقولون هذه هي التربية السليمة , الخجل والخوف صفات غير محمودة النتائج على المدى البعيد , إلا في بعض الحالات الاستثنائية , من الطبيعي أن تدرك الأم ما حدث , الطامة الكبرى التي حدثت , ضاع الشرف على يدي يهودي , العدو المغتصب قلبا وغالباً الآن .
    وصل الموضوع بطريقة ما , إلى أبو عفراء , الرجل والمرأة يُكّنيا لهما في الشام وعموم بلاد العرب لأسباب متعددة ومختلفة , منها ما هو اعتباري , ومنها ما هو فخري كابي عمار ( الشهيد الراحل ياسر عرفات ) , أو يُكنيان باسم أول أبنائهما معاً , ولد كان أو بنت , كأبي عفراء , فالعروس بعد تسعة أو عشرة أشهر من الزواج يُكنى لها مباشرةً , لا أدري لماذا يحاولون إثبات الفحولة في أتفه الأشياء دائماً , عموماً أصبحت الأم هي أم عفراء , وأصبح العريس الفحل تلقائياً , أبو عفراء ....
    أبو عفراء , الرجل المغبون بالذل منذ أعوام , يعيش على الهامش , بين محطات التفتيش , حمل الجواز الأبيض , ذو الخطوط الزرقاء , عليه النجمة السداسية , مختصر القول , الجنسية يهودي , هكذا بلا حق في الخيار , يا ليته كان خصياً أو عقيماً, يا ليته دفن مع اللذين ذهبوا في الحرب , أو هُجِّر إلى الأردن , الوطن البديل للفلسطينيين , كما كان يخطط بني صهيون , يحتلون ثم يقتلون , وأخيراً يتكرمون ببيوت الآخرين .
    الرجل عاش ليذل مرتين , مرة بالاحتلال , وسياط الأخوة ( المسلمين والمسيحيين ) أبناء العم ( العرب ) , وأخرى بشرف البنت الملوث , الحمل غير الشرعي , مصيبة هبطت على أرضه و زلزلتها , لو كان عربي , فالأمر مقدورٌ على تحمله إلا هذا ( فلا ) و ألف ( لا ) ...
    عموماً باتت الفتاة ليلتها تلك في السماء ...
    نجا الأستاذ من سكين أبو عفراء , بأعجوبة روائية ...
    لم يمت ....
    لسوء الحظ ...
    في ذات الأسبوع هبت ثورة صليبية في الأندلس الغربية , بُتر كل لسان عربي بالمنطقة , هُجرت كل الأصول الأخرى غير المرغوب فيها , من مساكنهم إلى المجهول , عُلق أبو عفراء في ميدان عام , كالمشانق الإيرانية لتجار المخدرات وغيرهم , القضية أخذت البعد السياسي الطبيعي الذي يعلمه المدركون لما يُعرف بالإعلام السياسي.
    وفجأة تحول الشاب المخطئ في حق الفتاة إلى بطل قومي , مثلي تماماً ...
    وراحت الفتاة المخدوعة إلى رحمة ربها , بما في بطنها ...
    حينها تغير اتجاه إيليا من هذا الطريق الإلهي للشعب المختار , وإلى الأبد , تاركةً السيدة سوزان شالوم تواصل قصّ الحكايات الأولية , إلى أبناء الجيران الجدد , القادمون من روسيا للتو والحين , اللذين وُطِّنوا في منزل العربية العاهرة , غاوية اليهود الشُرفاء , مع إضافات غير ثابتة تضيفها الجدة سوزان شالوم , من وحي خيالها المليء بالخزعبلات والأباطيل المنطقية , لكن هذه المرة تقوم دعايتها الانتخابية على تجارب واقعية وحّية مع العرب أصحاب الخطيئة الأجلاف , ثم أخذت خطبها تسير في اتجاه شعب الخطيئة الشيطانية , فالعرب والعربيات , يتميزون بالزنا والعُهر والقتل , ويتقنون الحقد على شعب الله المختار دائماً وأبداً , منذ أيام سارة جدتنا الأولى , فأم العرب ( هاجر ) سرقت زوج سارة منها من قبل , ثم أكملت تعليقها المؤثر بالدموع على الأستاذ الشريف البطل , ثم ختمت لعناتها المقدسة , هم كذلك أهل خصال دنيئة , تجري في دمائهم الفاسد أينما حلوا ورحلوا .
    ( 26 )
    انتهت الثانوية ....
    فأُلحقت إيليا بالجيش ...
    الخدمة الوطنية الإجبارية ...
    مرة أخرى تدخلت الطبيعة من أجل صدر الفتاة , من الخدمة العسكرية في خطوط النار إلى المستشفى العسكري , كحال النواعم الجميلات في كل مكان , فعندما يكون الضابط وليم إسحاق مديراً للمعسكر , فهذا الشيء بالتحديد يعزز تفوق الحسناوات , إما إلى أنفاق الموساد , أو الخدمة في أماكن خاصة , وحساسة في نفس الوقت , ذلك يتوقف على حسب نوع الفتاة وشدة تماسكها أمام الإغراء أو الخوف .
    إيليا لم تكن من ذلك النوع الرخيم , ليست جزءاً من زبد البحر , الذي يلهث خلف المال وأزواج النساء الغافلات , كانت هي العُقدة التي ألجمت السيد وليم إسحاق , وحددت حجمه , القانون العسكري , يمنح الضباط الحماية العسكرية , التدريب الشاق يذهب عُذرية الفتاة , هذه حقيقة حية , تعرضت لها بعض الفتيات ذوات الغشاء الضعيف , بعضهن ذهب إلى المحاكم , رفعن قضايا رد الشرف ضد أزواجهن , مطلقات يُطالبن بحقوقهن بعد الزواج , صارت المشكلة عالمية , القانون الأوربي يحمي الفتاة , إلى أن يفقد زوجها الإرادة أمامها , نعم لا نخفي ذلك , الكثير من الرياضيات والعسكريات فقدن غشاء البكارة , نتيجة الممارسات التي تناهض مبدأ الناعمة المدللة في ثقافة الصحراء الكبرى .
    وليم إسحاق سرحها للخدمة في منزله , داخل المعسكر , رفضت الانصياع إلى أوامره الشاذة , دعاها مرة إلى تناول وجبة العشاء في غرفته ...
    رفضت , أقسم بأن تدفع الثمن غالياًً ...
    حاول مرةً أخرى , ثم ثانية ...
    ففشل , وأقسم من جديد ...
    القادة العسكريين مرفوع عنهم الخطأ , لا يخطئون ....
    مثل أولياء الصوفية أعضاء الحضرة النبوية ...
    في مكانٍ ما من العالم , أين هو ؟ ...
    لا أعلم !! ...
    الأولياء والقادة , لا أحد يشاطرهم المكانة المقدسة بين قلوب التابعين , إيليا لا تستطيع الرفض , سُتحاكم ثم تذهب للسجن , الخيار صعب , نائب السيد وليم تنازل له عنها , معلومة علمتها في وقت لاحق , ثارت في وجهه مرة , ورفضت الانصياع إلى ولي نعمتها , كانت تعلم عدد لا باس به من صاحبات البكارة المفقودة في المعسكرات , هكذا نصت الشهادة الطبية المقدمة لزوج قبل العقد الرسمي في الكنيست , لا يحق له الرفض بعد ذلك , أو الطعن القضائي .
    كن يذهبن سراً إلى سكن الضباط - أعني القائد ونائبه - يقدمن خدمات إنسانية من الدرجة الأولى , خدمات جسدية هامة , ترويح عنهم وحشية الجندية والعسكرية الشرسة , وتزيد فيهم روح المعنوية , الاستعداد العام لقتال العرب وناصر , الوصايا الإستراتجية الأميركية دقيقة الأهداف والتحليل , أرض الميعاد من النيل إلى الفرات , القيادة العامة لا تتدخل في ذلك , كهنة العين الواحدة لا يحاسبون في كل جهات العالم .
    وفجأة ... جاء الفرج من مكان لا يعلمه أحد , ليس السماء بالطبع حسب قراءة إيليا سمحون على الأقل , المستشفيات العسكرية عانت نقص حاد في الممرضات الحسناوات بلا شك , واُختيرت الجميلات لهذه المهمة بالتحديد , هذا وهو الجانب الإيجابي لنظرية فرويد الجنسية , تقول النظرية المغلوطة في ذهن العوام , أن وجود الفتاة الجميلة في المستشفيات , يزيد من رغبة الاستمرار في الحياة عند المريض , جسدياً ونفسياً , أما إذا كان المريض من السلك العسكري , فحتماً لا يوجد علاج ناجع خير من الحسناوات يُطفن المستشفيات ليلاً ونهاراً , ثم يقمن - بالطبع - بتنظيف الأماكن الحساسة من أجساد الفاقد البشري للحرب المقدسة ضد المسلمين والعرب .
    بهذا المبدأ الإنساني البسيط , كتب رئيس اللجنة المرسلة من القيادة العامة لاختيار أيادي الرحمة للمستشفيات العسكرية .
    اسم إيليا سمحون تصدر القائمة , سوف تدرب كممرضة لخدمة الجيش .
    أخذت حقيبتها ....
    خرجت مع الأخريات ...
    مررن عند الوداع بقيادة المعسكر ...
    نظرت له من أسفل إلى أعلى ...
    بحقد واضح , لم تصافحه ...
    خرجت ...
    صدرها البارز , تقدمها , كانت تمشي مستقيمة الرأس والقامة , أكثر شموخاً من قادتنا الأفاضل أمام السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية , مع كل خطوة تخطوها , يلعن وليم إسحاق نفسه , ثم يقسم بأن تدفع الثمن أكثر من مرة ...
    سأله مبعوث القيادة العامة , عن سبب عدم مصافحة المجندة له , قال وليم إسحاق بثقة زائدة للرجل : ( حاولت إغوائي فرفضت , الفتيات ومكرهُّن يا صديقي ) ...
    ( 27 )
    الأيام الثمانية الأولى من الحرب , يُحتفل بها كل عام في القاهرة , إحدى العطلات الرسمية في الدولة الفرعونية , يوم العبور إلى الهزيمة , يوم الذل المشهود , إلى حين موعد النصر الحقيقي .
    ذلك اليوم كان شاحباً بالترقب , القيادة في توتر دائم , كل رتبة في مجلس القيادة تحلم بإعلان النصر , شرف ما بعده شرف , يمنح القائد الذي يعلن الانتصار , احتراماً أبدياً بين الجنود والقوات النظامية في الوحدة العسكرية , لكن إبراهيم خطف الكعكة من أفواه كل الرتب العسكرية العليا , فهلل وكبر مباشرةً , كسر قانون السرية العسكرية , ( مكالمات سلاح الإشارة باللغة النوبية ) , القائد كان متوتراً , إبراهيم كان مستيقظ في وعلى اللاسلكي , كان ينتظر اللحظة الحاسمة بلهفة وشوق , كان يترقب لحظة النصر والنشوة .
    وعندما جاءت الإشارة الحاسمة , لمعت عيناه كذئب يقتنص الفريسة , أنسته النشوة النصر الآنية كل القوانين العسكرية المعمول بها في أعتي جيوش العالم قسوةً , فتجاوز القيادة العامة وقائدها , لم يخبرهم بالإشارة , لكنه صاح - بكل ما أُوتي من قوة وصوت - مباشرةً :-
    ( عبرنا ...... عبرنا ..... الله أكبر .... العيال عبرت ..... الله أكبر )
    أخرج الرشاش ...
    أفرغه في الهواء ...
    ضج المكان بالرصاص الاحتفالي ...
    تحول سماء الوحدة العسكرية لشظايا نحاسية حمراء ...
    حُمِل إبراهيم على الأكتاف , ونُسِيّ القائد تماماً في أجمل لحظة تاريخية قد تمر بالإنسان والأمم ...
    لحظة الانتصار ...
    أعلن مذيع القاهرة بعد الساعات الأولى للحرب:-
    (بيان هام - موسيقى عسكرية - , أتانا البيان التالي من القيادة العامة للقوات الشعب المسلحة )
    لقد عبرت القوات المسلحة خط بارليف ...
    ثمانية أيام من السحق والتقدم , موقف عظيم , اهتز كيان دولة العدو تماماً , طلمبات ضخ المياه الإنجليزية ,كانت قوية , أذابت الفاصل الترابي وحولته لسائل تاريخي كثيف , تحول حينها اسم البحر الأحمر إلى البحر الرملي الأصفر , عبر الجيش الثالث بالكامل , المشاة عبروا إلى النصر المبجل , تقهقر العدو إلى حين , اهتزت إسرائيل برمتها , قيل أن السادة الرأسماليون غادروا إلى الشاطئ الشمالي من البحر المتوسط , أما في الإذاعة الرسمية بتل أبيب قالوا أن العدو شن غارات طائشة على الأرض المقدسة , الأرض التي لم يستطيع فرعون موسى - عليه السلام - تلوثيها من قبل , يُقال أنه يُدعى رمسيس الثاني , لكن في كل أسرة فرعونية كان هنالك رمسيسٌ ثانٍ , من هو رمسيس موسى ؟؟؟ لست أدري حقيقةً ؟؟؟
    لحظات من الفزع الفوري المنتشر في كل مكان , السيدة سوزان شالوم تلت صلواتها الأخيرة بعنف روحي واضح , خافت ذبح أبناء الجيران , قالت ( الكفار سيذبحوننا , كما ذبح العربي بنته ) , أستاذ الفيزياء نجا من سكين العربي الكافر , الكفر نقيض الإيمان لكل متدين مُقتنع بدينه , بغض النظر عن نوع الدين , الإنجيل يُصنف الناس إلى فئتين , فئة أصحاب الدين الحقيقي وفئة أتباع الدين الباطل , والتوراة كذلك , المسلمين يقولون الكفار وأهل الكتاب , يصفون الذين كفروا من أهل الكتاب , بجراءة لا تقبل الجدل والتجريح , الموضوع عقائدي عنيف من أساسه , لا عقل فيه , علماء الدين فصّلوا الدين كما يحلوا لهم , كل منهم أخذ منه المقاس الذي يناسبه ...
    لم أكن هنالك مع العابرين , لقد كانوا فخر حقيقي للأمة , باع دمائهم المستفيدين من الحرب , من هو الذي وضع علامة هتلر , ذاك الصليب المعقوف , سؤال آخر لماذا الصليب بالتحديد , هتلر كان متديناً على طريقته الخاصة , لقد كان قصير القامة , الدكتاتورين – دائماً – أصحاب عاهات نفسية منذ الصغر , نابليون كان قصيراً أيضاً .
    في ذلك الحين لم يكن الناس يعلمون الأخبار إلا عن طريق واحد , الصوت الرسمي للحكومة , الانقلابات العسكرية تحاصر الإذاعة والتلفيزيون أولاً , أوربا تغير مفاهيم شعوبها عن طريقهما , لا يوجد حل آخر , أعلنت الإذاعة النصر أولاً , تسّرع السادات في تُوقعاته , لن يخذل الشعب هذه المرة , هو ذات المنطق الذي دار في الشارع العام , ( سنسحق إسرائيل ) هكذا تخيّل المؤمنون ما سيفعلونه في عالم الكفار , وأخيراً سننتقم لنبينا , الفكرة العامة التي جعلت الشعوب تحتفل بالانتصار , الاحتفالات عمت العالم العربي برمته , النصر العربي غير المكتمل , المسرحية الناقصة , انقطع التيار الكهربي في الفصل الأخير من المسرحية الهزلية , سيعُاد البث غداً مساءاً , الإدارة العامة للكهرباء قدمت اعتذاراً رسمياً للجمهور , على كل المشاهدين الاحتفاظ بنصف التذكرة لمشاهدة بقية العرض مجاناً , غداً , لكننا لن نقول انهزمنا للمرة الرابعة في تاريخينا الحديث .
    طائرة التجسس الأمريكية لم تستطيع أن تسقطها المضادات الأرضية حول القنال , مدى الدفعات الأرضية كان 20 كلم , وتقدم الجيش إلى هذه اللحظة في سينا كان أيضاً 20 كلم , الطائرة حلقت على بعد 30 كلم , هكذا قال الفريق سعد الدين الشاذلي , اكتشفت الثغرة بين الجيش الثاني والثالث , كانت ستكون هزيمة نكراء , القيادة العامة انشقت إلى نصفين , تراجع الجيش أو المواصلة للنهاية , سيموت بضعة آلاف من الفقراء , يُقال خمسة وأربعون ألف جندي عبروا القناة , الأجهزة الرسمية أعلنت تخاذل العرب , لن نهُزم هذه المرة , عبرت وحدات صغيرة من جيش العدو خلف القنال , عند مزارع الدفرسوار , معركة أُحد الجديدة , نفس التفاصيل القديمة عادت على دفة التاريخ , لقد سميت حرب العبور الأولى باسم بدر , لقد كانت في العاشر من رمضان الموافق السادس من أكتوبر عام 1973 م , نفس تاريخ بدر في بداية الرسالة المحمدية .
    المعركة كانت تحمل انتصار شاذ في الثمانية أيام الأولى , لكن لسوء الحظ , عصرنا هذا يسمى عصر السرعة الصاروخية التي تخترق الزمن والتاريخ , وجاء موعد أُحد بسرعة رهيبة في ليلة 15 من أكتوبر نفس العام 1973 م , أي بعد ثمانية أيام لا غير .
    استدارت خيول خالد بن الوليد خلف الجبل أو القنال , في الحالتين النتيجة واحدة , أن الهزيمة قد وقعت بالجيش المحمدي للمرة الرابعة في تاريخه الحديث , فقط الفرق الواضح بين المقارنتين , أن الفرق الزمني بين انتصار بدر الحقيقية , والهزيمة في معركة أُحد , كان عام كامل , حولٌُ تام به اثني عشرة شهراً .
    بينما في هذه المعركة التي أُحدثكم عنها , الفاصل الزمني هنا بين الانتصار والهزيمة , لم يكن سوى عدة أيام , لم تزد أو تنقص عن ذلك مثقال حبة من خردل , في كل الأحوال والنتائج في العالم المحمدي الحديث , ولا عجب !!!.
    ( 28 )
    نشوة النصر تنسي الوقار ...
    تجعل الشيب يرقص كما الرضيع ...
    هزائمٌ عدة , حرب 48 , العدوان الثلاثي , النكسة أو هزيمة 67 , وأخيراً هزيمة النصر 73 , وبعدها توالى مسلسل الهزائم الصغرى , هُنا وهُناك , على مستويات أقل شأناً من حيث نوعية الفشل , على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري , حرب أهلية في لبنان , قهر سياسي في سوريا , هزيمة في العراق , دخول صدام للكويت , الاحتلال الأمريكي للخليج العربي , احتلال فرنسا المستمر للمغرب العربي , جنوب وغرب السودان , طالبان في أفغانستان , الروس في الشيشان , الاحتلال الغربي لباكستان , مقتل أو موت ياسر عرفات , تاريخ طويل لأمجاد ورقية , إبراهيم لا تربطه علاقة مميزة بالتاريخ , لا يفهمه كثيراً , كغيرة من البشر , يستمع إلى الببغاوات , التي تضج من أصواتها , الأجهزة المرئية والمسموعة , تبث الجهل والإحباط في كل آن وحين , وكأن العدو شمشون الجبار العتيد , الذي لا يقهر , أو ربما هم الزبانية التسعة عشر , قال أبو الأسود بن كلدة الجمحي عندما سمع عن الزبانية التسعة عشر : ( لا يُهلِكونكم التسعة عشر أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة , وبمنكبي الأيسر التسعة , ثم تمرون ) , أما أبو جهل , فقال لقريش : ( ثكلتكم أمهاتكم , أسمع بن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر , وأنتم ألدهم _ أي عددهم _ والشجعان , فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ) .
    إبراهيم كان يشرب الخمر ثم يضرب الأرض أمامي , يرسم لي التاريخ الذي سأكونه , إنه أبي الذي أفخر به الآن , عندما ترهقه الخمر كنت أسمعه يتلو بحزن شديد هذه أبيات ( لأمل دنقل ) :
    أخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء
    منحدرين في نهاية المساء
    لا تحلموا بعالم سعيد ...
    فخلف كل قيصر يموت : قيصر جديد .
    وإن رأيتم في الطريق ( هانيبال )
    فأخبروه أنني انتظرته مدي على أبواب ( روما ) المجهدة
    وانتظرت شيوخ روما – تحت قوس النصر – قاهر الأبطال
    ونسوة الرومان بين الزينة المعربدة
    ظللن ينتظرن مقدم الجنود
    ذوي الرؤوس الأطلسية المجعدة
    لكن ( هانيبال ) ما جاءت جنوده المجندة
    فأخبروه أنني انتظرته ... انتظرته ...
    لكنه لم يأت !!!
    وأنني انتظرته ... حتى انتهيت في حبال الموت
    وفي المدى : ( قرطاجه ) بالنار تحترق
    قرطاجه كانت ضمير الشمس : قد تعلمت معنى الركوع
    والعنكبوت فوق أعناق الرجال
    والكلمات تختنق يا أخوتي : قرطاجة العذراء تحترق
    فقبلوا زوجاتكم ...
    إني تركت زوجتي بلا وداع
    وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها ... بلا ذراع
    فعلموه الانحناء
    علموه الانحناء
    علموه الانحناء
    ثم يضيف عندما تسقط منه قطرة من دمعٍ حارة , قبل أن يلمس أثر الجرح الغائر أعلى عينه اليمنى : ( أما أبني أنا , فلا تعلموه الانحناء , لا تعلموه الانحناء ) , أقول أنا ( لقد كان صادقاً , وجوازي هذا يشهد بذلك , ألا توافقني الرأي عزيزي ؟؟!!! )
    ( 29 )
    انتهى الحال بالآنسة إيليا سمحون إلى المدرسة التمريض العسكري , غادرت تحمل شهادة العذرية العسكرية في يدها , لكنها كانت – حقيقةً – عذراء , كالكثيرات من اللاتي دُربن على حفظ شرفهن , رغم الفاقة والحاجة , وقسوة الحكام وكثرت الإغراءات , المادية منها والمعنوية .
    كانت هنالك حيث عالم الحقن والموت البطيء , عالم تتغير فيه قوانين الحياد والتضامن , في ذلك الزمان لم يسن قانون الموت الرحيم , المُتعارف عليه في بعض الدول التي تؤمن بحرية الإنسان , حتى في خيار الموت البطيء , مع إن قوانينها عملياً تمنع الانتحار , أما الإجهاض فهو موضوع تثيره الكنيسة بين الفينة والأخرى , عالم التناقض والمتناقضات .
    هذا التناقض , لم يكن يعني لإيليا شيئاً , كانت تبحث عن الذات القوية بين الأشلاء والأوساخ , بين الدماء المشتتة في أجزاء العالم الحديث , الجلباب المرقع الذي ارتداه الأنصار أثناء الثورة المهدية بالسودان , جلباب عملي يلبس بالاتجاهين , لا مقدمة له أو مؤخرة , جلباب سياسي من الطراز الأول , كخطب باراك أوباما , أول حاكم أسود يقود أمريكا , يقود العالم على نحو مباشر وقوي , الوجه الجديد لتغير الواجهة السياسية للعالم الجديد , سيأتي بعده قائد جمهوري يعلن الحرب ضد إيران , بعد فوات الأوان .
    المستشفى العسكري , أرض الأطراف المقلمة , الأطراف الصناعية متناثرة كالشظايا , من لا يملك طرف صناعي تُجلب له أخرى , بطريقة ما , حسب الوضع المادي للأسرة الجندي المنحوس , أعضاء تتراوح ما بين البلاتين إلى الأطراف المصنعة في ورش الحداّدِين التقليديين , المناطق الصناعية المحلية مكتفية ذاتياً من الحدادين المهرة في هذا المجال , الحرب سوق جيد للفساد , هنالك من تخصص في صنع الأطراف الصناعية بأطراف المدن , مناطق الفقراء اليهود تعج بأشكال المصممين المحليين , جعفر نميري أرسل لهم البقية فيما بعد ( اليهود الفلاشا ) , أرسلهم للحرب ضد الآخرين لاحقاً بعد نهاية الحرب , المرتزقة الحديثة , المحاربين المأجُورين , السعر يتوّقف على عدد القتلى في الغالب , ثورة غانا من أجل الاستقلال , قادها المحاربين الغانيين الذين شاركوا الإنجليز في الحرب العالمية الثانية , التاريخ يعيد نفسه في مكان ما من العالم , المستشفى العسكري في أُمدرمان يؤدي نفس المهمة المقدسة , به سوق جيد للأطراف المبتورة , في أمدرمان إيلياءات أخريات , سوداوات البشرة , كالحات الوجوه , سمراوات الأيدي , يفسخن وجوههن بالكريمات , يبحث عن بشرة فاتحة , بأي ثمن من الأثمان .
    العالم هو نفس العالم , في أي مكان وزمان , طريقة المستقِل والمستقَل دائماً , عدد الموتى يزيد , مع تطور أسلحة الدمار الشامل , يقال أن تجارة الأعضاء المسروقة ازدهرت منذ أمد بعيد , منذ أيام عنترة بن شداد , كانوا يخصون العبيد من أجل سيدات الطبقة الحاكمة , هارون الرشيد يُذكر أنه كان يمتلك ألف من الجواري , بالإضافة إلى زُبيده زوجه , الشخصية المهمة في قصص ألف ليلة وليلة , عدد الجواري مبالغ فيه , افتراءٌ على الرجل لا مُحال فيه , كذبة تاريخية كغيرها من الأكاذيب التي روّج لها المؤرخون بأمر من صاحب المال والسلطان , يُقال أن عبد الحميد بن يحي الكاتب قطعت يداه ورجلاه قبل أن يُقتل مع مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين عام 132 هـ , أهزوجة أخرى معدلة حسب الطلب .
    إيليا لم تكن من نفس النوع الذي يحب معالجة المرضى بجرعات زائدة من الحنان , يقال أن المُمرضات يجدن معالجة المرضى في أوضاع خاصة , مستشفى القاهرة به ممرضة ظهرت عليها أعراض الحمل , لم تكن متزوجة , وفي الخرطوم عدد لا بأس به من المُمرضات اللاتي يُصفن بهذا السلوك الغريب , في أوربا إنجاب البنت بالحرام , أمر لا يغير في أصل الموضوع شيء , فهي ستكون كما هي , الخطأ متبادل من الطرفين , المسلمون يتبجحون بعدالة دينهم , وينسون هذا الجانب تعمداً ؟؟؟ , الجميع يعلم أن الفتاة لا تستطيع – فقط - أن تملأ رحمها بمداعبة الأصبع السرية , هنالك من وضع بذرته فيها , في أحكام الملاعنة قال النبي محمد ( ص ) : - ( أنظروا لو جاءت به , أكحل العينين , سابغ الأليتين , خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحاء ) فلمَ أتت به كذلك , قال : ( لولا ما مضى من كتاب لكان لي معها شأن آخر ) , ولم يُذكر شريك بن سمحاء , لقد كان خارج إطار السيرة التي حدثت , ولم يأمر الإسلام بإيذاء المرأة أو الطفل , بل أقر مَن يرمى المولود ( بابن زنا ) يُقام حد القذف على الشاتم إن لم يأت ببينة , وبالرغم من ذلك أُغتصب هذا الحق من المرأة ومولدوها ,كغيرة من الحقوق الأخرى التي تباع بين الفضيلة ولعنة السلطان , شيء مثل الفتوى التي حللت بناء الجدار الحديدي , لحصار قطاع غزة , رمز سيادة مصر على الضعفاء , كالتخلي عن النقاب في الأماكن العامة , لأسباب أمنية محضة .
    إيليا سمحون كانت من طينة أخرى , من عجينة القناعات الشخصية القوية , كانت سعيدة على كل حال , تخدم من زج بهم في الحرب المقدسة , هكذا عنوة , لم تكن من ذلك النوع المتملق , كانت بشوشة سهلة التعامل والمَعشر , كمن قيل فيهم ( أنت كالبحر يجود للقريب بالجوهر , وللبعيد بالماء والمطر ) كانت من النوع النادر في هذا العالم الذي كوّن إبراهيم عشماوي , هنا بدأت قصة سامي , من هذا المكان قبل أكثر من عقدين ونصف من الزمان , إلى هنا جُلب الأسير المدلل , كان مُهم جداً في الواقع .
    عُولج من إصابته الأولى داخل الثغرة , لقد كان أهم الأسرى الذين وقعوا في يد العدو الإسرائيلي , العديد من القنوات الإعلامية أصبحت لا تلصق صفة العدو بالعدو , عندما تتحدث عن ما يعرف بدولة إسرائيل , لكن إبراهيم عُذب مرة ثانية , أثناء التحقيق هذه المرة , التحقيق من أجل المعلومة الأرضية , فطائرة الاستطلاع الأمريكية قدمت المعلومات السماوية الكافية , ولكن القوات الأرضية تحتاج لمعلومات عن المشاة ؟ عدد الدبابات المنتشرة على الأرض ؟ نوع المدافع ومداها ؟ المضادات الأرضية ؟ عدد القوات ؟ الأسلحة الخفيفة ؟ المدرعات ؟ احتمالات النجدة التي قد تغلق الثغرة ؟ أسئلة لا حصر لها ولا عدد , ولكنها من حيث العدد العام , أقل من عدد الأسئلة التي تطرحها أجهزة أمن الأنظمة العربية , على ضيوفها طويلي اللسان , أما من حيث التحديد والدقة , فلا مقارنة بين أسئلة الطرفين .
    في هذا الموضع الحربي , الأسئلة محددة الأهداف والمضامين , بينما الأسئلة داخل أجهزة أمننا , لا هدف لها ولا أساس , غير القهر , أو الخوف من محاسبة السارق ؟ القاتل ؟ … الخ , فالأنظمة العربية شرعيتها – في الواقع – سالب صفر , الذي لا يوجد أصلاً في علم الرياضيات , بكل المقاييس المعروفة والمعمول بها عالمياً ومحلياً .
    جاك شيراك الرئيس الفرنسي , ونائبة دومنيك دوبل با , يقفون في المحاكم المدنية في قضايا فساد إداري , وسقوط طائرة شركة الطيران في شرم الشيخ , لا يعني الأمر شيء , أما أن يُسرق طريق الإنقاذ الغربي بدارفور , ولا يحاسب المسئولون عنه فهو شيء طبيعي.
    المترادفات ثابتة في كل مكان في العالم ...
    العدوى يلعقها الرضيع عندنا , مع أول قطرة لبن يمتصها من ثدي أمه , الملوث بالقذارة واللا أخلاق , ربما أزمة العالم الشرقي والثالث , هي أزمة أخلاق , أما أزمة العالم الإسلامي فهي أزمة تربية أولاً وأخيراً ؟؟!!! .
    ( 30 )
    أربع أعوام , إبراهيم يرحل في اللحظة ألف مرة ...
    تأتيه أصوات الرصاص حية كأحلام يقظة , مع أنه لم يطلق إلا الرصاص الذي أفرغه فرحةً عند العبور المشئوم ...
    العبور الذي أصبح كسراب بقيعة , يراه الظامئ , فيحسبه ماء ....
    كان إبراهيم هناك في أرض الميعاد , جاء كما الحريق داخل الأرض البكر الرطبة , لم يتخيل يوماً أنه سيصبح جزءاً مهماً لإكمال مخطط وليم إسحاق وبنيامين سليمان , كانوا هزيمة أخرى على حواف البحر الأبيض المتوسط , شرب العرق البلدي لأول مرة , ليلة الخامس من أكتوبر بعدما عاد إلى أرض الوطن الهزيل , الخمر وسيلة هرب ممتازة إلى عالم اللاوعي , كان يفقد رشده , يخيط الشارع من أقصاه إلى أقصاه , خط سيرة لولبي الاتجاه , الوجوه الخمس المحروقة , متناثرة حول السيارة بلا ترتيب , الرؤوس لم تحدد الهوية , أشلاء مبعثرة في الصحراء , أحالت لون الرمل إلى لون الغروب , كانت إشارة رمزية , فهمها إبراهيم متأخراً جداً , الألم والقهر يتجسدان أمام عينيه , الموت البطيء لكل من حمل السلاح , قُتلنا هناك بالخوف والرصاص , ونموت هنا قهراً وخذلانا .
    مؤسسة عبد الناصر العسكرية , أنتجت الأسلحة لحرب العراق , منتجها العسكري أغلق معبر رفح , ونفس المنتج يجهز للحرب ضد الجزائر , من أجل مباراة في كرة القدم , الآن أقف فاغر الفم أمام المحقق , أصبحتُ رجلاً مغضوب عليه من الحكومة المصرية , مُطارد بأمر النخبة الحاكمة لأرض الوطن , من أجل ماذا كل هذا الصراع ؟؟؟ سؤال بلا إجابة إلى الآن .
    ( 31 )
    أعوامٌ كثيرة وإبراهيم يدور حول هذه السفارة , وأنا لا أعلم , ثم يعود مكسور العين والخاطر , أمي كانت تقول له ( مشيت هناك ؟ ) لا يرد , لكنها أخبرتني متأخرة جداً , كان يُذكر - هنالك - شارون وما فعله بجسده , لقد كان محظوظاً أبي لم يرى شارون رئيساً حقيقاً , يتذلل له الجميع , عن قصد , وغير قصد , لكن أذكره أنا - هنا – ما فعله شارون فينا , وبقية الجملة ( على أيدي حاكمينا ) .
    هنا حيثما أجلس الآن , أُدون مقالاتي الأخيرة , ينتهي ميثاق الأمم المتحدة على شواطئ البحر المتوسط , أكتب لكم أعزائي , من مقابر حقوق الإنسان , العربي جلفٌ حقير , لا يستحق التقدم أو الابتكار , الديمقراطية ليست للمتخلفين في إرجاء الأرض , هذه هي الفلسفة الإعلامية , إيليا سمحون – أمي بفخر شديد - النقيض الإسرائيلي لأرض الميعاد , منذ أن قابلت إبراهيم في المستشفى العسكري هنالك , داخل أرض الانتصار الدائم على العرب , أرض لا يقال فيها غير أننا ( أصل الدنيا ) ومنتهيات الحكمة , الخطوة الأولى للهزيمة أنهم أقنعونا بأننا انتصرنا !! أمن إسرائيل في امتلاك النيل وتحيِيده في القضية !! الحقيقة التاريخية المنطقية لنهايات الصراع المحلي , سوريا يجب أن تخرج من الصراع , الأزمة السورية المصرية , حزب الله في لبنان , الموت والتشرد في لبنان , القتال حتى نهاية المطاف , لماذا قُتِل الحريري ؟ سؤال لا يحتاج إلى قدرات ذهنية عالية , طائفة الدروز بقيادة جنبلاط استجابوا للعنة القتال , من أجل السياسة وحقوق الأقليات , لعبة الكراسي المفقودة , تقاتلوا ونسوا الجلاد , المولود الجديد سعد الحريري , كوّن حكومة الائتلاف المتناقض عام 2009 م , اتفقوا على أن يتصارعوا , مظفر النواب لديه قصيدة رائعة ( قمم , قمم ) من أجل القمم , ملوك البترول , تتجول أموالهم في بنوك العالم الغربي , إسرائيل تدفع الدعم الدولي للحكومة الفلسطينية , بطريقة غير مباشرة , محمود عباس يتعارك مع حماس , عقاب على الخيار الديمقراطي , العرب لا يدفعون الدعم لحكومة عباس , كيف ينتصرون !! , وهم يأكلون فتات الجلاد , الحكام يأكلون من لحم ثديهم , فكرة أكل لحم الثدي , لم تفهمها هند بنت عتبة زوج أبي سفيان , قالت ( الحُرة لا تأكل من لحم ثديها ) , عندما بايعت النبي محمد ( ص ) , فقال ( ولا تزنين ) , استعجبت من أمره الكريم , فقالت ( أُو تزني الحرة؟ !! ) .
    الدنمارك قدمت اعتذاراً رسمياً للمسلمين , بعدما قرر المسلمين مقاطعة المنتجات الدنماركية , من القوي إذاً ؟ , الذي يملك الخام , أم الذي يملك السلاح ؟ بقايا لحم أضاحي الحجيج , لا تذهب إلى غزة , أمة لا خير فيها ولا عزة , السادات باع الجميع , الأمة والوطن , لكن – واقعياً -كسب الرجل حضارة حتشبسوت الفانية , كل عام يموت الناس في غزة , وينتفض القتيل من أجل مباراة في كرة قدم , أي نصر هذا انتهي إليه حال المسلمين , على هذا قاتل إبراهيم , إلى أن مات تحت وطأة الخمر والإدمان .
    اعتلى جمال عبد الناصر فكرة القومية العربية , من هنا توالت الهزائم , من هناك نشأت حركات التحرر التي توجد في الشرق الأوسط بوفرة , يُقال أن خبراء علم التحرر , لا يُعترف بهم عالمياً كخبراء , إلا إذا أخذوا شهادة الدكتوراه في الشرق الأوسط وصحراء البترول , الموضوع من السهولة بأن يُفهم , الأكراد في العراق , الجنوبيين في السودان , جبهة البوليساريو في المغرب الكبير , الأقباط في مصر , التحرر في كل مكان , إلا داخل الإنسان , التحرر مازال متحجر بعقائد بالية , الأخلاق والشرف ... الخ من القيم التي لا محل لها من الإعراب , داخل جملة الإتحاد الأوربي أو الأميركي , حق تقرير المصير مكفول لهؤلاء وممنوع على ايرلندا والإيتا الاسبانية , الجملة المالية تُعرب برفع السلاح فقط , القوي يفرض أخلاقه على شراذم القبيلة , قبل مترفوها , الخوف هو الدافع الأولي للحياة , إبراهيم كان يعي هذا المنطق , منذ أن حمل البندقية في معسكرات التدريب , المنتصر من يقتل ويمتلك الأرض دائماً , هنري كيسنجر صنع تاريخ لنفسه بالسلام الكرتوني في كامب ديفيد 78 .
    كان إبراهيم مضجعاً على بطنه , عندما دخلت إيليا سمحون , مغلفة بالفستان الطبي الأبيض المثير , ترتدي قميص مفتوح من أعلى , ظهر جزء من الصدر , زاهية بين أترابها بذلك الشكل , حارس الباب الإسرائيلي , دخل لحمايتها من طريح الفراش , أخرجته بأمر منها , مع إن عينيه كانت تلمع على نحو مُريب , القيمة العليا لدى العساكر بعد القتل , الجنس , باختصار الثالوث المسيحي ( السلطة , المال , الجنس ) يعني عسكري في البوليس أو الجيش , تمتم العسكري معها بكلمات غير مفهومه , ولن نترجمها , الترجمة معناها أن تخون , أزمة الرواة منتشرة في ثقافة الكتب العربية منذ أيام الخليفة المنصور في الدولة العباسية , خرج الحارس , أغلق الباب خلفه , تحدثت بالعربية مع إبراهيم , الحقنة والمطهر والشاش وبقية المستلزمات الأخرى لعلاج الجروح , أثار الحروق والجلد يداويها مطهر يُلهب الجلد بشدّة , كانت هنالك لسعةٌ أكبر داخل قلب إبراهيم , يداها ارتجفتا عند تضميد جراحه تلك , شعر بها إبراهيم , أفضل عناصر الموساد من ذوات الجنس الناعم , ( ستكون مثل غيرها ) هكذا حدد الوسواس الخناس تأويل لمساتها , منطق الأسير المغلوب على أمره , الريبة والشك تزداد يوماً بعد يوم , البدايات دائماً متعثرة مع النواعم وغيرهم , ليس من السهل منح الثقة للشخص ما تعرفت عليه حديثاً , منطق الثقافة الأوربية الحالية , الشك هو الأصل في الأشياء .
    رحلة العلاج كانت متعطشة بالحب , الشعور بالشفقة في هذه الأحوال غير محمود العواقب , في مكتب التحقيقات داخل الموساد , سُئِلت ذات الأسئلة , ما هي الوحدة العسكرية التي كان يعمل بها إبراهيم , أجابت ( لست أدري !! ) , تلعثمت عندما سألها المحقق , ( هل تحبين إبراهيم ؟ ) , لم تجب في الواقع , عيونها كانت تتكلم بصراحة واضحة , ( القرار النهائي , سيأتي على شرط الموساد !!! ؟ ) , لقد وافقت على الفكرة العميل المزدوج , من أجل إبراهيم فقط , ليس من أجل الموساد , اختصار التفاصيل في الروايات , أحد العيوب التي يعتمد عليها النقد الأدبي .
    كانت المحصلة من مكوث إبراهيم في هذه المستشفى , ثلاثة أشهر , فُرغت له إيليا , بأمر من وليم إسحاق , كانت الإسرائيلية الوحيدة التي تجيد العربية في المستشفى , لسوء حظها , الألم والتفاصيل الدقيقة , الخوف والقهر , اعتقال إبراهيم لم يكن مفيداً بالنسبة للموساد , فهو عسكري لا يفقه شيء , الظروف تصنع المستحيل دائماً , والحبكة الروائية تضع شروطاً تعسفية أحياناً .
    في الليلة السابعة من الأسبوع اليهودي , كانت إيليا تخدم ليلاً , قدمت في ميعادها الثابت , لتُنظف جرح الأسير عشماوي , الساعة كانت العاشرة مساءاً , بتوقيت تل أبيب , بعد شهران ونصف من الثغرة بالتحديد , سألها ببراءة , من المنتصر في الحرب ( قالت لا أعلم ؟ ) , مجلس الأمن طلب إيقاف إطلاق النار , ثم أضافت ( يوم 28 أكتوبر أعلنت مصر وقف إطلاق النار ) , قال هو ( ماذا حدث بالضبط ؟ , اللواء 23 مدرعات تدمر , لم يغلقوا الثغرة , كانوا قادمون خلفي ) , أجابت ( لا أعلم !! ) , تمم بسرعة ( لكن لماذا توقفت الرقابة العسكرية , لقد ذهب حارس الباب ! ) , قال ( من المنتصر في الحرب ؟ هل أنتم من انتصر في الحرب ) , قالت ( لا , لكن مصر أوقفت إطلاق النار ! ) , بكى حينها إبراهيم , خرجت إيليا بعد ذلك هرباً من الدموع , كانت تريد أن تبكي هي أيضاً , لكن لسبب آخر تماماً .
    قرأت عند الجمسي من قبل , أنه قال أن مفاوضات كيلو 101 التي أوقف منها إطلاق النار , تمت بين إسرائيل ومصر , في حين قال الشاذلي ( الجمسي ذهب ليسلم جاسوس إسرائيل يُدعى أفيدان , الشرط الإسرائيلي لإيصال الإمدادات للجيش الثالث داخل القنال ) , حيث كان الشاب نبيل فاروق محاصر هو وزملاءه , لا أدري هل الحقيقةُ تُؤخذ من نتائج الحروب , أم من مذكرات القادة , واتهاماتهم الزائفة على بعضهم البعض , والأرجح منطقياً شهادة الفريق الشاذلي .
    العلاقة بين أمي وأبي , حُددت داخل مكاتب الموساد , اللغة النوبية هي المفتاح , الانتقام الحقيقي لوليم إسحاق , المدير السابق لإيليا سمحون , مدير الحسناوات والشهوة , قال لها ذلك ( الخيار الآن بين يديك ) وأشار لمنطقة لا أستطيع ذكرها , الوقاحة والسلطة في مكان واحد ( خائنة شُهداء صهيون ) عنوان جميل على الصحف الرسمية في الصباح , بالطبع سيزيد من نسب التوزيع ذلك اليوم , ليس مهماً أن تثبت التهمة , فالفضيحة ستنسف كل الأسرة , لن تستطيع السيدة سوزان شالوم سرد قصصها المرعبة عن العرب والخيانة للأطفال الجيران , سيفقد السيد سمحون وظيفته , ثم يؤول إلى فئة المتسولين في شوارع المدينة ؟
    إيليا صاحت ( ###### ) , ابتسم كأن لم يسمع شيئاً , الخطة تسير على ما يرام , موعدنا الأسبوع القادم آنستي , الانتحار في هذه الوقت من الصراع الإسرائيلي العربي , سيخدم فكرة الخيانة العالمية لدولة إسرائيل على نحو لا يمكن تتخيلينه , والتجارب السابقة كافية لمن يريد أن يفهم , مازالت محاكم النازيين – الموتى - تسير على نحو مثير للقلق , فالأحكام المعنوية التي تصدر على جثث الموتى قليلة في المحاكم التاريخية , الأسبوع القادم قريب عزيزتي , هكذا أشار إلى نفس المكان الذي يعني الرجولة بالنسبة للعسكري البطل في هذا المجال , مدرسة الموساد , استفادت منها الحكومات الإقليمية داخلياً على نحو جيد جداً , بل ممتاز .
    البكاء هنا في هذا المكان من العالم لا يفيد كثيراً , إبراهيم يبكي على الهزيمة القاسية , الجيش الثالث محاصر خلف القنال , سينتهي كل شيء , لا بد من حل آخر لمواصلة الهجوم والانتصار النهائي على العدو , إيليا بكت لشيء آخر , كان يُدعى الشرف في ذاك العهد من أيام العذرية المطلقة , الفضيحة وضياع الأسرة الكبيرة , أبيها , أمها , جدتها , لا ذنب لهم في جمالها , الشهادة الطبية كافية لحفظ العذرية عندما يأتي صاحب النصيب على حصان أبيض ناصع , الحلم التراجيدي لفتيات قصص شهرزاد في ألف ليلة وليلة , هنا لا حصان ابيض أو أصفر , بل رجل حقيقي شحم ودم , عجوز كهل , أمتطى الكثير من العذراوات في أماكن عدة ومتفرقة من العالم الصغير داخل وحدته العسكرية , وبناءاً على قاعدة العالمية المشهورة ( كلما كنت قذراً , ارتقيت في وظيفتك ) .
    في ليلة السبت لا يعمل اليهود ,كما تقر التوراة , إيليا قضت ليلتها تلك في المستشفى , تداوي جراح المرضى , تزيل الأوساخ وتضع المطهر , ليت وليم إسحاق واحد من هذه الأوساخ , إنه سرطان يمشي على قديمين , يزيله الموت فقط , عادت إلى إبراهيم , ثمة صوت ما يجمعها به , قالت له بلا مبرر ( لو كان عندك أخت تعرضت للمساومة ما تفعل أنت بها ؟ ) لم يفهم مغزى السؤال , فصمت , تحول برأسه إلى اليمين قليلاً , الإحساس بالقهر والهزيمة يُوجب الانتحار في كثير من الأحيان , فحُرارتهما تستقر في الجوف إلى الأبد .
    تركت إبراهيم في مكانه وخرجت , الشرف أو الفضيحة , سلاحان يصعب الخيار بينهما , إلى أين الهرب ؟ لقد تمكن منها وليم إسحاق , هذه المرة لابد أنه فاعل , مما لا بد منه بد , الخيار الأفضل , استعمال الشهادة العذرية العسكرية , إما في حالة الحمل , الإجهاض متوفر سراً في المستشفيات الحكومية , إذناً ستسير الأمور على ما يرام , إنها لم تقتنع !! , الهرب أيضاً وسيلة جيدة للإقناع , الخزعبلات داهمت نومها بعد ذلك , منذ هذا الصباح , بعد أن أغلقت مكتب السيد وليم , وهي تسير على غير هدى , عادت إلى المنزل , هرباً من عيون وليم , وذكرى إشارات يده المبهمة , الواضحة لأي امرأة في هذا الوضع الاختياري الغريب , قابلتها ابتسامة السيدة سوزان شالوم , دعاها أبوها لوجبة في مطعم عربي يقع في وسط القدس المحتلة , المعادلة تعقدت أكثر , إلى أين المآل , إلى غريب يتجهّمني , أم إلى قريب ملّكته أمري .
    ( 32 )
    الموقف لا تحسد عليه أي امرأة في العالم
    خيار صعب
    وأخف الضررين تمليكه مما يريد
    الخيار المنطقي في هذه الحالة , يُعد من الحالات الاستثنائية للحفاظ على حياة الضحايا , أبي عندما يعلم , سيعتقد تدريب الجيش هو السبب , لن يحزن , الكثيرات مثلي في هذه المدينة , فقدن بكارتهن لأسباب مشابهة , والأخريات فقدن عذريتهّن لتحقيق أماني مختلفة .
    بهذا المنطق دخلت عليه المكتب بعد نهاية الدوام الرسمي للموظفين , لا خيار آخر , الرجل مريض بالتسلط والقهر , وتجردت كما طلب منها , يا ليته انتهى عند هذه النقطة بالتحديد , الدعاء لا يُستجاب عادةً , في هذه الحالات , الجملة التي قالها قبل أن يقضي وطره منها , كانت ( إيليا , لأزلنك ثانيةً , حتى لا تترفعين على رجل مثلي مدى الحياة ؟ ) .
    فهمت هذه العبارة في اليوم التالي , بالتحديد عندما استلمت خطاب مختوم بالشمع الأحمر , كان لا يتعدى سوى أنه استدعاء رسمي من مكتب مدير عام جهاز المخابرات الإسرائيلي , نهاية الأسبوع القادم في مكتبه بالقيادة العامة للقوات الإسرائيلية المسلحة .
    في هذه السانحة التاريخية المهملة , من المذكرات السوداء للقادة العظام , لم تجد إيليا ما تفعل , تسقط فاقدة الوعي , أم تنتحب حظها الأسود , وأخيراً حاولت أن تبكي , لكن الدموع جفت بطريقة ما , ولم تجد ما تفعل سوى أنها جلست على أول مقعد قابلها في صالة الممرضات بالمستشفى العسكري بتل أبيب , لكن واقعياً فقدت الوعي إلى ما لا نهاية .
    ( 33 )
    الغالبية العظمى من الرجال يكفرون بمبدأ الهزيمة , ويعترفون بذلك سراً , لا يوجد رجل يعترف بالهزيمة جهراً , ممكن أن نقول حرب النكسة 67 , أخف وطئاً من هزيمة 67 , على الأقل في الشرق الأوسط , لا يعترف الرجال بالهزيمة , أما إذا كانت الهزيمة من امرأة فهو الحقد بعينه , الانتقام المفرط , الذي لا مبرر له , الحقد أهزوجة موروثة من عالم الأنا داخل النفس البشرية , سأنتقم منها , الفتاة التي هزمت الرجولة , إن الحب لا علاقة له بالشكل أو العرق , ربما يكون له علاقة نفسية بنقطة ضعف ما , الحب نوع من الحاجة لشيء ما , يتوفر في الآخر , رجلاً كان أم امرأة , الجميلات يعشقن من يحتقرهن , والرجل يتعلق بالتي ترفضه , الموضوع في حد ذاته معقد عند تحليله بأسلوب فردي أو حيادي , الدراسات الاجتماعية في هذا المضمار أثبتت فشلها التام .
    مركب الحقد الذي يتكون عند الرجل المرفوض من امرأة , عادةً يُولِّد لديه قوة دافعة قوية للانتقام منها , منهم من يغتصبها , وآخرون يسعون وراء الفتاة إلى أن تهيم بهم , ثم يلفظونها , لكن الحقد العسكري , مثل حالة وليم إسحاق التي نتطرق لها هنا , يمكن أن نشاهده في الحركات الدكتاتورية العالمية , القديم منها والحديث , ولم يحدث منذ فجر التاريخ , أن جاء طاغوت لم يكن عسكري العقل والمنطق , بل والمنشأ والسلوك , من زمان نمرود مروراً بالإسكندر المقدوني , وقوفاً بنابليون وهتلر وجمال عبد الناصر , مروراً بكاسترو , ثم أخيراً انتهاءً بالبشير , ومبارك , والقذافي , وتتواصل السلسلة إلى نهاية هذا العالم الحالي .
    نعود لموضوعنا الأول , رد الفعل الذي تشكل لوليم إسحاق , أذكر فيما ما مضى أننا ذكرنا , أن إيليا رفضت تناول العشاء الخاص مع السيد وليم على طريقته مع المجندات في المعسكر , في ذلك اليوم كان قد أقسم على ذلها يوماً ما , وكرره يوم تركت المعسكر إلى مدرسة التمريض أيضاًَ , ولسوء حظ إيليا أن السيد المحترم كان يعاني من مرض المراهقة الثانية , وهذه المراهقة جعلته يتعلق بها دون غيرها من الفتيات , وفي نفس الوقت امتزجت هذه الخصلة بالرعونة العسكرية , الآمرة بالخنوع , أما هي لم تخنع بهذه السهولة التي كان يتخيلها , إيليا نشأت على العناد كما أسلفت , وما زاد الأمر سوءاً عندما عاشرها في المكتب بعد نهاية الدوام , إنها لم تتألم أو تصرخ أو تصنع أصوات العاهرات المشهورة , موسيقى المومس الخاصة التي تغري بها الزبون ليدفع أكثر , على العموم هذا الموقف بالتحديد رسخ في عقل السيد المحترم , واكتشف حينها أن هذا العضو الذكوري لا يعني شيء أمام هذه الفتاة القوية , فتلقائياً فكر في وسيلة انتقام أقوى من قسوة العضو على مهبل المرأة , ففي اعتقاده أن الجنس يذل المرأة في هذه الحالة , وأن هذه الآهات التي تتلفظ بها النساء , تكون بمثابة دواء ناجع لعُقدة الإذلال القصوى , مرض التسلط على الآخرين لا ينتهي في التعليم العسكري , دروس علم النفس بها من السذاجة ما يصوره مناصرو مدرسة علم النفس الفرويدوي الحديثة كما يشاءون , كالعسكري الذي نتحدث عنه , ومَن شابهه على مر التاريخ , هم كذلك لا يتغيرون في الواقع مهما تجرعوا من التثقيف والتعليم الديمقراطي , سيظلون وصمة عار في جبين الإنسانية إلى الأبد .
    خرجت الآنسة – العذراء سابقاً – إيليا سمحون من مكتبه , وتحمل في جسدها نطفة العهر الأولى , الألم لا يوصف بين فخذيها , كانت لا تستطيع أن تمشي , خرجت من المؤسسة العسكرية بصعوبة تُضاهي مشي السجناء على ألواح الزجاج المكسورة , المسافة لم تكن بذلك البعد الذي يمكن أن تتخيله , سيراً على الأقدام , يمكن أن يقطعها الرجل البالغ في عشرة دقائق , وقطعتها إيليا في نصف ساعة مشياً على الشرف , ولا ننسى أن نذكر أنها كانت مستعدة لهذا اللحظة التاريخية الحاسمة بالنسبة لها ولمجموع الراوية , كانت تلبس فستان أسود , يستر نقط الدم التي تنزل من بكارتها , ويعلن حدادها على نفسها , الشيء المؤسف في الحادثة , كم الانهيار النفسي الذي حدث في كيانها , هكذا ببساطة بعد عدة سنوات من الحفاظ على الشرف الشرقي للفتاة , ينهار بسهولة وعنف , حتى لم تتوفر لها فرصة للصراخ أو العويل , أو طلب الاستغاثة من أحد ما , لا يوجد عذر مبرر يمكن أن ترمي عليه فشلها في الخضوع لوليم إسحاق , تعليق الأرجل في الهواء للرجل بغيض , وبرغبة وضغط , مع احتقار رهيب للنفس وعموم الكيان النسائي , لا يمكن أن نصفه بهذه الكلمات المكتوبة على ورق , خاصةً وأنها أمي التي أكتب عنها الآن .
    ما أن استقرت إيليا على مقعد التاكسي , الذي استأجرته ليوصلها لمنزل أبيها , إلا وأخذت في البكاء , الدم المتجمد بين فخذيها , زاد من حرارة الأزمة الإنسانية الحالية , جروح ثلاث انضمت لتشكيل لوبي نفسي قوي جداً , وفعّال , داخل كيانها الضعيف فهذه اللحظة , البكارة المفقودة , والدم المتساقط بغزارة , والتظاهر بالقوة المصطنعة في وجه الرجل , والأمر الثالث والأهم , الهزيمة الحقيقية التي شعرت بها في أعماقها ولم تستطيع التعامل معها , شيء مثل اتفاقية كامب ديفيد بالتحديد .
    سنترك إيليا تبكي داخل سيارة التاكسي , ونعود لمكتب السيد وليم إسحاق , لنتخيل موقفه الرجل بناءاً على مواقفه اللاحقة , لإذلال إيليا سمحون أو نازك الزعتري , أمي .
    عادةً بعد أن يقذف الرجل , تسكن كل جوانبه , ويصبح الرجل كالطفل الرضيع , وديع , هادي , ساكن تماماً , متعة لا تقابلها متعة أخرى , الرجل – منا - ينسى أمه بين فخذي المرأة , حينها يخر الجبابرة ساجدين , وكم من امرأةٍ في العالم الشرقي , وافق زوجها على طلباتها بليل والناس نيام , حتى أن بعض النساء الذكيات, لا يطلبن المستحيلات إلا بعد أن يرتخي الطفل الكبير بين فخذيها , ليلاً كان ذلك أو نهاراً , حينها تستوي عنده كل الأمور , يستسلم !! , ولا يعلن رفضه الرجولي لقرارات المرأة الضعيفة , المرأة التي نحتقرها في ثقافتنا الشرقية , تكون قوية جداً آخر الليل , لا أدري كيف يحدث ذلك ؟ , فنحن نصور الحقائق لتخدم مصالحنا الشخصية , مثل نكتة الأمن القومي المصري التي تعلل بها الحكومة المصرية لبناء جدارها لعزل قطاع غزة , فيصبح حال الفلسطينيين ( الجدار يحاصرني والبحر يخنقني ) بالرغم من ذلك سأقذف حجري في وجههم جميعاً .
    واقعياً ظل ذكر الرجل منتصباً مكانه , كما تخيلت من كلام أمي , ولم يهبط كالعادة التي حدثتكم عنها , فالرجل لم يكتفي , بل اكتشف أنه ضعيف ومهزوز , سلاحه مكسور , لم يفعل شيئاً , ظلت قوية , لم تصرخ من أجل بكارتها , لم تبكي وهو بين فخذيها , لم تندب حظها وتولول , لم تتوسل له من أجل شرف عائلتها , لقد كانت قوية , اعترف بالهزيمة بينه وبين نفسه , كان واضحاً جداً في نظراته لها , لم يرسم انتصاراً كرتوني كانتصار أكتوبر , أقر بالهزيمة علناً في مكتبة , وأقسم كما قلت من قبل لذلها ثانيةً , ولكن هذه المرة إلى الأبد .
    قضى الرجل ثلاث أيام كاملة يُجهز خطته , الذلة النهائية , أُرسل لها خطاب من مكتب القائد العام , في يوم التالي , أخذ يرسم كيفية إقناع القائد بفكرة مخططه الخاص والدنيء , باسم أمن إسرائيل على المدى الطويل في المنطقة , هذه المرة , لقد فعل بيجين ذلك مع السادات وأذل الفرعون برغبته إلى الأبد , اللعب مع الرجال أسهل منه مع النساء , لا يوجد شيء على الأرض يذل المرأة أقوى من انتهاك ما بين فخذيها في الشرق الأوسط , المرأة تضعف عندنا تُذل بهذه الطريقة الحقيرة , تنهار حياتها عندما تُطلق , الرجال يفعلون ذلك في أغلب الأحيان , لكن إيليا من طينة أخرى , أنا أعلم ذلك أكثر من الجميع , يمكن أن يفعل ذلك معها مرة أخرى وثانية وثالثة إلى أن تجف خصيتيه من النبيذ , ولن تتغير , ستدخل كل مرة وتخرج , تدخل عليه تجده منتصباً , يقضي نزوته فيها , وللمفارقة تخرج منه كما دخلت قوية , شامخة , وتتركه أيضاً منتصباً كما كان , لا تنبت ببنت شفة , أو تصيح من الألم , وأيضاً لا تتأوه من اللذة , واختصاراً تدخل عليها حقيراً , ثم تخرج تاركةً إياه ذليلاً كما كان من قبل .
    ( 34 )
    نبعت الفكرة من ذلك الرأس متجمد بالعفونة , في اجتماع طارئ عقد في القيادة العامة للجيش الإسرائيلي , قبل يومين من افتتاحه مكمن أسرار أمي , إيليا سمحون , الاجتماع كان يناقش احتمالات الرد المصري على الهزيمة و الثغرة , بعد وقف إطلاق النار , لا نخفي على القراء , أن القادة الإسرائيليين كان يتربع الخوف على أفئدتهم , هزيمة السلاح الأميركي قصفت أركان البيت الأبيض , وكان السؤال الذي تناساه العرب منذ أمد طويل يدور بحواف طاولة الاجتماع ( هل سيحاربون من جديد ؟ ) سؤال مبهم تناساه العرب جميعاً .
    بيعت فلسطين بلا مقابل , لهذه الصفقة هبطت أول طائرة عربية تحمل صكوك الغفران والغاز الطبيعي , الخنوع على أرض إسرائيل , هبطوا هنالك يلعقون أقدام أعدائهم الفطريين , يتقّربون لهم , ويلحسون أرجلهم , فأخفوها , خوفاً من أن تتلوث أصابع أقدامهم بأوساخ ألسنة العرب المريضة بالدماء والسُل , فيصابون بلعنة السجود والركوع , في عالم الهزيمة والنصر .
    حينها تمكن الهلع على القادة , ربما سيحارب العرب بعد أن يسدوا الثغرة , الجيش العربي يمكن أن يعود في أي لحظة , الشفرة العربية لم تحل بعد , من سيبيع الأمة , إننا لن نستطيع التغلغل أكثر من ذلك , يمكن أن يُباد الجيش الثالث برمته , لكن سنُباد نحن إلى الأبد , أين السبيل ؟ الانسحاب ثم الهجوم , أم هو التنازل عن السيادة والقوة إلى حين , العرب أقوى منا بهذه المعطيات , لكن هم كإبلهم , لا يروون قمم سنامهم , لا يعلمون مدى قوتهم , الإسلام كان سيدفعهم كثيراً للانتصار , يجب أن تدمر ثقافتهم وعقولهم , اللغة المحلية العقبة الكبرى التي يجب أن تحل شفرتها , لابد من اللجوء للحليف الأمريكي , يجب صنع متخصصين في اللغات المحلية في كل أرجاء العالم , لابد من صنع المستحيل , العرب أقوى منا , لابد من محاصرتهم ثقافةً وفكراً وفتنةً .
    ( 35 )
    عندما يتعمق الشعور بالضعف في نفس الإنسان ....
    وعندما يتمكن الخوف والقذارة في شخص ما ...
    لابد أن يتحول إلى آلة انتقامية دافعة , بكل السبل والطرق ....
    لا يهم أين وكيف ومتى ؟؟ , لابد من ذلك ...
    بقايا الاجتماع السري للقادة العظماء في إسرائيل , وأجندة النقاش المبتورة مدونة في الوثائق السرية للاجتماع , عَلقت بذاكرة الرجل كل السرطان , هزيمة إيليا تؤرق منامه كل حين , أين المصير والخروج , كيفية الحل المشترك لكل المشاكل الراهنة !!
    هذه الأسئلة والهواجس ذهبت مع وليم إسحاق عندما زار المستشفى من أجل إيليا سمحون منتصف نفس الأسبوع , كانت عند إبراهيم , الأسير المصري القابع في أركان سجون المستشفى , هذا الاسم كان لا يعني شيئاً بالنسبة لوليم إسحاق , سأل عنها ممرضة في الاستقبال قالت ( هي مع الأسير المصري ) , قال : ( الأسير الأسود !! ) , أجابت ( أي نعم سيدي !! ) , الرجل الذي عقد له اجتماع خاص من قبل , عاد هكذا فجأة إلى الذاكرة , أسير أريل شارون , الرجل الذي رفض حل الشفرة الخطابية للمراسلات المصرية أثناء الثغرة , الأسير المدلل , أنه هو ؟ بلا شك !!!
    عادت إيليا إلى مكتبها لتجده في المكان المحدد , جالس في صالة الممرضات , لاحظت الارتفاع – غير المنطقي - أسفل منطقة الحزام عندما نهض , دخل إلى مكتب المدير , تبعته , لم تتحدث , أخرج المدير من المكتبة , السلطة العسكرية تلعب دورها بقوة في هذه المواقف القذرة من تاريخ العالم , قال للمدير ( يجب استجواب الفتاة على انفراد , الأمر يتعلق بوجود أمتنا على الأرض !!! ) خرج المدير من المكتب , أغلق الجناح والباب , كانت آلية الملامح , لم تتحرك شفتيها أو تحاول أن تفتح فمها , قالت سراً ( تباً لإسرائيل !! ) عادت لذهنها صورة عفراء محمود وأستاذ الفيزياء في المدرسة , الفتاة العربية العاهرة , قتلت بسبب شرفها , السيدة سوزان شالوم تلت عنها حكايات مختلفة , بروايات وأسانيد مختلفة , يرفضها علماء الحديث بثقة تامة , لكنها تذكرت كلماتها عن مدرس الفيزياء في تلك لحظة , فقد كانت – أعني إيليا – في هذه اللحظة مزدوجة الأحاسيس , الذاكرة تعمل بتراجع زمني ثابت , واليد تعمل أيضاً في اتجاه حركة الجاذبية الأرضية , حينها شقت كلمات جدتها السيدة سوزان شالوم عقلها الواعي , كانت أصابعه تخلع ما تبقى من ملابس داخلية على جسدها الضعيف , بدأ يقبلها بنهم وشره , في كل مكان لم تتحرك , كانت كتمثال الحرية بمدخل واشنطن , تمثال بلا معنى في مكان بلا مبدأ , تمددت على كنبة الجلوس الطويلة ثم فتحت فخذيها الصفراويين , كان يعلم طريقة جيداً , طائرة التجسس الأمريكية – أيضا – كانت تعلم طريقها جيداً ,كانت تطير على مدى ثلاثين كيلومتر , المدافع المصرية كان مداها عشرين كيلومتر , التف شارون حول القنال في ليلة 15 و 16 من أكتوبر , وفي الليل 22 أكتوبر أُعلن وقف إطلاق النار على إسرائيل إلى الأبد , لكن بشرط أن تُطلق النار على بقية العرب , ووليم أطلق ناره في مهبل إيليا , قد تختلف أماكن الإصابة والهدف , وربما زمان الإصابة أيضاً , وفي الحالتين هنالك نار قذفت في اتجاهين مختلفين , عيار هزم أمة كاملة , أما الآخر فعاد خائباً مهزوماً , نهضت من مكانها ذلك , بنفس درجة الآلية السابقة , ارتدت ملابسها كما كانت , هذه المرة لن يتلوث لابسها الأبيض , لا يوجد سبب يلوث بياض الملابس الطبية , البكارة ثُقبت في مكتبه , بالقيادة العامة للجيش الإسرائيلي , عادت ربط ملابسها بسرعة هذه المرة , اتخذت ذات الطريق الذي أتت منه , أقسم أمامها بذات العبارات , توقفت لحظة , ريثما يرتدي البذلة العسكرية الفخمة التي يتحلى بها جسده المقزز , خرجت منه تاركة منطقة أسفل الحزام تحتفظ بنفس الارتفاع الذي دخل به للمستشفى , أغلقت الباب خلفها بهدوء ثم رددت كلمات جدتها الحكيمة : ( الرجل اليهودي لا يلوث شرف الفتيات العفيفات )
    تحركت شفتيها بعد أكثر من نصف ساعة من الألم , وفتحت فمها إلى آخره , عندها أطلقت ضحكات هسترية ملأت فراغ البهو الضيق بالمستشفى , بصوت غريب , اتخذ لحناً وسطياً بين الألم والاستهزاء , كما كانت تقصّ لي أمي , وبفخر , لا مثيل له من قبل , لقد فعلت هي ما لم يفعله أكثر من 80 مليون شخص , يصفقون لمعاهدات السلام في العام , ألف مرة .
    ( 36 )
    حتى نفهم فحوى القسم الذي أدلى به وليم إسحاق أمام هزيمته الكبرى , لابد أن نتطفل على مكتب القائد العام للموساد , حدثتكم من قبل عن الخطاب المشمع الذي يحمل بطاقة الاستدعاء للآنسة إيليا سمحون .
    ففي التاريخ المحدد جاءت سيارة خاصة للمستشفى العسكري لنقل الآنسة إلى مكتب القائد العام , في الواقع كانت الآنسة في ارتباك شديد , لا تعلم ما حدث , وهذه الوحدة بالتحديد تُرعب قادة العالم الأول قبل أي عالم آخر , قضية الجوازات البريطانية المزورة التي استعملت لقتل المبحوح في الأمارات ,كافية لإثبات ذلك عالمياً .
    هنالك إشاعة تدور في أورقة الشارع العام , تقول أن سيادة العالم وخططه تُوضع في مجموعة هذه المكاتب , سرية التصرف والوثائق , حتى الرئيس الإسرائيلي نفسه , لا يدخل إليها إلا بتصريح خاص , يُقال أن الدستور الإسرائيلي كفل لهؤلاء السادة حق الحصانة القضائية المطلقة في كل شيء , تحت الاسم المسلّط على الجميع , حماية السامية , والدولة الإسرائيلية , باختصار المكان يُرعب القوي والضعيف , عندما يأتي ذكره عرضاً في حديث ما في أي مكان من العالم .
    الرجل – القائد العام – كان يجلس في هدوء تام , أنه ذات الشخصية الغامضة التي شاهدتها كثيراً في التلفاز , رجل تخافه من قبل أن تراه أمامك , كان حقيقة ماثلة أمامها , شحماً ودماً , لم يخطر ببال الآنسة أي شيء سوى الخوف الرهيب , أسئلة متواترة منذ الليلة السابقة , ما حدث ؟ ولماذا أنا ؟ وما هو السبب ؟ من يدخل هنالك لا يخرج كما دخل ؟ لماذا ؟ وكيف ؟ وإن ؟ ... الخ .
    عندما سمح لها الحارس بالدخول , أرادت أن تهرب , ثم تلت مجموعة أماني الاستسلام والخوف , التمني والترجي هنا لا يضر ولا ينفع , تقدمت خطوة وتراجعت داخلياً سبع , قال لها الحارس ( القائد في انتظارك ! ) هي تذكر تلك الجملة فقط , قالت لي ( لا أتذكر بعد المسافة بين الباب والمكتب , وجدتني فجأة جالسة , مع إنني كنت أمشي على أقدامي هذه ) , غاب عن ذاكرتها بقية التفاصيل التي حدثت , فقط تتذكر أنها وجدت نفسها فجأة على مقعد قبالة الرجل , الذي بدأ يتحدث بصوت رخيم , خافض , واثق من نفسه أكثر مما يجب , فقال :-
    ( الآنسة إيليا سمحون , ابنة السيد بُرهان سمحون , الفتاة التي تعمل في المستشفى العسكري بتل أبيب , المشرف المباشر على علاج الأسير المدلل إبراهيم عشماوي , تربطها علاقة جنسية بالسيد وليم إسحاق , علاقاتها محدودة جداً ) , ثم أضاف ( أعتقد أن هذا يكفي آنستي الجميلة إيليا سمحون ) .
    في الواقع هذا الكم من المعلومات يعني أنها جزء مهم , من هذا القسم المرعب في الدولة المريبة , القائمة عنوةً كجزء من الخرائط الجغرافية لعالم اليوم , في الواقع ألجمت لسانها هيبة الرجل , خاصةً المعلومة الأخيرة المتعلقة بالسيد وليم , لم تكن تعلم أن أحداً يعلم بها في هذا العالم , بسبب الموقع الحساس الذي يعتليه السيد وليم , ولسبب آخر أن الممارسة معه لم تتعدى أكثر من مرتين في مكان خاص وعام في آن واحد , مرة في مكتبه هنا , وأخرى في مكتب مدير عام المستشفى العسكري , الموضوع حائر ومعقد جداً , إلا أن الرجل أختصر عليها مسافة التفكير والاندهاش وقال :-
    ( آنستي , أنت هنا من أجل مهمة وطنية خاصة جداً , ولا تحتاج لعناء , هنا في هذا المكان يوجد باب يمكن أن تخرجي منه , وآخر لن تخرجي منه إلى الأبد , والأمر ببساطة أكثر يتعلق بالأسير المدلل , هو الاسم الحركي الذي كنا نتعامل به مع إبراهيم عشماوي , فنحن نحتاج هذا الرجل في إسرائيل , ولسبب إستراتيجي على المدى الطويل , التفاصيل لا تهمك كثيراً , المهم لديك تكليف ستقومين به أنت لا غيرك , أعتقد أننا لن نحتاج للغة التهديد أو القهر , فأنت تعلمين ما هي الموساد على مستوى العالم ) .
    الخطبة التي تلاها إمام الموساد , لم تكن بذات الطويل الممل الذي يتحدث به زعمانا في خطابتهم السخيفة , التي يلقوها قسراً على آذننا , وبلا رغبتنا من الأصل , بل كان على العكس محدد الهدف والمضمون والمعنى والإطار أيضاً , فقالت الآنسة ببلاهة واضحة ( ما هو المطلوب مني ؟ )
    أجاب عدونا على نحو مباشر بلا مقدمات ( آنستي من أجل أن يظل الأسير المدلل داخل إسرائيل , لا بد أن ينسى أرضه ووطنه , حتى يخدم مصالحنا , وهذا المهمة أبسط ما يكون , فالعرب عادةً يبيعون أوطانهم بحفنة من المال في الظروف العادية , أما في الحالات المستعصية فهو الجنس أو الفضيحة , وفي كل الأحوال لا نتعب معهم كثيراً للوصول لهذا الهدف , أما هذا الرجل فنحن نحتاجه للأمن القومي لإسرائيل , للحفاظ على مستقبل بلدنا الناشئ الآن , والسبب الأساسي الذي يجعل إبراهيم يبقى هنا , وينفذ المطلوب منه من غير أن يعلم , هو طريق واحد لا يوجد غيره , وحتى لا أطيل عليك , هو قلب الرجل !! )
    أحياناً كثيرة هنالك أمور يمكن أن نتخيلها ويطلب منا تنفيذها شئنا أم أبينا , أساليب عدة ومحددة تلجأ لها المخابرات في كل أرجاء العالم , المال , الرشوة , الجريمة , الفضيحة , لكن فكرة الكادر العاطفي هذه لا تحدث كثيراً , إلا مع العاهرات المتمرسات بهذا المجال العالمي , إما هنا فهذه الآنسة لا علاقة لها بهذا النوع البشر , وبالرغم من ذلك ستبيع الجسد والقلب معاً هذه المرة , إنه القسم الأول الذي أطلقه وليم إسحاق في أول ليلة له في حياتها , تحديداً .
    في تلك اللحظة ومضت عيناها خوفاً ورغبة , لم تجد ما تقول أو تعمل , هل تهرب , تصيح , ترفض , لا خيار الموقف تراجيدي سخيف , ومع قوةٍ لم يستطع جبابرة العالم الحديث كسرها , فكيف لآنسة مكسورة من أصل النشأة , مجروحة من أساس التكوين البيولوجي والنفسي .
    بعد صمت طويل , كان رد فعل على الصدمة الراهنة , قالت الآنسة بصوت ضعيف مستسلم هذه المرة , سألت به القائد أيضاً , كان صوتها يبحث عن وليم إسحاق ولم تجده في كل مكان , رغم المجهود الجسدي العاتي الذي قامت لاستيعاب الصدمة الحاضرة الآن , وأخيراً قالت للقائد العام ( لماذا أنا ؟ ) .
    أجاب هذه المرة بصراحة أوضح ( لم يجد السيد وليم إسحاق , صاحب الفكرة بين كل العميلات اللاتي هنا من هي أصلح منك لهذه المهمة , يا أيتها الآنسة سيكون لديك تدريب خاص لمدة أسبوعين على هذا النوع من المهمات في دورة خاصة وسريعة , لن تمارسي أي نوع من أنواع الاتصال الجنسي المباشر , هذه واحدة , ولن يتعرض لك السيد وليم من جديد هذه هي الثانية , ولن يحدث لك ما تكرهين , كل الذي نحتاج له اللغة التي يتكلمها إبراهيم عشماوي , غداً صباحاً ستبدئين التدريب على العملية الجديدة التي ستقومين بها , لا عواطف هنا أو مشاعر , أنت تعلمين ما سيحدث لك إن حاولت الهرب أو اللعب بالذيل كما يقول العرب ) .
    ثم واصل : ( بعد غداً ستذهبين للجامعة العبرية بتل أبيب لاستلام بطاقة الطلبة في قسم اللغات الشرقية الجديد بالجامعة , القسم أُنشأ ضمن قسم اللغة العربية في الجامعة , حتى يكون الموضوع عادي وطبيعي , هنالك قسم للغة النوبية والكردية والأمازيقية وللهجات الأفريقية سيفتتح بعد شهران من الآن , هذا القسم بالتحديد من المفترض أن يعمل فيه إبراهيم عشماوي , نحتاج لتأهيل كوادر إسرائيلية لهذا الغرض , لا يوجد شيء في العالم أهم من أمن إسرائيل , مفهوم !!! ) .
    في الحقيقة هذا الأمر كان أكثر دهشة من الطلب الأول , من أجل أن يعمل إبراهيم في الجامعة العبرية , لابد من وجود كادر عاطفي , مثلي , يضحي بجسده وعواطفه من أجل إسرائيل , قالت ( أليس هذا الأمر يدعو للدهشة والقرابة ؟!! ) قال :-
    ( آنستي عادة لا نقول الكثير للعميل عن طبيعة المهمة التي يقوم بها , باختصار شديد سأقول لك لماذا ؟ , لأنني لدي ميعاد مع مدير الجامعة العبرية بعد نصف ساعة ولا أمتلك الوقت الكافي لشرح تفاصيل , المهم أن الشفرة التي استعملها العرب في حرب أكتوبر , كانت هذه اللغة , ولا يوجد في إسرائيل أي رجل أو امرأة تتحدثها , ونحن لا نأمن مُكر العرب ولا نؤمن بالسلام معهم , ففي أي لحظة يمكن أن تنشب الحرب معهم , وسيتعلمون اللغات المحلية التي نجهلها تماماً , لذلك لا بد من دراسة كل اللغات المحلية التي يستعملونها حتى نتعلم من أخطائنا في الحرب القادمة معهم , ومن ناحية ثانية نحتاج لترجمة كل الرسائل الموجهة التي أجريت أثناء الحرب عند العبور وبعده , ونحمد إلهنا ( يهوا ) الذي وفر لنا أصدقائنا الطيبون , الذين دلونا على الثغرة التي هزمناهم بها , ولولا هذا الانتصار لكانت إسرائيل اليوم واحدة من قصص التحرر من الاستعمار أو إحدى الحضارات الفانية في التاريخ الحديث , إلى هنا انتهى اللقاء , وسنتقابل بعد شهرين هنا , أمامك شهر واحد فقط , أتمنى أن اسمع فيه بزفافك من السيد إبراهيم عشماوي , ألف مبروك مقدماً , وداعاً آنستي الصغيرة إيليا سمحون , أو نازك الزعتري , لك حق الخيار للاسم العربي فيما بعد , وداعاً عزيزتي ) .
    تحركت يده بصورة آلية أسفل المنضدة , سُمع على إثرها صوت الجرس على الباب , دخل العسكري الآلي للغرفة مباشرةً , وقال الجملة التالية ( تفضلي آنستي سائق التاكسي في انتظارك ) .
    ( 37 )
    الحقيقة الوحيدة في التاريخ الشرق الأوسط الحديث , أن الخط السياسي للمنطقة تحدد بعد هزيمة العرب للمرة الرابعة أمام إسرائيل , لكن لا نستطيع أن نجزم أن انتشار حركات الانفصال في المنطقة نتيجة هذه الحرب الاستثنائية , عموماً منذ ذلك الحين ومجمل المنطقة يلهث خلف الشتات , ربما لأيدي إسرائيل دخل في الموضوع , أو ربما لأسباب أخرى أعمق , كحقد تاريخي متأصل في الأصل البشري للشعوب , أو بسبب بقايا ثقافة قريش المنتشرة بين ذرات العقول المتحجرة على الماضي التليد , هذا أمر آخر لا يهم مناقشته في هذا الإطار .
    نعود للسيد إبراهيم عشماوي , أو الأسير المدلل كما يطلق عليه في الجلسات السرية للقيادات الإسرائيلية , الرجل طريح الفراش يعاني من الأمرين , الهزيمة والأسر , نبيل فاروق أكد لي ذلك أيضاً , لكن كان إبراهيم يعلم يقين العلم الاعتناء به بسبب راعية إسرائيل للعدالة الإنسانية , أو بسبب تمسكها بحقوق الإنسان في العالم , هنالك أمر خفي تسعى له إسرائيل , هذا السؤال مرّ عليه من قبل عندما انهالت ضربات كعب البندقية على رأسه ليترجم المراسلات المسروقة تجسساً , رفض , كانت ركلة واحدة ثم وجد نفسه تحت راعية الآنسة إيليا سمحون فيما بعد .
    بالطبع السادة القراء متشوقين لمعرفة نوعية العلوم العاطفية التي تلقتها الآنسة إيليا سمحون , تأهيل الكادر العاطفي أمر يتشوق لمعرفته الكثير من رجال الشرق الأوسط , وبقية الرجال في العالم الذكوري على ما أظن , خاصة عندما تكون الآنسة مثيرة ومشهورة , مارلين مورو لم تكن بذلك العمق الجمالي , لكن كانت مثيره على حسب تصوير وسائل الإعلام , ولو حسبنا معدل الجفاف والشُح الأنثوي في ذلك الوقت من زمان , سنجد ألف عُذر للشفقة على أولئك المَحرومين من الرجال , أما نحن في زماننا هذا توفر لنا فيض أنثوي مما لا نستطيع أن حصره , يكفي أن ترفع أي حجر على قارعة الطريق , ستخرج منه فتاة تطالب بحقوق المرأة في العالم , المهم أننا سنرى نتائج التأهيل العاطفي الذي تلقته الآنسة إيليا على الأسير المدلل فيما بعد , وهي كانت لا تملك خيار آخر غير القيام بهذه المهمة , ونقول بوضوح أكثر , أن نُظُم السياسة السوداء تتعامل بقذارة مؤسسة علمياً , قائمة على منهج قوي وفعّال , للأهداف في مجملها ######ة .
    ( 38 )
    الساعة الثالثة بعد الظهر في المستشفى العسكري بتل أبيب عندما طرقت الآنسة المبجلة باب الأسير المدلل , من العادة كانت تطرق الباب ثم تدخل , لكن هذه المرة انتظرت قليلاً حتى سمعت صوته يسمح لها بالدخول , سنقدم بعض الوصف التفصيلي لهيئة الفتاة الجديدة ( كانت تلبس قميص التمريض الطويل , وتحته مباشرةً , بلوزة حمراء مقفولة إلى العنق عليها تطريز سماوي اللون , تبرز الصدر على هيئة دائرية مستديرة كاملة , قلما توجد في أشكال الرسم الهندسي في المقررات الحكومية , أما الإسكرت الذي كان يستر نصفها الأسفل , اختير له لون بين الأصفر الفاتح والأبيض , يفصل بينه وبين البلوزة , حزام أسود عريض , غُلفت حوافه بجلد أبيض ناصع , يتناسب مع الماكياج الخفيف الذي وضعته على وجهها , أما تسريحة الشعر كونت مع وجهها لوحة كلاسيكية ,كاملة التفاصيل والإحساس , لكن المؤثر الحقيقي الذي جعل أوصال إبراهيم تتشتت في أطراف الغرفة , وأبرز حلقات عيونه دائرية كاملة , ذلك العطر الذي أنتشر في الغرفة بمجرد أنها حركت بابها , لتلج إليها , تمشي على استحياء , يئن حذائها من الشهوة والحنين , وحتى أن الباب تحرك من تلقاء نفسه لها , فهو مذكر آخر مصاب بعدوى الذكورة على طريقته الخاصة ) .
    مع تضميدها للجرح كانت تتلو بعض الكلمات التي اتخذت طريق ملتوي للعضلة المأساة في الصدر , كانت تخفق بإيقاع متسارع بعض الشيء , لم تغير لهجت حديثها أو تُلحن في القول , بل ظلت على طبيعتها , الدرس العاطفي الثاني للإيقاع بالفريسة يقول الآتي ( تحريك غريزة الرجل , وتجاهله في آن واحد ) وعند ترجمة هذه المقولة إلى لغة الشارع فهي تعني ( إثارة الشوق والوجد ) , مع أسير وحيد , تنخر المآسي ذاكرته , تحاصره الأحزان في أحلامه , فيهب مذعوراً من النوم .
    حركت فيه أمي هذه المشاعر المسكوبة على وتر العشق , الحنين إلى صدر يضمه في هذا الزخم المتواصل , كان يكتم كل ذلك منذ أمد بعيد , منذ أن خرج من رحم أمه , عندما عُلم أن الرجل هو الرجل , أي القوي دائماً الذي لا يبكي أبداً.
    وحسب دراسة الجدوى التي وضعها مركز الدراسات والعمليات في قسم الموساد , أن الضحية يحتاج إلى أسبوع من الإثارة , وأسبوعين من الوصل الكلامي , وأسبوع آخر من الحرمان , وفي الأسبوع الأخير قبلة واحدة , ثم حرمان ثلاث أيام , وفي نهاية الشهر لا يستطيع التماسك أمام الإغراء , والنقطة المهمة التي لعبت الدور الحاسم في القضاء على الفريسة , كانت أداء صلاة الظهر الإسلامية داخل غرفة المريض المسلم , وإدعاء إخفاء الإسلام , السيناريو عُد بمهارة فائقة .
    لكن الذي حدث أن إبراهيم اختصر المسافة إلى أسبوعين ونصف , فالعامل الذي حسم الأمر كان هو باختصار شديد , صلاة الظهر التي أدتها إيليا سمحون بخشوع لا يتوفر كثيراً في أرجاء العالم الإسلامي , وبما أن صوت المرأة عورة , إذن فهو لم يستمع لنوعية القرآن المتلو أثناء الصلاة التمثلية التي أدتها الآنسة سمحون بمهارة فائقة , وكانت النتيجة أن الآنسة أصبحت الطفلة المدللة التي عوضت إبراهيم شظف العيش وذل الأسر .
    بقية التفاصيل أعدت بدقة أفضل وأسهل , فالأب بُرهان سمحون كان على علم تام , بالمهمة الوطنية العظمى التي كانت تقوم بها ابنته , فلم يمانع في ارتباطها بهذا الأسير المدلل فيما بعد , فقدسية المهمة كانت كافية لأن تقنعه بقيمة التضحية التي تقوم بها ابنته بالارتباط بهذا العبد العربي الجلف , كله في سبيل ارض الميعاد الكبرى لبني صهيون خلاص الفكرة الفلسفية المزعومة .
    لكن الشيء الذي لم يعلمه الأب , ولم يخطر ببال الموساد , أو أي شخص آخر , غير أبي إبراهيم , أن الآنسة إيليا سمحون كانت متعلقة به من الأساس , فلو استعرضنا السلوك النفسي للآنسة , اكتشفنا أن هذا النوع من الفتيات يرتبطن عادة بالذي يناقض القهر ويعاديه , وإبراهيم كان يملأ هذا النزعة بأحسن ما يكون , لذا أصبحت هي أسيرة له بقلبها المفطور على العناد , فالمهمة في حد ذاتها وضعتها في موقف محير من حيث الأيدلوجية العامة لتضحية في سبيل ما يعرف بدولة إسرائيل , وبدأ صراع آخر من الجانبين , من جانب أنها عميلة للموساد تؤدي مهمة وطنية من الدرجة الأولى - مجبورة عليها بالطبع - , ومن جانب آخر تكره الفتاة الغطرسة وظلم الآخرين منذ أن كانت في الثالثة عشر من العمر .
    على العموم المسألة تعقدت , بشكل لا يمكن وصفة بدقة , ودار صراع هائل بين القلب والاستمرار في المهمة , مهما كانت النتيجة , من ضوء المعطيات التي أمامنا نسمح لأنفسنا باختصار مساحة زمنية رهيبة , قد لا نحتاج أن نلوكها بين طيات هذا الكتاب , وسنعتمد في ذلك على خيال القراء الخصب حتى تكتمل لهم تفاصيل الحكاية كاملة , وعليه أُعلن في خطاب رسمي أُلقي في الكنيست المقابل للقيادة العامة في الجيش الإسرائيلي بالقدس عن زواج المدعو إبراهيم عشماوي , والعذراء صاحبت الجلالة الوطنية الآنسة إيليا سمحون , بعد ثلاث أسابيع من بدأ المهمة الوطنية الكبرى , ففي ذلك اليوم أحس وليم إسحاق أنه أخيراً أنتصر عليها , وأن مسلسله الانتقامي تبقت منه الحلقة الأخيرة , التي سأخبركم عنها في حينها , بل كان جالساً يتبسم أثناء مراسيم الاحتفال بالزواج الميمون , قدم لها زهرة حمراء كناية عن بر قسمه الوحيد في حياته المريبة والشاذة .
    ( 39 )
    بالنسبة لي , أنا سامي عشماوي كل هذه الاعترافات التي أدليتُ بها , قُصت علي , فأنا كأي مولود آخر في العالم , مبتور الماضي والتاريخ , بحيث أتلقى المعلومات من أفواه الرواة , مرةً بالزيادة وأخرى بالنقصان حالات كثيرة , عندما تُسمع الرواية من عدة أطراف , يستطيع المتلقي الوصول إلى بعضٍ من الحقيقة , ولو كانت أمي شخصياًً هي الراوي , لكن هنا لن أستطيع الوصول للحقيقة مهما فعلت , خاصةً وأن السيدة نازك الزعتري – وهي إيليا سمحون – عاشت كأم لي شخصياً بالمقطم , أي مبتورة الجذور , وأجبرتها الظروف على تبني الهوية الفلسطينية , حقيقة كان هذا الأمر برغبتها في المقام الأول , لكن بقية الشروط المتعلقة بي وأبي وأخوتي الثلاث ( تامر وحازم وعبير ) أجبرت أمي على بتر ماضيها برمته , لنعيش بسلام أكثر من أقباط مصر في أجزاء متفرقة منها , شيء مثل العبيد الأمريكيين , مسروقة الماضي والأصل , فالحقائق عندنا في هذه البقعة من العالم تأخذ طرق ملتوية للتعبير عنها , ولا يوجد مؤرخ واحد يمكن أن نثق فيه إذا استثنينا البعض , وهؤلاء ماتوا تحت سياط الجلاد , ولم يتركوا أثراً واحد مكتوب , ولو بخطٍ رديء .
    آلية النزاع حول السلطة , تجعل الرجل متقلب ما بين الأبيض والأسود , لقد كان تشرشل الإنجليزي , صاحب القدح المعلى في الحرب العالمية الثانية , كثير التقلب بين حزبي المحافظين والعمال الإنجليزيين , تارة مع هذا , وأخرى مع ذاك , لكن المفارقة الحقيقية أن فرنسا , تحتفل كل عام بالنصر في الحرب العالمية الثانية , مع إن اللذين حرروها كانوا أمريكان وانجليز , فالتاريخ يكتبه ويحلله منتصر دائماً , ليس من الحكمة الخوض في هذه الأمور بأي حال من الأحوال .
    ربما تتوقعون أن يحدث صراع بيني أنا المصري وبيني أنا اللحظي الجديد , حول أحقية الأدوار والإخراج , عموماً لا مجال للإفتاء أو المناقشة سنستمر في المشوار , إلى النهاية , بعد خروج السيد نبيل فاروق من المعتقل انضم لما عرف تاريخياً بحركة كفاية , أخذ يتصرف على نحو جهوري , ديمقراطي , أي المطالبة بالحرية والديمقراطية , وحرية الرأي والرأي الآخر , ... الخ من التفاصيل التي لا أساس لها بالواقع , وليس معنى كلامي هذا أنني - الراوي – ضد الديمقراطية , فقط هذه القضية ترتبط في الأول الأخير بالذي له مقدرة على خداع أكبر عدد من الرعاع , وهم حقيقة كذلك , رعاع جملةً وتفصيلاً .
    فالناس لا يصوتون للذي يقتل ويدمر ويخرق القانون !! , بل يُفتنون بالذي يملأ فراغات الإعلام , حتى عند أصحابها – الغربيين – لا تتعدى الديمقراطية سوى أن الفتاة تتعرى كما يحلو لها , وأن يتبادل العُشاق القبل على قارعة الطريق , وأن تسير مظاهرات احتجاج هنا وهناك , ولكن في كل الأحوال ستنفذ القرارات التي وضعت !! , وتطاع القوانين إلى حين إشعار آخر , أو انتظار الرئيس الناتج عن الدورة القادمة , وما فعلته سويسرا بالنسبة للمسلمين , لا علاقة له بالديمقراطية التي نقرأ عنها في مبادئ حقوق الإنسان من قريب أو بعيد , في الواقع هذا فلسفة وتنظير لا يقدم أو يؤخر كثيراً , فالقرارات يتخذها أمثال ( جورج بوش , وساركوزي , وحسني مبارك , وعمر البشير ) والقائمة تتوالى بتصاعد مستمر في الاتجاه الموجب , أي متصاعدة إلى الأمام ولن تتوقف أو تنتقص إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
    السادة الصحفيون , مناضلو الكلمة كما يقولون , اللذين لا يقدمون أو ينقصون مثقال حبة من خردل في أي مكان في العالم , هم كفورة اللبن , تارة تسمع لها ضجيج لا يوصف , وأحياناً كثيرة لا تقوم لهم قائمة , وحسنين هيكل أصبح ( تجربة حياة ) , كله هراء لا معنى له , يطبلون للمنتصر , أو يقفون ضد المهزوم , شيء كأشعار أبو الطيب المتنبئ , هذه الحقيقة آمنت بها الآن , وجوازي هذا علامة إيماني الكامل , بنتائج دين ما بعد كامب ديفيد .
    انضمام نبيل فاروق لحركة كفاية كان خياراً حاسماً , بالنسبة له هو , بينما جلب لي أنا – عملياً - متاعب شخصية جمة , أهم نتائجها أصبحت أنا من أقوياء الهُناك , فقد أجّج صراع طويل بين الذات والشرعية النفسية , لم يكن هو مرحلة تمهيدية للتحول إلي موقع أقوى , أو حركة أفضل من الناحية الأيدلوجية والشعبية , في هبة النيل هنالك انتهازيو السلطة , هؤلاء يصفقون بأيديهم للحزب الحاكم بقوة في كل الأحوال , وآخرون في الجانب المناقض للحكومة , هؤلاء لا حول لهم ولا قوة , أما بقية الرعاع والضعفاء , يرقصون لمن يأتي بسيارة فاخرة , ويهتفون مع الذي يصيح في الشوارع العريضة , وصاحبنا بين هذا وذاك , فالاحتمالات متعددة والخيارات أكثر , لا يوجد حل وسطِي , لابد من الانضمام إلى مجموعة تبكي لأجلها , عندما يُصفع على وجهه , عندما يصرخ في وجه القيصر .
    بعيداً عن العمق الروائي لقصتي سامي إبراهيم عشماوي , نجد أن المنطق السياسي في أرض النيل , يجعل شخص مثلي متنازع بين الحزب الشيوعي المصري , وحزب الأخوان المسلمين , أو محاولة الانتماء إلى أحد الأحزاب الميتافيزيقية ( كالحزب الناصري , والبعث العربي الاشتراكي , ... الخ ) أما في حالة إدمان الفشل فهو الانضمام إلى إحدى طوائف عبدت الآلهة البشرية المنتشرة هنا وهناك , ومن ثَم أتحول إلى جبة مرقعة , ومسبحة طويلة , ثم أركع وأقبل أيدي شيوخ الصوفية , رجالاً كانوا , أو نساءً , فحينها سأطلِّق الدنيا بما فيها , ثم أدور في حلقات الليل بين الطبل والإيقاع الساخن , فأقع فاقد الوعي داخل الحضرة النبوية , وربما أصل إلى حالة اتحاد تام بالإله مباشرةً , في ذلك العالم الصوفي كل الاحتمالات واردة ومتحققة , هو خيال ######ف لا علاقة له بالدين أو العقل بأي حال من الأحوال .
    ففي الحالة النفسية التي أشرحها الآن , كنت في مرحلة البحث عن خياري المنطقي , ربما كان سيشابه في تفاصيله خيار سيد قطب من قبل , أبان حكم الفرعون الأكبر جمال عبد الناصر , تحول سيد قطب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين , فقط يكمن الفرق الأكبر في أن سيد قطب من الشيوعية إلى الإسلامية العنيفة , وأنا تحولتُ من حكومة الابن والأب إلى المعارض الأقوى , المعارض الرافض للجميع , المعارض المستقل , كان هو الأقوى على ساحة المعارضة , وعموم الصراع , المعارض الذي يرفع شعار التجديد بطريقة ما , كغيرة من اللاهثين خلف غبار السلطة والمجد والعودة بالتاريخ قروناً للوراء بين عشية وضحاها , حركة كفاية في حد ذاتها لم تكن ذاك الحلم الذي يجعل الحالم يستيقظ مفزوعاً ليتجرع الماء البارد , لم تكن سوى تيار عارم عرمرم , يلملم غثاء السيل , ما أن يرتطم بالكلاب البوليسية إلا ويتفرقع في الهواء , كفقاعة من الصابون نفخها صبي في الثالثة من العمر ثم فرقعها بيده أو إصبعه فيما بعد .
    برز نبيل فاروق من خلف حصار الجيش الثالث , في أرض الغاوين الكبار , قال لي نبيل :
    أبوك إبراهيم كان بعيداً عن هذه الأجواء , أبوك كان الرقيب النوبي العابر إلى عالم النقيض , المناضل الثائر خلف الصحراء , ذلك اليوم كنت أنت في طيات العدم , حيث اللاشيء غير الوهم والموت , الجزء الأكبر من طاقته يذهب في الاحتلام الليلي , أو عند ممارسة العادة السرية , تجنباً لمشاكل الشذوذ الجنسي في عالم الجيش .
    منذ أمد بعيد , سنوات طويلة وإبراهيم ينتظر هذه اللحظة , الأمل والانتقام , الاستشهاد وقهر العدو , إخراجه من أرض الأنبياء الكرام , قاتل السادات , رماه بالرصاص من أجل هذه الفكرة , خروج العدو من حدود 48 أولاً , ثم التفاوض بعد ذلك !
    على هذا وضع الرئيس الجزائري هواري أبومدين شيك على بياض للروس , من أجل قهر العدو , من أجل مصر التي هضمت حقوق الغير في اللحظة الحاسمة للصراع , هاجمت سوريا الجولان في نفس التوقيت , من أجل النصر الذي تسعى له الأمة .
    السيد حسن نصر الله وحزب الله في لبنان , النصر الذي ترسمه الكتب بدقة , على هذا قاتل إبراهيم عشماوي أبوك وصحبة , لهذا حوصرنا أنا وزملائي داخل سينا , وهم يرتعدون أمام السفير الأمريكي , كنا نحلم بالنصر الذي جعل السوريين يقاتلون ثانية في أوائل 1974 م من أجل نصر حقيقي بلا شروط , لكن إبراهيم ذهب إلى اللاشيء , ذهب ولم يعد إلا بعد أربعة أعوام , من هناك , أرض الميعاد المقدس , مكان هبوط عيسى عليه السلام عندما يعود من جديد .
    أما أنا فحُبست في سيناء , شرق القنال , الإمدادات العسكرية لا تأتي إلا بعد استئذان إسرائيل , وبسائقيهم وشاحناتهم , كنا نريد أن نموت من أجل عزتنا , وهم يتلاعبون بنا , كنا غائبين عما يحدث , تخيل يا أبني سامي ( 45 ألف جندي و 250 دبابة , كانوا مستعدون للموت , ولا نستسلم ) , قالوا لنا حينها ( العدو سينسحب من سينا , وسحبونا نحن وتركوهم , خلفوا سبعة ألف جندي وثلاثين دبابة , ظللت مع الباقين , عندما عُدتُ وجدت كل شيء بيع منذ أول يوم في معاهدة كيلو 101 , عموماً يا أبني نحن انهزمنا وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي يجب أن نعترف بها دائماً وأبداً )
    ( 40 )
    في لحظة من التاريخ , عندما يتحول العالم إلى أنشودة المصلحة والتوريث , ظهرت حركة كفاية , لم أكن من المنضمين لها , ولم أحاول الدخول إلى طياتها , كنت أدعوها رابطة الفاشلين سراً , أما قلمي سمّاها , رابطة الباحثين عن الشهرة , الصحفيين اللذين يبحثون عن الثورة والقتل , يبحثون عن محاكمة الجميع , وتنازل الريس عن العرش , مناضلين بطريقتهم , وحسب رأيهم .
    ثم فجأة قرر الرئيس توريث الابن , العرش الجمهوري الذي ورثه من السادات , أنه ( عصر الملوك وخلافة الجمهوريات ) , كما قال نبيل فاروق من قبل , هكذا يمكن أن تطلق الأجيال القادمة في التاريخ , على حقبتنا هذه , الريس كان يخطط إلى ذلك منذ أمد بعيد , الرئيس من الأصل لا نائب عنه , منذ نهوضه من تحت الكرسي , إلى قيادة مجلس الثورة , قتل السادات , أمر يدعو للريبة بعض الشيء , لا مجال للشك , عبد الناصر قائد الثورة لم يورثها لأبنائه , اللواء محمد نجيب لم يفعل ذلك , ذهب في هدوء من حيث جاء , من جنوب الوادي كما قال فاضل الكاروري , نبيل فاروق يعلم أن الريس يريد أن يورث ابنه .
    في مكتب الجريدة عُين رئيس التحرير من المنوفية , مسقط رأس الريس وأهله , ظهرت أفكار ابن الريس ذو الجنسية البريطانية في الجريدة أولاً , ابن الريس يقول ؟ ابن الريس يفعل ؟ وهلم جرا , كان السيد نبيل فاروق يكتب مقالاته سراً داخل المعتقل , ثم تخرج بطريقة ما , للشارع العام , لقد صارت جزء من التكوين اليومي للشعب الثائر على التوريث , أكياس القمامة امتلأت بجريدة الأخبار , مقالاتي – أيضاً - لم تكن تنشر من الأساس , كانت مفيدة جداً لمصانع إعادة تصنيع الورق .
    المقالات تُكتب على أرخص أنواع الورق , صار نبيل فاروق إلى هامش , انتهت مدة صلاحيته , فأنتفض كغيره من المعارضين , على ابن الرئيس ولسان حاله الجديد في الجريدة , لكن الفرق هنا , أن رئيس التحرير من ارض الريس , ومن أمن الدولة بالطبع ...
    وهو من هناك ...
    قادم من بقايا الحصار ...
    من الوهم والترحيل ...
    من فلسطين ...
    من أصل هزيمة التاريخ الأولى ...
    فذهب لخلف القضبان لأول مرة في حياته فقط لأنهم اكتشفوا أن نبيل فاروق كان معارضاً ثراً من قبل , ثم أصبح عضواً بارزاً ومحركاً فعّالاً في حركة كفاية التي أنضم لها علناً , كانت هي – الحركة - الملاذ مرحلي المُهم والأهم لتغيير , هنا في القاهرة .
    ( 41 )
    عندما كنا طلبة نسعى خلف الأساتذة سراً أم جهراً , ندفع لهم أجورهم المسائية , وهم يتوددون لنا , كانوا نقارن بين الشخصيتين في آن واحد , ذاك الأستاذ معقوف الوجه , مقطب الشفاه , كالمسعور في القفص , ينتفض أحياناً بلا سبب , أو بسبب , ونفس الأستاذ الذي يشرح المسألة مساءاً مرة واثنين , وأحياناً ثلاث , لا يكل أو يمل , وكأن الحور يجلسن قبالته موشحات بالزهور , مفتحات الصدور والأيدي لجلالته , لم يكن هذا أو ذاك , بل هم , تلاميذ المدرسة بلحمهم وشحمهم , كالحي الوجوه والمستقبل , الأطفال المتسكعين داخل أحلام أبائهم السرية , وهم ينشدون اللذة نهاية الليل , وبعدما يذوب التوتر تماماً تقول المرأة للرجل أو العكس صحيح : ( بكره يكبر الأبناء , ويتبدل الحال ) .
    والحال في حاله , يكبر الأبناء , يموت الأجداد , يصبح الأبناء آباء , يتمنون نفس الأمنيات داخل تفاصيل أقبح وأنتن , لا ضوء أو هجير يغير الحلم أو يزيله , زماننا هذا ليس كغيره , باختصار ليس لنا ما نتذكره أو نحلم به نحن جيل الهزيمة الرابعة , فنحن ورثنا الفشل والخوف والذل من أبائنا أو قادتنا بمعنى أدق , وكل ما نفلح فيه الصياح والعويل , وما أن يقف الخواجة المهندم , إلا وتخرس ألسننا وكأننا أرامل يقفن عند باب سيد برجوازي رحيم , بارزات الصدور , يسألنه بضع دراهم يسكتن بها صياح الوطن الجائع .
    قد ندور في هذا الألم الذي ورثناه نحن , بلا أمل في الواقع , ونكتب فيه معلقات تُضاهي أبيات زهير بن أبي سلمي بل أكثر , فهو موضوع يلوكه الواقفون على الأطلال ومُدعو النضال هنا وهناك , المهم , أن صاحبنا نبيل فاروق , فشل في النضال ضد وراثة الحكم , فحاول الالتفاف حول الحقائق , الإسلاميين وما أدراك ما الإسلاميين , البشر اللذين يرصفون الفضائل بالسياسة , حكومة الخرطوم تشرح الفكرة بطريقة عملية جداً , لا أقول أن كل من تنقبت هي مسلمة أو عورة , لقد قال جوزيف أسميث من قبل ( الدين وسيلة يقود بها الحكماء , الرعاع ) أما في حالة الأخوان المسلمين أو كل المتأسلمين في عالمنا حالي , تحرفت هذه المقولة وأضحت ( وسيلة يستغل بها الانتهازيون البسطاء ) الحكومة الإسلامية في الخرطوم لها ديوان زكاة من عدة طوابق نهاية مدينة الصحافة بالخرطوم , يقتلع الزكاة من كل من هب ودب , رأيتُ من مستحقيها الثمانية , حق العاملين عليها فقط , دون الغير , أعتقد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , كان مخطئاً عندما رفع الجزية عن أهل الكتاب الفقراء والعاجزين , وقرر لهم حق في بيت مال المسلمين , ربما كان هو – أيضاً - عميلاً آخر , أم التاريخ من أصله محرف , لا أدري أين حقيقة وسط هذا الركام ؟ .
    بدأت المشكلة من مقال كتبته , ولم يُنشر , كان عنوانه الأتي ( فكرة وراثة الحكم من منظور إسلامي ) أعتقد أن القارئ لا يحتاج أن نكتب له المقال كاملاً , فهو مكرر في الخطابات التي يلقونها في جوامع لا حول لهم ولا قوة , مقال واحد فقط , لم ينشر , جعلني ضمن مجموعة , لا علاقة لي بها من الأساس الأيدلوجي أو المرحلي , لكن بالنسبة لأجهزة أمن الدولة , كان المحقق يقول لي :
    ( الإسلام هو الحل , الحل هو الإسلام , وبقية الخطب المبتورة التي تلقى من حين إلى آخر , الاقتصاد الإسلامي يحارب الربا في البنوك , وبقية الجملة نحن مكلفين بإتمامها ( ويبيح الرشوة في المؤسسات العامة ) , الشريعة الإسلامية هي الأصل في التشريع والحدود , وبينما لا يوجد حد للفساد الإداري , هذا ما تخفيه مع صديقك نبيل فاروق ) .
    ثم أردف بعد ذلك :-
    بهذا أرسلك العدو لنا ؟؟
    التناقض بعينه , رأيته في الخرطوم , وعشته في القاهرة , وشاهدته في رمضان من كل عام , الرأي والرأي الآخر , حقيقة واعية , القنابل التي تزرع يمنةً ويسره , في كل مكان في الأرض , من القاتل ؟ ومن هو المقتول ؟ بين الرفات مقطوعة الأنوف , إلى خاتمة المطاف نهاية الأسبوع , المقاتلون انتشروا في الأسواق , عقب صلاة الجمعة إلى يوم يبعثون , لا أدري إلى أي منقلب سينقلبون , يوم الحق العظيم , سنكون هنالك وسنشاهد ما سيحدث في ذاك الحين .
    أسهل الأشياء التي يبرر لها في أنظمة الشرق الأوسط , الانقلاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمِين , وخرج أحدهم فجأة في مكان العام وأستشهد أمام جمع من الحفاة العراة في سوق عكاز , بل حلف بالإمام الأعظم , وقال بملأ فمه ( لقد رأى سامي شعاع النور , بل لقد ملأ قلبه الإيمان , واهتدى بعد أن غاب في غياهب الضلال أعوام , هداه الله إلى الطريق القويم ) , سامي عشماوي الاسم اللامع أصبح إسلامياً بلا مقدمات , القاعدة العامة في السوق العربي في الخرطوم ( كبر كومك يتبعك الزبائن , ويشترون كيفما كان السعر ) على ذلك أُسس الإعلام في العالم الحديث .
    ( 42 )
    لكن في مكان ما من القاهرة , كان هنالك من ينظر إليّ الأمور بحسابات أخرى , الخدعة الكبرى الجديدة , أصول اللعب كذلك , شراء لاعب محترف أسهل مليون مرة من صنع لاعب ناشئ , عملاء النادي الأهلي يشترون اللاعبين من أدغال الكاميرون ونيجيريا , وعملاء ريال مدريد يصطادون من كأس الأمم الأفريقية , الفرق كبير في الواقع .
    وقف كبيرهم الذي علمهم السحر ....
    ( هذا الرجل يخدم مصالحنا في المرحلة القادمة , ماذا ترون ؟؟ , الكره والإعجاب والانتهازية عندما تجتمع في شخص ما , هو الأفضل لتحقيق الأهداف سريعاً , في عالم يغط في أحلام اليقظة )
    الرجل أرسل هذه المقولة على صحن من ذهب إلى الإله الأكبر , اكتشاف جذاب جداً , لابد من تغير أصول اللعب هنا وهناك , سنغير الخطة و الصراع القادم , تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ , البعد السياسي للنقطة الأولى , مبتور , وموصول بالأمام , خطتنا في أوربا سننفذ نقيضها في الشرق الأوسط , كنت أنا ألعب هذا الدور بجدارة .
    وصلت رسالة من الإله الأكبر , كتب عليها السطور التالية , تهم القارئ جداً , بعد أن أطلعني عليها السيد بنيامين سليمان في مكتبه بعد ذلك , عن طيب خاطر أو سوء نية , ليس مهماً , على العموم ربما كان يعلم أنني سأدونها يوماً ما , الله أعلم , لكن كانت الرسالة كالآتي :
    ( بناءاً على مشروع المقدم من وكالة الأعلام المركزية , المرجو إرسال كل التفاصيل الخاصة بالدعاية القادمة لجمهور المشاغبين , نوعية البضائع المنتشرة أصبحت مستهلكة ولا تفي بالغرض المطلوب , والفترة الأخيرة ظهرت عدة وجوه جيدة بالإذاعات المحلية بالمنطقة , وهذه الاتحادات تبث برامجها الموحد من مقرها بالقرب منكم .
    وعليه قررت اللجنة المركزية للدعاية والإعلام , نشر دعايات تنتج نبذ المستمعين للبرامج , التي تبثها الإذاعة الموحدة , وإقصائها التام والأخير , عن الساحة الإعلامية المسيطرة على السوق , وإعلان احتلالها الأبدي , على المستوى الاقتصادي فالمركزية الحكومية أدت دورها على أكمل وجه , فقط تبقي الجزء المتعلق بالمستهلكين من الجمهور العام .
    لهذا يتمنى الإله الأكبر من سيادتكم إرسال كل المعلومات الخاصة بالدعاية الجديدة التي نحب أن نستخدمها في المنتج القادم في نطاق بثنا الإذاعي , والمرجو من سعادتكم الإسراع في ذلك بقدر الإمكان . ولكم جزيل الشكر على تعاونكم من أجل شركتنا وبقاءها على الأرض المقدسة إلى الأبد . )
    ( 43 )
    نهض إبراهيم منذ الصباح نشيطاً جداً , في ليلته الأولى من الزفاف , اختفت أثار التعذيب والأسر , وكأنها لم تكن , أو أضغاث أحلام ذهبت إلى حال سبيلها , قد يدعو الأمر إلى الدهشة والاستغراب , لكن بحسابات ذلك الزمان هو كذلك , فهي الحالة الوحيدة التي تعاشر فيها الحبيبة من غير أن يحمل أبيها عليك السكين أو الساطور في رواية أخرى , الزواج عقد دعارة مشهود عليه , قال المتنبئ :
    وليس بين هلــــــــوك وحرة غير خطبـــــــة
    والهلوك هي المومس أو الداعرة , والحرة مقصود بها الزوجة , لكن في حالة إبراهيم لن يعترض الجميع على فكرة الجنس بين العشقين .
    النكاح الشرعي تُدق له الطبول طيلة الليل , الفكرة غريبة بعض الشيء , لكن الواقع لن يتغير بكلمات جوفاء , ولنقل لن يتغير إلى نحو عملي , تعودنا ألا نسمع إلا للذي يحمل السلاح فقط , الإباحة ليست مطلوبة , لكن من حسن حظ إبراهيم أنه لم يدفع ( شبكة , مهر , زفاف , دخلة , حفلة , ... الخ ) فالأمر هنالك أسهل ما يكون .
    في أوربا العاهرات فقراء أو مسلوبات من أجل المال , وفي فرنسا المحترفات من العرب أو شرق أوربا , وفي أحياناً قليلة ونادرة , مدمنات المخدرات من أهل البلد , الفقر القاصم يدفع المدينة للموت الأبدي , من الصعب الزواج في الشرق الأوسط , ثمن الفتاة في الشرق الأوسط يساوي عشرة من مثيلاتها في أوربا , مفارقة غريبة , الرجل عندنا يحتال ليقتنص فريسته نهاية الشهر , على الفراش , ثم يختفي , تُرسل هي إلى الجحيم , من غير تأشيرة دخول , القاعدة مقلوبة رأساً على عقب , ما عندنا هو تجارة , أو إماء للبيع والشراء , فقط يكمن الفرق أن البائعين هنا , هم الآباء والأمهات , والنخاسين هم الخُطاب , هذا عندنا يسموه , زواج شرعي وفرح , وهو جنس ودعارة معترف بها اجتماعياً وأخلاقياً ودينياً , وأيضاً حكومياً , وما عندهم هو زواج وحب بين الطرفين ( الفتاة والفتى ) , ما نسميه نحن عندنا – وبفخر شديد - زنا وفساد أخلاقي , المفارقة تبدو مجحفة بعض الشيء , أليس كذلك !!.
    البنطلون الأسود كان معد بعناية فائقة , والقميص الأصفر أيضاً , أخذت خطوطه في توازٍ ملفت لنظر , ارتدى السيد إبراهيم عشماوي الجاكت الأسود مع الكرافتة حمراء منقطة بالأبيض , لم يستوعب وليم إسحاق هذا الأسير إلا بصعوبة بالغة جداً , في غزوة بدر فدى فقراء الكفار أنفسهم , بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة , أما هنا فسيكون خيانة بالتأكيد , إبراهيم ببساطة اشترى حريته بمقابل لا بأس به , الفدية لم تكن مأكل أو مشرب كما فُعل مع أسرى قريش , بل كان مقابل عبارة عن 50 دولار في الشهر , وهو مبلغ كبير بحسابات ذاك الوقت , وحالياً أيضاً , في أوطاننا للأسف الشديد , إضافة إلى إيليا سمحون أو نازك الزعتري , سمها ما شئت فهما شخصية واحد على كل حال , وشقة فاخرة في تل أبيب , الصفقة ناجحة تماماً , بكل المقاييس , والمحصلة كانت – واقعياً – أنا , سامي إبراهيم عشماوي الحالي .
    أربع سنوات عمل إبراهيم عشماوي في الجامعة العبرية بتل أبيب , يركب سيارته صباحاً , ويعود من ذات الاتجاه في المساء , لا يخاف من شيء سوى تقلب الزمان عليه , حينها لم ينتشر حاملو الأحزمة الناسفة داخل المطاعم وأماكن التجمعات العامة , ياسر عرفات غادر قاعة البرلمان أثناء إعلان السادات استعداده لذهاب إلى تل أبيب من أجل سلامة المقابر الفرعونية .
    ( 44 )
    لكن لا تتخيلوا أن إسرائيل هي جنة الله في الأرض , أو جنة الميعاد الأرضية التي ستضم شعب الله المختار , مع أن الساسة يعلمون تمام العلم أن إسرائيل هي أرض التفرقة العنصرية وأرض قامت على أساس عنصري واضح , إلا أنهم لا يتجرؤون على البوح بذلك , نحن لن نكترث لما يقول السادة الحكام , أو ما يدور في اللاوعي الشعبي , فقط يهمنا ما حدث للسيد إبراهيم عشماوي , أبي , وصفقة اليهود الفلاشا لم تتم بعد مع المدعو جعفر نميري في السودان , اليهود الفلاشا هم اليهود الأثيوبيين , سود البشرة , بتعبير آخر عبيد العنصر اليهودي إن صح الوصف , حينها كان إبراهيم حالة استثنائية في المجال البشري الموجود في الحيز الإنساني في ذلك الحين , كثيراً ما سمع الكلمة التي تقوم الدنيا لها ولا تقعد في عصرنا الحالي , كان يسمع لفظة ( العبد ) بنفس المنطق السعودي في أسواق عكاظ , أو أسواق مكة المكرمة حالياً , ومن غرائب الصدف بالقرب من الحرم الشريف .
    الماضي العميق مدفونٌ في الذات , يصك أُذنيك بالنحيب المتقطع , بصرخات ملتوية , من المقتول في ذاك الحين , من هو الذي وضع القواعد اللولبية في سكك مقلمة الخلايا , النحيب بصمت مطبق , العشق المبتور آخر الليل , من هو الذي دفع النفس إلى هذا المصير المحكوم عليه بالعدم , إبراهيم الأستاذ , غير مرغوب فيه داخل أروقة الجامعة العبرية بتل أبيب , مجلس الأساتذة يقف مكتوف الأيدي أمام تعينه هكذا بلا مقدمات أو مؤهلات , عربي متخلف , وأسود في آن واحد , أي عار بُليت به أرض الميعاد هذه , إنها الأرض التي يجب أن تكون لشعب الله المختار , بقايا أسباط يعقوب الاثنا عشر , لم يكن من بينها سبط واحد أسود , من أين جاء هؤلاء ؟ , سؤال معقول بهذا المنطق المحدد , ربما طفرة شاذة أنتجتها معامل الموساد , سائق سيارة الأجرة صفعه على وجهه أمام إيليا سمحون زوجته ذات مرة , هكذا بلا سبب , امرأة الرجل الأسود , عندما تتفسّح النساء سألتها إحداهن ( هل الأسود جيد على الفراش ؟ !! ) , قالت ( نوعاً ما !! بل أفضل !! ) قطبت حاجبيها ثم خرجت , في أوربا يعتقدون أن الأسود عبارة عن آلة للجنس والعمل العضلي فقط , من أين أتت هذه الفكرة , لست أدري ؟؟ , هو كبقية الرجال , منهم من هو شاذ , وفيهم أيضاً من هو مصاب بالعجز الجنسي , الحال من بعضه , أمة لا خير فيها .
    كانت جارتها العجوز تمثل الاستثناء الوحيد بتل أبيب , الصديقة المقربة لعائلة إبراهيم , عجوز بالمعاش لا غير , تعيش لوحدها , مات زوجها , وتشرد أبنائها بحثاً عن العمل واللذة .
    النساء كن يصحن سراً , إيليا السوداء , كناية لزوجها , أصطحبها لصالة ليلية ذات مرة , أدخلها الحارس الليلي ومنعه من الدخول , لم تدخل إيليا , قالت ( هو معي ؟ ) قال في ببرود ( فليكن , لدينا أرضية من السيراميك الأبيض , وأدوات زجاجية ناصعة , لا نستطيع أن نشتري أخرى جديدة إن اتسخت , الأسعار غالية هذه الأيام ؟ ) قالت ( ما علاقة هذا الموضوع بدخول زوجي ) , قهقه في الواقع ثم أردف ( هل أنت معوقة أو مجنونة ؟ ألا يوجد رجال في هذا العالم ؟ ) .
    صفعه إبراهيم على وجه , ردها هو بركلة قوية في منطقة الحوض , الحارس كان يجيد الرياضة الدفاعية , أمطره بالركل والرفس , جحظت عيناه , تورمت شفتاه , سال الدم من الحاجب غزيراً , دخلا في عراك مستفيض , أتت قوات الشرطة , أُعتقل إبراهيم , وأُرسل الحارس إلى المستشفى .
    الرجل لم يصب بشيء , قال أمين الشرطة ( ربما تسمم الحارس من ركلات زوجك عزيزتي ؟ ) ثم أردف ( كيف تفتحين فخذيك لهذا ؟ هل تشعلين الضوء عندما يعاشرك ؟ أعتقد أنك لا ترين شيئاً أو تشعرين بشيء ضخم بين فخذيك ؟ ) صمتت . لم تجد ما تقول !! , احتقن وجهها باللعاب , قال زميله ( ألا تعلم سيدي أن الشياطين تسكن السود , بالتأكيد هو شيطان , أنها تعاشر الشيطان ؟ احذر من غضب الشيطان ؟ من حسن حظك انتهى زمن حرق السحرة ومعاشري الشياطين ) , قال أحدهم ( أين نحبس هذا الشيطان سيدي ؟ ) قال ( أرموه في الحمام ؟ ذلك المكان يليق بأمثاله من أشباه البشر ؟ ) .
    تدخل السيد وليم إسحاق لإخراجه , بعد أن قدمت الجامعة اعتذار رسمي للحارس والصالة الليلة , في أحدى المرات سقطت امرأة مسنة من طولها عندما رأته , وأخذت تتلو صلواتها التوراتية بصوت عالٍ في السوق , بعض البائعين يناولونه بضائعهم بعد أن يلبسوا قفاز بلاستيكي واقٍ في أكفهم , الحياة ألم يومي يتكرر كل لحظة وحين , قال أستاذ ( التوراة حررت أمثالك من الأسر والعبودية ! ) الدكتور المشرف على المعهد كان صديق جيد لإبراهيم قال له ( عشت في كلفورنيا وتربيت فيها . لا تبتئس مما يفعل هؤلاء ؟! ) ثم واصل حديثة ( الفرق بين البشر يكمن في التعليم والسلوك !! , إننا في عالم غبي ) هذه المحصلة التي خرج بها إبراهيم .
    البدايات الاجتماعية كانت محفوفة بالألم في كل لحظة وحين , لا عدل على هذه الأرض , فهي تبدو منقوصة المقاييس , الشعور بالنقص , سرطان ينتشر في كل مكان , النزعة للقوة هي الأساس , التوراة تحرر العبد بعد سبع سنوات من شراءه , قانون أرحم من فكرة البيع أو المقايضة , العبد كان يباع بعد ست سنوات ونصف , التلاعب بالتشريع مشروع في هذه الحالات .
    الطلبة الفاشلون في المعهد كان يضعون رسائل استفزازية في صندوق بريده , أما في الحي , يجد رسائل متكررة من نوع آخر ( عُد للغابة أيها القرد ؟ القرود تمشي بين البشر ؟ ) , قالت إحدى زميلات إيليا في حالة غضب ممزوجة ببعض الغيرة أيضاً ( سيتحول فرجك إلى اللون الأسمر مع مرور الأيام ؟ ).
    لا أقول لك أن الحال كله كان بهذا السوء الذي نصوره , كان هنالك من يدعي التحرر وهؤلاء كانوا أقوى واعتي رغبة في التعنصر , نوع من الواجهة الاجتماعية , شد وجذب بين الاثنين , بعض الرجال كانوا يظهرون بالوجه المسالم للدين اليهودي , كرمه الكنيست الإسرائيلي ذات مرة , بدعوى السلام في الدين اليهودي , كان ضيف شرف أساسي في استقبال وفود الجامعات الأوربية القادمة , من ألمانيا أو دول الحلفاء , خاصةً الأميركية , هذه هي أصول اللعب .
    ألقى كلمة الجامعة العبرية في ملتقى الجامعات الأول للمتخصصين في الدراسات الاجتماعية بروما , كان يعكس الوجه المشرق للآخر , ابتسامة من خلفها أنياب الذئب البرّاقة , المهم من كل هذا , الحرية من الأسر , أربعة أعوام , وإبراهيم ينام طيلة المساء في حمى , تعلم التدخين , لكنه شرب الكحول في القاهرة , عام 1978 م في ذكرى العبور لأول مرة في عمره .
    سهر إلى الصباح , عندما تغيب عنه إيليا يزرع الغرفة مجيئاً , وذهاباً , هل تفي الموساد بوعدها ؟ . سؤال أرق منامه طيلة السنوات الأربع , عندما يغلبه السهر , يعاشر إيليا كالمجنون , فينام من التعب , لا مكان للاستقرار في هذه الوضعية الشاذة , نتيجة الجنس , نفي المجهود والتوتر , فينام , ألقى كلمة الحفل بالجامعة عند تخريج الدفعة الأولى من طلاب قسم اللغات الشرقية واللهجات الأفريقية , كان مضطرب , اليوم يوم الوفاء والعودة إلى أرض الوطن , هل ستفي الموساد بوعدها ؟ .
    إيليا كانت سعيدة بزوجها ليس بالشهادة التي أخذتها , أربع سنوات وإبراهيم يعمل ليل نهار , لصنع أحرف مكتوبة للغة النوبية , يضع القواعد والأصول , لم يكن متخصص , تعلم من علماء اللغات اليهود في المعهد , القواعد النوبية لم تُوضع من قبل , أصبحت لغة مكتوبة ومقروءة , لن يخدعنا العرب ثانية , هذا كان لسان حال الموساد , أما وليم إسحاق , فقد أبرَّ قسمه جملةً وتفصيلا , لدينا متخصصين في كل اللغات واللهجات المنتشرة في جميع أنحاء العالم , هنالك نوع من الحقائب بالسودان يُطلق عليه اسم ( تمكنَّا ) , يحملها كلاب الحكومة , والمستفيدين منها , وهنا تمكّن اليهود بشيء حقيقي , الأستاذ المشرف على المعهد قال ( ليس من السهل وضع أسس للغة النوبية , ولكن ليس مستحيل , من أجل أن نقود هذا العالم لابد أن نتعلم لغاتهم ؟ ) , قال الفاضل الكاروري ( الخواجات يدورون في جنوب السودان بكاميراتهم يصورون القبائل المحلية ) كنت أعتقد ذلك لأسباب إنسانية , إبراهيم أقنعني عن الأصل في الأشياء , الخواجة يعلم كل شيء , اليهودي يمتلك كل الشيء , والعربي لا حول له ولا قوة , أما الأفريقي والهندي وما شابه , فحدث ولا حرج .
    أربعة سنوات , الألم يصول بالليل , والحنين يشجو بالنهار , والذاكرة متفتقة بين الذكرى والنسيان , عقب هطول الأمطار آناء الشتاء , عندما تملأ رائحة الطين المكان , عندما يسيل الماء بالشوارع , تنفر الأنف من رائحة الماضي هنالك في الصحراء , بالقرب من ساحة معارك آمون-رع الليلية , عندما يغرق الأفق بدماء الشهداء , قتلى الإله , يرفع إبراهيم كوب الشاي الكشري , على نخب قتلى الإله , نحتفل بالسمر , الحفلات في الصعيد , عندما تغدو الفتيات من النيل , حاملات جرار الماء ولفافات الغسيل على رؤوسهن , كن جميلات , الجلباب الأسود الطويل , الشعر المُسدل إلى العنق , ألوان مجتمعة في إتحاد واحد , لم يسمع أحد يدعوه بالعبد , أو يتملق معرفته , أو يتبجح بتحرره , كان هو السيد والمضيف , هنالك لا يوجد من يمن عليه , في القاهرة كانوا ينادونه ( أبو سمرة ) , ابن الصعيد الأسمر , الصعيدي الذي يطالب بأرض النوبة , في السودان يدعوهم ( أولاد المصريين ) , أرض بلا هوية , النوبة الكبرى , الحنين والميعاد , من هنا وإلى هنا هرب الجميع , هنا كان التاريخ , لا فرق بين ترهاقا أو خوفو , الأصل بين الذات والحقيقة , منذ فجر التاريخ , عند ختن الفتيات , يقطع البظر والشفريين معاً , يخيطا بحكمة , إلا مخرج صغير يخرج منه البول بصعوبة .
    عندما تُعلق المرأة ثلاث أيام على الحبل , أثناء آلام المخاض , تضع طفلها الأول , مع احتكاك السكين بالحجر , ليُسنّ أكثر , ويصبح حاداً , القابلة الشعبية تقطع الفرج إلى أعلى , باتجاه فتحة الشرج , يخرج الطفل , على يديها , لا يقع على الأرض , الطست مليء بالماء , يغسل المولود الجديد , المرأة يجب أن تضع واقفة كأبي الهول , لا تلد الحرة على الفراش مثل النعجة , يغلق ممكن الأسرار ثانية ً, كما كان من قبل , أربعين يوماً , كل يوم يُذبح خروف , إن كان المولود طفل , الرجال يهنئون , من جميع القبائل والقرى , الحفل الأكبر يوم سماية الطفل , الرقص على طبول , أربعين يوماً , الجلابيب البيضاء من القطن أو الكتان , عدة ألوان , الطواقي موزعة على رؤوس الرجال , والعمائم تتناغم بإيقاع ثابت , الاحتفالات اليومية , الرقص الاعتزالي , الخمر البلدي المنتشر , عندما ينفعل العمدة , ويقف من أجل العريس , العرس عُرس قبيلة كاملة , الثأر موضوع بين القبائل لمدة عشرة أعوام , لا قتل أو حرب في الصعيد , كلمة شرف صادقة وواجبة , سارية المفعول على الجميع , الوزير فيهم والغفير , أنه العرس الكبير في أرجاء المدينة والعالم .
    هنا في هذا البلد لا حفل أو زغرودة , تزوج بلا طبل أو صوت , اللحى الطويلة , الحاخام البائس , بين جدران الكنيست , أمام حامل الشمع ذو السبعة رؤوس , لم تُطلق زغرودته واحدة , أو حتى صباحية مباركة , لن يكون هنالك منديل ملوث بالشرف , لم تئن عند منازلتها , كانت طائعة وسهلة , لم يُقطع مكمن أسرارها من قبل , لم تعبث به أيدي قابلة الحي , لم يُزين لإبراهيم بشيء , كان مفتوحاً كاملاً بخيره وشره , مأتم في الصعيد خير من ألف عُرس في مكان آخر في العالم , هل يستطيع أن يقول : ( زوجتي يهودية ) ستنشق الأرض قبل أن أطأ الديار في الصعيد .
    هناك الناس تموت من أجل إسرائيل , الإغريق ( اليونانيون ) غير مرغوب بهم في مجتمعنا , فما بالك بإسرائيلية , أمه ستنام على سكين في ليليتها تلك لو علموا بيهوديتها , لن تشارك الناس في أفراحهم , سوف تعنس بنات أعمامه وأخواله , لن تقوم لهم قائمة , أخيه عبد الستار سيترك مجال التعليم كأستاذ , سيموتون أحياءاً بالوحدة , بطنها الآن يتخذ مساحة للخارج , ستضع ابن إبراهيم الأول , ابن اليهودية , لبن اليهودية , المعونة اليهودية , اللعنة على اليهودية , الصحراء كلها تعلن اليهود واليهودية , الأهرامات تكرههم أيضاً , النهاية الأولى والأخيرة منذ أن عبر موسى عليه السلام البحر الأحمر إلى الأمام , ثُم عبر شارون إلى الخلف , لكن النتيجة واحدة في الحالتين , انهيار أمة بكاملها عتاداً وعُدة .
    سنوات أربع , مرّت , والحنين يئن بشفتيه بين الحين والآخر , متى سأعود إلى الديار الأولى , متى سيرتدي إبراهيم الجلباب الأسود الثقيل , ويجلس على القهوة , يلعب الطاولة , ويشرب الشاي الكشري , وهو آمن , لقد كان يشربه هنا , لكن بلا طعم أو مذاق أو حتى رائحة , الهزيمة تقتل كل الأحاسيس النبيلة , غداً سننتهي القصة الحزينة , سيأتون هنا , ربما لن يأتوا , لا بل غداً سيأتون , سآخذ عقد حريتي , سأتحرر غداً ؟ , كان هناك صوت مناهض للأول , هل ستفي الموساد بوعدها ؟ هل ستفي الموساد بموعدها ؟ هل ستفي بموعدها ؟.
    أخذ السؤال يدور إلى منتصف الليل , ملأ الغرفة مجيئاً وذهاباً , إيليا بطنها منتفخ , أوشكت على الوضوع , سيخرج ابن اليهودية إلى الوجود , سيخرج إلى الوجود يهودي آخر , حسب الدستور اليهودي القديم , اليهودية بالأم ليس الأب , دخل إلى الغرفة يلعن اليوم الذي وافق فيه على عرض الموساد , كان أسوأ يوم في حياته , دخل لها وهو ينوي شراً , لم تكن نائمة , تترقب عن كثب مثله , غداً يتحدد مصير أسرتها , وزوجها وأبنها , لم تنم , الموقف مُتأزم وحاد جداً , كان الغطاء مرتفع جانبه , أردافها واضحة في حلكة الليل والظلام , تراجع خطوة للوراء , لا ذنب لها , أنا أسود , ليس خياري , سنرى غداً ماذا سيكون , رفع الغطاء , وأنسحب تحته , خلع الجلباب , ثم ذهب يبحث عن القمة المفقودة في المجد القديم , وراح في نوم محموم ....
    ( 45 )
    العاشرة صباحاً بالضبط فتح إبراهيم باب الشقة , حسب الاتفاق في مثل هذه الزيارات الرسمية والسرية في آن واحد , كان الرجلان معاً , يحملا حقيبة جلد صغيرة , لم يكن هنالك شيء آخر , أزمة الأسرى المصريين لم تحل بعد , لم يهبط السادات بطائرته بتل أبيب , لم يكن هناك ضوء للاستسلام النهائي حسب قرارات مؤتمر الخرطوم , مؤتمر اللاءات الثلاث , لم تُباع الأمة وبقية الشعب , لم تقذف حجارة الانتفاضة إلى الهواء بعد , كل شيء هادئ , احتمال حرب أخرى بين الشمال والجنوب قائم .
    بين الصحراء والنيل , الأسرى يلعقون الخبز والذل داخل السجون العسكرية في سيناء , بقايا الجيش الثالث مازالت محاصرة , كان نبيل فاروق يتحسر بحرقة ( كانت المؤن المصرية تأتينا , والخدمات تأتينا داخل الحصار , لكن بأوامر إسرائيلية , وعربات إسرائيلية , وسائقين يهود , قائد الجيش الثالث لا يتفقدنا , إلا بتصريح مرور إسرائيلي , مع أن الأرض هي أرضي برمتها .) ثم ينظر إلى الأرض , ينظرها بعمق , ويلعن الحياة بشدة , ثم قال لي : ( حينها , بل إلى الآن , أحسد أخي , الذي استشهد وهو يعتقد أننا قد انتصرنا , لقد مات على نشوة النصر , أما أنا لا نصر , أو استشهاد , لا عزة أو لا كرامة ) .
    لم يُعد وقت التنازل النهائي بعد , بيجن لم يخط أسلوب الفتح الأخير والحاسم لمصر , لم يحدد كيفية احتلال مصر بعد , والسادات كان يبحث عن الوسيلة المثلي للبيع والرهن بشرف , أرواح الجنود لا تُأرق منامه أبداً , يجب أن يحفظ ماء وجه أمام التاريخ , إبراهيم , كان ينظر لهم بترقب , لم يتحدث كثيراً , مشاعره كانت متناقضة ومُسّتفزة أيضاً , عندما عبر إلى الأردن قال لأمي ( سيعود ابني ليأخذ بثأري منهم !! , سيعود لينتصر هذه المرة ) لاحت رائحة الوطن بين طيات الحقيبة الجليدية الصغيرة , تهلل وجه , أطمأنت سريرته , سأتحرر الآن من الأسر والعبودية قبل السنوات السبع التي تحددها التوراة اليهودية .
    وضعت إيليا الشاي وأكواب الماء أمام الضيوف الكرام , جلست مفتوحة الفخذين , أنسدل الفستان الطويل في الوسط , غطى كل شيء إلا البطن البارز , سيخرج بين الحين والآخر , المقاتل الجديد , شرد إبراهيم بعيداً وهو ينظر إليهم , داخل الطائرة , ثم قال لأمي : ( هذا هو ابنهم الذي سيأتي ويهزمهم , موسى المصري , بن اليهودية , سيقاتلهم جميعاً سيتجرع النصر الحقيقي وليس الهزيمة , أنه ابني أنا إبراهيم عشماوي ) .
    خرج صوت وليم إسحاق من كهف غائر بالأوساخ , صوت يحمل غرور المنتصر في حرب طويلة شاقة , مُرِهِقة , نفسياً وعاطفياً, واستراتيجياً أيضاً , الآن سيكمل برنامجه الانتقامي منها , إنها الحلقة الأخيرة في مسلسل إيليا سمحون الطويل , سينتقم من ضحيته للمرة الأخيرة والفاصلة قطعاً , كان يختلس النظر إلى ضحيته , كان يعتقد أنها ستكون في مأساة طاحنة , لكن يبدو أن المجد قد غير الوعي , البطن لا توحي بالفشل . ها هي ممتلئة بقذارة عبيد العرب , ابتسم وليم إسحاق بخبث يهودي صارخ , ثم وقال : ( الآن ستوفي دولة إسرائيل العظمى بوعدها أيها السيد إبراهيم عشماوي . وها أنت هنا , أصبحت منا وفينا , ابنتنا معك , وابننا هو ابنك !! ) , لم يرد إبراهيم في الواقع , ولم يبدي أي شعور بالاطمئنان للذي يدور في شقته , فبادر القائد العام للموساد بالقول :
    ( يعتقد العرب أن من خصالنا نحن اليهود , الغدر , وها نحن يا إبراهيم نفي بوعدنا لك , لا غدر أو حيلة أو حتى خبث , نتمنى عندما تعود أنت وأسرتك إلى مصر , أن تُغّير نظرت الشعب المصري الشقيق تجاهنا !! )
    لا أقول أن الريبة التي تجسدت في عيني إبراهيم اختفت بين كلمة أو أخرى , لكن ردة فعل إيليا سمحون غيرت سير اللقاء تماماً , فقالت ( ماذا يعني هذا يا سيدي ؟ هل سأذهب إلى مصر ؟ أم سأبقى هنا ؟ بين أهلي ؟ ) .
    الرجل لم يتحرك أو يفاجأ بالسؤال , فالذي تفاجأ بما قالت , إيليا سمحون في الأصل , فالفكرة في حد ذاتها كانت في حساباتها سراً , ولم تُعلن عنها لإبراهيم نفسه , لقد رتبت حياتها على مغادرة إسرائيل وإلى الأبد , لقد كانت تحلم بمكان أنقى هواءاً من هنا , لا نتعجل في الشرح والقص , القائد العام كفانا ذلك , فقد قال :
    ( السيدة نازك الزعتري , كما هو مكتوب في جوازك الأردني , تعلمين أنك أصبحت جزأ لا يتجزأ من أمن دولة إسرائيل , هذه واحدة , وعادةً نحن لا نترك عملائنا كذلك , بلا مراقبة لمدة خمس سنوات على أقل تقدير , وهذا الشيء يعني أن يظل العميل في حالة مراقبة دائمة داخل إسرائيل , أو أن يستبعد العميل تماماً إلى خارج إسرائيل , لمنفى اختياري له , وبعد فترة النقاهة , يكون هو في حِل عن كل المعلومات أو العمليات التي قام بها , وأنتِ لست عميله من الدرجة الأولى لذلك قررنا إبعادك عن إسرائيل إلى حين , فقط المهم الآن أن تظلي مع زوجك وأسرتك أليس كذلك ؟ لا يمكن إبعادك وفصلك من زوجك السيد إبراهيم , نحن دولة تراعي حقوق الإنسان في المقام الأول ) .
    ثم صمت قليلاً , أخذ جرعة من كوب الماء , ثم قال :
    ( إضافة لمعلومة مهمة جداً , أننا نعلم مواقفك المناهضة لدولتنا العظمى , وحسب ما جاء في تقرير الاختصاصي علم النفس بالموساد , أن مصيرك الانضمام إلى إحدى الحركات الناشئة التي تطالب بما يعرف بحقوق العرب , وهذا النوع من الحشرات المنتشرة في هذه الأرض , يجب أن تُباد وتُزال من أرضنا الطاهرة , فقد وضع التقرير أحد حلين , إما التصفية أو الأبعاد لمدة خمس سنوات خارج إسرائيل إلى أرض عربية , وهناك سترين قذارة العرب بأم عينيك , وهو ما سيساعدك في تغير مواقفك الذاتية والشخصية حسب التوصية النفسية المرفقة مع ملفك الخاص ).
    ثم واصل :
    ( وعليه , حين عودتك بنفس أفكارك الهدامة تلك , يكون ملفك المحفوظ سلفاً , موجود في مكانه , تحت خانة الخيانة العظمى , وحقيقةً كان السيد وليم إسحاق رءوف بك , فأقنعنا بالخيار الثاني عزيزتي إيليا أو نازك , نسبة للعمل العظيم الذي قمت به من أجل دولة إسرائيل , وقبولك بهذه التضحية , مع علمنا التام بأنك تحبين زوجك أكثر من إسرائيل نفسها , عموماً هذا هو جوازك الأردني الفلسطيني , وجوازه أيضاً , إضافة لأتعاب زوجك خمسة ألف دولار , وتكاليف , وتذاكر طيران من الأردن إلى القاهرة حيث سيتبنى عملائنا هناك تجهيز مكان أقامتكما معاً , تحت ناظرينا , أنا آسف فهو أمننا الذي لا نتهاون فيه أبداً !!! )
    هنا تتدخل وليم إسحاق قائلاً :
    ( لقد نسى السيد القائد , أن الموساد تكفلت لكما بإقامة لمدة أسبوعين في الأردن , حتى يعتاد زوجك الشجاع , على التعامل معك باسمك المختار بعناية وحرص , ويتفاعل مع هويتك الجديدة قبل الطيران إلى مصر وطن زوجك الكريم ) .
    المفاجأة والصدمة , والجو الخانق , هكذا يكون الانتقام والانتصار , عندما تجد كل الأشياء والتفاصيل معدة في سياق كامل , يمنع الشخص من خياره الفردي للحياة أو الموت , الخيار الأنسب للحظة الأنسب , الأرض القديمة التي لا يطأها فرد , وليم إسحاق أعدّ أكبر عمل انتقامي مرّ على التاريخ , أعنف من التضحية بثلاث ألف شخص , ماتوا كفاقد انتقائي للمخابرات الأميركية أو القاعدة , في ضربة الحادي عشر من سبتمبر في بداية القرن الواحد عشرين , العمل كان منظماً بدقة , الخطة أعدت بعناية مفرطة .
    إبراهيم , كان هو الشاهد والضحية , نظرت أمي إلى عيني وليم إسحاق , كانت تلمع بهدوء , أحبت إبراهيم عناداً له , وحاربت الأرض والعالمين من أجل أن تجمح غروره , ضاجعت الشيطان كيداً فيه , وها هو ينتقم منها للمرة الثالثة , والأخيرة .
    عندما يجتمع الحقد والسلطة والانتقام , فالصدمة تقسم الظهر للشرائح متعددة , أما في حالات الحمل المتأخرة فالصدمة قاصمة للمولود , تخلق ردود فعل عنيفة , صاحت حينها إيليا بصورة هسترية , ثم أمسكت يد إبراهيم بعنف , أخذت تتألم , ماجة بطنها , تقلصت عضلاتها , فقد إبراهيم السيطرة على عضلات وجهه , اتكأت عليه , أخذت تتلوى على المقعد , فتحت فخذيها أكثر , أخذ صدرها يعلو ويهبط , تجسدت ملائكة العذاب في وجوه الرجلين .
    اتصلا بالإسعاف العسكري مباشرةً , العرق يسيل بغزارة من وجهها وفخذيها من كل مكان , تبلل فستانها بالعرق , التصقت حلمتي الثدي بالفستان , ظهر موقعهما بوضوح على جداره الخارجي , صاحت أخرى , ثم ثالثة , ورابعة , طرقت جارتها العجوز الباب بعنف , فتح إبراهيم الباب بسرعة , اقتحمت الجارة الباب بلا مقدمات , جرت إلى المطبخ , أخذت مياه باردة , وأخرى ساخنة , فتحت فخذيها أكثر , وضعت رأسها على حجرها قالت ( أضغطي أكثر أنه سيخرج إلى الوجود رجل جديد ( يهوا , يهوا ) يا إله بني إسرائيل الواحد الأحد ) .
    أخترق صوت الإسعاف خصوصية السكان في الحي , هرول رجاله صاعدين في اتجاه السماء , الأنين يدور , يعلو , ويعلو , المهبل فتح ثلاث أصابع , طرقات رجال الإسعاف كانت عالية , الضغط زاد عليها أكثر , ألتفتت إلى اليسار , كان واقفاً متجمداً , ضاعت هيبته الآمرة في المعسكرات النسائية , نظرت له بحقد أكثر , صاحت فيه وجهه ( وليم إسحاق تباً لك , فعلها إبراهيم , ولم ولن تفعلها لا أنت أو كل إسرائيل ) .
    نظرت بحقد أكثر , تمنى أن ينشق الجدار الذي خلفه , ويختفي الآن , تمنى أن يطلق الرصاص على رأسه مباشرةً , صاحت فيه ثانية بعنف أكثر هذه المرة ( تباً لك وليم إسحاق ) نزلت موجة ملتوية من أعلى البطن , مرت بالرحم قلبت الطفل رأساً على عقب , أصبح رأسه إلى أسفل , في خط مستقيم , يواجه قبلة الحياة , أنطلق من عينها شراراً اتجاهه , رجال الإسعاف يهرولون في اتجاه السماء إلى أعلى .
    إبراهيم ممسك بيدها , يتلو تعاويذه الإسلامية , الجارة تتلو تعويذتها اليهودية من التي تحفظها من التوراة ويقرها التلمود , كانت متدينة , أمسكت نجمة داؤود وضمتها إلى صدرها , خطوات رجال الإسعاف تقترب أكثر فأكثر , الرجال يقتربون , وليم إسحاق يرتعد من الخوف , نظرت له بقوة أكثر, القائد العام تضاءل واختفى من الساحة والوجود ذلك الحين .
    نزلت موجة ألم قاسية من أعلى البطن , تناثر الشرر من عينيها , تبخّر العرق من وجه إبراهيم بسبب حرارتها , صاحت في وليم إسحاق ( سأقتلك يوماً , أقسم إنني سأقتلك يوماً !! ) حينها تحركت قدما الرجل من غير سيطرة , وهرب جرياً من أمامها , صادف رجال الإسعاف عند الباب , كانوا ثلاثة , دفعهم , فسقطوا جميعاً على الأرض , فدحرجوا على السلالم , هرب خوفاً على حياته , لقد هُزم الرجل , هذا هو النصر المقصود معناً وكيفاً .
    كانت ترتعد بقوة في حالها ذاك , لبوه تعرض أولادها للاعتداء , هرب وليم إسحاق , وانهزم , نزلت موجة الألم الأخير , قاسية جداً , فتحت فتحة المهبل مقدار أربعة أصابع , ودفعت الموجة رأساً جديد للعالم , خرج الطفل يصيح في عالم اللا حقوق , يطالب بحقه في الوجود الشرعي للحياة , وصرخت أنا سامي إبراهيم عشماوي , هنا في تل أبيب , مع بقايا صوت أرجل وليم إسحاق تنزل السلم , في اتجاه الهبوط إلى الأبد , وأصبح صراخي هادياً وديعاً صافياً في هذا الزمان , بعد هروب المهزوم , في هذا المكان خرجت يوم انتصرت أمي على عدوها اللدود وليم إسحاق , أمام الملأ وقائده المشئوم , حينها أصبح العالم حقيراً جداً , في نظرات أمي كما قالت لي !!
    ( 46 )
    خرجت إلى العالم في ساعة غضب , في مكان تربطني به علاقة عدائية من الطراز الأولى , عداء من أصل التكوين البشري , يتجرعه الأطفال مع الحليب في الصباح , سنون مضت منذ أمد بعيد , الإبل تقطع الصحراء في اتجاه الشمال والجنوب , بحثاً عن النبيذ ومحصول الشام الشتوي , يثرب كانت تنتج أفضل أنواع التمر , خرجتُ هكذا في زمان خطأ , في ظروف أقبح ما تكون , خرجتُ بتل أبيب , شهادة ميلادي الرسمية , إسرائيلية التسجيل المدني , أما صورتي المرفقة في صفحة الأطفال بجواز الأم , كانت أردنية , إلا أن هنالك فقرة كتبت في شهادة ميلاده الأردنية في خانة جنسية الأبوين هي ( الأم أردنية من أصل فلسطيني ).
    العرب مازالوا يحملون بعودة الفلسطينيين إلى أرضهم المسلوبة , الحلم السراب , الحلم الذي لن يكون أبداً , الأرض وجاه والسلطان , يسعون إلى حل الدولتين , المفارقة أن إسرائيل ترفض , المغتصب لا المغصوب , صاحب الأرض يتوّدد للمحتل , قالوا قديماً ( هذا زمانك يا مهازل فامرحي !!! ) الأستاذ كان يردد ذلك كثيراً في المدرسة .
    من هذه النقطة منفرجة التكوين , انتشرت المدن الخمس على الخرائط الرسمية , سارت القافلة في اتجاه المغيب , إلى اللا شمس , اتجاه العبد والسيد , قالها أبي لأول مرة , عقب خروجي للدنيا بلحظات ( سيعود ابني هذا لينتصر لي ؟؟ أو سأعود أنا وأقطع أنفه وأرميه للكلاب , لولا أنني أخاف أن يتسمم ال###### بإذنه لقذفتها له ) تمتم إبراهيم بهذه الكلمات ثانيةً , هو يعبر الحدود إلى الأردن , مندوب الموساد قال له ( تصطحبك السلامة ؟ ) رد الود بابتسامه صفراء , يجيدها الانتهازيون أكثر من غيرهم على الأرض , الخداع والنفاق , عبد الله ابن أبي سلول كان من أبرع الناس فيه , الثرى يبكي الحنين إلى الرمال , سأعود الآن معبأ بالسهام , عند العبور للأردن , قال رجل منزوٍ على ركن في قارعة الطريق ( الله يحفظ ولدك , بس ما وجدت يا بنتي غير هِي العبيد !!! ) , لو كان الأمر في موضع آخر لكان لإبراهيم شأناً آخر مع الرجل , السارق لا يستطيع الدفاع عن نفسه , والمهزوم لا خيار له , مصر أعلنت وقف إطلاق النار , المنتصر – عادةً – يستجيب للإعلان , ويقرر نوعية الاستجابة بالرفض أو الترحيب , هذا درس جيد من دروس حرب هزيمة أكتوبر المجيد , تابع إبراهيم طريقه في اتجاه موقف التاكسي و بعد أسبوعين , أخذ تذاكره إلى المطار , المهنة في جواز السفر ( رجل أعمال ) ضباط الأمن في المطارات العربية , يحترمون أصحاب المال أكثر من المناضلين , في الشرق الأوسط تطرق الطبول لرجال المال وتفتح لهم الأبواب الموصدة , وتغلق في وجه الذين يقولون ( لا ) في وجه من قالوا ( نعم ) .
    النظرية الصهيونية أثبتت صحتها بجدارة , رجل الأمن فتح الباب لإبراهيم , لم يدقق في الجواز كثيراً , سأل إبراهيم عن نوع العمل الذي يعمل فيه , قرأ له قصيدة المرتب الحكومي الضعيف , في المطارات يوجد مكان خاص لمرور رجال الأعمال والدبلوماسيين , هنالك قسم خاص لإجراءات المرور بالنسبة لأصحاب الدرجة الأولى بالطائرة , حلق إبراهيم عالياً , رأى المدن مثل علبة الكبريت الخاوية من أعلى , الغيم في السماء يبدو فاحش الوجه , ومتبرج جداً , على نحو عاري من تفاصيل الجمال , الحلم القديم يستيقظ في السماء , الأرض تبدو بعيدة المنال , هنالك أقوام يتحركون بجلابيب طويلة , إيليا أمعنت النظر إلى الأفق البعيد , برغبتها أو برغبة الموساد , ها هي لاجئة في مكان آخر , الأقدار لعبة قذرة جداً , الفاضل الكاروري قال ( الحياة صدفة ######ة ), هل هناك حلم أفضل من هذا , المضيفة الغربية قبلت الطفل , كانت وديعة , جلبت له الحليب الساخن , الخدمات بالدرجة الأولى ممتازة , أول مرة ينتعل إبراهيم طائرة مدنية في حياته , وآخر مرة أيضاً .
    الرحلة أخذت ساعات طويلة من عمان إلى القاهرة , بحسابات شوق إبراهيم , الزمن توقف تماماً , شوكات الساعة تسير إلى اليسار في حركة النضالية , اتجاه الزمن , الوهن والعمر يتقدم , نزل إلى أرض الحنين , مات إبراهيم , ثم بُعث من جديد , أنه عُزير اليهودي , صاحب الحمار , مثل عيسى عليه السلام في اللاهوت الصهيوني , بُعث بعد أعوام أربع , يسير حقيقةً شحماً ولحماً , على قدمين , مجد ما بعده مجد , وصل إلى أرض الأجداد الأوائل , أصواتهم وحركاتهم , رائحة البهائم تملأ الأنف الآن , من هو الميت في هذا الحطام , الشاعر عبد الرحمن يوسف له قصائد وعرة الأهداف , يُسب الريس بلغة لاسعة , الشعر لغة من لا يملك السلاح , الكلمة لن تحرر شعباً , راح محمود درويش وبقى شارون في الذاكرة , الملايين يتذكرون نابليون وهتلر كل لحظة وحين , ونزار قباني والشابي يُذكرون لِماماً .
    هبطت عجلات الطائرة على أرض المطار الهشة , هبطت تحمل الموتى في أحشاءها , هطلت تبكي المجد القديم , الطيور ماتت هنالك في الثغرة , ليس من السهل أن يتعود إبراهيم على قول نازك الزعتري , لا تريد الكلمة أن تثبت على لسانه , لا خيار آخر يجب تطويع اللسان , الفكرة ليست مستحيلة , هناك ملايين الألسنة تُطوع كل يوم .
    هل سيستجيب القدر ثانية , نازك ذهبت إلى السوق في الصباح لتشتري الفول من عم علي البقال , الفول في الصباح والجبن والزيتون الأخضر , الخبز والمش أبو دود متوفر بكثرة , طعم الغربة حامض في الصباح , كل هذه المعلبات الموجودة في البيت , إبراهيم سيعود إلى الصعيد غداً , الجلباب الأسود , والعمة القصيرة , الأرض والحنين , روث البقر والبهائم , سماد الأرض , ملح الأرض يجمع من حظائر الحيوانات , ملح الثورة يوزع في بيوت الساسة , جائزة نوبل أعطيت لصناع تراجيديا السلام النهائي في الشرق الأوسط , أعطيت جائزة أحسن ممثلي كوميديا الاستسلام بجدارة فائقة , شخصيات عام 1978 م التي لن تكرر إلى الأبد , باع الأرض ثم مات مقتول في احتفاله بالنصر الكرتوني الهزيل , بيجن اعتزل السياسة بعد ذلك , قالوا أن الصفقة كانت ناقصة . لا أدري من الذي يجب أن يقف على الأطلال ويستنشق هذه الرائحة الكريهة المنتشرة في المكان والزمان معاً .
    ( 47 )
    سرتُ في الخط الذي يخدم القضية الكبرى , سرتُ بعناية ودقة , حققت الهدف المطلوب , وجهة رسالة واضحة للعالم الثائر , قد تعود القصة واللعنة السياسية , المعارضة والحكومة يسيرون في اتجاه واحد , المخطط مرسوم بدقة بتفاصيل واضحة , الحرب والأزمة , الحياة صدفة ######ة , العدو متمدد كالإخطبوط , العدو مننا وفينا , الاجتماع السري سيكشف في ميعاده , إنها الضربة القاسمة للعدو ستكون الآن .
    الملابس المدرسية الصباحية تجهز في المساء , تكوى كل ليلة , اعتاد لسانه لفظ نازك الزعتري , إبراهيم يكبر , وسامي سيحقق الحلم , لماذا فعل الريس ذلك ؟ سؤال سأله إبراهيم على فراش الموت , الخمر عبثت بكبده , الموت المحقق , هل كان انتحار أم احتجاج , هذه القضية لم يفصل فيها بعد ؟
    ( 48 )
    جاء خطاب الإله الأكبر في ميعاده بالضبط ...
    ( تتقدم شركة الدعاية الإعلان لعملائها بمدينة الإعلام العربية , بالشكر الجزيل , الممثل الجديد حقيقة هو المناسب للنجاح الحملة الإعلامية القادمة , الدعاية القادمة ستكون عالمية على المدى الطويل , لا خيار أمامهم إلا الاستسلام النهائي , السوق أصبح فيه الكثير من المنتجات , لا بد من قتل المؤسسة الإعلامية , وإخراجها إلى الأبد من سوق المنافسة على الرعاع , عندما ينتهي التصوير النهائي للدعاية القادمة , ستقومون بنشرها في المدينة الفاضلة , وكل محطات العالم التلفزيونية , انتهى )
    ( 49 )
    خرجتُ الساعة العاشرة مساءاً من منزلي بالمقطم , مع بدايات حركات الكائنات الليلية في أرجاء المدن , موعد خروج القنافذ , القهوة في الحي تضج بطالبي العمل , السوق السوداء تجهز خططها المستقبلية , عبرت السفن الحربية في اتجاه العراق في ذات الساعة من قبل , كانت هناك نقاط تتحرك بريبة هنا وهناك , بنات الليل يجتهدن في وضع الماكياج على وجوههن الشاحبة , القاهرة تستعد لليلة داعرة من لياليها , ذات الطابع السياحي , حسب طلب رجال الطبقات الاجتماعية العليا , موعد الصفقات المؤثرة على الشارع والإنسان في جميع أنحاء العالم , القانون هو القانون , هكذا قالت الحكومة في البرلمان , لابد من قطع الأيدي التي تخرب منشأتنا السياحية , القنابل تقلل عدد الدولارات التي تدخل إلى خزينة الدولة , المال أهم من كل شيء , هنالك ميادين للجولف تعد بمكان ما بالقاهرة للفقراء , الجملة تثير الضحك , الترفيه للفقراء , فقرة من ضمن فقرات موضة النشرات السياسية في العالم الآن , نشرات السلام العالمي تنشر كل الأوقات بالعالم .
    الاجتماعات السرية تُدار بنوع من القومية المفرطة , الإطار الهامشي للمدعوين يحوي أسماء حركية , الجميع يعلم هذا التقليد المنتشر في كل التنظيمات العالمية , هذا الثقافة متوفرة في التاريخ القديم والحديث , لا نحتاج للكثير من التعليق السخيف على هذا النوع من المعاملات الدائرة في العالم , من هو الذي يجب أن يُهدي الحقيقة للشارع العام , قد قالوا من قبل الأرض يرثها عبادي الصالحون , إنهم قادمون من كل مكان محملين بالزهور والألعاب النارية , الجيش الأمريكي دخل العراق بهذه الفكرة الصبيانية , لقد كانوا على حق فيما يدعون , العراقيون لا ينتمون إلى مجموعة الشعوب الرومانسية في العالم , لقد قاتلوا من أجل التحرر والديمقراطية , جميع الشعوب العربية لا علاقة لها بالفكر الديمقراطي الراقي , التحضر لا يليق بالأشقياء , المنحوسون في التاريخ يحكمهم السُفهاء , الحكمة والحظ لا يجتمعان مع بعضهم البعض , لكن الاجتماع السري له أجندة ستصنع خطة مستقبلية زاهية , بدأ الاجتماع .
    محضر الاجتماع يُكتب , تقرير جيد مفيد , الحلقة الصوفية وصلت للمنتصف , سيتم العمل على أكمل وجه , العين الواحدة كانت تعمل بحرص , الشقة في وسط الحي , الأمن هنا مستمد من الشعب , أمن الدولة أصعب من أمن سوريا , في دمشق الأطفال لا يُسألون عن ملك الغابة , اسمه قد يجلب الكثير من المتاعب , الضرغام اسمٌ أُطلق علي ملك الغابة احتراماً له , لكن الأسد البشري أيضاً ملك بطريقة أخرى , الشعوب في الشرق الأوسط يُختار لهم حكام من نوع شرس , كلهم يحملون أسماء من حديقة حيوانات مفتوحة , لا أدري هذه صدفة أم الموضوع له علاقة بنوعية المحكومين .
    بعد يومين في ذلك المكان بالقاهرة جاء الخطاب المنتظر من الإله الأكبر ......
    ( الأخوة الأفاضل في شركتنا الإعلامية , حان الآن موعد بث الحملة الدعاية الكبرى لمنتجنا الجديد في السوق الكبير , ونرجو من سيادتكم التعامل مع الدعاية الجديدة بنوع من الحرص والحزم في آن واحد , فهذا أفضل نوع من أنواع منتجاتنا , سيوصل رسالتنا , ويعلن احتكارنا لكل الأسواق العربية , والإسلامية , والمسيحية , والعالمية , سوق بعد سوق إلى ما لا نهاية , انتهى )
    ( 50 )
    دهاليز العذاب بمباني الأمن القومي في العالم العربي متشابه , إذا درست إحداها ستكتشف الأُخريات , العلاقة الوترية بين أزهار الشتاء , ثابتة بإرجاء البحر المتوسط , هنالك علاقة خفية تجمع بين الشعوب في النضال , الأمل والتشاؤم لا يتغير سلوكهما في العقل البشري , لا فرق بين سكان الاسكيمو والغابات الاستوائية بأدغال أفريقيا أو الهند , تتغير التفاصيل والثقافات بعض الشيء , واقع الأمر يحتاج لقراءة حيادية تنطلق من أرضية ( أنا إنسان ), أي ( الإنسان هو الإنسان , أينما حل أو كان ) الجملة نثرية , مبالغ في خطابها العاطفي بعض الشيء , شعار آخر يُضاف لمجموعة الشعارات السرطانية في ذاكرة الكون , الشاعر عبد الرحمن يوسف أختصر لنا الفكرة الشعبية في قصيدة ( تبت يدا ) :
    ابنٌ وأب
    ربٌ ورب
    وذاك ديدنٌ القادة العرب
    يضربنا على القفا
    وإن أتى عدو أرضنا اختفى
    وبالعميل فى قصوره احتفى
    وما عليه من عتب
    مهما بدا مستنكراً , وإن شجب

    الأمن العام يرعب المغتربين خارج الديار , وداخلها بالطبع , الأمن العام يداهم الأُسر والجماعات الصغيرة , في أرضنا الموت يخاف أن يُعتقل , الجماعات الأثينية المناضلة انقرضت , السياسة لعنة تصيب العمود الفقري للشيطان , فينكسر , تحول ظهري إلى شرائح لحمية , حُفرت عليه خيران مختلفة الأحجام والأعماق , احتارت لجنة التعداد السكاني من حصر عددها , الانتخابات القادمة محددة النتيجة سلفاً , المحكمة العسكرية للمدنين , أليس هذا الأمر يثير الشك , المحكمة العسكرية للنقيض السياسي , هي الحل , المجموعة معرضة للأحكام بين الإعدام شنقاً أو رميا بالرصاص , لا مجال آخر , القاضي وضع فقرة ثانوية بعد الاسترحام أو الاستئناف , ستخفف العقوبة بوسيلة أكثر رحمةً بالمتهم , الكرسي الكهربائي , أسرع من الوسيلتين السابقتين , ومضمون العواقب , هل نقتلهم فوراً ثم نحاكمهم بعد ذلك ؟ , أم نحاكمهم ثم نقتلهم بعد ذلك ؟ .
    تداول القضاء أماكن الجلوس أثناء المرافعات الأولية , محامي الدفاع تتطوع من نفسه للدراسة القضية , القاضي الأول يقرض أظافرة أثناء المرافعة , الجمهور يعلم النتيجة مسبقاً , هناك فرق بين القضاء والقانون في العالم , القضاء يطبقون القانون على أساس تقديري في جميع الأحوال , قد يستشيط السادة ممثلي القانون المحلي , في مظاهرات صورية , لكن هذه هي الحقيقة , القانون دائماً تحت رحمة وتقدير القاضي في حالات الجرائم الجنائية , أما في هذه الحالة القاضي , ممثل رديء يقبض مرتبة آخر الشهر , محاكمة صدام حسين تعكس الفكرة على نحو جلي , لا يحتاج ذلك لقدرات عالية في التحليل الفيزيائي العميق .
    ( 51 )
    في ذاك المعبد الذي يحتله الإله الأكبر , صدرت الصحف العبرية تحمل العنوان التالي ( القبض على مواطن إسرائيلي في مصر بتهمة الانضمام للإخوان المسلمين ) , التهمة من الأصل ملفقة , الإله الأكبر وضع السيناريو على نحو جيد , مجموعة العين الواحدة , تنخر الأساس كالماء الآسن , العاصفة تبدأ بمقال صحفي , الصحافة قوانينها غريبة بعض الشيء , المعارضة أخذت المشروع على نحو جدي وواضح , الصراع تحول إلى النقطة مهمة من الإعلان التجاري للقيادة العامة , الثقة والاحترام المتبادلة بين الطرفين , من الغريب أن تكتب عن مجتمع علاقتك به سياسية من الطراز الأول , محاولة قتل حسني مبارك في أديس أبابا كانت لهذا السبب , خرج الفرعون بأعجوبة منها , كل علاقات العرب بهذه النقطة من العالم إستراتيجية , ومتعارضة الأهداف والمصالح .
    تعرية الحقائق من الشوائب مهمة سوداء الأفق , العاقل المثقف لا يُقحم نفسه في السياسة , من يريد العيش بسلام أو يرغب في تربية أطفاله على نحو جيد , يجب أن يتمرن كثيراً على التصفيق والتهليل لمن يعتلي العرش , الضد أو المضاد له , نحتاج خبز على المائدة , السيد المسيح قال ( ليس بالخبز وحده , يحيا الإنسان ) مقولة تعبر عن فكرة الصراع بكلمات رقيقة , الشارع اشتعل لفكرة المواطن الإسرائيلي , الحملة الانتخابية القادمة على الأبواب , الأمور تشابكت أكثر مما يجب , الصحف الإسرائيلية أعلنت براءتي , لقد نشروا في الصفحات الأولى ( سامي بريء لا علاقة له بالإخوان في مصر ) , لقد صدقوا فيما قالوا , حقيقةً كنت كذلك , إلا إنهم ليسوا كذلك ؟ .
    الرجل ظل قلمه طيلة السنوات الماضية يكتب من أجل بقاء الفرعون , تحول فجأة إلى النقيض , الأمن القومي مخترق من عدة أطراف , تأجيل المحاكمة للبث فيها , الحكم صادر من زمن بعيد , قبل القبض على المتهمين , قامت الدنيا ولم تقعد .
    تدخل الإله الأكبر في المسألة , أيديه تصل الجميع في كل مكان , عُزلت في زنزانة خاصة , البقية أخذوا إلى اللا حياة , أو للحياة لا أعلم ؟ , مَن لا ظهره له تُهضم حقوقه , ولا تسأل عنه أبداً , يقول بروفسور : إبراهيم أحمد دياب في مقال عن ( الهوية وقضايا السلام في السودان , في مجلة صادرة عن المركز العالمي للدراسات الأفريقية في أغسطس 2007 م في ( ص 16 ) معلقاً على فكرة التاريخ : -
    يا قراء التاريخ :
    إنني الناطق الرسمي باسم التاريخ فلن أزور أو أداهن أو أهادن أو أمسح الجوخ لمدعي الشرف والانتماء الكاذب ...
    سأكتب في التاريخ أن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل ...
    سأكتب في التاريخ أننا لسنا أمة أو حتى قبيلة بين القبائل ....
    سأكتب في التاريخ أننا مسخاً وليس حفدة الغضاريف الأوائل ....
    سأكتب أن الفحولة والبطولة والشهامة كذبة
    مثلما أن التاريخ السوداني كاذب ....
    ( أضيف – أنا الراوي – كل التاريخ في العالم كاذب )
    الزنزانة الأخرى كانت أنظف , التلفاز والفيديو , الغذاء الجيد , الزيارة العائلية الخاصة لسيدة نازك الزعتري وحدها , دون أخوتي أصحاب البلد , السيدة الهاربة من قوائم عملاء الموساد , بحثوا عنها تحت الأنفاق , داخل أكياس القمامة , المرأة التي هزمت وليم إسحاق , المرأة التي هزمت أمة كاملة , الرفاهية مع الترف , زيارة خاصة للمسئول الأمني للسفارة الإسرائيلية في مصر .
    تعليق السفير الإسرائيلي عن قضيتي الوطنية : ( قضية السيد سامي تحدد مدى نجاحنا في اتفاقية كامب ديفيد للسلام , وتبين التزام مصر التام بالاتفاقية ) .
    بالنسبة للجانبين , كان واضح الدلالات , والمعنى , والتعبير .
    القضية تتصاعد بسرعة ضوئية شاذة لم تسجل بين الأرقام القياسية في العالم , أصبحتُ أشهر من الحائط الأمني المصري على قطاع غزة , أصبحتُ جزء من فكرة الأمن والسيادة الفرعونية المزعومة .
    قطاع غزة تتفتق أحشاءه من الأمل والخوف ....
    عندما سعى بعض المناضلون الشرفاء إلى تمزيق صحيفة الحصار , الذي تبناه أهل مكة وصناديدها , بعدما اتفقوا على عزل آل بني هاشم بشعاب مكة , اجتمعوا ليلاً ضد جهابذة وصعاليك مكة , أخذوا سيوفهم ثم اتجهوا إلى الكعبة , قال عمرو بن هشام بن المغيرة ( أبو جهل ) : ( هذا أمر قضي بليل !! ) وفي رواية أخرى ( دُبر بليل ) , قال الفرعون الأكبر ( قضية سامي عشماوي تهدد استمرار عمليات السلام بالشرق الأوسط ) عزف على وتر الهزيمة المعروف ....
    الحكم صدر مُسبقاً ...
    زملاء زنزانتي بين أحضان الملائكة , الآن ....
    السلام في الشرق الأوسط ....
    قميص عثمان الراجح ...
    السفير ابتسم بخبث واضح ...
    ألقى الفرعون الأكبر خطابه الجمهوري , عند افتتاح المؤتمر الجنائزي السنوي لكهنة معبد آمون – راع , تحدث عن عمليات تهريب – غير الشرعية - للبن الأطفال خلال أنفاق قطاع غزة , ثم أردف قطاع غزة أصبح بؤرة ملجأ المتهربين من الضرائب والجمارك العالمية , فالأنفاق أصبحت مصدراً لتُهريب المخدرات والإرهاب للعالم الحديث , ثم ختم خطابه الثر قائلاً : ( سوف تبذل الحكومة أقصى جهدها للحفاظ على أمن الوطن القومي , والسلام ) .
    الأمر قد يثير الشك والجدل .
    فنحن – للأسف الشديد - نعاني من أزمة خيال وإخراج سينمائي شاذة , عندما نحاول إن خلق مبررات منطقية لاغتصاب الحقوق أو حفظها , في الواقع .
    حاتم محمد
    باريس 2010 م

























    صفحة الغلاف الخارجي
    كانت كل الجيوش تُحارب باسم العرب والجيش العربي , ثم أصبحت قضية القدس صراع بين العرب واليهود , وأخيراً في زماننا هذا أضحت قضية القدس قضية بقاء وصراع بين اليهود والفلسطينيين , خلاصة القول إسرائيل كانت منتصرة في كل المراحل التاريخية , ونحن المهزومون دائماً وأبداً

    (عدل بواسطة بكرى ابوبكر on 08-29-2011, 09:13 PM)

                  

08-29-2011, 07:17 AM

دينا خالد
<aدينا خالد
تاريخ التسجيل: 06-26-2006
مجموع المشاركات: 8736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: بكرى ابوبكر)

    حاتم وبكرى !!!
    تبالغو ؟ هسه دا كلام وقفه !
    لووووووب خلونا بنجيكم للقراية رابع يوم فى العيد ..
    لحد الوقت داك العزيز ضياء الدين ميرغنى بكون شاف شغلة للمرة
    التانية فى التصحيح اللغوى والتدقيق .. تجيك من حاتم ولا من بكرى يا ضياء !








    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    Quote: اهداء خاص لزوجتى سارة تاج السر (هذا ما تبقى من مهر عزيزتى )

    غايتو دى يا حاتم الذ من الرواية ذاتها ..
    سارة هديتك ما بتاباها الا الفيك عرفتها ...
    الدنيا عيد ياخ .. فى زول عيد بى رواية ؟ لووووووب ياحاتم
    ازيك ومشتاقين ... وكل سنه وانت طيب .. ومعافى وجميل ..
                  

08-29-2011, 01:03 PM

ود الخليفه
<aود الخليفه
تاريخ التسجيل: 07-21-2002
مجموع المشاركات: 3178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: دينا خالد)

    Quote: تصحيح وتدقيق : األستاذ. ضياء الدين ميرغني
                  

08-30-2011, 00:58 AM

حاتم محمد
<aحاتم محمد
تاريخ التسجيل: 11-29-2010
مجموع المشاركات: 127

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: ود الخليفه)

    السلام عليكم أيها الأخوة الكرام
    شكر خاص جداً للأخ بكري أبوبكر ,
    على منحي هذه الفرصة الجيدة لنشر أول أعمالي الروائية
    أولاً كل عام والجميع بخير في كل أجزاء الوطن القديم الشاسع الكبير
    ذاك الوطن الثر المليء بالثقافات والأشياء الفريدة
    أتمنى أن أتجدوا مساحة من الوقت لتدلوا برأيكم فيما كتبت
    ولكم مني أفضل التحايا
    وعيد مبارك
    حاتم محمد
                  

08-30-2011, 08:21 PM

حاتم محمد
<aحاتم محمد
تاريخ التسجيل: 11-29-2010
مجموع المشاركات: 127

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: حاتم محمد)

    الراي شنو في الرواية يا شباب ؟؟؟؟
                  

08-30-2011, 09:23 PM

Abdulrahman Gorashi

تاريخ التسجيل: 06-13-2008
مجموع المشاركات: 1144

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: حاتم محمد)

    الاخ حاتم : الاخ بكري،
    من الصعب قراءة رواية كاملة من خلال شاشة كمبيوتر صغير، كنت أتمني ان تكون في شكل PDF format لسهولة تحميلها وحفظها او طباعتها.
                  

08-30-2011, 10:20 PM

عمران حسن صالح
<aعمران حسن صالح
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 10159

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: Abdulrahman Gorashi)

    تم حزف رابط التحميل بعد أن قام صاحب الرواية بتحملها على الرابط الموجود ف مداخلته أدناه .
    شكراً

    (عدل بواسطة عمران حسن صالح on 08-31-2011, 02:31 PM)

                  

08-30-2011, 11:47 PM

حاتم محمد
<aحاتم محمد
تاريخ التسجيل: 11-29-2010
مجموع المشاركات: 127

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: عمران حسن صالح)
                  

09-01-2011, 07:04 AM

حاتم محمد
<aحاتم محمد
تاريخ التسجيل: 11-29-2010
مجموع المشاركات: 127

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: بكرى ابوبكر)
                  

09-04-2011, 07:30 AM

حاتم محمد
<aحاتم محمد
تاريخ التسجيل: 11-29-2010
مجموع المشاركات: 127

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية الهزيمة (Re: بكرى ابوبكر)

    ??????????????????
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de