|
المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته خلال العامين السابقين نشرت بفضل الله تعالى أكثر من (70) مقالاً ببعض الصحف السودانية ، في شكل مقالات أسبوعية. وقد رغب بعض الإخوة في طباعتها في كتاب ، وقد بدا لي أن أضع مجموعة منها هنا ، وأتمنى أن تحظى بتعليقات وإفادات تكمل مادتها ، وأرحب بأي وجهة نظر مهما كانت ، مع تقديري ومودتي سلفاً لصاحبها ، وفقني الله والجميع لما يحب ويرضى ، ورزقنا العلم النافع والعمل الصالح .
|
|

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(1) وقفات مهمات مع واقع المجاملات السودانية
أرجو ألا يتطرق إلى ذهن القارئ الكريم الذي يقرأ عنوان مقالي هذا أن المقال يراد به نقض أو تخطئة (أصل) مبدأ المجاملات السودانية ، فإن السودانيين وعلى مر العصور ومختلف البلدان قد عرفوا واشتهر عنهم تعاطفهم فيما بينهم ، ومساعدة بعضهم بعضا ، ومد يد العون للمحتاج ، والوقوف مع المضطر ومع صاحب الحاجة ، ووجودهم في لحظات الحاجة والشدة ، وهم في ذلك كله مضرب مثل حتى غدت كثير من الأمم والشعوب تغبطهم في ذلك . وقد ساعد على ذلك العاطفة الكبيرة التي وجدت لدى السودانيين عموماً ، وتظهر هذه العاطفة بجلاء إذا ما تمت المقارنة بواقع الشعوب الأخرى ــ بدءاً بالشعوب القريبة والمجاورة قبل البعيدة ــ .
فلا يظن أحد أني بصدد القدح في هذه الشيمة المتوفرة لدى أهل السودان باختلاف قبائلهم ومناطقهم ، وأعرافهم. وإنما أردت بهذا المقال أن أضع واقع كثير من هذه المجاملات على ميزان الشرع ، وعلى القاعدة المعروفة بــ(مراعاة الأولويات) ، وعرضها ـ أيضاً ـ على ميزان (أداء الحقوق) الذي حددته الشريعة ورتبت به الحقوق ، وبينت أنه سيسأل عنها وعن أدائها وسيحاسب من فرّط فيها وأضاعها. والحديث في هذه المسألة يطول ، وذلك لأنه يرتبط بأمور كثيرة ، إلا أني أطرحه بإجمال وباختصار ، وأسوقه على طريقة الوقفات والنماذج .
الوقفة الأولى : يتكرر في كثير من الدوائر الحكومية ، وحتى في كثير من مؤسسات القطاع الخاص تغيب بعض الموظفين عن العمل ، وأحياناً يكون هؤلاء الموظفين ممن لا يوجد أحد يقوم بمهامهم في فترة غيابهم ، كما لم يتم تحديد وترتيب الإجازة مسبقاً ، فيتم الاحتياط بوضع موظف بديل ، فيتغيب ويأتي المراجعون وذوو الحقوق وقد يكونون كثرة وأعداداً كبيرة ومصالحهم جليلة ، إلا أنه يتم الاعتذار لهم بأن الموظف قد غاب بسبب وفاة أحد أقاربه أو جيرانه ، أو أن هناك عملية تجرى بالمستشفى لأحد أقاربه ، أو أصهاره ، وقد يكون الغياب ليومين أو ثلاثة أو أكثر! وأسباب التغيب التي تدخل في هذا السياق هي من : (البحر الذي لا ساحل له) ، فأنت لا تستغرب من أي سبب يذكر لك أو تسمع به !! أو قد لا يذكر!! فقد يكون من الأسباب : أن لصاً دخل بيت جار الموظف والموظف تغيب ليقف ويقوم بالواجب في البحث أو المساعدة للقبض على اللص !!! وكأنه أحد أفراد الشرطة أو المباحث الجنائية!! .وقد يقال إنه قد سافر لدفع المهر لصديقه فلان أو أو ...إلى غير ذلك مما (يشبهها) من الأسباب. إن هذا التصرف ـ وللأسف ـ يعتبر جزءاً من ثقافة الكثيرين في مجتمعنا ، بل هي قضية راسخة رسوخ الجبال الرواسي في الأرض ، فقد أدى هذا الموظف واجبه وقام به خير قيام في مجاملته وأرضى من حرص على مجاملتهم!! لكن ما ذنب من تعطلت معاملتهم بسبب مجاملته؟! أين حق هؤلاء وهو حق واجب؟! ألا يقدح هذا الغياب ـ والذي بسببه تعطلت الأعمال وربما ضاعت به مصالح أناس ـ ألا يقدح في حِلِّ الأجر والراتب الذي يتقاضاه هذا الموظف ؟!
الوقفة الثانية : يُحَمّلُ كثير من الناس أنفسهم أموراً (فوق طاقتها) بسبب مجاملاتهم ، فإن بعضهم يقترض ويستدين المال لأجل أن يدفع مبلغاً في مجاملة من المجاملات ولموقف اجتماعي ، ويلزم نفسه بالدَّيْن ، ومعلوم خطورة الدَّيْن وما يترتب عليه ، فقد امتنع النبي عليه الصلاة والسلام من الصلاة على الرجل الذي توفي وعليه دين ، ليبين للناس خطورته . ويستدين آخر ليسافر إلى مدينة بعيدة ليحضر مناسبة ، قد كان يكفيه أن يتصل بالهاتف على صاحب المناسبة ويكفي نفسه ذل وهم هذا الدين . وبعضهم قد لا يستدين لكنه يصرف في ذلك المال الذي يحتاجه أو تحتاجه أسرته في ضروريات حياتهم. والبعض الآخر يكلف نفسه (بدنياً) فوق ما تتحمل كأن يسافر وهو مريض ، وهو لا يتحمل طول الطريق ، لكن هكذا تفرض عليه المجاملة!! وهكذا يدفعه حرصه على المشاركة ، أو خوفه من اللوم والعتاب إذا لم يشارك!! ألا يعلم من يُقْدِمُ على ذلك أن الله رب العالمين الذي خلق هذا الإنسان وأوجده لعبادته ، وأنعم عليه بجميع النعم ، لم يكلفه فوق ما يطيق ، فإذا كان الرب الخالق لم يكلف عبده فوق طاقته ، فما بال المخلوق يلزم مخلوقاً مثله بما يفوق طاقته بدنياً أو مادياً؟!! قال الله تعالى : (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وقال الله تعالى : (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : (صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنبك) . ألا فليعقل ذلك كل من سولت له نفسه بإلزام الناس أو إلزام نفسه فوق ما تطيق.
الوقفة الثالثة : يجتهد كثيرون في مجتمعنا في عدم الغياب عن أي مناسبة قريبة أو بعيدة في السفر أو الحضر ، ولكنك إذا سألت بعضهم عن علاقته بأولاده ، أو زوجته ، عن تفقده لهم ، وتوجيهه وتربيته لهم ، قد تجد أن نصيبه من ذلك لا يقارن أو يوازي نصيب المجاملات للآخرين في اهتماماته وأوقاته ، بل قد يكون بلغ درجة كبيرة في التقصير، فقد أهمل وض ي ع من يعول ، ومن أهم أسباب ذلك : المجاملات التي لا تعرف أزمانا ولا أوقاتاً ولا أحوالاً ولا تنقضي. فأين هؤلاء الذين أدى بهم حرصهم على تطييب خواطر الآخرين بمجاملاتهم إلى إهمال خواطر الأقربين بل إضاعة حقوقهم؟! وماذا يقولون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص الذي كان قد غلب جانب (العبادة) على بعض حقوق زوجته وأهله فقد قال له : ( إن لزوجك عليك حقاً وإن لربك عليك حقاً وإن لبدنك عليك حقاً وإن لضيفك عليك حقاً فأعطى كل ذي حق حقه ). أين هم من مراعاة الأولويات ؟!فإن الحقوق إذا تضاربت وكان أداء بعضها يتسبب في تفويت البعض الآخر كان من الواجب في هذه الحال أن يقدم ويؤخر بينها على ضوء قاعدة (الأولويات) التي تنطلق من تفاوت هذه الحقوق واختلافها وتقديم الأولى على ما هو دونه. كيف يهنأ بك الآخرون ويفتقدك الأقربون ؟! وحقوقهم آكد وأوجب من حقوق غيرهم! أليس من المسلمات في ديننا أن الأقربين أولى بالمعروف؟!
الوقفة الرابعة : وفي مقابل ما ذكرته في الوقفة السابقة ، فإن العكس يحصل أحياناً ـ وبسبب المجاملات ـ! ومن الأمثلة التي أوضح بها ذلك : أنه قد يمنع رب الأسرة زوجته أو ابنه أو بنته من الذهاب لمناسبة ما ، وبغض النظر عن صحة أو خطأ موقفه ، إلا أنه في كثير من الأحيان تصر الزوجة أو الابنة أو الابن على تحقيق رغباتهم ، وعلى المشاركة التي يرونها (ضرورية)!! وكأنهم سيفقدون الحياة أو ينفوا من الأرض !! إن لم يشاركوا في تلك المناسبة!! فيصرون ، وقد تدور مناقشات ، ومشاجرات ، بل قد استُفتِيتُ في مواقف من ذلك حصل بسببها الطلاق ، وقد يتمرد الأبناء ، ويعصون أباهم ، وقد تعصي الزوجة زوجها ، وجهلوا أن فعلهم هذا من المحرمات ، فإن طاعة الزوج والوالدين واجبة إلا إذا كانت في المعصية ، أما ما عدا المعصية فإن الطاعة تجب ويأثم بذلك من يعصي. وقد يوافق رب الأسرة على مضض!! فيأخذون منه بسيف الحياء ، وإن ما أخذ بسيف الحياء كما يؤخذ بالسيف الحسي. وقد جاء في حديث وقصة (جريج) العابد أنه قدم استمراره في صلاته ونافلته على طاعة أمه ، فدعت عليه ، فاستجاب الله دعاءها عليه بما جاء في القصة ، وهو قد قدم (الصلاة والعبادة) على مناداة أمه وطلبها له ، فكيف بمن يقدم (مراعاة الآخرين) ومجاملاتهم على ما يطلبه والداه ؟!
الوقفة الأخيرة : إن بسبب المجاملات قد ضاعت في مجتمعنا كثير من الحقوق،، ووقع كثير من الناس في أنواع من البلايا والشرور! فقد عصى بعض الناس الله تعالى بسبب المجاملات! وسكت كثير من الناس عن كلمة الحق بسبب ذلك ! وقل النهي عن المنكر لدى كثير من الناس بسبب المجاملات. وربما أكل بعض الناس المال الحرام مجاراة وتطييباً لخاطر من لا يستطيعون إحراجهم! وبسبب المجاملات (لم تقسم) كثير من المواريث والتركات ولم يعط كثير من ذوي الحقوق حقوقهم!! والحديث عن هذا الأمر ونماذجه وأمثلته يطول جداً ، ولكن حسبي أن الإشارة بما ذكرت قد تكفي عن الكثير. وإن من أهم الواجبات الكفائية أن تتم توعية الناس بهذا الجانب المهم ، وتبين لهم قاعدة الحقوق والأولويات ، حتى تنكشف المسألة للجميع وتتضح ، وحتى لا يخسر كثير من الناس آخرتهم بسبب ما ضيعوا من حقوق وجبت عليهم بسبب المجاملات ، والله الهادي سواء السبيل وهو ولي التوفيق .
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(2) أخي السمســــــــار احــــــــــذر هـــــــــــذا المســـــــــــــار
هذه رسالة أوجهها إليك أخي السمسار، من أخٍ يحب لك ما يحبه لنفسه من الخير، فإن من المعلوم في شريعة الإسلام أنه لا يكتمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير. أخي الفاضل السمسار: كن على ثقة أن من سطّر لك هذه السطور يدعو لك بالتوفيق والسعادة في الدارين، ويبتهل إلى الله تعالى أن يرزقك الرزق الحلال الوفير والمال الكثير، وأن يجعل ذلك عوناً لك على طاعة الله ومرضاته، وقد قال النبي صلى الله عليه سلم : (نعم المال الصالح للمرء الصالح) رواه الإمام أحمد وغيره.
وقبل أن أسطر لك كلمات رسالتي هذه فإنه يتحتم علي أن أنبه بهذين التنبيهين المهمين : الأول : أرجو ألا يتطرق إلى ذهن أحدٍ من القراء الكرام أني أريد بهذا المقال تحريم العمل بـــ (السمسرة) في أصله ومبدئه ، كلا، فإن من المعلوم أن الفقهاء قد بينوا أن من يتوسط بين البائع والمشتري ويأخذ مقابل ذلك مبلغاً محدداً من المال أن عمله هذا جائز وكسبه حلال ، ويذكرون هذه المسألة في باب (الجُعالة) من أبواب الفقه ، وقد بينوا بتفصيلٍ كل ما يتعلق بما يعرف بــ (السمسرة) في ذلك الباب من كتبهم ، وأنه يجب على السمسار أن يلتزم بالشروط التي يشترطها البائع والمشتري ، طالما كانت تلك الشروط لا تخالف الشريعة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً ) رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما.
وقد قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ــ : (لم يرَ ابن سيرين وعطاء ابن أبي رباح وإبراهيم النخعي والحسن وسواهم بأمر السمسار بأساً ).وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري شرح صحيح البخاري) : (وكأن المصنف ــ ويقصد الإمام البخاري ــ أشار إلى الرد على من كرهها).
الثاني : كما أرجو ــ أيضاً ــ ألا يفهم ــ خطاً ــ أحدٌ من القراء بأني أعمم برسالتي على (جميع السماسرة) وكل من يعمل بالسمسرة ، وهذا الفهم ــ إن حصل ــ غير صحيح ، فإن ما سأذكره من مخالفات شرعية وتصرفات هي مما يصدر من (بعض) السماسرة وليس من (الكل)، إلا أنه مع الأسف أصبحت تصرفات من يخطئ ــ وإن كانوا البعض ــ هي السائدة ، والأكثر شهرة . فأؤكد أني أقصد برسالتي هذه (بعض) من يعملون بالسمسرة وليس الجميع ، فإن الكثيرين من السماسرة يتحرون الصدق والأمانة وتحقيق تقوى الله تعالى في تعاملاتهم ــ وهذا هو الأصل ــ أسأل الله تعالى لهم الثبات والتوفيق. ومع ذلك فإني آمل أن تصل رسالتي هذه إلى جميع من يعمل بالسمسرة ويتكسب بها ، والحق ضالة المؤمن أنى وجده أخذ به ولزمه.
وبعد هذين التنبيهين المهمين فإني أشرع في تسطير رسالتي إليك أخي السمسار، وأضع كلماتي في وقفتين :
الوقفة الأولى : تجنب أخي السمسار الوقوع في (الكذب)، فإن بعض السماسرة يقعون في الكذب ويدفعهم إلى ذلك : الحرص على إتمام وإنفاذ البيع الذي يتوسطون فيه ،أو الحرص على أن لا يتم البيع إلا عن طريقهم ، أو تزيين السلع التي يقومون بتسويقها ، حتى يتم لهم التوصل إلى نصيبهم من المال. ألا تعلم أيها السمسار أن الكذب من الخصال الذميمة والصفات السيئة ؟! بل هو من صفات المنافقين ! قال الله تعالى عن المنافقين : (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) وقال سبحانه عنهم : (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون). وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (أربع من كن فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم . أترضى أيها السمسار أن تكون فيك صفات أهل النفاق؟! لماذا تقع في الكذب وقد علمت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم. هل وعيت هذا الوعيد العظيم ؟! إني أدعوك يا من يقع في الكذب ليتحقق له ما يريد من مكاسب ، أدعوك إلى أن تقف مع نفسك وقفة صادقة وتقارن بين ما تحصل عليه من (حفنة) من المال قد مُحِقَت بركتها بسبب الكذب ، وبين النار وغضب الجبار. إنه مسار كله وعيد وأخطار، فهو طريق إلى النار، وهي دار الخزي والنكال والبوار. هل ترضى لنفسك أن تكون أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ؟ وهم : المسبل إزاره والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب والمنان بعطائه ، والحديث في صحيح الإمام مسلم. ولا أظن أني بحاجة إلى أن أستطرد لأذكر نماذج من الكذب الذي يقع فيه الكثيرون من السماسرة في أسواقنا السودانية المختلفة ، ولكن لا بأس من الإشارة بذكر بعض تلك النماذج : إن بعض السماسرة يغرر ببعض المشترين ويقول له : (هذه السلعة دفعوا فيها المبلغ الفلاني ) أو (جابت كده) ويحدد مبلغاً بعينه ، ويكون الواقع خلاف ذلك ، أو يقول : (يريد أن يشتريها الشخص الفلاني وإذا تأخرت سيسبقك لشرائها)، وقد لا يكون هناك من في نيته الشراء فضلاً عمن يكون قد عزم على الشراء. وأحياناً يكون الكذب من السمسارعلى البائع، فيكذب ويقول له مثلاً : (ما حا تجيب سعر أكثر من كده) وقد يكون هو على علم من أن هناك من يريد شراءها بأكثر، ولكنه يريد أن تكون تلك الزيادة له ، ويصبح ينسج خططاً لكي تكون تلك الزيادة خالصة له من دون الناس. وقد يحصل العكس فيكذب على البائع بأن قيمة السلعة أكثر مما دفع فيها ، أو يزيد على المشترين ويضع مبالغ من عنده (خرافية) ويقول لهم (هكذا يريد البائع) ، وسيأتي بيان ذلك بتفصيل في الوقفة الثانية. وقد يكذب على البائع بأن يقول له (الشركة الفلانية دفعوا المبلغ الفلاني) والواقع أنه ليست هناك شركة ولا خلافه، وإنما هو إيهام، وينتج عن ذلك أن يعتذر البائع للمشترين الحقيقيين، لينتظر سراباً بقيعة يحسبه ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً !!! وحتى يضمن السمسار استمرار تخصيصه بعرض السلعة دون غيره من السماسرة، يصبح يرص كل يوم (بلكات) من الكذب!! فيقول لهذا الأسبوع (المدير بتاع الشركة مسافر وحا يجي بعد أسبوع ) وبعد مضي الأسبوع يتجرأ على كذبة أخرى هي أكبر من أختها، فيقول للبائع المسكين الضحية المنتظر: (الشيك في التوقيع وأيام وتقبض) وهكذا دواليك ، ولعاب الأخ البائع قد سال ، وخطط ورسم وقسم المبلغ في خياله ونفذ مشروعاته ، وهو لا يعلم أنه بين يدي كذاب أفاك لم يتق الله فيه ، فلعب به يميناً ويساراً حتى تباع السلعة عن طريقه هو فقط. فلا بارك الله في رزق يكون بطريق الكذب ، وهذه الحيل الملتوية ، واللف والدوران، والخديعة لعباد الله ، فلتنأ ولتبتعد بنفسك أخي السمسار عن هذا المسار، فإنه ــ بلا شك ــ مورد للنار، وبئس دار القرار.
الوقفة الثانية : هل تعلم أخي السمسار أن نبينا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام قد قال : (لا ضرر ولا ضرار)؟! رواه الإمام مالك والإمام أحمد وابن ماجه وعبد الرزاق وغيرهم وقد ورد مرسلاً، وفي بعض الروايات موصولاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . هل علمت أن الإضرار بالنفس أو إخوانك المسلمين محرم في الشريعة الإسلامية ؟! هلا قبلت يا أخي وصية نبيك الناصح الأمين ، ونأيت بنفسك بل واجتهدت في أن لا تضر أحداً من المسلمين؟ وقد ورد في رواية الدراوردي لهذا الحديث زيادة : ( من أضر أضر الله به ، ومن شاق شاق الله عليه). إن إيقاع الضرر بإخوانك هو من الظلم المحرم ، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) رواه مسلم . وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري : (الظلم ظلمات يوم القيامة). لماذا توقع الضرر بإخوانك المسلمين ؟! ألا تتقي الله تعالى فيهم ؟ ألا تخاف من مغبة هذا الظلم وعاقبته عليك في العاجل و الآجل؟! وقد تتساءل ــ وحق لك طرح سؤالك ــ أين الضرر الذي يقع مني ؟ وما هي الأعمال التي أقوم بها وتؤدي إلى الإضرار بالغير؟.
وللإجابة على هذا التساؤل أذكر لك هذا المثال ثم أدعك لتحكم بنفسك : يقول البائع للسمسار : بع لي هذا العقار بمائة ألف جنيه ، ثم يقوم السمسار بعرض العقار، ويأتيه مشترون ويدفعون المائة ألف أو مائة ألف وعشرة، إلا أن السمسار لا يُمضِي ذلك البيع ولا يخبر البائع ، ويرد كل من يأتيه من المشترين، وذلك لأن الأسعار لم تُرْضِِ طموحاته ، بل قل أطماعه!!! ويبقى البائع في الانتظار وقد يكون مضطراً للمال ، وبحاجة ماسة إليه لشراء شيء معين، أو سداد دين، أو علاج مريض بالخارج، أو إخراج سجين بشيكات !!! أو غير ذلك من الضروريات، وقد يكون العقار لأيتام ، أو ورثة ، وفي المقابل قد يكون المشتري مضطراً وبحاجة إلى مأوى ، أو ما أشبه ذلك ، لكن أخانا السمسار يقول بلسان حاله : كل تلك المصالح تهون أمام مصلحتي، فلتذهب مصالحهم أينما تذهب ، وليكبر لي نصيبي وعمولتي ، مع أن هذا السمسار ــ في الغالب ــ يكون على علم بتفاصيل وخصوصيات البائع والمشتري ، وعلى علم بأسباب البيع أو الشراء، إلا أن تلك الأسباب ــ مهما بلغت ــ فإنها لا تشفع لهما عنده ولا تحرك ساكناً !!!فما أقساه من قلب قد طمس بسبب الطمع !!
وقد علمت عن حادثة في هذا السياق، وكان البائع يريد خمسين ألفاً لسلعته وأخبر بعض السماسرة بذلك ، وجاء من يريد الشراء ودفع اثنين وخمسين ألفاً ، إلا أن البيع لم يتم ، وبقي أكثر من ثمانية أشهر، وقد يسر الله تعالى أن التقى البائع والمشتري وتم البيع بينهما بالخمسين ألفاً ، وكان البائع في فرحة وحبور، والمشتري في رضاء وسرور، إلا أن إخواننا السماسرة كانوا في حنق شديد، وغضب ووعيد، وهددوا بتعطيل البيع، والشكوى لدى القضاء، ليأخذ لهم حقهم ولينتصروا لتعبهم وجهدهم وعرقهم !! وإن شئت قل : لينتصروا لطمعهم وجشعهم وغشهم وخداعهم. فكم يا ترى البيعات (المعطلة) التي ستتم وتنفذ إذا ما تم اللقاء بين البائعين والمشترين؟!! وقد تعطلت زمناً طويلاً بسبب بعض السماسرة ؟! وحصل بسبب التأخير الضرر الكثير. ألا توافقني أخي السمسار أن هذا من الضرر الذي يجب عليك ألا تقع فيه؟! ومن الضرر الذي يحدث من بعض السماسرة ما يعرف في مصطلحاتهم بــ (القفلة)، والمقصود بها عندهم : إغراء السمسار للبائع بمبلغ (خرافي) (وهمي) لسلعته أو عقاره ، فيقول له مثلاً (جابت المبلغ الفلاني وسيدفع لك قريباً) ويشتهر بين السماسرة ومن بالسوق ذلك السعر، فيحجم ويمسك بعض من أراد الشراء بسبب ما سمعوا من مبلغ خرافي لا يستطيعون مجاراته ، ويخدع هذا البائع ويصبح ينتظر وينتظر ثم بعد مدة من الزمان يتبين له أنه كان في (فخ محكم) وأن المبلغ الذي ذكر له ليس من الواقع بل هو من نسج الخيال ، ومن كيس أخينا السمسار، ثم إذا أراد أن يبيع بالأسعار الواقعية والمتعارف عليها ، لم يجد من يريد الشراء، فهل يحتاج ما حصل لهذا البائع من ضرر من هذا السمسار إلى توضيح؟!. وقد يكون الضرر من السمسار على المشتري ، فيستشير المشتري السمسار إلا أنه لا يصدُقه ويبين له الحقائق، سواء في عيوب السلعة أو مناسبة السعر، وقد سئلت عن بعض المواقف وقد سمعت بالعجب العجاب وهي مآسٍ، منها: أن ينحي ويبعد السمسار المشتري ويأتي بمشترٍ آخر لأن عمولته ستزيد فلساً أو فلسين!! ومن الضرر الذي يلحق بالبائع والمشتري في وقت واحد ، قيام بعض السماسرة بتعطيل البيع وإفساده ، وذلك لأن البيع حصل على غير هواه، أو لم يتم الوفاء له ببعض أحلامه ، وأمنياته التي كانت ضرباً من المبالغة . ولا يخفى أن بعض السماسرة قد يعطل البيع ويفسده بسبب الخيانة التي وقعت عليه ، إذ لم يقم البائع أو المشتري بإعطائه نصيبه كاملاً ، وفي هذه الحال فإني أقول لهذا السمسار إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصاك بقوله : (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم ، فإذا خانــــــك شخص فإن خيانته لك لا تبرر لك أن تخونه، وإنما عليك اللجوء إلى القضاء والجهات الرسمية لتأخذ لك حقك الذي قد سُلِب منك ، أو أن تخبر من قد يتدخل في الأمر بطريق ودي ويصلح بينكما ،أو أن تفوض أمرك لله ، أو أن تعفو، فلك أن تختار من الطرق المشروعة ما تراه مناسباً لك ، أما أن تفسد البيع ويتحقق ضرر بسبب ذلك وقد يلحق الضرر بمن لا ذنب له ، فإن الشريعة لم تبح لك الخيانة حتى على من خانك. ومن العجائب والغرائب أن ضرر بعض السماسرة قد يتعدى إلى إخوانهم وزملائهم (الوسطاء)، فلا يراعوا أخوة المهنة التي تجمعهم والزمالة التي بينهم ، وإذا أردت أن تقف على أقرب مثال يوضح لك الضرر القائم من بعض السماسرة على (زملائهم) فلك أن تسأل أي شخص يعمل في سوق السمسرة السؤال التالي : ماذا يعني عندكم وفي مصطلحاتكم أيها السمسار مصطلح : (الكُوبري)؟!
وسيتضح لك من خلال إجابته ، أن بعض السماسرة قد يخبرون بعض إخوانهم السماسرة بسلعة أو عقار معين ليكونوا عوناً لهم في تسويقه ، على أن تحفظ العمولات لهم فيما بينهم ، فيقوم بعض من تم إخبارهم من السماسرة ببيع السلعة إلا أنهم يريدون بيعها بدون علم السمسار الذي قام بدلالتهم عليها ، فيصنعون ما يعرف بــ (الكوبري) ويختارون شخصاً معيناً ثم يصلون إلى البائع (مباشرة) أو (وكيل البائع) عن طريق ذلك (الكوبري)، ويغدرون بأخيهم السمسار، عن طريق هذا الكوبري !!.
إنه كوبري !!! إلا أنه لا يوصل إلى بر الأمان والسلامة ، ولكنه يوصل إلى مسار ونهاية الغادرين ، فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم .أي راية يعرف بها بين الأشهاد . فإن الغدر من صفات المنافقين ــ كما لا يخفى ــ لكن الطمع في الكسب والرغبة في الحصول على المال بأي مسار ــ وأياً كان ــ أوصل هؤلاء السماسرة إليه ، حتى غدروا بزميلهم ومن دلّهم على السلعة ، وأضروا به !!! فنال منهم جزاء سنمار بدلاً من الشكر والوفاء !! أخي السمسار احرص على تحري الصدق وأداء الأمانة ، واحذر الكذب والغش والخداع وإلحاق الضرر بإخوانك ، ورزق قليل يبارك لك الله فيه خير من مال كثير ممحوق البركة ، ولا يخفى عليك أن من كان كسبه من الحرام فإن دعاءه لا يستجاب ، وترد دعوته عليه ــ وهي من أعظم العقوبات لمن عقلها ، والعياذ بالله ــ .
واعلم أخي السمسار أن الناس متى ما وثقوا فيك وعلموا صدقك وأداءك للأمانة ، حرصوا عليك وأسندوا إليك بيعهم وشراءهم ، وكبرت نسبتك في المبيعات ودعوا لك بالخير وأعطوك عن طيب نفس بل أعطوك أكثر مما طلبت ، وبارك الله لك فيما رزقك. إن ما ذكرته هنا ــ وهو شيء يسير ــ مما يحدث كثيراً ويتكرر، وليست هذه تصرفات أفراد أو حوادث قليلة وشاذة وإنما هي ــ للأسف ــ تصرفات متكررة وتكثر في أسواقنا وبين السماسرة في مجتمعنا السوداني ، وإن رسالتي هذه لا أريد بها استقصاءً أوحصراً للمخالفات التي تقع من (بعض) السماسرة ، فهي كثيرة ، وإنما هذه نماذج ، أردت بذكرها النصح لكل من تصله رسالتي هذه ، وأردت بها ــ أيضاً ـــ التذكير لتقوم كل جهة من هذا المجتمع بدورها ، فإن الجهات الرسمية عليها دور كبير في المحافظة على حقوق الناس ورفع الضرر عنهم ، وحماية حقوقهم ، وإن قاعدة (الضرر يزال) من القواعد المتفق عليها بين المسلمين ، والجهات الإعلامية ــ أيضاً ــ عليها دور في التوعية بمثل هذه الممارسات الخاطئة التي تنتشر بسبب الجهل أوالتقليد الأعمى أو الطمع في المال ، كما أن العلماء والدعاة والوعاظ عليهم واجب عظيم في التحذير من هذه المسارات والتخويف منها ، نصحاً للأمة وإبراءً للذمة ، وكل أفراد المجتمع عليهم النصح بقدر استطاعتهم ، حتى يطيب للناس معاشهم وتطيب لهم أعمالهم ، ويعيشون في إخاء وتواد وتراحم.
وفي الختام ، أقول لك أخي السمسار : هذا نصحي الذي سمح لي به المقام، وأرجو من الله تعالى الملك العلام أن تدخل إلى قلبك بسلام ، وأن يجعلك ممن يتحرى طيب الطعام، ويلين ويصدق الكلام ، ويعيش مع إخوانه في ود ووئام ، ويدخل الجنة بسلام . وصلى الله وسلم على خير الأنام وعلى آله وصحبه، ما بقي على الأرض فردٌ من الخلق والأنام.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(3) القاعدة الفقهية : "من تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمــــــانه" وأمثلة ونماذج من الواقع
من القواعد الفقهية المعروفة لدى العلماء قاعدة :" من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه" وقد ذكرها كثير من العلماء في كتبهم حتى لا يكاد يخلو كتاب من كتب القواعد الفقهية من ذكرها أوالإشارة إليها. ومعنى القاعدة إجمالاً : أن من تعجّل الأمور التي يترتب عليها حكم شرعي قبل وجود أسبابها الصحيحة لم يفده ذلك شيئاً وعوقب بنقيض قصده. وقال ابن رجب مبيناً معناها :"من تعجل حقه وما أبيح له قبل وقته على وجه محرم عوقب بحرمانه " . وقال بعض الفقهاء :" من استعمل ما أخره الشرع يجازى برده " وقال الشيخ السعدي في نظم هذه القاعدة في منظومة القواعد الفقهية : معاجل المحظور قبل آنه*****قد باء بالخسران مع حرمانه أي أن المستعجل للشيء المحرم عليه الآن مع أنه سيباح له بعد حين ولكن لا يصبر حتى يأتي وقته فيستعجل سببه وطلبه فحكم عليه بأنه "قد باء بالخسران مع حرمانه" أي أنه يصير إلى الخسارة مع حرمانه بالكلية مما استعجله وتسرع في حصوله ، ولاستخدامه الوسائل غير المشروعة للحصول على مطلوبه.
ويعتبر استعجال الأمر قبل أوانه من التقدم بين يدي الله وعدم التسليم وقد قال الله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم" ، كما أنه سوء أدب مع الله تعالى . وقد ذكر بعض العلماء كالحسن البصري والشعبي في سبب نزول هذه الآية الكريمة أنها نزلت في قوم ذبحوا أضحيتهم قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح حيث إنهم استعجلوا الذبح قبل وقته المحدد شرعاً فكان لغواً ولم يعتبر.
فكل من توسّل بالوسائل غير المشروعة تعجلاً منه للحصول على مقصوده المستحق له ، فإن الشرع عامله بضد مقصوده ، فأوجب حرمانه جزاء فعله واستعجاله ، لأن الشرع جعل للأشياء أسباباً ، ولا تتحقق تلك الأشياء إلا بتحقق أسبابها. ولمزيد من التوضيح يقال :إن من أجازت له الشريعة شيئاً في وقتٍ معين ثم تباطأ هذا الوقت وطال عليه الأمد ، وحاول استعجاله بطرقٍ (ملتوية محرمة) ، فإنه حينئذٍ يعاقب بحرمانه من ما هو مباحٍ له ، ويحال بينه وبين حقّه ، معاملةً له بنقيض قصده جزاءً وفاقاً ، فكما أنه أراد الوصول للمشروع بوسائل محرمة تعجلاً منه للحصول على مقصوده المستحق له ؛ فإنه يعاقب بالحرمان منه ، وهذا هو العدل ، فإن هذا الحق الذي جعل صاحبه يقع في الحرام من أجل استعجاله ، لا خير فيه ، وحقه أن يمنع منه ، وهذه القاعدة العظيمة تمثل جانبًا من جوانب السياسة الشرعية في القمع وسد الذرائع ؛ ولأن فعل ذلك الشخص الذي أراد الوصول إلى حقه بطرقٍ محرمة يُعَدُّ تحايلاً على الشرع من جانبٍ آخر ، فعنده بليتان :
أحدهما : أنه وقع في المحرم استعجالاً لحقه . الثانية : أنه تحايل على الشرع بسلوك هذه الطرق للتوصل إلى حقه ، فعوقب بحرمانه من هذا الحق أصلاً.
والأمثلة التي ذكرها الفقهاء لهذه القاعدة كثيرة جداً منها : ـ حرمان القاتل من الإرث ، فمن قتل مورثه فإنه يحرم من الميراث ، لأنه استعجل إرثه من المورث قبل أوانه فيعاقب بالحرمان ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" القاتل لا يرث" رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم ، فإن استعجال الوارث قد حرمه من حقه الذي كان سيأخذه إن لم يتعجل. وأيضاً لو قتل المُوصى له الموصِي فإنه يُحْرَم من أخذ الوصية التي كان سيأخذها لو لم يستعجل موت الموصي بقتله. ـ من أخذ من الغنيمة قبل قسمتها وهو ما يعرف بــــ" الغلول" فإنه يحرم من نصيبه في الغنيمة. وتجري أحكام هذه القاعدة في الأحكام الدنيوية والأخروية ، فإن الله تعالى حرم على العباد محرمات في الدار الدنيا ووعد الصابرين على تركها بالجزاء العظيم في الآخرة ومن الجزاء إتيانها في الآخرة ولكن من تعجل شهواته المحرمة في الدنيا عوقب بحرمانها في الآخرة ـ إن لم يتب منها ـ قال الله تعالى :" وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ". فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة"رواه البخاري ومسلم . وأيضاً من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة . قال عليه الصلاة والسلام :" من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" رواه البخاري ومسلم ، والجزاء من جنس العمل .
وبنظرة لواقع حياتنا فإننا نجد كثيراً من الأمثلة والنماذج لهذه القاعدة ، فمن يتأمل أسباب دخول كثير من الناس (الرجال) ، بل وفي الآونة الأخيرة كثير من(النساء)!! في الأزمنة المتأخرة في السجون بسبب المال يجد أن كثيرين منهم قد كان استعجالهم لتكثير المال والغنى قبل أوانه هو الذي أوقعهم في ذلك ، ولم يكن دخول كثيرٍ منهم بسبب متطلبات المعيشة العادية ، أو ما شابه ذلك ، وإنما السبب في كثير من الحالات هو: الطمع في الغنى وتكثير المال وزيادة طوابق المباني وركوب آخر الموديلات من السيارات وفتح المزيد من الفروع والمحلات والتوسع في التجارات... وما شابه ذلك ، قبل وجود الأسباب المشروعة لتحققها .
فيأخذ الواحد منهم قرضاً ضخماً ـ وأحياناً ربويّاً ـ ثم يعجز عن سداده ويدخل في قرضٍ آخر ليحل به القرض الأول ويدخل في مسلسل طويل ليسدّد قرضاً بقرض آخر مع زيادة ومضاعفة الدّيْن ويسهّل عليه ذلك الجهات المستفيدة من تلك القروض ، وأحياناً يوقعونه في بيع (العِينَة) وهكذا يستمر حتى يتم القبض عليه وتبدأ رحلة طويلة ومسلسل تضيع معه الأعمار والأوقات وغير ذلك مما لا يعلم آثاره السيئة إلا الله سبحانه وتعالى. فإن من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه... إن دين الإسلام لم يحرم الاتجار، بل إنه قد أمر بالسعي في كسب المال بالطرق الصحيحة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول" رواه أبو داود والحاكم ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه : "نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح" رواه الإمام احمد وابن حبان وغيرهما ، لكنَّ الإسلام يأمر بأخذ الأسباب الصحيحة المشروعة لكسب المال ويحرم الأسباب الممنوعة والمحرمة لذلك. كم من امرأة أصرّت على زوجها لأخذ قروض مرهقة لمجاراة الناس وللمظاهر!! كشراء سيارة بتمويل من البنك مثلاً ـ علماً بأن بعض أنواع التمويل تشتمل على الربا والعياذ بالله أو على بيع ما لا تملك تلك البنوك والمؤسسات وهو بيع محرم في الشرع ـ وكتغيير في بناء أو أثاث مجاراة لفلان وعلان ممن لديهم بسطة في المال ، ثم تصبح تلك الديون هي البداية لمصائب وبلايا ومحن بسبب استعجال شيءٍ قبل أوانه.
كم من موظف يفقد وظيفته بسبب تعجله في الحصول على درجات أعلى وأجور أكثر، ويكون مـــا يطلبه لا يتناسب مع خبرته ومؤهلاته وسنين عمله ومميزاته ، فيكون ذلك التعجل سبباً في فصله من عمله وتخلّص المسؤولين منه حيث إنهم قد تخوّفوا وانزعجوا بسبب تعجله.
كم من رجلٍ أقدم على خطبة امرأة لتكون زوجته وشريكة حياته ، لكن قبل حصول الزواج تعصف عواصف الخلافات بينهما ـ وربما لأشياء ########ة ـ فتفسخ تلك الخطوبة ، وقد يعلّل كل منهما بأسباب يبرئ بها نفسه ، وقد يدخل بعض الأقارب في ذلك الخلاف ويذكر كلٌ ما يحضره من أسباب ، لكنهم جميعاً يجهلون أن استعجال هذين المخطوبين لبعض ما يحرم عليهما حالياً ( في حال الخطبة ) مما سيحل لهما مستقبلاً (بعد الزواج) هو السبب في ذلك !! خاصة في بعض المجتمعات التي عرفت بالتساهل في هذه الأمور ، فيقع المخطوبان في بعض المحرمات المحرمات كالخلوة وغيرها ، وغير ذلك مما يجدان به المتعة التي لا تحل لهما إلا بعد الزواج ، وقد تكون العقوبة بالفراق ولو بعد الزواج ، فإن من تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
إن كثيراً من النصوص الشرعية تفيد أن العبد يعامل بنقيض قصده السيء ولذلك فقد حكم الصحابة ـ عليهم الرضوان ـ بتوريث المرأة التي طلقها زوجها طلاقاً بائناً وهو في مرض الموت ليحرمها من الميراث ، فورثوها معاملة له بنقيض قصده ، والجزاء من جنس العمل .
وكما أن المتعجل للمحظور يعاقب بالحرمان فمن ترك شيئاً تهواه نفسه عوضه الله خيراً منه في الدنيا والآخرة ، فمن ترك معاصي الله ونفسه تشتهيها عوّضه الله إيماناً في قلبه وسعة وانشراحاً وبركة في رزقه وصحة في بدنه مع ما له من ثواب الله وأجره الذي لا يقدر على وصفه.
كم من فسادٍ في دنيا الناس ودينهم في المجتمع بسبب التعجل ـ قبل الأوان ـ في تحصيل حطام الدنيا الفانية وملذاتها ، فلنتنبه لذلك ، ولينتشر بيننا النصح والتذكير ولتقم كل جهة وفرد بدوره المنوط به في هذه القضية ، وليتعظ الجميع وكما قيل : السعيد من وُعظ بغيره ، ونسأل الله أن يسلك بنا وبجميع إخواننا المسلمين وأخواتنا المسلمات سبل التوفيق والهدى ويجنبنا طرق الغواية والرّدى وأن يرزقنا القناعة بما تفضل وتكرم به علينا من نعم لا تعد ولا تحصى ، والله الهادي سواء السبيل.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(4) عندما يصبح التعدي على حقوق الآخرين أمراً عادياً
إن من الملفت للأنظار أنك ترى وأنت تسير في شوارع العاصمة ـ وربما شوارع غيرها من مدن بلادنا الغالية لدى نفوسنا ـ ترى منظر أوراق كبيرة وبوسترات تحمل إعلانات قد اختلفت وتباينت جهاتها بعضها لافتتاح مطعم وآخر لمزاد وآخر لحفل غنائي! وغير ذلك، يقوم أصحاب هذه الإعلانات بتلصيقها على لوحات حديدية مثبتة تم وضعها وتركيبها وتثبيتها من قبل أصحابها إما لمستشفى أو مدرسة أو شركة أو غير ذلك ،، فيغطي أصحاب هذه الأوراق الدعائية والملصقات على ما كتب في تلكم اللوحات المثبتة مع استخدامهم لأجود أنواع الصمغ اللاصق ،، حتى إذا ما أراد أصحاب تلك اللوحات إظهار ما كتبوا في لوحاتهم بإزالة تلك الإعلانات لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً وحيل بينهم وبين ما يشتهون .
إن هذا التصرف لا يختلف اثنان في أنه من التعدي على حقوق الآخرين وظلمهم بوضع هذه الإعلانات في هذه الأمكنة وبتغطية ما كتبه أصحاب هذه اللوحات واللافتات المثبتة ، وإن الإسلام وهو الدين الذي ختم الله به الأديان وأكمل تشريعاته (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)لا يقر مثل هذا التصرف بل يحرمه لما يشتمل عليه من أمور كثيرة مخالفة وإن جهلها أو غفل عنها وتساهل فيها بعض الناس وإن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة قد تضافرت في التحذير من التعدي على حقوق الآخرين ومن ظلمهم وأذكر من ذلك الحديث التالي :عن عبدالله بن أنيس - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:(يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلاً بهماً قلنا:وما بهماً؟ قال:ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ:أنا الملك أنا الديان ولاينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ولاينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه , حتى اللطمة قال : قلنا : كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهمًا ؟ قال : بالحسنات والسيئات ) رواه الإمام أحمد ، وهذا الحديث هو الذي ذهب لأجل سماعه من المدينة إلى الشام (مسيرة شهر كامل) الصحابي الجليل جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ لسماعه من عبد الله بن أنيس ـ رضي الله عنه ـ .
إن هذا المنظر المتكرر في كثير من شوارع العاصمة يدل على أن التعدي على حقوق الآخرين أصبح أمراً عادياً عندنا ـ وللأسف الشديد ـ ويتم ذلك على مرأى الجميع ولا تكاد ترى من ينكر ذلك كما لا ترى استحياء ممن يقومون بوضعه ،، إن تعاليم الإسلام وتوجيهات القرآن جاءت بالدقة الشديدة في هذه الأمور فالحديث السابق بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بقوله (حتى اللطمة) وفي حديث آخر في التحذير وبيان الخطورة نجد قوله عليه الصلاة والسلام (ولو كان قضيباً من أراك) ـ يعني مسواك ـ ،، فالظلم محرم وفيه وعيد شديد ولا يغتر من أمهله الله فإن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ومع ما في هذه الظاهرة من الظلم والتعدي على حقوق الآخرين ، فإنها تحكي بحالها فوضى وجهلاً لدى أصحابها كما تشوه منظر شوارع العاصمة ونحن نرى جهوداً لا بأس بها في إظهارها في صورة أجمل !! إن هذه الظاهرة وغيرها كثير بحاجة إلى تضافر الجهود حتى يتم القضاء عليها فليبين من يرى من يقوم بفعل ذلك خطأ فعله وسوء تصرفه بالأسلوب الحكيم وبالتي هي أحسن ، وليكن للجهات المختصة وأصحاب اللوحات واللافتات المعتدى عليها الموقف المناسب مع أولئك حتى لا نرى ذلك مستقبلاً ، ولما كان هذا التصرف قد يبدو أمراً بسيطاً وهيّناً أحببت ضربه كمثال ليقاس عليه غيره مما تساهل فيه الناس ، وهو يعكس مدى التساهل في التعامل مع حقوق الآخرين ، وبالله التوفيق .
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(5) مصطلح "الكَسِرْ" بين الطلاب والتجار
(الكَسِرْ) مصطلح كان يشتهر بين الطلاب في الثانويات والجامعات ، ولعله لا زال الطلاب يستخدمونه فيما بينهم ، ويقصدون به كثرة الاجتهاد في المذاكرة ، وبلوغ الغاية في الاجتهاد والتحصيل ، وبذل الطاقة القصوى في تحقيق النجاح والحصول على أعلى الدرجات . فكان مصطلحاً يحمل معنى ومضموناً جميلاً وهو منقبة ومدح ؛ إذ يتضمن الثناء بالوصف بالجدية والحرص وعلو الهِمَّة ، وفي الفترة الأخيرة أصبح مصطلح "الكَسِرْ" من المصطلحات المستخدمة وبشكل كبير في بعض الأسواق !! وهناك أسواق تخصصت في "الكَسِرْ" و(أشخاصٌ) ــ أيضاً ــ قد تخصصوا فيه!!
و"الكَسِر" في الأسواق نوعان : الأول : وهو ما يعرف عند العلماء بمسألة "التورق" وهي أن يشتري الشخص سلعة بمبلغ مؤجل أو بأقساط ثم يبيعها بعد أن يتملكها لشخص آخر وغالباً يبيعها بثمن أقل من ثمن شرائها ، (ويشترط في الشخص الذي يبيعها له ألا يكون هو البائع الأول نفسه أو وكيله) ، وهذا الأمر جائز عند جمهور العلماء ومن العلماء من لم يُجِزْ هذا البيع ، إلا أن قول الجمهور هو الراجح ، لما في ذلك من المصلحة والتيسير على الناس ، فإن الشخص وإن فقد بعضاً من ماله ؛ إلا أن حاجته للمال في وقته هذا تكون مصلحته بها أرجح ، وإن كان الواقع أن كثيراً من الناس أصبح يستخدم المال الذي يحصل عليه بهذه المسألة في (كماليات) وأمور لا تعتبر من (الأساسيات) ، فيضيع المال فيما لا يعود عليه بكثير نفع ، ويبقى الدَّيْنُ يطارده ، والأقساط تلاحقه السنوات الطوال.
الثاني : من أنواع (الكَسِرْ) وهو (المنتشر والمشتهر) ، وهو أن يأتي شخص للسوق أو يتصل (وهو في مكانه) بشخص ما ، وتتم بينهما معاملتان ، إذ يشتري هذا الشخص من البائع سلعة (بأجل ، أو بأقساط) ثم يبيعها له بمبلغ (نقدي) (أقل من المبلغ الذي اشتراها به) ، فيشتري سيارة بــ (30.000) ثلاثين ألفاً ــ مثلاً ــ مؤجلاً ، ويحرر شيكاً بذلك ، ثم يبيع هذا المشتري للبائع نفسه نفس السيارة بأقل من الثلاثين ألفاً ، وربما بعشرين ألفاً فقط !! إذ هَمُّهُ كلهه ــ في تلك اللحظات ــ أن يستلم هذا المبلغ ، بغض النظر عن الوفاء بهذا الالتزام الذي حرَّر به شيكاً ؛ وكأن أجل هذا الشيك الذي هو بعد شهرين أو ثلاثة ، لن يأتي !!
وأحياناً تبلغ الجرأة بهذين الشخصين ــ البائع والمشتري ــ بأن يقول البائع للمشتري : اشترينا لك خمسين جوال سكر ، أو تمر ، أو خمسين كرتونة صابون بكذا ، ثم بعناها لك بكذا ، خذ المبلغ وهات الشيك !!! وما أكثر هؤلاء!! ويكون هذه السلع لا وجود لها في الواقع ، وإنما هي كــ"عنقاء مغرب" ، مجرد حيلة وتلاعب ومخادعة ، وقد قال الله تعالى : (يخادعون الله وهو خادعهم).
وهذا البيع معروف عند المسلمين ببيع "العينة" وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" . رواه أبو داود وغيره ، وصححه الألباني . إن حقيقة بيع العينة هو الربا ، الذي حرمه الله عز وجل ، وجعله من أعظم الكبائر ، والواقع فيه قد أُذِن بحرب من الله جلَّ جلاله ، وتوعده الله باللعنة ، فإن الله تعالى يلعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وكل من تعاون في تنفيذ هذه الجريمة العظيمة ، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
والإسلام قد أبطل الربا ، وحرم أكل أموال الناس بالباطل ، وحث على القرض الحسن ، والبذل والعطاء ومساعدة الناس وتقديم الخير لهم ؛ بل الإيثار ، ووعد بالخلف والبركة ، والعون من الله تعالى ، إن الله تعالى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى . ثم يتفنن هؤلاء التجار "زعماء الكَسِر" !! في تنفيذ هذا البيع ، فيصطادون أنواعاً معينة من الناس ، وله دراية وخبرة في انتقاء من يصطادون !! ثم يزينون لهم الأمر ، ويخففون عليهم في الشروط ، حتى إذا حلّ الأجل ، كانت (البيعة الأخرى) جاهزة ، فيبيعون له سلعة أخرى بمبلغ أكبر ، ويأخذون منه شيكاً آخر بمبلغ أكبر من مبلغ سابقه ... وهكذا إلى أن يتضاعف المبلغ الأول أضعافاً مضاعفة . للأسف الشديد ، لقد أصبحت (كثير) من أسواق السيارات (الكرينات) في بلادنا هي ميدان لهذه الجريمة ، ولهذا الإثم الذي تُجْنَى ثمارُه السيئة في كثير من الأحيان في العاجل قبل الآجل ، ولا يقتصر الأمر على أسواق (السيارات) فحسب ، وإنما هناك ميادين أخرى لهذه الجرائم ، ومما يضرب به المثل في ذلك بعض أسواق (المحاصيل) المشتهرة ، سواء في العاصمة أو الأقاليم.
لن أسهب في ذكر (الآثار السيئة) لهذا النوع من بيوع "الكَسِر" وهو الربا الصُراح ؛ فآثاره السيئة والمدَمِّرة أشهر من أن تذكر !! للأسف الشديد ، لقد أصبح في السجون قسم خاص لــ"مجموعات الشيكات" ، وكم من أُسَرٍ باعت كل ما تملك بسبب الديون التي تحملها أبناؤها ضحايا عصابات الكَسِر!!ولا يعد ولا يحصى ضحايا هذه الممارسات !! وحجم إضرارهم وإفسادهم في الأرض.
ومن العجائب ـ والعجائب جمة ـ أن المذهب الفقهي المعمول به في هذه البلاد هو المذهب المالكي ، وهو أكثر المذاهب إغلاقاً لأبواب الحيل ، وسد الذرائع المفضية إلى الربا ، ولذلك تضافرت عبارات أئمة الإسلام في بيان هذه المزية للمذهب المالكي . يقول الحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه "سير أعلام النبلاء" (8/92) : ( وبكل حال ، فإلى فقه مالك المنتهى ، فعامة آرائه مسددة ، ولو لم يكن له إلا حسم مادة الحيل ومراعاة المقاصد لكفاه . ومذهبه قد ملأ المغرب والأندلس ، وكثيراً من بلاد مصر وبعض الشام ، واليمن والسودان ، وبالبصرة وبغداد والكوفة ، وبعض خراسان)أ.هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ في كتابه "القواعد النورانية الفقهية" ص140 : (إذا تبين ذلك ، فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره ، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال : هو أفقه الناس في البيوع ، كما كان يقال : عطاء أفقه النس في المناسك ...) ويقول في نفس الكتاب ص 143 : (ففي الجملة : أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعاً محكماً مراعين لمقصود الشريعة وأصولها . وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة ، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة) أ.هـ
وقد ساعدت بعض العوامل في انتشار هذه الممارسات ، أذكر منها : 1/ ضعف الوازع الديني ؛ وقلة الخوف من الله تعالى ، ومن عقوبته ، وعدم المبالاة بالوعيد الشديد الوارد في العقوبة لآكل الربا أو موكله ، فتجد أحدهم يأخذ هذه الأموال الربوية ــ سواء البائع أو المشتري ــ وهو كأنما يأكل رزقاً طيباً حلالاً !! وهذا من السفه ، ومن خفة الدين ، وإلا لو لم يكن في عقوبة كسب المال الحرام إلا أن هذا الآكل لا تستجاب له دعوة ، مهما بلغ في الانكسار ؛ وأكثر من الدعاء والالتجاء إلى الله . ومن هنا تعظم الأمانة الملقاة على عاتق العلماء والدعاة وطلاب العلم ، في تحذير الناس من مثل هذه المعاملات ، وتخويفهم بالله تعالى من نتائج هذه المخالفات في الحال والمآل ، بالإكثار من الخطب والدروس وحلقات العلم ،ونشر الكتيبات والمطويات والأشرطة التي تتضمن بيان الأحكام في هذه القضايا. وانتشار مثل هذه التصرفات يؤكد للجميع مدى الحاجة لنشر العلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، ويحكي بوضوح ــ أيضاً ــ انتشار هذه التصرفات وهذه الممارسات من الأعداد الكبيرة من الناس مدى غفلة كثير من الناس ، وعدم معرفتهم لما فيه مصالحهم الحقيقية (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) ، مع أن الربا قد تتحقق عقوبته العاجلة قبل الآجلة ، وهو "سُحْتٌ" يذهب في لحظات.
2/ التعجل في الغنى ، ومن المعروف أن من القواعد الفقهية المنتشرة بين أهل العلم أن " من تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه" وكما تقول العامة "استعجال الغنى فقر" وقد كتبت مقالاً سابقاً في هذه القاعدة ونماذج لها من واقعنا ، نشر بهذه الصحيفة. فمن يتأمل أسباب دخول كثير من الناس (الرجال) ، وحتى (النساء)!! في الأزمنة المتأخرة في السجون بسبب المال ؛ يجد أن كثيراً منهم قد كان "استعجالهم لتكثير المال والغنى قبل أوانه" هو الذي أوقعهم في ذلك ، ولم يكن دخول كثيرٍ منهم بسبب متطلبات المعيشة العادية ، وإنما السبب في كثير من الحالات هو: الطمع في الغنى وتكثير المال وزيادة طوابق المباني وركوب آخر الموديلات من السيارات ، والتوسع في التجارات... وما شابه ذلك ، قبل وجود الأسباب المشروعة لتحققها ، حتى يتم القبض عليهم وتبدأ رحلة طويلة ومسلسل تضيع معه الأعمار والأوقات وغير ذلك مما لا يعلم آثاره السيئة إلا الله سبحانه وتعالى . والتعجل كما أنه واضح في تصرف هؤلاء الذين يقدمون على شراء هذه السلع بهذه الطريقة ، فهو ــ أيضاً ــ يظهر جليَّاً في صنيع "هوامير" الكَسِر ، والبائعين المتفرغين لهذه المهمة وقد يكون حب الظهور ، والبذخ ولفت وجوه الناس ، والعناية بالمظاهر هو من أسباب ذلك ، وبمجتمعنا نماذج يمكن أن تضرب أرقاماً قياسية على مستوى العالم في البذخ ، والإسراف ، والتشبع بما لم يعطوا ، ولا دليل أدل على ذلك من حفلات المجون والرقص التي يدفع للفنانين والفنانات في بعض مناسبات الزواج الملايين من الجنيهات ، وقد يكون الزوج من أفقر الناس !! وإنما تم تأمين المبلغ عن طريق قرض !! أو مساعدة بما يعرف بــ "الكشف أو الختة"!!
3/ كثرة وعموم البلوى باستخدام "الشيكات" ، بلا ضوابط صارمة ولا عقوبات رادعة ، ولا شك أن هذا السبب يعتبر من أهم الأسباب ، فعندما يفتح الشخص حساباً في أحد البنوك ويتحصل على دفتر شيكات ، يصبح مؤهلاً بين عشية وضحاها ، لأن يكون من أغنى الناس ومن أصحاب الأرصدة الكبيرة والعقارات الكثيرة . وقد يتساهل البائع لأن الأجل فيه زيادة في الربح فيطمع في ذلك ويبيعه بالشيك ، وهكذا أصبح للأسف البيع النقدي (وهو الأصل) في البيوع ، أصبح نادراً ، وشحيحاً ، ولبعض السلع فقط ، وحلّ محله بيع الشيكات ، والقضية بحاجة إلى معالجة عاجلة من الجهات المسؤولة في الدولة لدراسة الأمر ووضع حلول مناسبة له وعاجلة ، ووضع ضوابط صارمة يمكن أن تحد من كثرة الضحايا ، وامتلاء السجون ، وقد أصبح امتلاؤها أمراً طبيعياً للأسف الشديد.
وإن الحفاظ على دين الناس وأنفسهم وأموالهم من الضروريات الخمسة التي يجب الحرص على حفظها. وإذا كانت قضية "سوق المواسير"بمدينة الفاشر قد ظهرت عبر وسائل الإعلام ، وانتشر خبرها ، وهي حديث الناس والإعلام في هذه الأيام ، فهناك أسواق أخرى (كثيرة) منتشرة تشبه هذا السوق ، أو تفوقه!! وهناك أناس كثيرون أصبحت هذه المهنة السيئة الرديئة الفاشلة المنكرة ــ للأسف ــ مهنتهم ، فليتعاون الجميع ، وليقم كلٌ بدوره ، حتى تختفي مثل هذه الممارسات التي لا تقتصر تبعاتها على الواقعين فيها بحسب ، وإنما يصيب المجتمع بسببها بلايا ومحن ، وقد قال الله تعالى : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب).
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(6) تناول قضية سوق المواسير بين "المقاصد الشرعية" و"الأغراض الشخصية"
هذا المقال مُكَمِّلٌ لمقال الأسبوع الماضي والذي كان بعنوان "مصطلح الكَسِرْ بين الطلاب والتجار" ، وقد بينت في المقال المذكور مصطلح (الكَسِرْ) في الأسواق وأنواع "الكَسِرْ" الموجود في بعض الأسواق ، والحكم الشرعي لحالاته ، وأشرت في المقال إلى أن ما حصل بسوق (المواسير) بمدينة الفاشر هو نتيجة للكسر المحرم وهو (الربا الصُراح) ، كما أشرت إلى تفشي هذا المنكر العظيم في كثير من الأسواق ومنذ مدة من الزمان ؛ كبعض معارض السيارات وأسواق المحاصيل في العاصمة وبعض الولايات. وفي هذا المقال أُلقي الضوء على ردود الأفعال الكثيرة التي ظهرت عبر وسائل الإعلام باختلاف أشكالها ، في تناول قضية هذا السوق . ولو أن شخصاً تفرغ تفرغاً تاماً لإحصاء المقالات التي كتبت في هذا الموضوع لما استطاع ذلك إلا بكلفة وبشق الأنفس وبعد مساعدة كثيرين له !! وأرجو أن أكون ومن كتب في هذه القضية ممن أخلصوا نصحهم لله تعالى ، واسترشدوا بهدي النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك.
ولكن ما الأغراض التي دفعت (الكثيرين) للكتابة والإنكار في هذه القضية؟!
هل هو إنكار المنكر المتمثل في التعامل بالربا ؟ وإنكار الضرر الذي لحق بكثير من المواطنين؟!
فإذا كان هذا هو السبب فسؤال بدهي يطرح : أين (كثير) من هؤلاء من الأسواق الأخرى التي هي أخطر وأكثر ضرراً من سوق المواسير ، وهي أقدم منه ؟! هل يجهلون (الكسر) الربوي الذي يمارس جهاراً نهاراً في بعض معارض السيارات بالعاصمة "الكرينات"؟! أم لا يعلمون ما يدور في بعض أسواق المحاصيل في قلب العاصمة؟! أم خفي عليهم تعاملات كثير من البنوك ، وطرق القروض التي تمنحها وأنواع التموين الذي تبرم العقود عليه؟! وإذا كان الدافع هو التعاطف مع المواطنين الذين ذهبوا باختيارهم وأدخلوا أنفسهم في تلك المعاملات الربوية الواضحة فخسروا أموالهم ، فهل خفي عليهم حال الآلاف من الرجال و(النساء) الذين امتلأ بهم سجن أم درمان وغيره من السجون من (هوامير) أو (ضحايا) هذا الربا؟!ولا مقارنة بين ضحايا من ظهرت قضيتهم خلال أيام ، وضحايا استمر بقاؤهم بالسجون سنوات طوال ، بل بعضهم قد يئس من خروجه ؛ ومن لقاء أسرته بسبب الأرقام الخرافية التي يطالب بها من قِبَلِ من حرَّر لهم الشيكات.
إذا كان الغرض من (كثير) من تلك المقالات هو بيان أن عقوبة آكل الربا عظيمة وعاقبته وخيمة ، لأنه قد خالف أمر الله تعالى وأمر رسوله ، ولأنه ارتكب جرماً عظيماً ، هو من كبائر الذنوب ، ومن الموبقات، لكان ذلك أمراً مفرحاً لكل مؤمن ، وحُقَّ وقتها أن تُزَفَّ البشرى بانتشار ظاهرة كريمة هي من أسباب تفضيل هذه الأمة على غيرها من الأمم ألا وهي : "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" قال الله تعالى : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) .
ولكن أليس المنكر الذي ظهر بسوق الفاشر هو نفس المنكر المنتشر بسوق في القضارف أو أم درمان أو الخرطوم بحري أو دنقلا أو كوستي أو سنار أو نيالا أو غيرها.
وقد يقول قائل : إن قضية الأغراض والمقاصد هي من الأمور التي لا يحكم عليها إلا الله سبحانه وتعالى لأنها من النوايا وأمر القلوب ولا يطلع عليها إلا الله علّام الغيوب ، فكيف تقدح في أغراض بعض هؤلاء وأهدافهم ؟ فأقول : إن الحكم على (كثير) ممن تصدوا لهذه القضية هو بناء على ما هو معلن من مواقفهم السابقة والحالية ، ومن سيرهم ومبادئهم ، ومن معتقداتهم ومواقفهم ، فإن كثيرين ممن تحدثوا ويتحدثون عن هذه القضية ليس لهم عناية بالتحاكم إلى الشريعة في (كثير) من الأمور الأخرى ، وخذ على سبيل المثال موقف كثيرين منهم من قضايا المرأة والحجاب ، والحدود الشرعية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل تجد لبعضهم (استماتات) في الدفاع عما يسمى بالحريات الشخصية ، ويجتهد في الدعوة للتخلي عن أحكام الدين وغير ذلك ، نرى أنه قد أنكر قضية ربا سوق المواسير من منطلق شرعي ؟! أو لتحكيم حكم الله تعالى ؟! مع العلم أن هؤلاء وأمثالهم لم يصرِّحوا بأن مواقفهم في قضية سوق المواسير انطلقت من منطلقات شرعية ، إلا أني أردت بما ذكرت التوضيح لمن لم تنكشف لديهم حقيقتهم.
وهذا يعني أن هناك (تباين) في المواقف و(تناقض) في القضية الواحدة و(ازدواجية) و(كيل بمكيالين) !! ولا أدري كيف يرضى شخصٌ لنفسه ــ وهو يرى أنه صاحب عقل ومعرفة وفهم!! ــ كيف يرضى لنفسه أن يسبح في (مستنقع) المتناقضات هذا؟! كيف يتجرأ (كثيرون) على أن يقولوا اليوم قولاً ثم يخالفوه غداً ؟! والمصيبة أن هذه المواقف المتناقضة تنشر عبر الصحف والقنوات ومنتديات الانترنت!! وما ذاك إلا بسبب هوانهم عند أنفسهم ، ثم لاستخفافهم بعقول وذاكرة الناس!! وهذه القضية من القضايا التي أضرت (بدين الناس ودنياهم) في هذا السودان الذي كثرت جراحه ، ف(المواقف الشخصية) و(الانتصار للأغراض الحزبية أو الهواء النفسية أو المصالح الدنيوية) و(تسييس القضايا) ، يقدم على أي مصلحة شرعية أو مصلحة عامة ، فمن الممكن أن يكون الشخص وزيراً للداخلية ثم بعد سنوات قليلة يكون معارضاً ثم يشجع أعداء البلاد لضربها أو لتوجيه المزيد من الضربات لها !! ومن الممكن أن يسعى في تدمير الممتلكات والإضرار بالناس من يريد تحقيق مصلحة شخصية أو الانتصار لقضية سياسية!! ومن الممكن أن يكون (العدو) في كل الأزمان هو من (يُدَافَعُ) عنه اليوم لاعتقاله والمطالبة بعدم انتهاك حريته!فقط لأن في هذا تحقيق لغرض سياسي ومصلحة شخصية وحزبية.
وإذا كان التناقض ، وعدم الثبات على المبادئ في هذه المواقف مما يسيء إلى أصحابها بينهم وبين أنفسهم ، وبينهم وبين غيرهم من المخلوقين ( بل إن التناقض يقدح في المروءة والرجولة فضلاً عن قدحه في الدين) ؛ فإن الله تعالى قد توعّد من اتصفوا بهذه السجية وكانوا على هذه الشاكلة بأشد العذاب والعياذ بالله ، قال الله تعالى "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون" .
والمؤمن صاحب المبدأ والذي ينطلق من النصوص الشرعية لا تؤثر عليه هذه الأهواء النفسية ، ولا المصالح الشخصية ، ولا الأطماع الدنيوية ، ولا الانتصار للنفس ، ولذلك تجده (ثابتاً على مبدئه) ، قد آوى إلى (ركن شديد) ، ينطلق من التوجيهات الربانية والنصوص الشرعية والهدي النبوي الكريم ، مسترشداً بمنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المهديين ، فالربا عنده حرام بالأمس واليوم وغداً ، حرام في حلايب أو بابنوسة أو الكرمك أو الضعين أو الجنينة أو غيرها ، ويحذر منه قبل قضية المواسير وبعدها ، وينهى الناس عنه قبل وجود هذه الحكومة أو في وقت وجودها ، وكما أن الربا عنده حرام لتحريم الله له ، فالشرك بالله عنده هو أعظم المحرمات ، والإلحاد عنده كفر بالله ، وفصل الدين عن الدولة عنده من الدعوات الكفرية الخبيثة ، ولبس النساء للفاضح من اللباس ودخولهن المقاهي الليلية واختلاطهن بالرجال عنده من الموبقات والإجرام والإفساد في أرض الله ، ومواقف هذا المؤمن (صاحب المبدأ) في هذه الأمور وغيرها مبني على نصوص شرعية من القرآن والسنة ، أنزلها الله الذي خلق هذا الإنسان لعبادته ، والله تعالى هو أعلم بما فيه مصلحة خلقه ، وبما فيه الضرر لهم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)
عن عائشة رضي الله عنها قالت : (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
هذا هو الهدي النبوي الكريم : الغضب لله تعالى ، وليس الغضب للنفس أو لأجل فلان ، والانتصار للدين ، وليس الانتصار للحزب أو العصبية ، وهذه هي القاعدة التي يسير عليها الموفَّق صاحب العلم والهدى ، وهذا هو طريق النجاة والسلامة في الدنيا والآخرة ، أما أهل الجهل فإنهم في ظلامهم تائهون ، وفي غيهم خائضون ، وعن الهدى معرضون ، وهم في ريبهم يترددون ، وبالتناقض متصفون ومتلبسون .
أرجو أن تصل رسالتي التي تضمنها هذا المقال إلى كل من أردت وصولها إليها ، أداءً لواجب النصيحة ومحبة للخير لكل المسلمين ، ولنحيي جميعاً شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنها صمام أمان ،نحييها وبقصد الإصلاح ونشر الفضيلة ، طاعة لله تعالى ، وليس لأغراض شخصية أو لتصفية حسابات شخصية ، وإن من سنة الله : حلول العقوبات بمن ضيعوا هذه الشعيرة وهجروها ، فلنقم بها بالضوابط الشرعية بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن ، والمعروف ما عرف بالشرع والعرف الصحيح صوابه وصحته ، والمنكر ما أنكره الشرع ، فبذلك يسعد الفرد والمجتمع ، وتختفي التناقضات ، وتحفظ الجهود والأوقات ، وتجتمع الكلمة بتوفيق الله تعالى ، والموفق من وفقه الله تعالى.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(7) التكفيريون وشهر رمضان
تناولت خلال الأسبوع الماضي كثير من الأجهزة الإعلامية في كثير من البلدان نبأ المحاولة التفجيرية الفاشلة لاغتيال مساعد وزير الداخلية السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز ، وقد كانت نتيجة المحاولة انتحار الشاب التكفيري التفجيري وحده بما حمل من متفجرات وعدم إصابة سمو الأمير أو أحدٍ ممن كان بالمكان بأذى يذكر.
وقد أعاد إلى ذاكرتي هذا الحادث ، المجزرة التي قام بها التكفيري عباس الباقر في شهر رمضان المبارك قبل ثمان سنوات بمسجد جمعية الكتاب والسنة الخيرية بحي الجرافة الذي يقع في مدينة أم درمان بالعاصمة السودانية ، والتي أسفرت عن مقتل ثمانية وعشرين رجلاً وطفلاً وجُرِح فيها قرابة الأربعين شخصاً ، حيث كان المصلون يصلون صلاة العشاء في يوم جمعة من شهر رمضان المبارك ، وقد تجمعوا لصلاة العشاء والتراويح ففتح عليهم رشاشه وأفرغ أكثر من سبعين رصاصة في تلك الأجساد ـ التي نحسبها أجساداً طاهرة طيبة ـ وقفت تصلي لله تعالى ولبت النداء : حي على الصلاة ، حي على الفلاح.
وقدمت إلى ذلك المسجد وفي تلك الليلة لتؤدي صلاة القيام في رمضان ـ بعد صلاة العشاء ـ طمعاً في الأجر والثواب من عند الله تعالى فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وأما عباس الباقر فقد قدم والهوى والجهل يقوداه إلى تنفيذ تلك الجريمة ـ بل المجزرة ـ التي قد لا نجد في قواميس اللغة ما يسعفنا حتى نصفها وصفاً دقيقاً !!
نعم ، الهوى كان قائده ، فإن الهوى يعمي ويصم !! ـ والعياذ بالله ـ والجهل قد تحكم فيه ، بل الجهل المركب ، فقد أرسل بأوراق قبل مجزرته لإمام المسجد وكتب فيها بعض الآيات في مسألة الحاكمية ، صدق عليه في فهمه لها قول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام : (يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم) بمعنى أنهم يقرأونه حرفاً فقط ولكنهم لا يفقهونه بقلوبهم ولا يعلمون مدلولاته ، ثم أصدر بجهله المركب أحكاماً كفر وضلل بها علماء المسلمين وخص أربعة منهم وهم الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله جميعاً والشيخ صالح الفوزان حفظه الله . وهذه الأوراق موجودة نسخة منها معي ولعل الله تعالى أن يييسر الأمر للرد عليها بتفصيل.
وعباس الباقر وهذا العسيري الذي فجر لنفسه في محاولة لاغتيال هذا الأمير الذي يعد من أبرز اهتماماته هذه الطائفة وهذا الفكر التكفيري ، كما وقد عرف سموه بحرصه على هدايتهم ومناصحتهم ومناقشتهم ثم إطلاق سراح من يتبين تغير فكره وتركه لفكر الغلو والتكفير ، وقد أنشئت لجان متخصصة في هذا الجانب .
إن هذين الشخصين قد قاما بهذا العمل في شهر رمضان المعظم المبارك ، الذي يجتهد في المسلمون على البعد عن اللمم والغيبة وصغائر الذنوب !! وهما في هذا الزمان المبارك المعظم عند الله تعالى يقدمان على هذه الجرائم. وهذا مما يعكس ـ وبجلاء ـ الجهل العظيم الذي يعيشه التكفيريون ، وقد عرف جهلهم من قديم الزمان ، فقد ناظر الصحابة الكرام الخوارج ورجع منهم العدد الكثير، وقد ورد في رواية في مصنف عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله أن عدد من كانوا في المناظرة التي ناظرهم فيها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (24.000) أربعة وعشرون ألفاً ، فرجع منهم إلى الصواب بعد المناظرة عشرون ألفاً ، وهذا مما يؤكد أنه فكر يقوده في المقام الأول : الجهل .
وكيف يسلم التكفيريون من الجهل وهم لا يعترفون بالعلماء الربانيين؟! الذين يبينون الحق والصواب من الباطل والخطأ؟! بل إن العلماء عند التكفيريين في مقدمة أهل الضلال!! ولا ننسى اعتداء الليبي الخليفي على مسجد الشيخ الفاضل أبو زيد محمد حمزة وقتله لبضعة عشر من الشباب الذين أنسوا بالبقاء في المسجد ولم يخرجوا منه حتى بعد انقضاء صلاة الجمعة .
فيا لله !! ما الذي أوصل هؤلاء إلى هذا الغلو؟! وإلى هذا الضلال السحيق ؟!
لم تبق حرمة لمسلم ولا لمسجد ولا ليوم الجمعة ولا لشهر رمضان عندهم !!
أين هم من قول المصطفى عليه الصلاة والسلام : (إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) رواه البخاري ومسلم . أين هم من قوله عليه الصلاة والسلام : (إذا قال الرجلُ لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدُهما، فإن كان كما قال وإلاّ رجعت عليه) رواه البخاري ومسلم. لماذا يقتلون الأنفس البريئة ؟ وقد قال الله تعالى : (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً). لماذا يفسدون في الأرض ؟!
إن الغلو في الدين قد أهلكهم كما أهلك من كان قبلهم فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو يحذر بقوله : (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).
إن التكفير داء يستشري بين الجهال وحدثاء الأسنان ، بعد وقوعهم في مصايد من سلك هذا النفق المظلم ممن ينشرون الشُبَه ، وينشرون هذا الفكر المنحرف بين شباب المسلمين.
يضلونهم ويفسدون عقولهم حتى يجعلونهم يتقربون بقتل أهل الإسلام بل وقتلهم في المساجد أحب البقاع إلى الله!! إن الأسباب التي تؤدي لوجود هذا الفكر وانتشاره كثيرة ، وهي معروفة ، فكان من المهم جداً أن يُعْتَنَى بهذه القضية المهمة وبهذه الأسباب على كافة المستويات حتى يحذره المسلمون . ولعل الله تعالى أن ييسر لي لأبين الجهود العلمية لعلماء أهل السنة والجماعة ودعاة المنهج السلفي عبر القرون لدحض شبهات التكفيريين وبيان أباطيلهم وتحذير الأمة من شرهم ، وثمرات تلك الجهود السلفية المباركة. والله ولي التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(8) من أسباب انحرافات الجماعات التكفيرية
إن باب "التكفير " من الأبواب التي زلت فيها أقدام كثيرة ، وقد كانت فتنة الخوارج من الفتن الكبيرة التي برزت في التاريخ الإسلامي ، وقد اعتنى بهذا الباب علماء الإسلام وصنفوا فيه وجمعوا فيه النصوص الشرعية ، وبيَّنوا منهج الخوارج وطريقتهم وناقشوا شبهاتهم ، وناظروهم بالأدلة والبراهين . في هذا المقال ألقي الضوء على بعض المهمات في هذا الباب ، وتفاصيلها في المصادر التي عنيت بذلك :
*إن الحكم على أي عمل سواء كان يتعلق بالاعتقاد أو الأقوال أو أعمال الجوارح بأنه كفر أو ليس بكفر هذا لابد فيه من دليل شرعي ، ولا مجال للاجتهاد والاستنباط في هذا الباب ، فلا بد من دليل من الكتاب أو السنة في ذلك ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "منهاج السنة" :"إن الكفر والفسق أحكام شرعية ، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل ، فالكافر من جعله الله ورسوله كافراً ، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقاً ، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً".
*يقال للفعل أو القول "كفر" ، ولا يقال للفاعل إنه "كافر" إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع ، فإن من قام به عمل مكفر من الأفراد المعينين فهذا لا يستلزم تكفيره عيناً ولا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة. فإن الله تعالى لا يعذب من لقيه بكفر أو ذنب حتى تقوم عليه الحجة التي بها يستحق العذاب ، قال الله تعالى : "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" ، يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : "إخبار عن عدله تعالى ، وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة بإرسال الرسول إليه". والأدلة من السنة في ذلك كثيرة جداً ، وهو أمر في غاية الوضوح ، وفي كثير من الأحيان تجد أنّ أناساً يخطئون ، فإذا قال شخصٌ عن فعلٍ أو قولٍ : هذا كفر ، فيفهمون أن هذا القول من هذا القائل يعني تكفيره ، وهو خطأ كبير ، فإن الشخص قد يقع فيما يكون فعله كفراً لكنه لا يحكم بتكفيره ، يقول الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ : "وبهذا يعلم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفراً أو فسقاً ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافراً أو فاسقاً ، إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق ، أو وجود مانع شرعي يمنع منه". وهذه من مهمات هذا الباب.
*اشترط العلماء للحكم بالتكفير شروطاً هي : ـ أن يكون الشخص المعين بالغاً عاقلاً ، فإن القلم مرفوع عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يكبر ، وعن المجنون حتى يعقل. ـ وأن يقع منه الكفر على وجه الاختيار ، فإن المكره لا يحكم بكفره إذا تحققت شروط الإكراه المعتبرة عند العلماء. ـ وأن تبلغه الحجة التي يكفر بخلافها . ـ وأن لا يكون متأوِّلاً ، وقد قال الله تعالى : "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا".
وهذه الشروط فيها تفاصيل كثيرة ومهمة ، وليس مجال بسط ذلك مثل هذا المقال.
*قضايا التكفير لا يحق لغير العلماء الراسخين أن يدخلوا فيها ، فكما أنه يشترط في من يفتي الناس في الأحكام الشرعية شروط معتبرة من ناحية علمه وأهليته وتحققه بشروط الإفتاء والاجتهاد ، فكذلك في مسألة الحكم بالتكفير ، فإنه لا يتكلم فيها إلا من رسخت أقدامهم في العلم، يقول الشيخ الدكتور صالح الفوزان في كتاب "ضوابط التكفير" :"وهذا الباب لا يجوز أن يتكلم فيه من ليس عنده علم ومعرفة وبصيرة ولا يحكم بالكفر إلا على من كفره الله ورسوله لارتكابه ناقضاً من نواقض الإسلام المجمع عليها بين أهل العلم ومن ثم يجب على المسلم أن يتعلم قبل أن يتكلم وأن لا يتكلم إلا عن علم وإلا فإنه إذا كفر مسلماً يكون قد ارتكب جريمتين عظيمتين ...." إلى أن قال :"هذا حال الخوارج في كل وقت ، فمن تبنى هذا المذهب وكفر المسلمين وكفر حكام المسلمين أو كفر علماء المسلمين فإنه من هذه الطائفة الضالة .....فهذه ظاهرة خطيرة وسيئة يجب على المسلم أن يخاف الله عز وجل ، وأن لا يحكم بالردة أو بالكفر على أحد بدون روية وبدون تثبت وبدون علم ..." إلى آخر ما ذكر حفظه الله ، وهو كلام أهل السنة في كل زمان وفي كل مكان. ويقول في موضع آخر : "إنه لا يدخل في هذه الأمور إلا الفقهاء وأهل العلم ، ولا يدخل فيها طلبة العلم ، وأنصاف المتعلمين ، ويخوضون فيها ، ويحللون ويحرمون ، ويتهمون الناس ، ويقولون وهم لا يعرفون الحكم الشرعي ، هذا خطر على القائل لأنه يقول على الله بلا علم".
*من ثمَّ يعرف أن هذا الباب من الأبواب التي ضبطت عند أهل السنة والجماعة بضوابط محكمة ، ومع ذلك فإن جماعات التكفير كانت ولا تزال تنتشر في أوساط المسلمين ، وقد وُجِدُوا والصحابة موجودون ، بل جاء زعيمهم ذو الخويصرة وطعن في قسمة النبي عليه الصلاة والسلام بحضرته ، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بخبره وأنه سيخرج من ضئضئه أقوام سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان ، يقولون من قول خير البرية ويخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، وقد جلَّى النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة الكرام وللأمة من بعدهم أمر الخوارج ، ومواقفهم وأفهامهم ومناهجهم ، ولم يقصِّر الصحابة الكرام في مقارعتهم بالحجة والرد على شبهاتهم ، وقد رجع منهم من وفقه الله ، وأصر منهم من لم يتجرد وينخلع عن هواه. ولم ينسب أحدٌ عبر تأريخ الأمة الطويل الخوارج للصحابة ، كما لم يقل أحد إنهم تأثروا بذلك بتتلمذهم على الصحابة !! وفي هذا درس وعظة لمن أراد أن يصطاد في الماء العكر ، وينسب تصرفات جماعات التكفير للسلفيين زوراً وبهتاناً ، أو أن يحاول لي عنق الحقيقة ويبين أنهم تخرجوا في مدرستهم ، وهذا من الظلم الواضح ، أو من الجهل العميق ، فإن السلفيين هم أكثر الناس جهوداً في بيان وسطية أهل السنة والجماعة ، وفساد معتقد الخوارج وجماعات التكفير.
*التكفيريون والشباب المتأثرون بحماسهم بمنهج التكفير بحاجة إلى مناقشة أفكارهم وردِّهم إلى الحق من أناس لهم ملكة علمية وتأهيل في هذا الجانب ، ولا بد من العناية بذلك ، كما أنه لا بد من العناية بكشف زيف الكتب والمصادر التي تزين منهج التكفيريين ، وتحذير الناس منها ، وهي لا تخفى ، وقد أُشبعت هذه الجزئية من دراسات متخصصة في الفترة المتأخرة. وإن من القصور أن يقصر الغلو في التكفير لجماعة التكفير فقط ، فإن الرافضة الشيعة يكفرون كل الصحابة عدا ثلاثة أو أربعة !! ثم يكفرون من لم يرض بتكفير أبي بكر وعمر صاحبي ووزيري نبينا ورسولنا محمد عليه الصلاة والسلام ، وكذلك المعتزلة يكفرون أهل الكبائر من هذه الأمة ، ولكن قد تختلف الوسائل وطرق التعبير وإلا فإن هؤلاء جميعهم ومعهم الخوارج يجتمعون في الغلو في باب التكفير ، وقد عصم الله أهل السنة والجماعة من ذلك ، فوفقهم للتمسك بالسنة والسير عليها يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" : "والخوارج تكفر الجماعة ، وكذلك المعتزلة يكفرون من خالفهم ، وكذلك الرافضة ، ومن لم يكفر فسَّق وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه ، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكفرون من خالفهم ، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق".
*مادة هذا المقال منتقاة من كتاب : ضوابط وشروط التكفير للدكتور إبراهيم الرحيلي ، وبعض الكتب الأخرى.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(9)
دُرَرٌ من ترجمة إمـام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله 1/3
للإمام مالك مكانة في قلوب المسلمين على مرِّ الأزمان ، وقد انتشر مذهبه في أرجاء كثيرة من المعمورة ؛ وهو المعمول به في بلادنا ، وقد حظي هذا الإمام الجليل بدراسات وبحوث وتراجم من علماء الأمة المتقدمين والمعاصرين ، والحاجة بالأمة الإسلامية ماسة إلى قراءة سيرته وترجمته ، ودراسة ترجمة أمثاله من العلماء الجهابذة الأجلاء ، وقد كانت رسالتي للماجستير في تطبيقات أصل سد الذرائع عند هذا الإمام المُبَجَّل ، وقد اقتبست في أحد فصولها درراً من كلام أهل العلم في ترجمته ، وقد رأيت أن أتحف الأخ القارئ الكريم بشيءٍ مختصر من ذلك من خلال ثلاث حلقات تنشر عبر هذه الصحيفة ، دون أن أذكر المراجع وذلك لضيق مساحة المقال ؛ وأحيل من يريد الاطلاع على ذلك بتفصيله على موقعي بالشبكة .
وهو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الحِمْيري ثم الأصبحيُّ المدني وقد وُلِد بالمدينة النبوية وقد رجَّح كثير منه العلماء أن ولادته ـ رحمه الله ـ كانت في سنة 93 هـ.
وقد تربى في أسرة كانت تهتم بالعلم الشرعي وتربي أبناءها عليه ، فأبوه أنس بن مالك ، من تابعي التابعين ، وجده والد أبيه : مالك وهو عالم روى عنه أبناؤه ويُعدُّ في كبار التابعين وعلمائهم ، يروي عن وطلحة وعائشة وأبي هريرة وحسان ، وهو مصدرعلم لحفيده باتفاق العلماء ، وكان ذا صلة بالخليفة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه . فقد كان ممن يكتب المصاحف حين جمع عثمان المصاحف ، وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان ليلاً إلى قبره وغسلوه ودفنوه ، وقد عاش طويلاً وامتد به العمر فعاش حتى عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وجد أبيه أبو عامر واسمه نافع ، قيل إنه صحابي ، شهد المغازي كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بدراً وقيل إنه لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه عاش في زمانه وسمع عثمان بن عفان فهو تابعي مخضرم. أما أمه اسمها العالية ـ وقيل: عالية ـ بنت شريك بن عبد الرحمن بن شريك الأزدية ، وقد كانت امرأة فاضلة ، وكان لها دور عظيم في توجيه ابنها لطلب العلم وقد ذكر عنها ابنها الإمام مالك ـ رحمه الله ـ مواقف عدة، منها قوله: قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم ـ فألبستني ثياباً مشمرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها ـ ثم قالت: اذهب فاكتب الآن. وقال: كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه. وقد اجتهد ـ رحمه الله ـ في سبيل تحصيل العلم اجتهاداً عظيماً وصبر في ذلك صبراً كثيراً ، وقد اتخذ تباناً محشواً للجلوس على باب ابن هرمز يتقي به برد حجر وقيل برد صحن المسجد وفيه كان يجلس ابن هرمز. وقال ـ رحمه الله ـ : «كنت آتي نافعاً نصف النهار وما تظلني الشجرة من الشمس ، أتحين خروجه .... وكنت آتي ابن هرمز من بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل». وقد بلغ من حرصه على الانتفاع وعدم تضييع الوقت أنه كان يسعى في طلب العلم حتى في أيام العيد التي يستريح الناس فيها ، وله قصة مشهورة مع الإمام الزهري رحمه الله. ولم يكن حرص الإمام مالك على طلب العلم وصبره على ذلك وإخلاص النية لله وحده ومكانة أسرته العلمية ونشأته في المدينة مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كل هذه الأمور هي فقط الأسباب لأن يكون الإمام مالك إماماً ومعلماً ؛ بل كانت هناك أسباب أخرى ـ بعد توفيق الله تعالى ـ جعلته يبلغ في العلم مبلغاً عظيماً، ومن أهم هذه الأسباب:
1ـ عدم تلقيه العلم وسماع الحديث إلا من أهله، وتحريه عن حال الرجال وانتقاده لهم. وذلك لأن العلم دين ولابد لمن يريد معرفة دينه أن يأخذه عن ثقة. قال التابعي الجليل الإمام محمد بن سيرين: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم». قال ابن أبي أويس : «سمعت خالي مالك بن أنس يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه". وقال ـ رحمه الله ـ: «أدركت بهذه البلدة أقواماً لو استسقى بهم القطر لسقوا، قد سمعوا العلم والحديث كثيراً، ما حدثت عن أحدٍ منهم شيئاً، لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد، وهذا الشأن ـ يعني الحديث والفتيا ـ يحتاج إلى رجل معه تقوى وورع وصيانة وإتقان وعلم وفهم ، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غداً. فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة فلا ينتفع به ولا هو حجة ولا يؤخذ عنه». كما وقد بين ـ رحمه الله ــ أن العلم لا يؤخذ من أربعة : فلا يؤخذ من سفيه ، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث.
2 ـ سرعة حفظه مع الإتقان والضبط : كان من الأسباب التي جعلت من الإمام مالك إماماً بحق في العلم والحديث ما وهبه الله تعالى من سرعة الحفظ والإتقان وجودة الضبط ومما يدل على ذلك: قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: «قدم علينا الزهري، فأتيناه ومعه ربيعة ، فحدثنا نيفاً وأربعين حديثاً ، ثم أتيناه الغد، فقال: انظروا كتاباً حتى أحدثكم منه ، أرأيتم ما حدَّثتكم به أمس ، أي شيء في أيديكم منه؟ قال: فقال له ربيعة: ها هنا من يرد عليك ما حدثت به أمس، قال: ومن هو؟ قال: ابن أبي عامر، قال: هاتِ ، قال: فحدثته بأربعين حديثاً منها، فقال الزهري: ما كنت أرى أنه بقي أحد يحفظ هذا غيري». 3 ـ تعظيمه وإجلاله لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله به : لقد كان الإمام مالك ـ رحمه الله ـ مثالاً يُقتدى به في إجلال حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وتعظيمه له ، واتباع السنة والعمل بما علمه من العلم ، كغيره من علماء الأمة الربانيين العاملين بعلمهم ، وقد كان حريصاً على تطبيق ما جاء في الكتاب والسنة والذب عنهما ، وكان مثالاً يُقتدى به في محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، والسير على منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين والدفاع عنهم. ومما يدل على ذلك ـ على سبيل المثال : أنه سئل عن سماعه من عمرو بن دينار فقال: رأيته يحدث والناس قيام يكتبون فكرهت أن أكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم !! وما ذلك إلا إجلالاً وتعظيماً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقال ـ رحمه الله ـ : «ما جلست إلى عالم فرجعت من مجلسه حتى أحفظ كل حديث سمعته منه ، ولا رجعت إلى مجلسه ، حتى أعامل الله بكل حديث سمعته منه» وكان ـ رحمه الله ـ يقول : «سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها اتباع لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ، ولا تبديلها ، ولا النظر في شيء خالفها ، من اهتدى بها ، فهو مهتد ، ومن استنصر بها ، فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً»
وقد سُطِّرت في كتب أهل العلم عبارات الثناء لهذا العالم المبجَّل ـ رحمه الله ــ ومن هذا الثناء ما روي عن بعض أهل العلم من أن الإمام مالكاً هو المقصود بقول النبي عليه الصلاة والسلام : «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة» رواه الإمام أحمد في المسند ، والترمذي وقال: «هذا حديث حسن» والحاكم في المستدرك وصححه ، ووافقه الذهبي ، والبيهقي في السنن الكبرى وكذا صححه ابن عبد البر ـ كما في «الانتقاء» والعلامة أحمد شاكر في تحقيق المسند. قال الإمام سفيان ابن عيينة : «نرى أن المراد بهذا الحديث مالك بن أنس» وقد قال غيره بهذا القول كما نقله ابن عبد البر في «الانتقاء» والقاضي عياض في «المدارك» والذهبي في «السير». وقال ابن عيينة: «رحم الله مالكاً ما كان أشدَّ انتقاده للرجال» وقال: «وما نحن عند مالك بن أنس؟! إنما كنا نتبع آثار مالك وننظر الشيخ إن كان كتب عنه مالك كتبنا عنه» وقال: «مالك عالم أهل الحجاز، وهو حجة زمانه». وقال الليث بن سعد: «قال لي مالك في أبي حنيفة «إنه لفقيه يا مصري» ثم لقيت أبا حنيفة فقلت: ما أحسن قول ذلك الرجل فيك. والله ما رأيت أسرع منه بجواب صادق ، وزهد تام». وقال عبد الرحمن بن مهدي : «ما أدركت أحداً إلا وهو يخاف هذا الحديث إلا مالكاً وحماد بن سلمة، فإنهما كانا يجعلانه من أعمال البر؟!». وقال: «ما رأيت أحداً أعقل من مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه». وقال عبد الله بن المبارك «لو قيل لي اختر للأمة إماماً اخترت لها مالكاً». وقال يحيى بن معين: «مالك نبيل الرأي نبيل العلم، أخذ المتقدمون عن مالك ووثقوه، وكان صحيح الحديث وكان يقدمه أصحاب الزهري» وقال: «مالك نجم أهل الحديث المتوقف على الضعفاء الناقل عن أولاد المهاجرين والأنصار». وقال البخاري: «مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، كنيته أبو عبد الله كان إماماً" وقد بلغ من ثناء العلماء عليه، أنهم جعلوه مثلاً في السنة والاتباع، قال الإمام أحمد بن حنبل: «إذا رأيت الرجل يبغض مالكاً فاعلم أنه مبتدع» وقال ابن مهدي : «إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة». وقال الذهبي: «هو شيخ الإسلام حجة الأمة إمام دار الهجرة». وقال أيضاً: «ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكاً في العلم والفقه والجلالة والحفظ».
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(10)
دُرَرٌ من ترجمة إمـام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله 2/3
تلقى الإمام مالك العلم عن عدد كثير من المشايخ والعلماء ، وقد ذكر الزرقاني في شرح الموطأ أنهم بلغوا (تسعمائة) شيخ فأكثر، وذكر الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أسماء الشيوخ الذين أخذ عنهم الإمام مالك ، وإلى جانب كل واحد منهم عدد ما روى عنه في الموطأ ، فبلغ العدد (135 شيخاً).
وفيما يلي ذكر لأبرز شيوخه الذين أخذ عنهم وأكثر منهم وأكثر من ذكرهم ، وهم:
1 ـ "ابن هرمز"عبد الله بن يزيد بن هرمز المخزومي المدني، المقرئ ، وعداده في التابعين. وهو من الشيوخ الذين أكثر الإمام مالك من ملازمتهم ، وقد روي أنه ممن لازمه في بداية طلبه للعلم سبع سنين أو ثمان لم يخلطه بغيره ، ولقد كان الإمام مالك ملازماً له حتى قال: «كنت آتيه بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل» وقال: "كنت أحب أن أقتدي به ، وكان قليل الفتيا شديد التحفظ...وكان بصيراً بأهل الكلام والبدع ويرد على أهل الأهواء". ولذلك فقد ورث الإمام مالك منه قول: (لا أدري) . كما وقد ورثها ابن هرمز عن أبي الدرداء ، وقال ابن عبد البر: صح عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «لا أدري نصف العلم». وتوفي ابن هرمز رحمه الله سنة 148 هـ.
2 ـ ربيعة : وهو أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، المشهور بربيعة الرأي . روى عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد وسعيد بن المسيب وغيرهم. قال مصعب الزبيري: «كان يقال له ربيعة الرأي، وكان صاحب الفتوى بالمدينة ، وكان يجلس إليه وجوه الناس، وكان يحصى في مجلسه أربعون معتماً». وقد جلس الإمام مالك للأخذ عنه صغيراً، وقد ذكرت في الحلقة الماضية وصية أم الإمام مالك له بالجلوس في حلقة ربيعة وأن يأخذ من أدبه قبل علمه. وقد كان فقيهاً ، قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ : «ذهبت حلاوة الفقه، منذ مات ربيعة ابن أبي عبد الرحمن». وقد كان الإمام مالك يجل شيخه ربيعة كل الإجلال، فهو لا يتكلم في مجلسه ، ولا يبادر بالجواب إذا سئل. وكان يستشيره في كثير من الأمور. فقد قال ـ رحمه الله ـ «ما أفتيت حتى سألت هل أنا للفتيا موضع». فلما قيل له من سألت؟ قال: «الزهري وربيعة الرأي». قال عبد العزيز بن أبي سلمة : «لما جئت العراق جاءني أهل العراق، فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، فقلت: يا أهل العراق تقولون ربيعة الرأي، والله ما رأيت أحداً أحفظ لسنة منه». وكان يطلق عليه ربيعة الرأي لكثرة آرائه الفقهية ، واستنباطه واجتهاده ، فالرأي بمعنى الاستنباط والاجتهاد هو من الرأي المحمود ، أما الرأي المذموم فهو الرأي الذي يصادم به النص الشرعي ، والقائم على مجرد الهوى. قال أبو بكر الخطيب: «كان ربيعة فقيهاً عالماً ، حافظاً للفقه والحديث». وقال الذهبي: «كان ربيعة إماماً حافظاً فقيهاً مجتهداً بصيراً بالرأي، وكان من أول الفقهاء الذين جلس إليهم مالك وتأثر بهم» وتوفي ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 136 هـ .
3 ـ الزهري: أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي الزهري المدني. من صغار التابعين روى عن ابن عمر وجابر بن عبد الله شيئاً قليلاً، ويحتمل أن يكون رأى أبا هريرة وغيره، فقد ولد سنة 50 هـ وقيل 51 هـ. قال ـ رحمه الله ـ: «ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته» .وقال عمر بن عبد العزيز: «عليكم بابن شهاب هذا فإنكم لا تلقون أحداً أعلم بالسُّنة الماضية منه». قلت: ولذلك لازمه الإمام مالك كثيراً وأخذ عنه ، بل ـ كما سبق ذكره في الحلقة الماضية ـ أنه كان يأتيه حتى في وقت راحته وأيام العيد ، وما ذلك إلا لما رأى من علمه وأهليته ، وفي ذلك يقول ـ رحمه الله ـ :«إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه..". وقد كان الزهري يثني على تلميذه الإمام مالك ويعدَّه أنه من أوعية العلم ، وقد كان الإمام مالك يجله ويقدره ، وقد استشاره في التدريس والفتيا ـ كما تقدم. وتوفي ـ رحمه الله ـ سنة 124 هـ .
4 ـ نافع: أبو عبد الله القرشي ثم العدوي ثم العمري الإمام المفتي عالم المدينة ، مولى ابن عمر روى عن ابن عمر وعائشة وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وروى عنه خلق كثير منهم الزهري. وهو من أئمة التابعين. وقد لازمه الإمام مالك كثيراً وأخذ من علمه وكان يقول: «كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالي ألاَّ أسمعه من غيره». وقد كان الإمام مالك يأتيه في صغره ويتكبَّد المشاق في ذلك حيث يأتيه في حر الهجيرة ويتحيَّل لسؤاله ، وكان يقوده من منزله إلى المسجد عندما كف بصره. وقد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى أهل مصر ليعلمهم السنن ، وكان أهل العلم يقولون: أثبت الناس في ابن عمر نافع وأثبتهم في نافع مالك ، وقد وُصفت هذه السلسلة بــ"السلسلة الذهبية" وهي أصح الأسانيد عند الإمام البخاري وغيره. وتوفي ـ رحمه الله ـ سنة 117 هـ . فهؤلاء هم أبرز الشيوخ الذين أخذ عنهم الإمام مالك وتأثر بهم تأثراً واضحاً، وأكثر من ذِكْرِهِم، وقد خصَّهم بالذكر كثير ممن ترجم للإمام مالك ـ رحمه الله ـ.
ومما تقدم ذكره من حرص الإمام مالك على طلب العلم ، وحبه له وصبره وجِدَه وجلده في ذلك، وتحريه في أخذ العلم عن أهله ، مع ما وهبه الله من سرعة الحفظ وكثرته ، مع فهمه وإتقانه ذلك، كانت هذه الأمور من المؤهلات لأن يكون مالك معلماً وإماماً في المستقبل فحصل له ذلك في حياة بعض شيوخه، فقد بدأ مالك التدريس والتعليم والإفتاء في سن مبكرة ، بعد أن استشار أهل العلم ، وكان يرى أن ذلك لابد منه. فقد قال في ذلك: «ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس!! حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل.. فإن رأوه لذلك أهلاً جلس ، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك».
وقد بلغ في درسه من إجلاله للحديث مبلغاً عظيماً ، وقد صاحب تدريسه التزامه السكينة والوقار والبعد عن اللغو، وكذا البعد عن المسائل الافتراضية . ولذلك كان مجلسه من أكثر المجالس هيبة. قال أبو مصعب: «كانوا يزدحمون على باب مالك ، وكنا نكون عند مالك فلا يكلم ذا ذا ولا يلتفت ذا إلى ذا... وكانت السلاطين تهابه وهم قائلون مستمعون ". وكان إذا جلس جلسة لم يتحول عنها حتى يقوم ، وإذا شرع في الحديث تَهَيَّبه تلاميذُه وكأنهم لم يعرفوه ولم يعرفهم وكأن الطير على رؤوسهم. فكافأه المولى سبحانه وتعالى على إجلاله لحديث رسوله صلى الله عليه وسلم هيبة وإكراماً من أهل العلم والفضل وذي السلطان. قال سعيد بن أبي مريم: «ما رأيت أحداً أشد هيبة من مالك ، لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان». وقال الشافعي: «ما هبت أحداً قط هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه».
ومما أنشده بعضهم في ذلك: يأبى الجواب فلا يراجع هيبة ***والسائلون نواكس الأذقـــان أدب الوقار وعز سلطان التقى*** فهو المهيب وليس ذا سلطان
وأما تحريه للفتوى وورعه في ذلك، فإن الإمام مالكاً يعد إماماً بحق في ذلك ، وقد سُطرت في كتب أهل العلم نقولات عظيمة عنه . وقد تقدم أنه تأثر في ذلك بشيخه ابن هرمز. لاسيما في قول: «لا أدري» وفي عدم التجرؤ على الفتيا ، وهو منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. ومما نقل عنه في ذلك: أنه كان يقول: "ربما وردت عليَّ المسألة فأسهر فيها عامة ليلي" وكان ـ رحمه الله ـ إذا سئل المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها ، وكان إذا سئل عن مسألة تغير لونه وقال بعضهم : لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار، وكان يقول: «من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب».
ونظراً لأن المفتي يكون حجة بين السائل وبين الله تعالى ، فقد كان الإمام مالك كثيراً ما يقول في بعض المسائل: (لا أدري) ، وكان مع علمه الغزير ومكانته وإمامته لا يتحرج من أن يقولها. قال الهيثم بن جميل: «سمعت مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ «لا أدري». وهذا منه ـ كما تقدم ـ عملاً بوصية شيخه ابن هرمز له حيث قال له فيما يرويه الإمام مالك عنه: «ينبغي للعالم أن يورِّثَ جلساءه قول: «لا أدري» حتى يكون ذلك أصلاً يفزعون إليه».
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا: أن قول (لا أدري) لم يكن من الإمام مالك عن عجز مطلق ، ولكن كان يكون ذلك منه عندما يكون الذي وصل إليه ظناً لا ينبغي إعلانه، أو أنه لم يجد إجابة شبيهة لهذه المسألة فيما سمع من فتاوى الصحابة وما أثر عمن يقتدى بهم من العلماء والمشايخ ولذلك كان يقول ـ رحمه الله ـ منكراً على من يتعجلون الفتوى: «ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة وخيار الصحابة، كانت ترد عليهم المسائل ، وهم خير القرون ، الذين بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام وكانوا يجمعون أصحاب النبي ، ويسألون حينئذٍ ثم يفتون فيها ، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا، فبقدر ذلك يفتح عليهم من العلم...».
قلت: فكيف بالإمام مالك ـ رحمه الله ـ لو رأى أهل زماننا هذا؟!! فقد رأينا ـ للأسف ـ تجرؤ كثير من الناس على الفتيا والكلام في دين الله والتحدث عن الشريعة وأحكامها وهم ليسوا أهلاً لذلك بل بعضهم هم من أجهل خلق الله بدين الله ، وقد ساعدهم في ذلك وفرة وسائل الإعلام من قنوات وإذاعات وصحف ومواقع إنترنت وغيرها.. فنسأل الله لهم الهداية ولنا العافية.
وقال ابن وهب : لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك: «لا أدري» لفعلت، والنقول في ذلك عن الإمام مالك كثيرة وعظيمة تدل على تحريه في الفتوى وتقواه وورعه في ذلك وخوفه من سؤال الله ، والمقصود ذكر نماذج تبين منهجه في ذلك وللاستزادة فإنه يمكن الرجوع إلى «ترتيب المدارك» للقاضي عياض و «الانتقاء» لابن عبد البر و«الديباج» لابن فرحون و«السير» للذهبي.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: المنتقى من مقالاتي الصحفية التي نشرت خلال العامين الماضيين ببعض الصحف بالسودان (Re: عارف الركابي)
|
(11)
دُرَرٌ من ترجمة إمـام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله 3/3
لقد سار الإمام مالك ــ رحمه الله ــ على طريق السلف الصالح رحمهم الله في مسيرته العلمية والتعليمية والدعوية ، وكما أنه تلقى العلم عن أهله وبذل جهداً عظيماً في تحصيله ، فإنه قد جلس يُدرِّس وينشر العلم لفترة امتدت لستين سنة تقريباً ، حتى لقب بإمام دار الهجرة ومفتي المدينة وشاع المثل "لا يفتى ومالك في المدينة". وقد تتلمذ على الإمام مالك خلق كثير جداً ومن أقطار متباعدة وروى عنه الموطأ كثيرون. وقد كان من ضمن من روى عنه بعض (شيوخه) مثل : الزهري وربيعة وأيوب السخيتاني ويحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة بن الزبير وعمه أبو سهيل وغيرهم ، وأيضاً روى عنه كثير من (أقرانه) مثل :معمر وابن جريج وأبو حنيفة والأوزاعي وشعبة والثوري والليث بن سعد وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع والوليد بن مسلم وغيرهم. وقد صنَّف الخطيب البغدادي مؤلفاً خاصاً بالرواة عن مالك ، فعد منهم (993 رجلاً) أما القاضي عياض فقد عدَّ منهم (1300 رجلاً) وذكر المشهورين منهم وترجم لهم ورتبهم على البلدان وبيَّن طبقاتهم، وذلك في «ترتيب المدارك».
ومن أبرز تلاميذ الإمام مالك ـ رحمه الله ــ الإمام الفذ الشافعي : أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد الهاشمي المطلبي ويجتمع مع النبي عليه الصلاة والسلام في عبد مناف بن قصي وقد ولد سنة 150 هـ وهي السنة التي مات فيها أبو حنيفةـ رحمهما الله تعالى ـ . قال الشافعي : «أتيت مالكاً وقد حفظت «الموطأ» فقال لي: اطلب من يقرأ لك، فقلت: لا عليك أن تسمع قراءتي ، فإن خفَّت عليك ، وإلا طلبت من يقرأ لي ، فقال لي: اقرأ، فقرأت فأعجبه ذلك ، وقال: اقرأ، فقرأت عليه «الموطأ» من أوله إلى آخره». ويذكر الذهبي أن عمر الإمام الشافعي إذ ذاك ثلاثة عشرة سنة!! ومما قاله الشافعي في شيخه مالك: «إذا جاءك الأثر من مالك فشد به يدك». وقال: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم، ولم يبلغ أحد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته ومن أرادا الحديث الصحيح فعليه بمالك» . وكان يقول: «مالك بن أنس معلمي ـ وفي رواية أستاذي ـ وما أحد أمنّ علي من مالك ، وعنه أخذنا العلم وإنما أنا غلام من غلمان مالك». وقال رحمه الله ـ : «ما في الأرض كتابٌ في العلم أكثر صواباً من «موطأ مالك». وبيَّن الشافعي قصته في قدومه على الإمام مالك فقال: «لما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب ، فمرَّ بي رجل من الزبيريين ، فقال لي: يا أبا عبد الله عزَّ عليَّ ألا يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقه ، فتكون قد سُدْت أهل زمانك ، فقلت: ومن بقي يقصد؟ فقال لي :هذا مالك سيد المسلمين يومئذٍ. فوقع في قلبي وعدت إلى «الموطأ» فاستعرته وحفظته في تسع ليالٍ»!! قلت : وبهذه الهمة العظيمة كان لسلفنا الصالح هذا التفوق والتميز والإنجاز العظيم بعد توفيق الله ، وهنيئاً لهذا الموفّق الناصح الذي دلَّ الإمام الشافعي إلى هذا الخير العميم. وقد أثنى العلماء على الإمام الشافعي كثيراً وانتشر مذهبه في الآفاق . يقول الذهبي في ترجمته: «الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة». وقال: «وصنَّف التصانيف ، ودوَّن العلم ، وردَّ على الأئمة متبعاً الأثر، وصنَّف في أصول الفقه وفروعه ، وبعُدَ صيته وتكاثر عليه الطلبة». وقد ذكر كثير من العلماء أن الشافعي هو مجدد المائة الثانية وأما مجدد المائة الأولى فهو عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وقال الإمام أحمد: «ما أحد يحمل محبرة من أصحاب الحديث إلا وللشافعي عليه سُنَّة». وقال: «ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسته». وقال: «كان الشافعي للعلم كالشمس للدنيا والعافية للناس، فانظر هل من هذا عِوض؟». وقال: «ما رأيت أحداً أتْبَعُ للأثر من الشافعي». وهو أول من صنَّف في أصول الفقه وهو كتابه المسمى: «الرسالة» ومن مؤلفاته كتاب «الأم» و«جماع العلم». قال في مراقي السعود رحمه الله : أَوَّلُ مَنْ أَلّفَهُ فِي الكُتُبِ مُحَّمَدُ بنُ شَافِعِ المُطَّلِبِي وكان بعض أهل العلم يقول: «كفى الشافعي شرفاً أن مالكاً شيخه ، وكفى مالكٌ شرفاً أن الشافعي تلميذه» وقد نُسِب هذا القول لابن الأثير رحمه الله. وتوفي رحمه الله سنة 204 هـ .
ومن تلاميذ الإمام مالك الذين تخرجوا على يديه الإمام عبد الله بن وهب وهو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري المصري الإمام الحافظ ، ولد سنة 125هـ وقيل 124 هـ وهي السنة التي مات فيها ابن شهاب ـ رحمه الله ـ. وقد طلب العلم وعمره سبعة عشر سنة وأخذ عن جمٍّ غفير من أهل العلم ، قال بعضهم: إنهم أربعمائة . وقال عنه الذهبي : «لقي بعضَ صغار التابعين ، وكان من أوعية العلم وكنوز العمل». وقد تتلمذ على يد الإمام مالك ولازمه ، وقال في ذلك: «صحبت مالكاً عشرين سنة»!! قلت : وفي هذا وأمثاله عبرة لكل من رأى أن السنة أو السنتين تكفيه في طلب العلم!!أو قراءة باب أو بابين تؤهله لأن يلتحق بالإفتاء على الهواء مباشرة ، وإلى الله المشتكى ، ولعلَّ تعجل وتصدر الكثيرين قبل أوانهم من أسباب حرمانهم من أن ينفعوا أنفسهم أو أن تنتفع الأمة بهم ، والقاعدة الفقهية المشهورة بين أهل العلم أن "من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه" . ولم يكن الإمام مالك يتكلم بشيء إلا وكتبه ابن وهب. ولم يكن الإمام مالك يكتب لأحد بالفقيه سوى ابن وهب. وكان يكتب إليه: إلى عبد الله بن وهب فقيه مصر وإلى أبي محمد المفتي ، ولم يفعل هذا لغيره وقال: «ابن وهب عالم وإمام»، وكان يُسمى ديوان العلم. وقد روى عنه بعض شيوخه. وهذا من أدب السلف الصالح أنهم يأخذون حتى من تلاميذهم ، قال وكيع بن الجراح رحمه الله :"لا ينبل الرجل في العلم حتى يأخذ ممن هو أعلى منه وممن هو مثله وممن هو دونه". وقال عنه الإمام أحمد: «ابن وهب عالم صالح فقيه كثير العلم ، صحيح الحديث ، ثقة صدوق ، يفصِّل السماع من العرض ، والحديث من الحديث ، ما أصح حديثه!» ومما يدل على صلاحه وتقواه ، أنه قال: «نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم ، فمن حب الدراهم تركت الغيبة» وقد علَّق الذهبي على هذا الأثر فقال: «قلت: هكذا والله كان العلماء ، وهذا هو ثمرة العلم النافع».
إنهم علماء ربانيون عاملون يما تعلموه ، ولذلك جعل الله في أقوالهم ودروسهم وأفعالهم ومؤلفاتهم نفعاً عظيماً. وألف التصانيف العديدة ذات المنفعة العظيمة ، ومات بمصر سنة 197هـ . وسبب موته أنه قُرئ عليه كتاب «الأهوال» من جامعه ، فأخذه شيء كالغشي، فحُمل إلى داره ، فلم يزل كذلك إلى أن قضى نحبه ، أسأل الله أن يرحمه وأن يدخله في قوله : (ولمن خاف مقام ربه جنتان). وتلاميذ الإمام مالك كثيرون وسيرهم ذاخرة باليواقيت والدرر والكنوز العظيمة التي يحتاجها كثير من العلماء والدعاة وطلاب العلم فضلاً عن عامة المسلمين. وثروة الإمام مالك العلمية كبيرة جداً ، وإن المؤسف جداً أن البلوى قد عمت بالجهل والزهد والإعراض عن تراث هذا الإمام وتراث غيره من أهل العلم من السلف الصالح ، ورضي كثير من الناس لأنفسهم بأقل القليل ، وبالمعلومات العامة التي يعرفها أطفال الابتدائي ، وانشغلوا بالأدنى دون الأعلى ، وجهلوا سيرة الأسلاف فغاب عنهم وضاع عليهم الفهم الصحيح للإسلام ، وضعفت الهمم ، وركنت إلى حطام الدنيا الفانية ،فإن سيرة السلف الصالح مما يجلى به صدأ القلوب ، وتشحذ به الهمم ، وتقوى به العزائم. وفي ختام هذه الحلقات الثلاث الموجزات فإني اصطحب أخي القارئ الكريم وأختي القارئة لجولة في ـ إشارات موجزة ـ في دوحة تراث هذا الإمام المبجل ــ رحمه الله ــ فمن حكمه ووصاياه المأثورة وقد جمع القاضي عياض في المدارك جملة منها ، أنتقي منها ما يلي : إنما التواضع في ترك الرياء والسمعة. الزهد في الدنيا، طيب المكسب. العلم نور لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع. أخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره. ينبغي للرجل إذا خُوِّل علماً وصار رأساً يشار إليه بالأصابع أن يضع التراب على رأسه ويمتهن نفسه إذا خلا بها ولا يفرح بالرئاسة ، فإذا اضطجع في قبره ووسد التراب رأسه ساءه ذلك كله. وسئل أفضل ما يصنع العبد؟ قال: طلب العلم. الحكمة هي الفقه في الدين. لا خير في شيء من الدنيا وإن كثر بفساد دين الرجل أو مرؤته. حقاً على طالب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية وأن يكون متبعاً لآثار من مضى. لا تجلس في مجلس لا تستفيد منه علماً. التقرب من أهل الباطل هلكة. إذا مدح الرجل نفسه ذهب بهاؤه. لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وقد كان الإمام مالك ـ رحمه الله ـ يقول فيما يذكره الشاطبي في الاعتصام :"ما كان من كلامي موافقاً للكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه"، فقد كان إماماً في التمسك بالسنة والحث عليها والنهي عن البدع والمحدثات . ومن أقواله المأثورة فيما يريويه عنه البيهقي :"السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها غرق" وكان يحذر من أهل الأهواء والبدع وكثيراً ما يردد قول القائل: وخير أمور الدين ما كان سنة *** وشر الأمور المحدثات البدائع
وقد جاء في المدونة فيما يرويه سحنون نهيه الصريح عن البناء على القبور والأمر بتسويتها ، انطلاقاً من الأحاديث الصريحة والكثيرة في النهي عن هذا المنكر العظيم ، وقد كان من آخر وصايا النبي عليه الصلاة والسلام وهو في فراش الموت النهي عن اتخاذ القبور مساجد مبينا عليه الصلاة والسلام أن هذا هو فعل اليهود والنصارى وهو من أسباب لعنة الله عليهم ، والعياذ بالله . لقد كان الإمام مالك رحمه الله حريصاً على العمل بالكتاب والسنة وعدم مخالفة كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو العمل بالعلم ، وهو ثمرة العلم ، وقد نقل عنه المحقق الإمام القرافي رحمه الله في كتاب الفروق نهيه عن دعاء الإمام بعد الصلوات المكتوبات جهرة مع المصلين ، وعضّد القرافي نهي الإمام مالك بنهي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك ، ولا أدري من أين قدمت إلينا هذه البدعة المحدثة المنتشرة في كثير من المساجد حتى غدت وكأنها سنة ثابتة؟! وقد نقلت في حلقة سابقة عن "الكسر في الأسواق" نقولاً من بعض الأئمة توضح أن مذهب الإمام مالك تميز بإغلاقه لأبواب التحايل في العقود ، فهو أعدل المذاهب وأميزها في باب البيوع ، ومع ذلك فحال كثير من أسواقنا يندى له الجبين ، من الربا الصراح وأنواع ما يسمى بــ"الكسر" الربوي . يقول الحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه سير أعلام النبلاء : ( وبكل حال ، فإلى فقه مالك المنتهى ، فعامة آرائه مسددة ، ولو لم يكن له إلا حسم مادة الحيل ومراعاة المقاصد لكفاه . ومذهبه قد ملأ المغرب والأندلس ، وكثيراً من بلاد مصر وبعض الشام ، واليمن والسودان ، وبالبصرة وبغداد والكوفة ، وبعض خراسان). كما قد كان الإمام مالك رحمه الله يدافع عن الصحابة الكرام ويحث على محبتهم عملاً بما جاء في القرآن الكريم من الثناء عليهم وتزكيتهم وعملاً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام الذي أمر بمحبتهم وحذر من سب أحد منهم وعملاً بإجماع الأمة على ذلك . ومن أقوال الإمام مالك في ذلك قوله :"كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمون السورة من القرآن" . وقال عن الرافضة (الشيعة) الذين يسبون الصحابة الكرام :"إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك ، فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين" وكان لا يرى أن يعطى من الفيء من يسب الصحابة الكرام ويستدل بقوله تعالى :"ليغيظ بهم الكفار" وكان يقول في تعريف الشيعة الرافضة :"هم الروافض رفضوا الحق ونصبوا له العداوة والبغضاء". هذا من تراث إمام مذهب هذه البلاد ونحن نعيش هجمات رافضية وعبر بعض وسائل الإعلام للنيل من أمهات المؤمنين وصحابة النبي الكريم عليهم رضوان الله ، فالمؤسف أن تراثه في وادٍ والواقع في وادٍ آخر لدى كثيرين!!! فكيف بهذا الإمام رحمه الله إذا رأى بعض من ينتسبون إليه يغني رجالهم ونساؤهم بالموسيقى ويضيفون إليه أحياناً ما يسمى بالمدائح النبوية كما ينقل عبر إذاعة الكوثر وقناة ساهور؟! ومعلوم رأيه في الموسيقى والمعازف وحكمه بأنه لا يفعل ذلك إلا الفساق ، كما أن موقفه من الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام من أوضح الواضحات!!! فهذه دعوة أختم بها هذه الحلقات الثلاث للعودة إلى معين هذا الإمام وأمثاله من أهل العلم من سلفنا الصالح ــرحمهم الله ــ لنفهم الإسلام الفهم الصحيح ، ولنحرك الهمم ولندفع بأنفسنا حيث يريد منها خالقها الله رب العالمين. وفي بداية هذه الحلقات بينت أن التوثيق بذكر مراجع هذه المادة بالإمكان الاطلاع عليه عبر موقعي على الشبكة ، حيث اقتضت المساحة المتاحة للمقال الصحفي نقل هذه النقول دون ذكر أرقام الأجزاء والصفحات . رحم الله الإمام مالكاً ، ورفع درجته في المهديين وجزاه وجزى كل من نصر التوحيد والسنة خير ما جزى به عالماً ربانياً ومصلحاً عن أمته . اللهم أصلح أحوال المسلمين ، واهدهم سبل السلام وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
| |

|
|
|
|
|
|
|