|
بونا ملوال يستأذن بالانصراف!!
|
استأذن السيد بونا ملوال بالانصراف عن عرصات العمل السياسي وساحاته واختار توقيتاً بالغ المواءمة، لتأخذه خطواته بعيداً عن المسرح السياسي العام ويغيب خلف أستار العمل العام، واهباً ما تبقّى له من عمر وقدرة للتأليف والكتابة والبحث العلمي، وتلك محنة قاسية على المثقفين الكبار في أي مجتمع في مراحل انتقالاته، أنهم بطوعهم أو بقاهر عليهم، يصبحون خارج الدائرة وبعيداً عن بؤرة التفاعل، وقريباً من الحافة والنافذة ومنافذ الخروج!! ولج السيد بونا عالم السياسة قبل «46» عاماً كما ذكر في ستينيات القرن الماضي، وكان فتياً مملوءاً بالأحلام والأشواق الكبيرة، تخترم السياسة كل نواة في خلاياه وصفائحه الدموية وتخالط مشاشه، اجتهر صوته واشتهر بالدعوة المبكرة جداً للانفصال، وكان في ذلك الأوان من الرافضة لفكرة وطن واحد يجمع الشمال والجنوب، تتنزّى هذه الدعوة من كل حركة وسكون لدى القيادات الجنوبية الشابة والناهضة كعشب خريفي طري على سجوف تلك المرحلة، والآمال عندهم والمرام والمحطات الخاتمة كانت غامضة وغائمة لا ترى عين السياسة المجردة آنئذٍ، ولذا لم تتبلور عند المثقفين الجنوبيين والساسة منهم مشروع سياسي واضحة أركانه وتفاصيله الدقيقة، حتى تلقّفت دوائر اليمين الصهيوني المتطرِّف في أمريكا، حركة قرنق ورسمت لها مسارًا مختلفًَا وعمّدتها لتكون بيدق المواجهة مع العروبة والإسلام في السباخ الإفريقية اللزجة. وسرعان ما وجدت حركة قرنق نفسها في أتون المعركة، كمخلب قط للسياسة الأمريكية ومصالحها في السودان، ولم تعد الحركة تمثل الجنوب والجنوبيين بقدر ما هي وكيل خارجي يستخدم قضية الجنوب ومشاعر أهله ومظالمهم كقناع تنكري، وتباينت الدروب بين بونا والحركة في نقاط موضوعية بالنسبة له، فقد كان الرجل انفصالياً قحاً وملتزماً ومتزمتاً. تقلبت به أيام السياسة وهو في مهجره بالمملكة المتحدة، خالف قرنق في أطروحاته وناظر الحركة الشعبية في أقوالها وأفعالها فتوسعت مساحة الخلاف معها وقلّت وتناقصت المشتركات، حتى تم توقيع اتفاقية نيفاشا، وعاد الرجل للداخل، وعاش الصراع الداخلي العنيف والآخذ بالتلابيب لدى كبار المثقفين والسياسيين الجنوبيين الذين ينظرون للعلاقة مع الشمال بمنظار أسود، وللشمال ككيان ووحدة ترابية وثقافية وحضارية بنوع من التسامح النفسي والتعايش الذي لابد منه، وهو صراع نفسي داخلي تجده حتى لدى الغلاة من قيادات الحركة الشعبية التي تمارس نوعًا من التزيد السياسي مثل المومس حين تدخل المعبد.. وكان خلاف السيد بونا مع الحركة الشعبية خلافًا حقيقيًا، رغم قربه الظاهر مع قيادتها التي خلفت جون قرنق، فهو صاحب دعوة انفصالية، عريق ومعتق، وسلفا كير ومجموعته تؤمن بذات منطلقات الرجل بحصر الحركة في الجنوب وعدم الإسراف في الأوهام على طريقة السودان الجديد التي كان ينادي بها قرنق. لكن الصراع الداخلي في صفوف الحركة بين أجنحتها المختلفة وتياراتها، وانتقال مركز صناعة القرار كطائر الوقواق، كل يوم في يد ومكان، لم يُتح الفرصة للسيد بونا لتهدأ فيه ثائرة الأسئلة العميقة لنفسه وجدوى حياته السياسية، فلا هو صار المعلم القريب من قيادة الحركة ولا صاحب الثقل بقامته التاريخية في العمل الجنوبي منذ الستينيات من القرن الماضي يلتفُّ حوله الكثير من الجنوبيين ليُلهمهم من ما يرى. وما حدث في الجنوب منذ اتفاقية نيفاشا، لوحة سيريالية غريبة الألوان والتعرجات، عكست تناقضات الحركة وبؤس الأحلام والواقع وكآبة لا نظير لها عند النظر لمستقبل بلا أفق ولا نهايات.. يعيش الرجل خريف عمره وخريف عمره السياسي، محطم الفؤاد، متقلِّب الوجدان، مغرورق الأعين، تائه العبارات والمسير، في المحصلة الصفرية له ولكل الأطراف الجنوبية التي قاتلت واقتتلت ثم لا شيء غير الانفصال، الذي كان يمكن أن يتم منذ الاستقلال ويقرر الجنوب مصيره في مؤتمر جوبا عام 1947م. بونا ملوال نموذج لحصاد الهشيم، فلا هو وجد الجنوب المستقل الذي نادى به واحة للطمأنينة والسلام والتنمية والنهضة والإنسان السعيد ليعيش بين أهله في خريف العمر، ولا وجد الشمال في عافية نفسية من جراح الزمن والتاريخ والجغرافيا... الصادق الرزيقى __________________
|
|
|
|
|
|