|
المتغيرات الأقتصادية والسياسية وتأثيرها على جمهور المسرح ( ورقة : الاستاذ محمد عبدالرحيم قرني )
|
الاعزاء والاصدقاء طابت ايامكم
في اطار ملتقى الشارقة السابع للمسرح العربي وبعد تقديم عرض مسرحية مآساة يرول قدم الاستاذ : محمد عبدالرحيم قرني ورقة جديرة بالقراءه وفيها اضاءات لتاريخ المسرح السوداني
عبر تاريخة الطويل .................................................
نشكر القائمين على امر هذا الملتقى لاهتمامه بامر المسرح والجمهور
ونشكر لهم دعوتهم الكريمه حتى نقف على وجهات نظر مختلفه لمعاجة
اشكالياتنا المتعاظمه فى وجه الفنون بعامة والمسرح بخاصة وتحاول هذه الورقه ان
ترصد مسيرة المبدع والمتلقى عبر مائة عام من تاريخ الحركة المسرحيه فى
السودان حيث يتكافل الجهد النظرى والعملى للمثقف والفنان والجمهور فى وطن
يعانى من جراحات واختلالات على المستوى السياسى والاقتصادى ما يفرزه ذلك
سلبا على مجمل حركة المجتمع وفئات الشعب وطرق معيشته وطرق كسب
العيش وانتاجه المادى والثقافى ودرجة استقراره وعطائه فى كافة المجالات ولما
كنا نصوب جهد ورقتنا هذه على المسرح والجمهور والذى نقصد به مختلف
شرائح وفئات الشعب المتلقى والمتفاعل مع هذا المنشط سلبا وايجابا نقول:الفن
نشاط ابداعى انسانى من صنع البشر: صنعوه وفق رؤاهم للعالم وتفسيرهم
لاحلامهم واشواقهم ومخاوفهم رغبة منهم فى التعبير عن افكارهم وتعبيراتهم
وتفسيراتهم للحياة والموت ووجود الانسان ومجمل حركة الحياة :فهو بالتالى
مؤسسه لصيقه بالمجتمع الانسانى فى اى مكان وزمان.
وعليه نعتبر وجود الانسان وحركته فى مجتمعه وتعبيره عبر الفن نتاج فطرى
وطبيعى مارسه فى مختلف البئات والمناخات وبالضروره تنوع هذا الفن وتشكل
وفق الظروف التى وجد فيها الانسان: فتنوع العطاء الفنى وتفاوت وتشابه من
مكان الى اخر غير ان جوهر العمل الفنى بقى كما هو الية يتوسل بها لبلوغ
غايات نفسيه وروحيه وترويجيه وعبر مسيرة الانسان فى الكون والتاريخ طور من
مؤسسة الفن منتجا جهازا مفاهيميا . واطر علاقات ومصطلحات وتوجيهات ورموز
وعلامات ودلالات جعلت من هذا الفن مؤسسة لها شروط خاصه وعامه مكرسه
نفسها كمنتج ثقافى عام . متاحا لكل بنى الانسان وفق علاقه جدليه متطوره
ومتفاعله اسسها الفنان والجمهور بدون ذلك تفقد هذه العلاقه موجب وجودها
وفاعليتها ‘ فالفن نشاط ينعكس مباشرة على الجمهور من هنا ياخذ مشروعيته
وينال شهادة مولده وترسيخه وتفاعله فى المجتمع .
الدراما والمسرح جنس ابداعى كبير وهو نشاط ابداعى انسانى يتوسل عبر
وسائله الخاصه وعبر جهازه المفاهيمى وتقاليده ومناهجه وشروط انتاجه وشروط
عمله (مرسل ورسالة ومتلقى ) ، (ممثل ،نص، جمهور) باطار جمالى تحكم
قوانينه الداخليه والخارجيه طرق الانتاج وكيفية ومكان التقديم.
كل هذا النشاط المبتدع يقصد به تقديم تفسير لحركة الانسان والعالم
سوا كان ذلك وفق ارسطو عبر نظرية التطهير ، او محاولة تغيير العالم وفق
برتولد برشت 1868 م _1956 م وينبقى للفن ان يكون اداة للتغيير من اجل
الطبقات الكادحه او حتى اكثر راديكاليه مع صرخة ارثر رامبو هذا العالم
يحتاج الى التدمير او حتى اوغستو بوالو رائد مسرح المقهورين فى رسالته فى اليوم
العالمى للمسرح 2009 م ان المسرح ليس مجرد حدث عابر ، انه اسلوب حياة نحن
جميعا ممثلون وان معنى المواطنه ليس ان نعيش فى مجتمع بعينه بل ان نعمل لتغيير
هذا المجتمع وليس بعيدا من ذلك شكسبير القائل ما الحياة الا مسرح كبير
لكل منا دوره هذا النشاط يعمل على اثارة مدركات بصريه وسمعيه ووجدانيه
وفكريه وصولا لهدف اعلى هو احداث متعه ووعى برسالى تحتمل مقاصد دينيه
تعليميه عقائديه ترويحيه اجتماعيه ثقافيه تهدف لخلق وحده اجتماعيه نفسيه
وبحسب سعد الله والنوس المسرح المكان الذى تختبر فيه شرطنا الاجتماعى.
كانت الدراما هى المعبر عن اشواق وطموحات الانسان الاول واستعملها
استعمالا سحريا للتماسك فى ليل الكهوف وبردها واستجداء الفريسه التى
تشكل الغذاء والملبس والسلاح ونقل افكارهم الى الاجيال اللاحقه عبر بها عن
افراحه واتراحه وتواصل بها عندما عجزت اللغه عن ذلك.
وفى القرون الوسطى استعانت الكنيسه بالدراما والمسرح لتوصيل قصص
الانجيل لجمهور ومجتمع اوربا الامى وهاهى الامم المتحده عبر زراعها الثقافى
التعليمى اليونسكو توصى مع بداية الالفيه الجديده باستخدام الدراما فى توصيل
البرامج .
كل البرامج بما تتناسب مع امية المجتمع ومثال بريطانيا العظمى التى
غربت عنها الشمس . ما زال شكسبير واللغه الانجليزيه يحافظان على هذا
ثقافيا وامريكا تحكم العالم ليس بمنطق قوة السلاح فقط بل بترويج
شكل ونمط الحياة الامريكية عبر المنتج الثقافى فى فنون هوليوود وبروداوى .
بهذه البانوراما الواسعه فان الدراما لست اول واشمل فنون الانسان فقط
انما هى مجدوله ومتفصله عبر النسيج التاريخى الاجتماعى للانسان تطورت مع
المجتمعات وهى وعاء له القدره على حمل الرسائل واعادة انتاجها وبثها والايحاء
بها والقدره على التسلل الى الذهن المغلق والراكد والوجدان المسيج وتتخطى
حاجز اللغة وتستعيض بلغة الحركة والصوت والايمائه ولون وفراغ وجسمات
وتشكيل بشرى وصوره جماليه ومدلولات ودلالات وعلامات وهى تخلق عالما
موازيا ليس هو الواقع وانما الواقع منتج فيما يشبه الحلم وفق استا نسلافسكى
1863م _ 1938م .
والدراما تعنى مجمع النشاط التى تشكله الحركه الدينماكيه (الجدليه)
لصناع هذا الجسد الابداعى الكبير من فنانين ممثلين مخرجين كتاب نقاد
اداريين عمال فنيين وجمهور مع نشوء جهاز مفاهيمى متنامى اصطلاحى كامل
وفق منظومة جماليه ومنتج لغوى ومفاهيم ورؤى تتقاطع مع مجمل النشاط
الاجتماعى الاقتصادى والسياسى وتخلق تماس مع منظومات اخرى واجناس
ابداعيه اخرى على المستوى الثقافى الاجتماعى السياسى الاقتصادى من قصة
وادب وموسيقى ورسم ونحت وسينما وتكنلوجيا وصناعة كل ذلك فى نسق
جمالى يجترح نماذجه لخوض مغامرته الخاصه فى افق متسع يحلق باجنحة الخيال الابداعى .
ان الفرجه والمشاركه الجماهيريه من السمات الراسخه لدى الشعب
السودانى فقد رسخ الجمهور السودانى فن الفرجه وتذوق الفنون عبر افراحه
واتراحه فنحن شعب يقابل الحياة باشكالها وتقلباتها بالرقص والغناء فسمة
التجمع والتجمهر والفرحه وحب المشاركه طبيعة راسخه لدى شعوب السودان فى
الشمال والجنوب والشرق والغرب ، حيث يتجمع السودانيون على مختلف عاداتهم
وتقاليدهم فى مناسبات الاحتفالات الصوفيه الدينيه حلقات الذكر والطقوس
تنصيب الرث او جدع النار حلقات المصارعه والعرضه (والبطان) ليالى السمر
وحلقات الحكى الشعبيه وتشير دراسات واكتشافات الحضارة السودانيه
القديمة الممتده الى 9 الف سنة الى جذور راسخه لفنون ذات ابعاد دراميه.
واثبتت بحوث ودراسات عن اصول درامية لممارسات طقوسيه دينيه خاصة
باهل السودان القديم وتتوالى البحوث فى المناطق الاثريه وستذيح الكثير عن
تاريخ الفنون لدى الحضارات السودانية القديمه التى تعتبر من اوائل الحضارات
الانسانية فى تاريخ الجنس البشرى.
من بين الاشارات الاولية المهمة للدلالة على وجود ممارسة مسرحية تشمل
على عرض متكامل وجمهور متلقى محققه العلاقة التفاعلية بين مؤدى وجمهور
متلقى يتداولان رسالة (نص) فيما بينهما وردت فى بدايات القرن العشرين فى
مدينة رفاعه جنوب مدينة الخرطوم 1903 م فى احتفال المولد النبوى الشريف حيث
قدم نصا مسرحيا بواسطة الشيخ بابكر بدرى وقد سخر عائد العمل لصالح بناء
مدرسة لتعليم البنات قامت فعلا على يديه بحلول العام 1907م – 1910 م .
بادئا بذلك تاريخا طويلا وكفاحا مرير من اجل تعليم المراة مكرسا
نفسه عبر مسيرة طويلة توجها بانشاء جامعة الاحفاد للبنات وصار المسرح نشاطا
راتبا خلال هذه المسيرة الطويلة بل ان جامعة الاحفاد للبنات تتفرد من بين اكثر
من 20 جامعة فى السودان بالالتزام بنشاط مسرحى راتب.
وهناك اشارة جدير الذكر سبقت اشارة بابكر بدرى 1903 م وهى:
انه فى العام 1899م بعد ان دانالسودان للمستعمر البريطانى المصرى 1898م ثم
عمل احتفال حضرة السودانيون يسمى عرض التاتو وهو عرض عسكرى درامى
يصور انتصار جيوش الغازى على الوطنيين حيث المهديه ولا يخلو العرض من دلالة
هى استخدام الشكل الدرامى الفنى فى اول مواجهة ما بين جمهور سودانى
وعرض فنى لترسيخ دلالة الانتصار واظهار الخضوع.
غير ان العقل السودانى استوعب هذه الفكرة واعاد انتاجها واستخدامها
فى 1903م عند بابكر بدرى وفى 1909م فى مدينة القطينة جنوب الخرطوم على
النيل الابيض بواسطة المامور المصرى عبدالقادر مختار حيث كتب واخرج
مسرحية تكتوت مسخرا دخلها لصالح بناء مسجد وهو اول نص مكتوب يتم
عرضه وتداوله بواسطة سودانيين ، والجدير بالذكر ان هناك نشاطا مسرحيا
راتبا ومؤسسا مورس فى السودان بانتظام ما بين 1905م -1915م عبر اندية
وتجمعات الجاليات الاجنبية انذاك (الشامية –الانجليزيه – المصرية) .
يعتبر المسرح نشاطا ثقافيا معروفا لدى هذه الجاليات ولم يشاهد بواسطة
عامة الجمهور السودانى الا للمنتمين للمؤسسة العسكرية انذاك من السودانيين
امثال على عبداللطيف قائد ثورة 1924م فيما بحكم انه كان ضابط فى
الجيش وقد اثبتت ارشادات وتوجيهات على عبداللطيف الفنية فيما يخص المسرح
للفنانين السودانيين الذين اداروا نشاطا مسرحيا خارج نطاق الجاليات عبر نادى
الخريجين 1918م (خريجو كلية غردون) الاندية الرياضية التى مارست نشاطا
مسرحيا فى العشرينات والثلاثينيات من القرن العشرين مثال:
نادى الزهرة الرياضى امدرمان وكان لنادى الخريجين تجمع السودانيين
خريجى كلية غردون نشاطا راتبا يؤمه جمهور منتظم لحضور عروض المسرح
والنشاط الادبى عموما بيد ان عروض المسرح التى كانت تقدم بواسطة فرقة
منتظمة بقيادة صديق فريد 1887م-1941م. وعرفات محمد عبدالله الذى
ممثلا وناقداوصحفيا وعضوا بجمعية اللواء الابيض مغجرة ثورة 1924 م
ضد الاستعمار مؤسسا لمجلة الفجر صاحبة الريادة في المطبوعات الصحفية
السودانية حيث مارس من خلالها نقدا مسرحيا رصينا ساهم في نشر وتذوق
وترسيخ فن المسرح وبيان اهميته لدى جمهزر المتلقين انذاكز مكرسا لنفسه
مكانا عاليا في تاريخ النقد الفني في السودان
وقد اسسس نادي الخريجيين فروع له في كل المدن الكبرى في السودان
بوساطة الخريجيين في المنشرين في كل دولاب العمل في السودان وبالتالي شاهد هذا
النشاط جمهور واسع من قبل مسرحيات مثل صلاح الدين الايوبي والتي لاقت
استقالا هائلا صادف صدى الجمهور الراسخ تحت نيل الاستعمار مستدعيا
ذاكرة تالريخية ممثلها صلاح الدين الايوبي ضد الصليبيين وبجانب مسرحية صلاح
الدين الايوبي توالت سلسلة مسرحيات مرسخة للذائقى المسرحية لدى جمخور
وساع في العاصمة والاقاليم موطنة بالمسرح في الثقافةا السودانية من امثال
المسرحيات المعرية :
تاجر اليندقية - يوليوس قيصر – عطيل – او المسرح العربي كالعباسي
محمد علي الكبير – وسسرحيات اخرى امثال امير الاندلس والتوبة الصادقة
(شارل وريتشارد ) وفي سبيل التاج . هذا النشاط ازعج السلطة الاستعمارية مما
ادى الي اغفال النادي وحطر نشاطه الفني بحلول 1929 م وهو العام الذي شهد
مسرحية المفتش والمأمور ورجل الشارع والتي قام بتاليفها عبيد عبدالنور الذي تخرج في الجامعة الامريكية وهو مؤسس وعميد لمدارس بيت الامانة الثانوية واول
مذيع سوداني بالاذاعة السودهنية الوليدة م نطق بهنا امدرمان.
وقد احتوت المررحية على نقد وتصريح ومباشر للاستعمار البريطاني وقد تم
حطر عرض هذه الاعمال بوساطة قلم الاستخبارات البريطاني آنذاك وتعرض
الفنانون للمسألة والتوقيف ورغم ذلك فقد انتشر وهج المسرح وعم الاندية الرياضية في
امدرمان وبرز نادي الزهرة الرياضي امدمان عبر نشاط مسرحي زائد خالد
ابوالروس 1908-1986 .تلميذ بابكر بدري الفني حيث كتب ومثل واخرج
العديد من الاعمال منذ مطلع الثلاثينيات مستفيد من تجرية نادي الخريجيين
والمسرحيين السودانيين الاوائل من قبيل بابكر بدري وصديق فريد وعلافات محمد عبيدالله عبدالنور خالد
عبدالحممن ابوالروس وعرف كشاعر غنائي ساهم في نهضة الغناء السوداني منذ الثلاثينات مؤسسا مع آخرين ما
يسمى بالمدرسة الفنية الغنائية الاولى وله اغنيات مشهورة تغني بوساطة كبار فناني السودان حتى اليوم .
الف اكثر من 7 مسرحيات بالضعر القومي الف كذلك فن المنلوج وجارى رباعيات الخيام وكتب في الحكم والمواعظ
ومن اعماله المسرحية المضهورة لدى جمهور واسع في السودان (تاجوج) وخراب سوبا
وابليس وغيرها من ويجدر بالذكر ان خالد ابوالروس طاف بالعماله هذه العاصمة والاقاليم .
في رحلات منتظمة وهق طيفا واسعا من المتذوقين لفن المسرح على مساحات واسعة من قرى واقاليم وعواصم
مدن السودان في ذلك الوقت وفي ذات الفترة نشط شاعر غنائي معروف هو ابراهيم العبادي وعدد من الشعراء
الذين اقتدوا بتجربة ابوالروس والعبادي فشهدت الاندية الرياضية والتجمعات الادبية الوليدة نشاط ملحوطا في
انتشار فن المسرح ولكن يبقى ابراهيم العبادي يمثل مكانا عاليا في تاريخ المسرح السوداني باعتبار ان مسرحية
الملك نمر . قد تركت اثر واضحا لدي جمهور واسع من الشعب السوداني وحفظت كثرا من مقولات المسحية
الشعرية التي لاقت هوا لدى جمهور المتلقيين حيث حفظ الملايين مقولة
جعلي ودنقلاوي وشايقي ايه فايداني غير ورثة خلاف خلت اخوي عاداني خلو البينا يسري مع البعيد والداني
يكفي النيل ابونا والجنس سوداني
هكذا قال ابراهيم العبادى فى مسرحيته الخالده (المك نمر) فى اوائل
الثلاثينيات من القرن العشرين مثبتا ان الفنان المسرحى السودانى قادر على
استيعاب الظاهرة المسرحية وانتاجها والغوص عميقا فى تراث شعبه والخروج
بامثولة وعبر تبقى وترسل اشاراتها بعيدا مستحثا جمهورا متسعا عبر الزمان
والمكان بل متعديا حدوده الجغرافية لتصل بالانسان فى مطلقيته مكرسا نفسه
وسط شخوص المسرح العظيمه والهادئة لكل الانسانية المصوبة نحو قيم السلام
والمحبة والعدل هكذا كان الفنان وكان الجمهور الملتف حول المسرح مستمتعا
بالنسق الشعرى (الشعبى) الذى يناسب طبيعته ومتفاعلا مع احداث النص مشبعا
بنهمه الفنى ولتاريخه ومنحازا لترابه ووطنه ومستقبلا لاشارات النص الداعيه
لاهمية توحد ابناء الوطن الواحد .
هذه هى بدايات المسرح السودانى قام ملبيا طموحات واشواق المواطنين
والشعب مانحا اياهم متعة ووعيا فى ظرف تاريخى خفت فيه صوت السياسى وعلا
صوت المبدع.
بنهاية العشرينات من القرن العشرين كان المسرح قد توطن فى الثقافة
السودانية واصبح معبرا اساسيا عن طموحات وامال شعب يرزح تحت الاستعمار
وفى ذات الوقت الذى امسك فيه المستعمر بتلابيب السلطة والحياة فى معظم اجزاء
السودان المترامية عبر مد الطرق وربط البلاد بشبكة السكك الحديدية فاسست
المؤسسات المدنية من قبيل ميناء بورتسودان وكلية غردون لتخريج الكادر
الادارى والمدنى لتسيير دولاب العمل فى مكاتب الدولة واسس المدارس الحديثة
مقابل الخلاوى والكتب التقليدية السودانية واسس المشاريع الزراعية لا سيما
مشروع الجزيرة اكبر مزرعة فى العالم تحت ادارة موحدة لتغذى مصانع بريطانيا
الجائعة لمنتجات المستعمرات وخزان سنار .
واقام المبانى والدور السكنية وبناء رموز السيادة الجديدة من وزارات
وسراى الحاكم العام ومبانى وحدات الجيش والبوليس واقام المحاكم والدور
السكنية الاستعمارية والاحياء الراقية بالمواصفات الاوروبية وتهيات الخرطوم
لتصبح عاصمة استعمارية جديدة فى خارطة الامبراطورية البريطانية التى لاتغيب
عنها الشمس فضرب نطاقا عازلا على كل منارات الوعى واخمد الثورات المتصلة
منذ 1908م ثورة عبدالقادر ود حبوبة فى منطقة الحلاويين بالجزيرة والسلطان
على دينار سلطان دارفور 1916م ضاما بذلك مساحة تعادل مساحة فرنسا تحت
حكمه وحتى ثورة النوير فى جنوب السودان طالها البطش بحلول عام 1931م مما
مهد لسياسة الفصل العرقى والثقافى مكرسا سياسة ما يعرف فى التاريخ
السودانى بسياسة المناطق المقفولة .
فتم وفقا لهذه السياسة عزل جنوب السودان بالكامل اضافة الى مناطق جبال
النوبة المتداخلة مع الشمال ومناطق جنوب النيل الازرق حيث نشات اولى الممالك
الاسلامية فى السوودان منذ القرن السادس عشر الميلادى حتى عشرينات القرن
التاسع عشر زراعا بذلك فتنه مؤقوته جابهة اهل السودان الان ونحن نعيش
تداعيات سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية كانت ثورة 1924م فى السودان
فصلا تاريخيا كبيرا فقد كانت ثورة ثقافية وسياسية عسكرية منظمة حوت
اعداد هائلة من المثقفين العسكريين السودانيين وجملة من الفنانين المتنورين
كعرفات محمد عبدالله وخليل فرح فنان الوطنية السودانية الاول الذى صاغ
اشعارا واغانى خلدت فى وجدان كل اهل السودان كما صاغت فى ادبياتها نسقا
كاملا للحياة فى السودان وتطورا مخالفا لكل تطلعات الاستعمار ومن شايعة من
اهل السودان وكانت ترنو لوحدة مع مصر تحت شعار وحدة وادى النيل ، ولكن
قمعت هذه الثورة وقتل وشرد قادتها فى منا فى سجون الاستعمار واوقف على
اثرها نشاط نادى الخريجين منارة الوعى والثقافة والمسرح بجانب الوعى السياسى
فانداح الجمهور المتعاظم مع النهضة الادبية التى صعدت عبر الاندية الرياضية
والجمعيات الثقافية كبديل موضوعى لحراك العشرينات المقموع . فنشات
صحف ومجلات ادبية وثقافية (جماعة ابو روف – جماعة الموردة ) وتواجدت
الصحف والمجلات المصرية فى مكتبات الخرطوم ولدى الافراد من قبيل مجلة
الرسالة المعروفة .
تعتبر الثلاثينيات من القرن العشرين هى فترة نهضة وانتشار فن المسرح
السودانى تاليفا واخراجا وتمثيلا وتحقيق وانتشار وتلاحم جماهيرى عبر الاندية
الرياضية وحركة الرواد الاوائل امثال خالد ابو الروس – ابراهيم العبادى
واخرون فى امدرمان بؤرة النشاط الادبى والثقافى والسياسى الفنى .
والذى امتد الى اقاليم السودان المختلفة عبر رحلات منتظمة طابعها رياضى
ولكن يصاحبها الغناء والمسرح ، وقد انتظم كثير من فنانى الجيل الاول من
السودانيين فى سلك الاندية الرياضية كان من اشهرهم فنان السودان الاول
كرومه الذى مارس الرياضة عبر نادى الهلال المعروف وفى العام 1934م
انشئ معهد بخت الرضا على النيل الابيض جنوب الخرطوم وهو معهد يعمل على تخريج
معلمى المدارس الاولية الوليدة ويصيغ المناهج التعليمية وكان من اكبر معاهد
التربية فى القارة الافريقية والعالم العربى انذاك استقطب السودانيين بالدرجة
الاولى وحتى من دول الجوار الافريقى والعربى انذاك وقد كان المسرح نشاطا
راتبا بهذا المعهد فتحول الى جامعة الان حمله الى مختلف اصقاع السودان
متخرجوه من المعلمين فانداحة دائرة المسرح عبر المدارس كنشاط متزامن
بالنشاط الاكاديمى وقد كانت المدارس هى شعلة التعليم ومنارة الثقافة فى
اصقاع السودان الممتدة فانداح المسرح وشمل عبر المدارس المناطق التى وجدت
فيها .
وشارك جمهور متسع ومتعاظم الليالى المسرحية التى كانت تقام بالمدارس
مستفيدة من تجربة الرائد المسرحى د. احمد الطيب احمد 1917م – 1962م
والذى تخرج فى كلية غردون وعمل ببخت الرضا معلما ومديرا للمعهد .
وهو من اوائل المبعوثين السودانيين الى لندن حيث نال درجة الدكتوراة فى
المسرح العربى من معهد الدراسات الشرقية فى سبق رائد على مستوى السودان
والعالم العربى وبعودته الى السودان باشر بعمل ليالى مسرحية قدم فيها
شكسبير مترجما ومسودنا لجمهور الطلاب المعلمين ببخت الرضا وجمهور متسع
من المواطنين فى المنطقة فقد ساهم فى الكتابة للصحف وباشر بعض التراجم
للادب الانجليزى ، وقد تخرج العديد من الطلاب الذين اصبحوا فيما بعد باعثى
نشاط تعليمى وثقافى كبير امثال الفكى عبدالرحمن اول مدير للمسرح القومى
ومنشئ المواسم المسرحية فى السودان 1967م .
ومن بخت الرضا خرجت فكرة كلية الفنون الجميلة والتطبيقية مع
الانجليزى قرينلو 1946م ولاحقا ساهم الفكى عبدالرحمن مع اخرين فى
انشاء معهد الموسيقى والمسرح 1968م فى نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين
تحرك الساسه السودانيين عبر مؤتمر نادى الخريجين بقيادة الزعيم التاريخى
اسماعيل الازهرى ورفاقه من قدامى خريجى غردون الذين يشكلون الطبقة
المستنيرة والمثقفة والسياسية وتم رفع مذكرة شهيرة سميت بمذكرة المؤتمر
مقتدين بذلك بنهج المهاتما غاندى مطالبين بجملة مطالب سياسية ملوحين
بالاستقلال وبرز المستعمر مرة اخرى ليلعب دورا حاسما فى تشكيل السودان
حيث اوعز وسمح بانشاء الاحزاب السودانية فى عام 1945م متيحا للسياسى البروز
مرة اخرى متدثرا بشرعية قانونية تحت مسمى الحريات وترسيخ
الديمقراطية فغلب الزخم السياسى والتنافسى على السلطة التى بدات تلوح فى
الافق طغى كل ذلك على الواقع الابداعى الذى كان يعمل متفردا بامكانياته
الذاتية مضيفا الى ساحات الجماهير لاعبا جديدا بامكانيات واليات جديدة
ساهم فيه المستعمر بالقدح المعلى فتخلف ركب المسرح واستلب السياسى
الجمهور لصالح العمل السياسى والليالى والمهرجانات السياسية مزيحا المبدعين
الى مراتب دنيا او بالاحرى اتيح لهم لعب دور التابع فانقسم الفنانون الى شيع
وطوائف لانجاز معركة الاستقلال ولما كان العام 1956م عام الاستقلال السودان
كان السياسى هو النجم الاول للجماهير وانزاح المبدع فى الخلفية دون جمهور او
نصير وصار يقتات على موائد السياسة بفواصل من النكات او قصائد لتمجيد
الحزب او الزعيم او راعى الطائفة .
على ان المسرح فى ذات الفترة شهد مد جديدا وصحوة فنية امتدت الى ربوع
السودان عبر فرقة السودان للتمثيل والموسيقى والتى استوعبت كل تراث الاجيال
السابقة من المسرحيين السودانيين ودشنت مسرحا ودارا مستقلة لعروضها
وتدريباتها عبر مؤسسها وقائدها ميسرة السراج رائد المسرح الحديث 1924م
الذى بنى فيما بعد استديو اذاعى خاص كان يمد الاذاعة الوليدة 1940م بالمواد
الدرامية والتمثيليات فى قفذه نوعية للفنان المسرحى السودانى هذا بجانب لاعضاء
المجموعة (استديو الممثل) والتى من خلالها خرج ممثلون كبار حملوا شعلة الفن
فى المسرح والاذاعة والتلفزيون فيما بعد كالرائد الممثل عوض صديق تلميذ
ميسرة السراج ويعتبر صاحب اكبر مساهمة فى حقل التمثيل حتى رحيله فى عام
2004م .
ويذكر للرائد ميسرة السراج انه بجانب انشاء فرقة السودان
للتمثيل والموسيقى وبناء مسرح خاص انشاء مجلة فنية باسم الافق 1948م . وسعى
لتسجيل فرقته الفنية بوزارة العدل 1946م واعاد تسجياها عام 1950م فى سابقة
فنيه متقدمة فى تاريخ العمل الفنى كما انه كون فروعات لفرقته بمدينة عطبره
(شمال السودان) وفرع اخر بالعاصمة الخرطوم بحرى وعلى يديه صعدت اول
امراة سودانية فى الاربعينيات خشبة المسرح وهى سارة محمد ممات عرضه لحمله
شعواء من خطباء مساجد امدرمان لسنوات الا انه استمر مقدم العديد من الاعمال
مثل مسرحية غرس الاحرار 1940م ، زوجتان1945م، ضحايا الغرام 1952م
وحتى عام 1959م انتقام وغرام .
يذكر ايضا لميسرة السراج المشاركة فى ارساء الدراما الاذاعية منذ
الاربعينيات وحتى 1964م . حيث توقف عن العمل الفنى مؤسسا مدارس الشعب
الثانوية للبنين والبنات . كانت معظم اعماله تكرس للاعمال الخيرية دعم
الاتحاد النسائ السودانى الوليد - دعم منكوبى فلسطين – دعم منكوبى
سيول وامطار 1946م، الشهيرة فى السودان – دعم بناء المدارس وهذه الصفة
اتصف بها كل رواد الحركة المسرحية بدءا من بابكر بدرى 1903م الى ميسرة
السراج 1964م .
شهد العام 1985م، استيلاء العسكر على السلطة فتغير المناخ السياسى
وصدرت قوانين مقيدة لعمل الاحزاب والحريات العامة من قبيل التجمهر والتجمع
وبالتالى طالت الحياة السياسية الثقافية اتكاسة توقف على اثرها النشاط
المسرحى وانزوى كنشاط فى المدارس والاندية يلتمس الترويح والسمر لتجديد
روحه المعنوية وانقطع الرواد الاوائل للمسرح عن العمل واندغموا فى تيار الحياة
الجارف رغم ان الحكم العسكرى اشاد دور الرياضة وانشا لاول مرة فى
السودان مسرحا قوميا، كرس لليالى الفنانين واستقبال الفرق الاجنبية التى
صارت تفد الى بلاد السودان منذ نهاية الخمسينات الفرق الاثيوبية والصينية
والروسية والاوروبية الراقصة والموسيقية وتم ادخال التلفزيون فى نهاية 1963م .
وصار بثه على مدى واسع مجتزبا جمهورا متزايدا مع انتشار دور السينما فى
العاصمة والاقاليم وحتى بعد 1964م بعد تفجر ثورة اكتوبر الشعبية التى اطاحت
بالعسكر وجاءت بحكم ديمقراطى لم تعطى الفنون والمسرح شيئا يذكر غير
انه فى سنة 1967مشهد المسرح القومى التغيير الجذرى لوجود الفكى عبدالرحمن
1933م – 2005م، وهو ممثل ومخرج ومعلم تلقى كورسات تدريبية فى
لندن والقاهرة اسس المسرح القومى ادارة لاول مرة واسس لمواسم مسرحية واتاح
الفرصة مرة اخرى للرواد لعرض اعمالهم محتضنا نشاط مجموعة جديدة من
شباب المسرح فى شكل فرق وجماعات وحتى توظيفهم عبر العمل فى المسرح مع
تحمل كافة متطلبات الانتاج والاجور باديا عهدا ذهبيا للمسرح واقحم الدولة لاول مرة
كحاضن رسمى للعمل المسرحى وداما رئيسيا ومنتجا فى سياسة استمرت
حتى عام 1989م.
وفى لفته تاريخية بارعة تم افتتاح مواسم المسرح القومى السودانى باعادة
اخراج رائعة ابراهيم العبادى الرائد المسرحى (المك نمر) كاول مسرحية تدشن
العروض المسرحية على خشبة المسرح القومى فى اول عروضه واول مواسمه وقد
اعاد اخراجها الاستاذ الفكى عبدالرحمن فى لفتة بارعة اعادة وصل ما انقطع
من تاريخ المسرح السودانى وترددت فى الاصداء تلك الدعوة الخالدة عبر المسرحية
هكذا كان الفنان المسرحى السودانى مستبصرا ورائيا لما يواجه الوطن
وابنائه جراء التناحر فكانما الرسالة انشئت اليوم وليس فى ثلاثينيات القرن
الماضى، مرة اخرى وقبل انقضاء عقد الستينات من القرن الماضى استولى
العسكر على السلطة فى السودان فى دورة جديدة من دورات التعاقب السودانية
الشهيرة غير انهم هذه المرة جاءوا مع حلفء جدد من اليسار والمثقفين الثوريين
وشهد عهدهم مدا ثقافيا متزايدا تمثل فى الاهتمام بشرائح المثقفين وتبنى
سياسات ثقافية تهتم بالجمهور فى توسيع مظلة التعليم العالى ودعم ميزاية المسرح
القومى تم انشاء مصلحة للثقافة ضمت شرائح متعددة من المثقفين فى كافة
تخصصاتهم والمجلس القومى للاداب والفنون وطور مفهوم الثقافة الى افاق جديدة
عبر مشاريع ومخططات طموحة وميزانيات وظهرت مجلات ثقافية متخصصة
كالخرطوم والثقافة والاذاعة والتلفزيون.
وتم دعم المسرح القومى وتم استكمال معهد الموسيقى والمسرح وصار تحت
مظلة التعليم العالى وانشئت فرقة لفن العرائس ومراكز الثقافة والطفل
والفلكلور وفرقة للفنون الشعبية والاكروبات وقصرا للشباب والاطفال ومراكز
شباب منتشرة عبر القطر مع اهتمام واضح للثقافة عموما ، حيث شهدت فترة
مايو انشاء مجمعات ثقافية فى الاقاليم تضم مسارح ومكتبات وشهدت ايضا قيام
مهرجانات جامعة للثقافة بلغت ثلاثة مهرجانات وبعث فنانون وطلاب لدراسة
الفنون على حساب الدولة الى خارج السودان وارسيت سياسة انتاجية وفى المسرح
القومى شهد طفرة تعيين الخريجين الفنانين الجدد فى ادارات المسرح المتنامية
وانتظمت العروض المسرحية وشهدت مشاركات خارجية لاول مرة مع تبادل
زيارات فنية لفرقة اجنبية وعربية رغم اقصاء اليسار السياسى بعد خلافات اثر
انقلاب 1971م .
الا ان الحركة المسرحية استمرت فى الانفتاح والعطاء وفق سياسة رسخت
منذ اول موسم مسرحى 1968م ، حيث يتكفل المسرح القومى بانتاج الموسم
المسرح كاملا ثم ارساله الى كافة المدن الكبيرة فى السودان فنشطت الفرق
والجماعات وقدمت الموسم متميزة عرفت بعصر المسرح الذهبى واتسعت حركة
بناء المسرح فى الاقاليم فى جوبا وبورتسودان ودنقلا والدمازين وكسلا والفاشر
والابيض وكادوقلى و واو وعطبرة رغم تغلب النظام السياسى المايوى عبر 16 سنة .
وقد شهدت الاقاليم السودانية طفرة نسبية فى مدن كالدمازين ،بورتسودان،الابيض
والفاشر وعطبرة ودنقلا نتيجة سياسة بناء ودعم المسارح والمراكز الثقافية وسياسة
ابتعاث الخريجين الجدد الى الاقاليم حيث شهدت هذه المدن حراكا مسرحيا متبوعا بالتفاف
جماهيرى ملحوظ مرسخا لثقافة تذوق المسرح كنشاط ارتكز على اقليمية ومحلية مع الزيارات
الراتبة لفرق العاصمة بالاضافة الى زخم مهرجانات الثقافة التى طالت الاقاليم بمشاركات
والدورة المدرسية الثانوية والجامعية وهرجانات الشباب الراتبة التى حركت الراكد من حقول
الثقافة والفنون والمسرح لكن ظلت العاصمة مركز الجذب الرئيسى لحركة الفنانين
خالقى الحركة الفنية المسرحية عبر الانتساب للدراسة والعمل عبر الفرق والجماعات العاصمية
التى توفر لها الدعم عبر المسرح القومى اضافة الى تمركز جهازى الاذاعة والتلفزيون القوميين
وما يشكلانه من جذب للعناصر الفنية المتعطشة للمارسة فنها بجانب توفر المال والشهرة
مع تردى الاحوال الاقتصادية والفساد الذى طال المؤسسات الحكومية واجهزة الدولة
وتمركز الموارد فى العاصمة وبعض المتمركزين فى السلطة حتى قيل ان الفساد اطاح
بمايو قبل انتفاضة 1985م الشعبية وهكذا يدخل السودان فى دورة جديدة.
وعادت الديمقراطية والاحزاب الى السلطة وبدا التناحر حول السلطة بوسائل
مدنية جرفت كل منجزات الشعب الى اضابير الاحزاب وسرعان ما هبت عواصف
التمرد الى الجنوب والذى بدا عام 1983م ،وازداد مع انهيار مؤسسات الدولة
وتضافرت الطبيعة لتنعم بامطار وفيضانات وسيول ادت بالسودان لظروف كارثية
هب كل العالم لمساعدته لتجاوزها 1988م ،وما يهمنا فى هذه الورقة هو اننا
فقدنا كل ارشيف ووثائق ومكتبة المسرح القومى الفخمة الى الابد ولم يبقى غير
كتاب سعد يوسف وعثمان على الفكى المطبوع 1978م ، (الحركة المسرحية فى
السودان ) مؤرخا فريدا ونادرا عن ارشيف المسرح القومى منذ 1967م .
وشهدت ايضا اعوام الديمقراطيةحدثا فريدا رسخ فى ذاكرة المسرحيين
ويكشف فهم السياسى السودانى للثقافة وهو صدور امر من وزير الثقافة
والاعلام بايقاف مسرحية كلام فى الممنوع للمخرجة السودانية المهاجرة الى
امريكا (تماضر شيخ الدين) ، فى ظاهرة حتى النظم الشمولية كانت تتفادى
الوقوع فيها على الاقل بشكل مباشر .
وعندما اطل فجر الثلاثين من يونيو 1989م معلنا دورة جديدة (قديمة) فى
تاريخ السودان المتقلب مكرسا لنظام عسكرى شمولى ، حتى كان المسرح
عمليا يلفظ انفاسه الاخيرة وساد الساحة استقطاب ايدولوجى حاد ، تم بموجبه
ازاحة الفنون والثقافة من اولويات النظام الجديد حيث لم يباشر المسرح القومى
قلب الحركة المسرحية نشاطة حتى بدايات التسعينيات وبالتالى انفض سامر
الفنانين والمثقفين حول المسرح القومى حث طالت يد الاحالة الى الصالح العام
وفق السياسات الجديدة عددا مقدرا من الفنانين واثر البعض الهجرة الى اوروبا
والخليج وعرف السودان حملات ضاربة ضد اليسار والمثقفين وطالت شبهة من
يظن انه ضد النهج السياسى الجديد .
واصيب دولاب العمل الثقافى بنكسة كبرى ، وازيح منهج ونسق ثقافى
كامل واعيد العمل المسرحى بمفهوم جديد صار فيه شعار (الولاء قبل الكفاءة)
هومعيار الوظيفة الرسمية (من ليس معنا فهو ضدنا) وبموجب ذلك تم ازاحة
وحجب مساهمة اعداد مقدرة من الفنانين والمثقفين الامر الذى انعكس فى شكل
ضمور حاد فى حركة الجمهور الملتف حول المسرح هذا اضافة الى جملة سياسات
مقيدة للحريات تمثلت فى الرقابة على الصحف والمطبوعات وتاميمها وتاميم حقول
مناشط الثقافة بواسطة قوانين جديدة فيما اصطلح على تسميته بسياسة التمكين .
وبناء عليه حلت مؤسسات جديدة بمسميات جديدة لادارة الشان الثقافى
والمسرحى من قبل الهيئة القومية للثقافة والفنون والتى دشنت سياسة ثقافية
جديدة تحت مسمى (الاحياء الثقافى) ، واحلال مؤسسات ثقافية ذات طبيعة
خاصة لتحل محل الحركة المسرحية والفنية من قبل شباب البناء وجماعة نمارق
للفنون والاداب ، المجلس القومى للفنون والاداب ، ومؤسسات الطباعة والنشر،
ولا يخفى الغرض السياسى الايدولوجى لاطلاق هذه النماذج واطلاق يدها فى
العمل ودعمها بشكل كامل لتقدم النموذج المرجو المتوافق ومزاج السلطة، قفل
دور السينما وحل مؤسسة الدولة للسينما ، تجفيف كل اشكال التجمعات عبر
قانون حظر التجول الذى امتد الى سنوات وقانون الطوارئ 1989م الى 2005م
وحظر النشاط الثقافى داخل الجامعات والمدارس الثانوية والاساس وخلق ما يسمى
بوكالة النشاط الطلابى وهى الجهة الحكومية المناط بها تسيير النشاط
المصاحب للنشاط الاكاديمى بالاضافة الى سياسات الاقصاء عبر عدم التوظيف
فى الوظائف العامة كالاذاعة والتلفزيون والمسرح والمدارس والجامعات والصحافة
اى منافذ الوعى الثقافى والفنى وطالت السياسات الجديدة الاتحادات والنقابات
مما شكل لطمة لكل تطلعات الفنانين والممثلين اذ جسم على صدرهم اتحاد
بامر السلطة الوكيل الحصرى لكل الحركة المسرحية السودانية مزيحا كل
التراث الذى سبق ضاربا عرض الحائط بكل كفاح ومجاهدات اهل المسرح
السودانى منذ عهد الاستعمار وسلم كل هذا التراث الى السلطة الجديدة بل
مبشرا ومباركا وحارقا لبخورها ومنفذا لسياساتها عبر تمثيله الفردى لوجه
السودان فى كل المحافل فى الخارج عبر عشرين عام مظهرا ومجملا الوجه القبيح
للسلطة ومزيحا جهود الفنانين الحقيقين الذين من حقهم تمثل وطنهم وتقديم
وجهة نظرهم وتقديم فنهم ووفق رؤاهم .
وفقا لهذه السياسات بعد ضياع ارشيف المسرح القومى 1988م وبعد حظر
عرض اى منتج مسرحى مسجل للتلفزيون السودانى قبل 1989م من العرض رغم
انه المرجع الموجود الوحيد ليرى كل الذين ولدوا بالسودان بعد عام 1989م ،
مسرحا سودانيا .
كل ذلك خلق فجوة وقطيعة معرفية وثقافية وجماهيرية مع فن المسرح
وانصرف الجمهور الراتب الذى تربى عبر سنوات على مشاهدة مسرح يعبر عنه
بدل المسرح الشائه الذى بدا يحل فى الساحة وفق منظور جديد واتجه الجمهور
ليشبع حاجته عبر التلفزيون الفضائئ ولم يبخل التلفزيون من تقديم وجبات من
اعمال من قبيل (شاهد ما شافش حاجه ، عش المجانين ) والغريب انه تم تشجيع
استيراد الدراما العربية على حساب تطوير الدراما السودانية حتى وصل المعدل
الانتاجى الى الصفر بحلول عام 2009م فى المسلسلات والافلام السودانية
والمسرحيات واوقف التلفزيون التعامل فى بيع وتصوير وعرض المسرحيات
السودانية بعد ان كانت سياسة راتبة لمصدر دخل الفنان المسرحى والترويج
لاعماله داخليا وخارجيا مما ساهم فى حالة الافقار للفنان العامل فى مجال المسرح
فيضطر البعض الى هجر العمل بالمسرح بحثا عن لقمة العيش او الهجرة الى خارج
الوطن وتتسع الفجوة ما بين فنان وجمهور وما يقدم لا يرضى ولكن الجمهور
مجبر على ذلك فيحدث تدنى فى الذوق العام رغم انه يحدث حالة صحو زائفة .
ان اكثر من نصف سكان السودان البالغ 39 مليون نسمة انذاك هم فئة
الشباب فهم بالتالى الشريحة الجماهيرية المعنية بالمشاهدة ولكنهم ليسوا على
صلة بمسرح سودانى وذاكرتهم الفنية غير مشحونة او ملامسة لكل هذا الجهد
المقدم منذ مائة عام الامر الذى يجعلهم عرضه للاستلاب المعرفى والثقافى تجاه
مسرحهم المحلى استعاضوا عن ذلك بالاتجاه لما هو متوفر من غناء محلى واجنبى
عبر وسائط البث . تلفزيون ، فيديو ، سى دى ، كمبيوتر ، مع ريادة مسرح النكتة
والاسكتش والمنلوجات واصبح الفن يمارس بالمناسبات والاعياد والخيمة
الرمضانية مع الطعام والشيشة هذه السياسات ادت الى تهشيم بنية الجمهور
الذواقة الذى التف حول الظاهرة المسرحية منذ 1903م ، ان ظاهرة تفرد المسرح
القومى بامدرمان كقلب الحركة المسرحية السودانية الجهة الوحيدة المناط بها
تحريك عجلة المسرح واجتذاب الجماهير لمهمة ثقيلة تعتريها الكثير من المخاطر
وان حققت نجاحات ملحوظة من الحفاظ على على استمرار وفاعلية عجلة المسرح منذ
1968م وحتى 1988م، عبر ثبات اليات العمل من مواسم مسرحية وسياسة انتاجية
وقدرة على استيعاب كوادر فنية جديدة دعم فرق عاملة فى الحقل عبر سياسة
دورات الموسم من الخرطوم الى الاقاليم افقر حركة المسرح الاقليمى وصارت دور
المسارح فى الاقاليم مستقبل للعمل الفنى غير منتج بذاتها الا فى لحظات قليلة لا
تؤثر الا فى السياسة الراتبة ولكن بعد 1989م، وحتى لحظة استثمار مليارات
الجنيهات فى عام 2005م، فى الخرطوم عاصمة الثقافة العربية ، حيث شرع فى
تجديد بنية المسارح القديمة للعاصمة والولايات وشرع فى بناء مسارح جديدة
بتكلفة عالية الا ان المسرح القومى لا زال هو المسرح الوحيد الذى يعمل بموسم
متعثر بعض الشئ وتقف ثمانية مسارح اخرى فى العاصمة بلا خطة عمل او جمهور
او ميزانية او كادر فنى يدير العمل او حتى المسرح الذى بنى بكلية الدراما
والموسيقى شابته الاخطاء الهندسية فى البناء الفنى وطالته شبهة الفساد فكيف
يستقطب مسرح واحد حركة 39 مليون سودانى فى مليون ميل مربع ...
تخرج هذه الورقةالمختصرة بالاتى :
1/ كان المعلم خالقا وناشرا للمسرح والثقافة والفنون على مر تاريخ السودان
المعاصر وعليه يجب ان يركز من اجل استعادة هذا الدور الذى خبا .
2/ وضح تماما ان المسرح هو فن الحريات والحقوق السياسية العامة فهو فن المجتمع المدنى
لذا فان تقييد حركة الفنان او المتلقى عبر قوانين ولوائح غير طبيعية يعوق من انتشار ظاهرة المسرح
وفاعليته ودوره فى خلق جمهور متلقى متناغم ومتجانس فنحن ننادى بالحرية والديمقراطية لكل المجتمع
وعدم تقييد الحريات العامة وفق سياسة وقوانين مستدامة ورفع كافة القيود والقوانين المقيدة للحريات
3/ على الدولة ان تتحمل مسؤلياتها تجاه الفنان والمتلقى ومجمل جماهير الشعب بالدعم المادى وبناء
المسارح وتمويلها وتسهيل حركة الفنون والثقافة تسن القوانين الملزمة لقطاعات الدولة كل فى مجاله
لتقديم اقصى ما يمكن من دعم ومؤازرة .
4/ تضمين دراسة الفنون فى مناهج التعليم من الروضة الى الجامعة وخاصة فن المسرح وفنون الاطفال
وما يتطلب ذلك من دعم مادى وفنى بالتخطيط والتدريب والتاهيل وتوفير المعينات من مبانى وادوات
5/ تاهيل مسارح الدولة القائمة ودعمها بميزانيات وكوادر فنية فى حسبانها مد الظل الثقافى والمسرح
الى كل الطبقات الشعبية فى المدن والقرى مع التنوع فى اشكال وظيفة المسارح ،مسرح العرائس ،مسرح
الطفل ، والفنون الشعبية الى اخره
6/ دعم الفنانين الذين يعملون خارج نطاق دواوين الحكومة وتشجيعهم على الانتاج عبر مجالس ووكالات
متخصصة مع سن القوانين واللوائح اللازمة
7/ العمل على حث الدولة على رفع المبالغ المخصصة لقطاع المسرح فى الميزانية العامة للدولة وفق
خطط ومشاريع تراعى دعم الفنان وتعمل على تلبية احتياجات الجمهور
8/ دعم المعاهد والكليات العاملة فى حقل المسرح وزيادتها والعمل على انشاء المراكز التحتية المتخصصة
لتاهيل المتخصصين وتقديم البحوث ودراسة سبل تقدم حقل المسرح على نسق علمى
9/ العمل على قيام اتحادات ونقابات مهنية جديدة تفك الارتباط بجهاز الدولة السياسية فى ظل القبضة السياسية
على منافذ التعبير الحر
اما بعد ....
ان القوة الحية فى المجتمع السودانى من مثقفين وفنانين وجمهور ما زالت ترابط وتقف على الجمر من اجل
مشروعاتها الفنية المشروعة يرفدها فى ذلك ماضى تليد ونضالات رجال ونساء من هذا الوطن . اعطوا دون
من او اذى من حقهم علينا ان نحافظ على ما اورثونا اياه من مكتسبات بالعرق والدم واعمال الذهن ومهدوا
الطريق لمن جاء من بعدهم فصاروا امثولة فى حياتنا فالمسرح الذى صنعه اسلافنا المسرحيون كان مسرحا
هادفا ذا رسالة ومضمون وحقوق التفاف الجماهير من حوله فهو لمن يمت بل هو قادر على ارسال اشاراته
الذكية مؤسسا للبنية الكلاسيكية نحافظ عليها ونطورها رغم العقبات والظروف التى يمر بها الوطن فان استعادة
حركة مسرحية معافاة فى نصوصها واخلاقيات عملها والتفاف جمهور حولها مشروط بتوفر شروط مجتمع
مدنى معافى ديمقراطى حر ووطن امن ومستقر وموحد يحترم حقوق الاقلية والاخر يوفر التنافس الشريف
لابنائه ولقمة العيش وصوت الكرامة الانسانية دون تمييز المعتنق السياسى او الدينى او الاصل العرقى او
الجنس او اللون ويكفل حق التعبير الحر وحرية العمل والحركة والتملك فى كل اجزاء الوطن تحكمه قوانين
واحده تكفل امنه وامانه فى نفسه وماله واسرته ونحن ننظر الى القوة الحية فى العالم للتضامن معنا حتى نوفى
بالتزامنا تجاه شعبنا وجمهورنا لتوفير واشاعة المناخ الحر الديمقراطى الذى هو ضمان الفن والمجتمع على حد
سوا فالابداع طائر يحلق بجناحين ( الحرية والديمقراطية) والفنان المسرحى فى السودان كان ولا يزال اول من
يقاوم كل مظاهر القبح فى كافة تجلياته ويظل واقفا يكافح عن المبادئ والحقوق حين يركع الاخرون .
|
|

|
|
|
|