|
Re: هناك مَن يقفز على أكتاف الناس ليلا (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أقبل جيري، في تمام الخامسة مساء، من مواقف السيارات، حيث يعمل لنفس شركة أمن الحراسات الخاصَّة التي أعمل لحسابها كحارس. كان يجر عبء جثته، حذاء واجهة بنك إسكوتشيا المغلق، متجها صوب مكتب الأمن الصغير، حيث ظللت أمارس عادة وظيفتي من هناك مثل إلاه صغير، مراقبا سير العالم داخل حدود تلك الطبقة تحت الأرضية الأولى، عبر شاشات المراقبة المعلقة قبالتي.
أخيرا، توقف أمام باب المكتب الخارجي.
"لا بد أنه واجه بعض العفاريت في مواقف السيارات"، قلت في نفسي، مبتسما لأمر ما، بينما أخذت أراقبه، هذه المرة، من خلال عدسة كاميرا مثبتة أعلى الباب، وهو يخرج حزمة مفاتيحه من جيب بنطال البحرية الأيمن، قبل أن يعثر أخيرا على المفتاح رقم 14 ويديره في ثقب الباب. أثناء ذلك، استقر في نفسي شعور حزين. ذلك أنني لن أرى هيئته الأليفة تلك بعد ساعات قليلة إلى الأبد.
كان عليَّ أن أنتظر دهرا ريثما يطوي تلك الأقدام القليلة للطرقة الداخلية بينما يتقدمه صوت لهاثه المرتفع لأراه بعدها سادا فراغ باب المكتب الداخلي الذي يطل على بابي دورتي المياه بينما يجاور إلى اليمين باب غرفة عمال النظافة المجاور بدوره لباب غرفة التهوية التي درجت أصواتها تعلو وتخفت من حين لحين. ظننت أنه جاء كعادته لإستخدام دورة المياه، وفي عزمه أن يلقي عليَّ من باب كسر رتابة العمل بضعة تساؤلات عن سير الأحوال في نطاق مسؤوليتي، قبل أن ينصرف عائدا لمتابعة عمله هناك. كدت أن أقول له بشيء من الفزع إنني فرغت للتو من القذف بأسد فارٍ من حديقة الحيوان القريبة إلى خارج المبنى.
كان جيري مسكونا على الدوام بهواجس غامضة.
ذات مرة، قام بنصحي بعدم السير على جوانب الشوارع، زاعما بجدية تامة أن بعض "الأوغاد" في تلك الأيام يقفزون على أكتاف المارة من البلكونات القريبة، هكذا!!، بلا سبب واضح، لا سيما خلال تلك الساعات المتأخرة من الليل. وافقته وقتها ظاهريا، بينما أحاول جاهدا كتم ضحكة مباغتة. "تصوَّر!، يا هاميد، لقد أخطأ ذلك الشاب اللعين كتفيَّ بالكاد". سألته بدوري عن سير الأوضاع في مواقف السيارات أسفل الأرض، بينما خطر لي أن مهنة "الحارس" ظلت تجتذب إليها الكثير من غريبي الأطوار في هذا العالم.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هناك مَن يقفز على أكتاف الناس ليلا (Re: عبد الحميد البرنس)
|
غاب داخل الحمام قليلا.
قال فور عودته "لا شيء ذو بال يحدث هناك". ثم رأيته وهو يقلب في اسطوانات ليليان الغنائية دون اكتراث. قلت مواصلا تقليب ناظري بين شاشات المراقبة "الأحوال تكون هادئة في مثل هذا الوقت من العام". قال "نعمْ، الهدوء!، هذا ما يرجوه الحرّاس عادة". قلت "بالطبع لا أحد يرغب في حدوث مشكلة ما". قال وهو يتفحص السقف بعينيه العليلتين "تعلم أن الأحوال تسوء هنا خلال فصل الشتاء، يا هاميد". قلت "نعم، يا جيري، المزيد من السكارى والمشردين وطالبي الدفء وما لا يعلمه سوى الشيطان". وذلك حدثٌ يعود إلى علاقتي الأولى بالمكان. ما زلت أتذكر تفاصيله بوضوح تام ودقة. لكأنه حدث في الأمس القريب.
آنذاك، رأيت، عبر عدسة كاميرا تغطي منطقة مصرف "تي. دي كندا ترست"، منظرا جعلني أتجمد لوهلة، قبل أن أنطلق صوب المنطقة المعنية في محاولة لتدارك ما لا يمكن تداركه.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هناك مَن يقفز على أكتاف الناس ليلا (Re: النذير حجازي)
|
شكرا، أخي النذير، لإعلان حضور راق ومتابعة.
حتى تلك اللحظة، لم يكن في ذهني ثمة شيء محدد يمكن القيام به خلال ما بدا لي كارثة ألقت بثقلها فجأة على مسار وظيفتي كحارسٍ، لم يمضِ علي وجوده داخل الموقع الكثير. رأيت وقتها – ويا للغرابة- رجلا من الهنود الحمر، وهو يسحب سرواله إلى أسفل ويبدأ في التبرز نهارا جهارا أعلى منطقة السلالم الحجرية المؤدية من شارع "المين ستريت" إلى مصرف "تي. دي كندا ترست". وقد بدا عبر تلك الشاشة وكأنه يجلس داخل مرحاضه الخاصّ. كان هادئا تماما. لم يكن ينقصه في تلك اللحظة سوى أن يبدأ في تصفح جريدة المساء. حين وصلت إليه راكضا منقطع الأنفاس، كان قد أكمل تبرزه، وشرع في ربط حزامه بينما يتقدم داخل المبنى بخطى بطيئة مترنحة. اقترب مني، ابن العاهرة، بعينين محدقتين، وسألني بهدوء كيف يمكنه الخروج من "هنا" إلى منطقة سان بونيفس القريبة. كانت رائحة شراب رخيص يدعى "بلاك بول" تفوح من كيانه كله. كنت في قمة غيظي وقاموسي القديم من الإنجليزية كان خاليا من الشتائم أويكاد. ومع ذلك، وجدتني فجأة أخاطبه بلغة عربية خالصة، بينما لا أزال أشمله بعين الاحتقار نفسها، قائلا قرب أنفه المكتسي بالعرق:
"ألا تستحِ، يا ابن الك لب"؟.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هناك مَن يقفز على أكتاف الناس ليلا (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أخذ يتطلع إليَّ بذهول ومسكنة غريبة. الوغد!، لكأنه لم يتبرز منذ لحظات على إحدى درجات أحد أهم المداخل المؤدية إلى المجمع. كنت أرتدي بطبيعة الحال بدلة الحارس مزودا بكافة وسائل الإتصال وبوسعي أن أحيله كما يقال في مصر في مثل تلك المواقف إلى "ستين ألف داهية". لكنه بدا لي على حين غرة بائسا فقيرا متعبا كما لو أنه يعاني من داء عضال. هكذا، وجدتني، على غير المتوقع، أبتسم في وجهه، وقد بدوت في عين ذاتي لسبب ما مثل كل ب لا ينقصه الولاء أوالحماس لأسياده، قبل أن أقود خطاه بنفسي إلى الجانب الآخر من المبنى حيث باب الخروج المؤدي إلى منطقة سان بونيفس. "من هنا"، أشرت، بغضب زائف، إلى باب الخروج. إذ ذاك، إذ ذاك فقط، توقف المسكين. ونظر إلى الأرض في شرود. كنت لا أزال أتابعه بحيرة عظيمة، لحظة أن رفع رأسه، وشملني بعينين دامعتين، قائلا بصوت مختنق كسير "شكرا، أخي".
عدت من ثم إلى المكتب، وجلست أفكر مطرقا، وقد أدهشني تماما أن مثل تلك الأمور قد تجري حتى في كندا. حين رفعت رأسي، دهمني منظر أخذ يتكرر عبر وجوه مختلفة. ولم يكن مبعث تلك المتعة المباغتة سوى ذات الكاميرا التابعة لمنطقة مصرف "تي. دي كندا ترست".
ما إن يدلف الناس لحظتها إلى داخل المبنى، أويهمون بالخروج، حتى يقومون بطيّ تلك السلالم الحجرية ركضا، لكأن جيشا من العفاريت يسعى مزمجرا في أعقابهم، وقد وضعوا أياديهم على أنوفهم من قوة الرائحة المحبوسة بين بابي الدخول والخروج الزجاجيين. ولم أشعر في غمرة الضحك بمقدم زميلتي ليليان التي جاءت وقتها لتعويض غياب جيري لأمر ما ألمّ به. ما إن بدأتُ أشرح لها وسط دموع الغبطة ما حدث من أمر ذلك الخراء، وما أعقبه من سلوك المارة المتأفف الراكض صوب خلاصه بلا هوادة، حتى اتخذتْ ليليان مقعدا إلى جواري وراحت تتابع بدورها مجريات تلك المشاهد المتعاقبة بأريحية تامة.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
|