1- بالاستحالة يضحي الإمكان إمكاناً للوجود للبياض دهشته، وللكتابة أحكامها الخاصة، وللإبطان أعاجيبه حينما يضحي فعل الكتابة حفراً في الداخل وإعادة تفعيل للمعنى باللغة، كالخلق والمسخ قصد إعادة الخلق في "مسخ الكائنات" لأوفيديوس، هذا النص الماثل بتأثيراته العميقة في "حبر أبيض" لمروان حمدان (1)، يتردد في ما وراء النص الشعري بكثافة تحويل وجهة المعنى، ولعبة المرايا أو دهشتها أو رعبها إن استعدنا مشهد المرأة تنعى أنوثتها البكر الآيلة إلى الانقضاء والتلاشي في زحمة الأعوام الميتة أمام مرآة العمر. ولكن إصرار مروان حمدان على مغالبة رعب الانقضاء ماثل منذ بدء النص وبدء التلقي أيضاً، إذ بالشعر تستعيد اللغة بعضاً من توهجها البدائي، وبالشعر يكون التصعيد أو البعض مما يمكن تصعيده بكتابة التداعيات على وجه الخصوص في منظومة علامية واحدة، كأن يحرر الشاعر اللغة من حُبسة عادات التداول ليتحرر في الأثناء بأنوثة الحرف – الحبر من سلطة الزمن المستعاد وذكورة موروثة قاتلة لعلها "سلطة الأب" الذي يسكننا جميعاً، منذ مرحلة المشيمة، ويقض مضاجعنا، فلا نمتلك في حضرة جبروته إلا مغالبة الرعب ومحبته المشروطة بمحاولة إنهائه فينا. فهو نقيض الرغبة حيناً والدافع الأقوى إليها أحياناً، إذ بالاستحالة يضحي الإمكان إمكاناً للوجود، والعطش حافزاً دائماً على الرواء، والقمع مشروعاً للحرية. وحينما نقرأ مجمل النصوص الشعرية في "حبر أبيض" تتملكنا منذ البدء دهشة استعادة زمن "الما – قبل" بأن يتصيّد الشاعر اللحظة ويسكنها حدساً وتخييلاً بالسعي إلى مقاربة وعي الفاجعة المسكون برغبة التحرر من ضجيج "الشعارات" و"البيانات" كأن ينتصر بوضوح العتمة الجميلة الآسرة للصمت على الكلمة، وللكلمة على الجملة، وللجملة على الصورة، وللصورة على جاهز النص مخافة الانكشاف المخادع الذي يُفقد العري طهارته وسحر الكلمة دهشة الاكتشاف.
11-27-2010, 01:43 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
لقد أدركت الذات الشاعرة أنه لا إمكان للكتابة إلا بالإبطان، هذا الفعل الذي يستدعي حواراً في الداخل بين "الأنا" و"الأنت" الماثل في الأنا (2)، بضرب خاص من المكاشفة والاكتشاف، كرياضة روحية ذهنية تعتمد لغة الصمت والتأمل بل مداومة التأمل (3). فتستقرىء الذات بهذا التوجه ذاتها عبر الوجه والمرآة بدءاً بتأمل باطني يغامر في النفاذ إلى أبعد الأقاصي في الداخل بحثاً عن شيء ما لعله المعنى الهارب أو الصدى الدفين لفرح بدائي أو طفولة الرغبة قبل فطام المشيمة أو فطام الرضاع. وإذا "الدمعة" لحظة انسكابها، علامة أولى تشي بالفيض القادم وبانقضاء زمن الانحباس، كأنْ ينبجس من الداخل حلم الناي والمطر والطير و"وميض الغواية" ليحقق الأنا بذلك بعضاً من اليقظة المنشودة:
"وأنا إذ أتلمس في وضح العتمة نومي أتعثّرُ بي" (4)
فهو الحلم، إذن، باكتشاف ملامح الوجه الدالّ على الأنا بمعرفة الآخر (الأنت) القائم في الأنا، وبالكتابة التي هي أساس كينونة الذات الشاعرة، وبالحُبّ مرادف الرغبة أحياناً والمختلف عنها أحياناً أخرى حينما يتسع أفق الرغبة بأمل معرفة البعض من تاريخ الذات وتفاصيل وجودها الراهن دون الانقطاع عن ماضيها الفردي والجماعي بتمثّل جينيالوجي غارق في كثافة الإيحاء بحكم البُهمة الناتجة عن الرمز الصفيق الخاص بتاريخ السلالات الأولى تنتقل بفعل الكتابة الشعرية من التخفي الكامل إلى بعض من التجلي بواسطة ذلك الحرف "المتلبس" بالطيف وإبداعية تحويل البُهمة إلى نص والبياض والخلاء والفراغ إلى امتلاء ما بالمعنى وإمكان المعنى الشعري.
11-27-2010, 01:45 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
وكأن الكتابة، بهذا الجهد الإنشائي (دلالة الخلق)، تشكيل للبياض، بالفسخ وإعادة التشكيل، كأن تستلزم الرغبة الحب ويتعاظم الحب بالعشق لمقاربة تخوم المعنى النقيض للكبت والقهر والحرمان بغية الانتصار لنواة الفردية الناشئة على إرث "العشيرة". إلا أن الحُب، العشق، الكتابة، لا تتحدد، هنا، بوتيرة واحدة ولا تُثمر وجوداً متناظماً، وإنما هو ارتباك الرؤيا، كارتعاشة الحياة في شكلها البدائي نتيجة اصطدام الرغبة الكارثي بالاستحالة: "الماء بلّلنا ضحكنا ساعةً ثم انتظرنا ساعةً أخرى حتى تجفّ على قميص الماء ضحكتنا الماء صاحَبَنا قليلاً واختفى (...) الماء بلّلنا ولكنّا انطفأنا وانطفأنا..
11-27-2010, 01:46 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
وإذا الكتابة الشعرية، عند توسلها بالذاكرة بدءاً، تواجه سلطة قامعة هي الذاكرة ليتأكد بها فشل التحرر من سجن الوضعية واستحالة الرواء في اتّساع مشهد السراب الذي يدعو الكائن، رغم استفحال ليل المتاهة، مواصلة السير في صحراء الوجود بكبرياء الشعر ذاته، كما يثبت تباعد الآخر – الأنثى الرمز بعد محاولة التواصل: "لم يكن ممكناً أن نلتقي، هكذا دون سبب فلماذا إذن يعترينا الذبول؟"
11-27-2010, 01:48 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
كذا تبدو الأنثى – الرمز طيفاً يتماهى حيناً ومرآة الروح ويتلبّس الرغبة باشتهاء عجيب لا يفقد توهجه بالحلم الذي يُضحي إمكاناً للرؤيا الواصلة بين الحدس والتخييل، كأن يتردد الإمكان بين تمثّل الحضور الجسدي والحضور الطيفي. وإذا الأنوثة مرادف الحرية، بل تتمظهر الحرية وتتخذ لها عديد السمات بالأنوثة – الرمز. ولأنّ الإمكان سرعان ما ينكشف استحالة لاستعادة المرآة بُهمتها، والبياض انغلاقه الكامل، لا تمتلك الذات الشاعرة سوى البحث لها عن سبيل آخر في اللغة وباللغة: "ماذا عليه غير أن يقول: آه..."
11-27-2010, 01:49 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
- بالأنوثة – الرمز تمتلك الذات الشاعرة بعضاً من المعنى
إن هاجس الرؤية / الرؤيا هو الحافز الأول على الكتابة. غير أن التمثّل سرعان ما ينقطع نتيجة الارتباك بين الإيغال في حلم اليقظة وانتظار الحلم الآخر رغم تسليم الذات الشاعرة المؤقت العارض بإمكان الاكتشاف (رؤيتها) بالصدفة وبالغياب معاً، بإرادة اللاوعي وبالإحساس الحدسي، بمحاولة المزيد من الحفر في الذات واستقراء التواصل الحواري بين "الأنا" و"الأنت" الماثل فيه، بالاندفاع والانتظار، و"بالقناعة" تحديداً (8): "أكتفي بوسائد عينيكِ حين أنام.. ولكنني حين أصحو أريدك كاملةً" (9) كذا تبدو الأنوثة – الرمز أساس الحياة المتوهجة في صميم الذات، إذ بها تمتلك الذات بعضاً من المعنى، وهي الصدى الماثل في الصوت، والطيف القادر على إكساب الحلم واليقظة معاً دلالة التقريب والتبعيد، التنسيب والإطلاق، الوجود ورمزية الوجود، الموجود والمنشود. ولئن استحال إظهار هذا الرمز المرجعي الذي هو بمثابة الدلالة الوالدة، فإن حضوره يقيني في الغياب لدى الذات الشاعرة، ذلك ما يحفزها على السير في متعدد السبل بتغيير الوجهة بين الحين والآخر دون الإذعان لبهمة "البياض" ولقفر المعنى المستعاد. ولأن الشاعر يؤثر مغامرة استقراء هذا المبهم الدفين في النفس على مسطور السبل وسويّ اللغة والتسمية والمعنى فإن المتاهة هي البدء وقد لا تعني المنتهى، وتغيير الوجهة مراراً وتكراراً ضروري للاستمرار في البحث عن أفق يفضي إلى الحافة الأخرى للبياض حيث تخوم المعنى الجديد المختلف الذي يجسّد "مستقبل الماضي" بتحرير الذات الشاعرة من كوابيس الماضي واستعادة إشراقاته الأولى المترسّبة في قاع الذاكرة وتحقيق الرؤية / الرؤيا بالرغبة والحب والأمل.
11-27-2010, 01:51 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
- محصّل وعي الجسد والموت: الإمكان الآخر للرؤية / الرؤيا
فيُضحي الجسد البُعد الآخر "للمرآة"، كأن يحلّ إمكان الرؤية / الرؤيا مكان الاستحالة بالجسد الرائي والمرئي، قريباً من التمثّل الصوفي الذي يؤالف بين الوجود والشهادة، بين التوحد والتعدد، بين التفرّد والكثرة: "أنا الكامن فيّ، كثيري وقليل الناسْ وأنا مأواي طليق فيّ (...) وأنا مريضي واحدي وأنا سليلي في التعب..." (10) كذا يشي الجسد بجسديته حينما يتراءى وجوداً دالاً على الانفصام بكثافة الرؤية / الرؤيا وتبدد المرئي معاً ليقارب الوجود الموت بوعي مشترك يزيل الحدود الفاصلة بين البياض – الفراغ ونقيضه، وبين اللا – معنى والمعنى ليتراءى الجسد معبراً وموقعاً للتلاقي بين رغبة الحياة وإرادة الموت، إذ لا يكون الموت إلا بالحياة، ولا تكون الحياة إلا بالموت (11): "أرّخت موتي وانتهيت بلا سبب" (12) إن الشعر كتابة، والكتابة تاريخ جديد يتأسس على أنقاض زمن تقضّى، والفاعل فيها ذاتٌ تستلهم من الموت طهارة معناه، ومن طفولة الذاكرة دلالة الخطر بتمثل الشيخوخة الوشيكة القادمة، أي الهلاك، ذاك المختلف معنىً عن الموت (13). فتُقارب الدلالة المرجعية، هنا، على الوجود ذلك السلب الفاعل (البياض)، كما ينكشف البعض من وظيفة الكتابة بالاستدلال وتتبدى الأنوثة، رغم احتجابها المعلن في ظاهر النص الشعري إمكاناً وسيعاً لإطلاق الرغبة من سجن الوضعية والفكر أيضاً من عقال المعنى الجاهز المسبق واكتساب "حُجّةٍ" بالكتابة وفي الكتابة: "حُجّتي في الكتابة أنّ لي غيمة من كلام حُجّتي في الكتابة أنني لا أنام اللعنة... كيف تبخّرت الأنثى (...) جسدان: جسد أشحنه بحضوري فيطير جسد موبوء بالضحكات أترفه بيدي فيموت" (14)
11-27-2010, 01:53 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
إن الكتابة في "حبر أبيض" محاولة للتسمية (15)، كأن تحيل لغة النص الشعري على ما يُشبه المعنى البدئي الذي يستحيل حصره في دلالة محددة (16). وكلما تقادم المعنى وتكرر فقدت اللغة توهجها البدائي. لذلك تتعاظم في الذات الشاعرة رغبة الانعتاق من لغة التداول بانتهاج أفق، بل آفاق أخرى جديدة للتسمية بالإنشاء والإنهاء السريعين، بتركيب الصورة والفسخ لحظة تتعالق رغبة الطفل في اللعب ورمزية اللعب الجاد. فالتسمية، بهذا المنظور، محاولة للعب الذي يُفقد اللعب غائيته المسبقة، حسب المنظور التأويلي الغاداميري (17)، بالتسمية وهدم التسمية نُشداناً للغة تكون الأقدر على مُقاربة الحلم الماثل في ذات الفعل الكتابي بفيض رغبة العاشق المسكون بإرادة التحدّي في مواجهة العادة والتكرار وصمت البياض – الفراغ أيضاً. لذلك تتماهى الكتابة والأنوثة باشتراك الحال والموقع واللحظة، "بالتجمّع" و"التبعثر" في ذات الحين، بمقاربة الأشياء والانفصال القسري عنها نتيجة القطيعة منذ البدء وفي الأساس بين الواقع والمثال، وبين الإمكان والاستحالة، إذ بالمقاربة تكون التسمية، وبالانفصال يتكرر فعل التسمية دون التسليم بتدليلها الكامل على وقائع الأشياء والحالات، ذلك ما يستدعي فكراً جديداً وذاكرة ناشئة تختلف عن الذاكرة القديمة ولا تقطع معها تماماً مخافة التورّط في ليل العتمة (البياض المحض) وبالموقع الوسط، اختياراً مؤقتاً بدئياً، بين منطق اللغة والأشياء الموروثة وبين التوغل في أقاصي العتمة – البياض حيث البُهمة، رحم كل المعاني الحادثة والممكنة: "هكذا أتبعثر فيكْ هكذا: لا أسميكْ يترك للبحر قرار الماء يترك للطين قرار الأشجار يترك للمرآة ملامحه.. يتوغل يومياً في النارْ وينهارْ..." (18)
11-27-2010, 01:54 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
- الكتابة الشعرية: دوران الحيرة والارتباك في متاهة ليل الوجود
كذا الكتابة في "حبر أبيض" دوران الحيرة والارتباك في متاهة ليل الوجود بحثاً عن معنى ما تتحرر به الذات الشاعرة من وضعية الانحباس داخل سجن العادة والخوف والقلق في اتجاه الماضي والمصير معاً، لذلك يتردد الحرف عن قصد بين الوجوه الأخرى للرغبة ويلتجىء بين الحين والآخر لعلامات الطفولة القديمة الهاربة وللأنثى – الرمز والحبيبة وللطبيعة (19) والاستمرار في الرؤية / الرؤيا عبر مرآة النفس التي تصطبغ بألوان مختلف الحالات وتستجيب لنداء الأقاصي الكامنة في سراديب الروح بعديد ردود الفعل، كالوشوشة و"الكلام المبحوح" و"النعاس" (20)، فيُقارب النص بذلك صفحة المرآة حينما يتعالق الداخل والخارج، العتمة والضوء، الحنين والرغبة المتيقظة بالإيحاء الخافت أو المكثف كعلامة السيولة المتكررة تشي بالحرمان وفيض الرغبة في ذات الحين: "تتثاءب في المرآة شفاه الضوء: الشاعر يعتنق الرعشة يتورط في العتمة والبرد يراود أنثى المصباح. ليلاً.. لا شيء سوى مرآة ناعسة تبكي". (21)
وإذا الكتابة في "حبر أبيض" فعل تحسُّس، كانتقال الأعمى بين المواطن المبهمة يستعين بالبصيرة على فقدان البصر وبالغياب يستقرىء من خلاله إمكانات شتى للحضور، فلا تكون الرؤية / الرؤيا إلا بتجريب الكتابة: "أنا الورقي بحجم الكتابة جرّبت عمراً من الارتباك ويممت صوب الحديقة لكنني لم أجد وردة واحدة فتيممت بالريح حتى انطفأتُ وما زال في جسدي ورق جاهز للكتابة". (22)
11-27-2010, 01:57 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
- الكتابة وتغيير الوجهة كلما استحال النفاذ إلى مربع ما للضوء
إن الكتابة، بهذا المنظور، اعتقاد راسخ بضرورة الرؤية / الرؤيا بواسطة عين باطنة يستقدم بها الداخل فضاءات الخارج لتفكيكها وإعادة تركيبها في غمرة مشاهد لظلال وأطياف تفِد على النص الشعري من أقدم الأزمنة في حياة الذات كما ترِد على لسان الأنا الفاعل في اللغة وباللغة وحامل آثار السلالات القديمة المتعاقبة الماثلة في سراديب هذا الضمير المفرد المتكلّم. ولأن الأنوثة – الرمز لا تتحدّد في النصوص الشعرية بسمات خاصة فهي الطيف الذي يتشبّه بالكتابة، كالتسليم المتكرر بكونها "الأنثى – الكتابة" أو "الكتابة – الأنثى" تسكن الذات الشاعرة طاقة متوهجة تحفّز على الاستمرار في البقاء بعفوية اللا – وعي وإرادة الوعي الكاتب معاً لحظة تلتقي الصدفة والإمكان، فتُضحي الذات الشاعرة بذلك فعلاً كاتباً وموضوعاً للكتابة، كأن تصف العالم وتوصف به، تُنتج اللغة وتنكشف بها (23). وإذا البياض، الفراغ، العتمة، وهي تستبدّ بالموجود تستدعي أداة للإبانة، ذلك الحبر – القارب – نسغ الكتابة وروح الحياة تتخذه الذات الشاعرة أداة لعبور فوضى العتمة (24) وعبور الجسد الذي هو لسان حال الكتابة وموضوعها: "يُبحر في الجسد يمرّ على القامات المنسيّة يترك إبهاماً ثمّ يعود إلى عزلته..." (25) كذا تُراهن الكتابة على الحركة في الجسد وبالجسد وتُؤثر النوم على اليقظة والحلم (الرؤيا) على الواقع (الرؤية) والنسيان على الذاكرة والعتمة على الوضوح الكاذب المخادع، كما تبحث لها عن معنى ما بالموت (26) الذي يعيد للذات بعضاً من طبيعتها الأولى البدائية برمزية الليل والريح والنار والشجر و"الورق الغضّ" والمطر ومشهد "المرأة العابرة" والأرض، كأن تقارب الذات الشاعرة بالموت التخوم القصية للحياة وتشارف الحدّ الفاصل بين الذاكرة والنسيان حيث منطق اللغة يتهدّم ليتلاشى "الكل" في خدمة "الجزء" بذلك "القليل" (27) المتبقي الذي حرصت الذات الشاعرة على أن يظلّ وجهاً للعلامة القديمة المترسّبة في قيعان الذاكرة خوفاً من التلاشي الكامل في بهمة الأشياء وغموض الحالات: "بقليل يديها – كأن القليل سياج الحديقة أو منزل لاقتراح العائلة... بقليل يديها – كأن القليل فضاء يرنّ أمامي على خشب الطاولة..." (28) فتتجمع بعض سمات الأنثى أو الكتابة الأنثى لتتلاشى سريعاً وتتجمع من جديد دون أن تستقر على شاكلة أيقونية محدّدة، بل هو المشهد الشبيه بالسراب يتشكّل في الأثناء جسداً متخيلاً طيفياً لامرأة الحزن والوسواس وجنون الرغبة ويقظة الحلم المتردد بين ذاكرة متوترة وبين نسيان يخشى على ذاته من فقدان أي معنى لوجوده بالرؤية / الرؤيا: "امرأة من مسّ خلّقها الحزن الواضح في الرأس امرأة في الرأس من يفتح هذا الرأس؟ من يفتح هذا الرأس؟" (29) وكما تسعى الذات الشاعرة إلى التنقّل بين السبل بتغيير الوجهة، كلما استحال النفاذ إلى مربع ما للضوء، بدلالة الرؤية – الرؤيا الممكنة وتجرّب لغة الجسد المنفلت من مسبق جسديته، وتستقرىء الصمت وبُهمة الأشياء بوهج وعي البدايات، تلتجىء إلى الفضاء بتحويل موقع الإبصار وتقليب المسافة بالتقريب والتبعيد (30) بمغامرة الاندفاع إلى أقاصي الجسد والذات: "وانهمرتُ كثيفاً إلى آخِري آخِر الاشتهاء كأنني أؤرّخ يومي بفتنتها في البعيد" (31)،
11-27-2010, 02:01 PM
ابو جهينة ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22832
وبدهشة الأماكن وفيض اللغة حينما ينفرج بعض من العتمة برؤية التباعد ويتمدد أفق القصيدة بانقطاع السطر والاسترسال معاً (32). فتتملك الذات الشاعرة موجة عارمة من العشق المفاجىء لحظة تمتزج غابات الظلال ودلالات الموت المُرتجى والحنين إلى "نعاس الشرفات" و"الأقمار الساخنة" وعيني الأنثى الملغزتين وأنهار الرغبة والمرايا في زحمة الدروب و"الصور الغائبة" ونداء "الخواء المطلّ على شفق الروح" والتعالق الممكن بالمضي في اتجاه "الجثة" والمدفوع "بالحنين إلى أول الشفتين". فتدرك الذات الشاعرة بعضاً من حقيقة الوجود بالكتابة عند تمثّل التواصل بين اللغة والفضاء والنسيان بما أسماه الشاعر "النص"، حقيقة ومجازاً، ذاك المرادف الآخر للكتابة. غير أن التبعيد في نص "البعيد" سرعان ما يعود بالكتابة إلى الإبطان كي يستعيد الاجتزاء حضوره فتستأنف الذات الشاعرة تجربة الانفصام المقصود، كأن تصف الذات أجزاء من الوضعية لتوصّف من خلالها، بمرآوية، محاولة الكشف والانكشاف: "أين نافذتي لأطلّ على مشهدي (...)؟ أين نافذتي لأُنادي المساء الذي علّقته اشتعالاً لخطوتها في الطريق إليّ؟ أين نافذتي لأنادي عليّ؟" (32) غير أن وجهة المكان أفق آخر يشي بانغلاقه لتتوقف الحركة وتندفع من جديد بانتهاج سبيل الزمن، المرآة الأخرى الممكنة لوعي الموجود (33). وكأن الذات الشاعرة، بهذا السبيل، تريد أن تثبت الصلة الحميمة بين الشعر والزمن الذي اتخذ له سمة الالتفات (التذكر) مع الانغراس في اللحظة (الآن) بإثارة الأسئلة بدءاً. وإذا الكتابة بعد أن اكتملت دائرتها في حركة شعرية أولى تُنشىء حركة ثانية تتخذ لها شكلاً دائرياً آخر بمقاربة حركة الوجود، الاستدارة والاستعادة دون القول بالتكرار، لتواصل الذات الشاعرة نهج التبعيد دون الاستمرار في دائرة وعي المكان، كأن تلتجىء إلى "القديم" بالصوت والصدى، بالمتن والحاشية، بالقول والقول على القول (34). لقد جرّب الشاعر كل الوسائل، "اللغات"، على حدّ عبارته، لينتهي به التجوال إلى لغة العدم: "مرّت به اللغات لم يُترجم حزنَه سوى الموت..." (35) فتتوالد الأسئلة بدءاً بسؤال مرجعي هو الموت، ذلك الرحيل الذي يحدث في حياة الموجود، ولا يترك من آثاره إلا الأسئلة (36) والعتمة، لذلك تلتجىء الكتابة إلى الزمن القديم المتقادم، أي الموت بلغة الترادف الذي لا يتحدد بصفة محددة عدا الأثر، كالغياب تصطدم به الكلمة ويتأكد عجز اللغة، وكالانقطاع والسلب والفراغ أو البياض الذي سرعان ما يلتهم الإرادة والفعل والوعي والمكان والزمان، فلا يتبقى من الوجود إلا الظل والطيف والنسيان (37)، وكجرح الوجود النازف يُحدث صداه في ذات الموجود، ويتخذ له الموسيقى تسمية بأصوات العناصر الطبيعية وآثارها الدفينة في النفس وارتعاشة الوجه الوافد على لحظة الكتابة من أقاصي مرحلة المرآة بنزيف صوت داخلي و"ارتعاش" علامات بدائية: "وعاودني وجهي في المرآة المشروخة الأنثى باردة وأنا المسحوق كثيراً حدّ غبار الرعشة..."، (38) وبفوضى "العناصر" يحجبها النظام المتقادم. فتسعى الذات الشاعرة إلى الاستماع لأصواتها الخافتة العميقة، كمن يبحث له عن دليل ما على أن الوجود حادث بالفعل وذات الكائن هي المرآة العاكسة للعتمة، وإلى استقراء العتمة ذاتها بعد أن ثبت أن القديم (الزمن الأبدي المستعاد) تسمية لا تستند إلى مُسمّى مخصوص بعينه، بل هو العلامة الغارقة في التخفي والتقريب: "إشارات بلا لون ازدحامات نسيانات تنوس برمادها، القديم... سلالة هواء شارع لا يمتدّ إلى يديها" (39) كما يتبدّى "القديم" مرجعاً لكلّ العلامات الممكنة من غير أن يتحدد بوجه أيقوني. فهو الزمن المنقضي الضارب في القِدم، وهو العدم الواصل بين الرغبة وإمكان الرغبة، بين الأثر وما يتلاشى تماماً في العتمة المستبدّة بالذات والعالم: "وجهها مرةً أخرى يعبر ذاكرة ولا يترك ضوءاً أو مرآة" (40) وكأن السفر (41) هو الإمكان المتبقّي الوحيد لمغالبة الهلاك، إذ باستئناف الحركة واستمرارها تستعيد الكتابة توهج غنائيتها بترجيعات الرغبة والحنين إلى كتابة الاختلاف حيث "الارتباك الطفولي" و"الاشتباك مع الكلمات" و"توهّج الأحلام"... وإذا الهوامش (ما لم يغفله القديم) (42) ذرى حِكْميّة تعاضد توصيف المواقف والحالات لتبرهن على أن الشعر إيغال في الحال وتوسيع لمجالات موصوفة حدّ بلوغ الموقف الحِكْمي الذي به نتمثّل يُتم تجربة مروان حمدان الشعرية واختلافها الصريح عن غيرها من التجارب، فلا ارتباك ولا تفاوت بين مراتب القيمة الجمالية في المجموعة الشعرية، بل هي القيمة – الذروة الواحدة بعديد الألوان (43)، كالتماهي بين الصورة والذات الشاعرة والتباعد الرؤيوي الصريح بين الهلاك والموت، والانتصار للسفر داخل عالم الشعر على التسليم بالمواطن الظليلة الساكنة والاستماع لنبض الوجود، بما يمكن اعتباره "موسيقى الموسيقى" وانتهاج سبيل السؤال ومغامرة التجوال في أقاصي العتمة والإيمان بالعشق ورفض مسبق التسمية واستقراء "رحيل المعاني": "وحده المحبّ يتوقف ليستوعب رحيل المعاني ورحيله في البياض". (44)
9- "بالنص" تضحي الكتابة إمكاناً آخر للتحقق تتعدد أفعال الذات الشاعرة في البحث عن السبيل المفضي إلى إبداع الاختلاف بعد أن طوّفت في أقاصي العتمة لينكشف "النصّ" إمكاناً آخر لتحقيق الكتابة، ولا يكون النص وجوداً مفرداً مختلفاً إلا بالكتابة – الاستعارة حيث تنتفي الأوراق ليتعاظم ليل العتمة ويضحي "الحبر الأبيض" أداة للخلق (45)، كأن يُقارب الشعر العالم بمختلف علاماته الظاهرة والخفيّة: "يستعير من الليل لون القصيدة، من غفلة النائمين تردّد إيقاعها من نعاسه شهوتها، ثمّ يتركها لتدلّ على جمرة الآخرين" (46) فتنتصر الكتابة، هنا، للصمت على الكلام، وتحديداً "كلام الصمت" باستقراء الوجه الآخر للاستعارة، ذلك الصوت الكامن الماثل في ما وراء اللغة "لغة لا ترى ما رأيت" (47). وكما تنشد الذات الشاعرة الاستعارة باستقراء ما وراء اللغة تبحث لها عن الأقاصي الخفية للكتابة بما "لا نصّ له" (48)، بالشتات وتلاشي الملامح وتبدُّل الأسماء وانحباس الرؤية / الرؤيا.. فتتماهى العتمة والبياض بالعدم المشترك تسعى من خلاله الذات الشاعرة إلى خلق جديد سرعان ما يصطدم بالنسيان (ارتباك الذاكرة) وانقطاع المشهد مراراً واستحالة التراكم المُفضي إلى إبدال (49). لذلك تحرص مرة أخرى على تغيير الوجهة بإنشاء اعترافٍ ما (50) يتقصّد إظهار الأنوثة باعتبارها أفقاً منفتحاً متجدداً رغم ازدحام الصور والظلال واستبداد العتمة بمختلف الوجوه والمشاهد والأصوات. وإذا الكتابة الشعرية وجه آخر للاسترسال بنَفَسٍ غنائي يتعقّب مختلف الدقائق في حالات العشق المتجدّد: "حين يبتعدُ الياسمين أرى امرأةً وكتاباً (...) حين يبتعدُ الياسمين ترحلين كباقي النساء (...) حين يبتعدُ الياسمين ستنامين طويلاً (...) حين يبتعدُ الياسمين أرقص التانغو وحيداً (...) حين يبتعدُ الياسمين تتبخّر الكلمات التي خبّأناها...". (51)
10- "حبر أبيض": "المسخ الجميل" أو أوفيديوس يعود ليظهر من جديد، وبشكل مختلف على لسان مروان حمدان وإذا "حبر أبيض" بالنص الأخير: "لامرأة لم تعرفني جيداً" تراكُمُ تجربة تتجمع ليتكثّف حضورها في الأثناء بغنائية المفتون باللغة، والاستعارة اللغوية على وجه الخصوص، والعاشق لطفولة البدء والحرف واللون وتشكيل البياض – العتمة والمسكون بهاجس الخلق تغنّياً بالحياة والموت، وبالرغبة والحظر، المهووس بعشق الأنثى – الرمز، أساس الكتابة ومرجعها، كأن تتآلف ضمن الحركات التسع شاعرية الرغبة وإرادة الخلق وفرح النزيف الداخلي ودفق "الأحلام الليلية" وهواجس الحبّ وقلق الانقضاء في تواتر الساعات و"عبور الشارع العادي" والاحتفال بالموت، ذلك النبض الآخر الذي به يحيا الكائن على لسان القصيدة وفيض التحولات الذي لا ينقطع بانتهاج السبيل – المرجع الذي به تتحدد السبل، ذلك المسخ الجميل يقارب أحياناً "جمال الرعب" حينما تغالب الذات الشاعرة هلاك اللغة وتلاشي اللحظة "باعتصار" خاص للعتمة، بحثاً داخل "الأسود" و"الأبيض" عن ألوان جديدة للكتابة وعن آفاق وسيعة للخلق بالاستعارة اللغوية شعراً. فكيف "للحبر الأبيض" أن يخصب عوالم شعرية أخرى، هل بالاستمرار في محاولة استقراء البياض – العتمة أم بتحويل الاتجاه؟ وأيّ اتجاه؟
11-27-2010, 05:30 PM
بله محمد الفاضل بله محمد الفاضل
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 8617
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة