|
Re: ليس دفاعا عن عرمان ،،،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب (Re: عبدالكريم الامين احمد)
|
الحلقة (2)
تظل تساؤلات أديبنا الراحل الطيب صالح، طيب الله ثراه و رحمه رحمة واسعة، مطروحة أمام أستاذنا الجليل الطيب مصطفي و عصبته و تحتاج لإجابات ،،، و علي رأسها ما جاء في أحد أهم فقرات المقال الرئيسي لكاتبنا الراحل بعنوان من "أين أتي هؤلاء" و هي: مِن أين جاء هؤلاء النّاس؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول و سبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية و الكابلي و المصطفى؟ أما قرأوا شعر العباس و المجذوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه؟ إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه؟ (راجع: موقع رماة الحدق الألكتروني – من أين أتي هؤلاء؟) و إذن لماذا كل هذا الإستعلاء الذي يمارسه الطيب مصطفي و غيره من العصبة؟ ما هي مبرراته؟ ما هي السمات و المميزات الخاصة التي يتمتع بها أستاذنا الفاضل الطيب مصطفي و عصبته و تجعلهم دون سواهم مواطنين سوبر و درجة أولي، و ياسر عرمان و غيره من أعضاء و قيادات الحركة الشعبية من سكان الشمال و الجنوب و مناطق الهامش، و كل المعارضين لهم مواطنين من الدرجة الثانية؟؟؟ أليسوا هم مجرد بشر؟؟؟ ألم يخلقوا من طين عفن الرائحة منتن كغيرهم من الناس؟؟؟ هل هم ملائكة، أنبياء، أولياء، أم ماذا؟؟؟ هل هم من كوكب آخر غير كوكبنا هذا يفوقنا تطورا و تقدما بآلاف السنين الضوئية؟؟؟ ما هي القضية بالتحديد؟ و إذا قمنا في مستهل التكهنات و الفرضيات بوصف القضية علي أساس أنها قضية إستعلاء عرقي أو قبلي فعرمان أيضا جعلي من نفس القبيلة التي ينتمي لها علية القوم و صفوتهم (المشير، عمه الطيب، و ذراعه الأيمن نافع و غيرهم) و ينحدر نسبه كغيره من الجعليين إلي العباس عم رسول الإسلام محمد عليه الصلاة و السلام ،،، بل و علي عكسهم فهو يتمتع بمميزات قبلية تجعله و بمنطق قبلي محض متفوقا عليهم ،،، فالرجل قد صاهر أحد أهم بطون قبيلة الدينكا و سلاطينها المتنفذين من الناحية القبلية و السياسية و الإقتصادية حيث تبرز عظمة نظارة دينق مجوك من كونها نظارة ممتدة جغرافيا و واسعة النطاق فهي مكونة من تسع عموديات و لكل قرية من القري التابعة لكل عمودية علي حدا شياخة ،،، و قد ثبت أن الزعيم الدينكاوي الشهير الروب بيونق جد الناظر دينق مجوك و الذي يعتبر أشهر وأقوى شخصية أفرزتها الدينكا عبر التاريخ أنه قد بايع الامام المهدي وناصره ،،، و قد أورث حفيده السلطان الناظر دينق مجوك القيادة و الحكمة و الكرم فقد كان دينق مجوك شخصيه فذة و زعيما مقتدرا ذو حنكة استطاع أن يقود الدينكا ببراعة ويؤلف و يصاهر بينهم وبين العرب المسيرية وكان كريما محبا للضيوف و بيوته دائما مفتوحة لكل ألوان الطيف السياسي و الإجتماعي و العرقي و القبلي و الديني و كذلك هي مفتوح للغني و الفقير، و للعاقل و المجنون. (راجع: عبد الرحمن العاقب – صحيفة السوداني الألكترونية – أبيي ،،، من التعايش لصراع الأبعاد الثلاثة – الأربعاء 22 يوليو 2009م). و كذلك فإن دينكا نقوك يملكون بلا شك ما يباهوا به القبائل من الأبقار و الأنعام و الأطيان و السهول المخضرة المنبسطة علي مد البصر ،،، بجانب أنهم هم السكان الأصليين لمنطقة أبيي الغنية بالنفط و هم أغنياء بخيراتها ،،، هذا و قد وهبه الله (أي ياسر عرمان) من زينة الحياة الدنيا ذرية حسنة و بنون ،،، و أصبح هنالك بالتالي تداخلا و رباط شرعي و مصاهرة لا فكاك منها بين قبيلة الجعليين و الدينكا ،،، و إذا كان الجعليون بالفعل ينحدرون في النسب إلي العباس عم الرسول عليه الصلاة و السلام فإن أحفاد دينكا نجوك الآن أصبحوا من الذين ينحدر نسبهم إلي رسول الإسلام محمد عليه الصلاة و السلام و ليس بمقدور الطيب مصطفي، نافع، أو غيرهم من العصبة أن ينفوا ذلك لأنه أصبح حقيقة ماثلة لا يمكن تحريفها ،،، و السؤآل المهم هو هل بمقدور أستاذنا الفاضل الطيب مصطفي أو غيره من العصبة المستعلية أن يفعل ما فعله عرمان بمصاهرة الدينكا أو أي قبيلة أخري من قبائل جنوب السودان أو قبائل المهمشين من شعبنا؟؟؟ هل يمتلك مثل هذه الجرأة؟؟؟ و حتي إذا كانت لديه الجرأة نشك في أن يجد طلبه للمصاهرة ترحيبا و قبولا لدي الطرف الآخر أي أهلنا في جنوب السودان و مناطق الصراع القومي و التهميش العرقي ،،، فبجانب العداء الذي يكنه لهم أستاذنا الجليل و عصبته فهذه الشعوب عزيزة و لها أنفة ،،، و هي شعوب عريقة لها أصول و تاريخ و حضارات إفريقية ضاربة في القدم و هم فضلا عن ذلك سكان السودان الأصليين و هجراتهم و توطنهم في المناطق الحالية التي تشكل أقاليم الجنوب المختلفة سبقت هجرة العرب إلي السودان بما فيها هجراتهم المحدودة قبل ظهور الإسلام ،،، و قبيلة الدينكا مثلا كما جاء في ويكيبيديا الموسوعة الحرة هي من أهم المجموعات القبلية في جنوب السودان و التي تمتد جغرافيا و تتوزع في ولايات بحر الغزال و جونقلي و أعالي النيل وتمتد حتى جنوب كردفان وتعتبر من القبائل الأفريقية الكبيرة بعد الزولو في جنوب أفريقيا والماساى في كينيا، وتمثل حوالي 50% من مجمل سكان جنوب السودان. و تعتبر قبائل الزولو و الماساي و الدينكا من أكبر القبائل في العالم من حيث التعداد و من حيث القدم. و أيضا فإن قبيلة الشلك صاحبة حضارة و مملكة عريقة عرفها التاريخ بإسم مملكة الشلك و هي تنحدر من قبيلة للوو أو ليو LUO و أيضا يطلق عليها جالو (و هي قبيلة باراك حسين أوباما الأول والد الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما الثاني الذي انتقل للدراسة في الولايات المتحدة و عين لاحقا كمستشار في وزارة المالية) و هي تنقسم إلى مجموعات صغيرة يشكل الشلك فيها الجماعة الرئيسة. و قد تفرعت اللوو إلى مجموعتين رئيستين أثناء هجراتهم القديمة و عند وصولهم المنطقة التي تسكنها قبيلة الباري: الأولى اتجهت جنوباً مكونة فيما بعد قبائل الأشولى، و ألور، و لانقو، بالإضافة إلى قبائل صغيرة أخرى تسكن يوغندا الآن. أما المجموعة الثانية فاتجهت شمالاً ودخلت بحرالغزال حيث آثرت مجموعة صغيرة منها البقاء والاستقرار مكونة قبيلة اللوو ببحر الغزال وجور بئل، و بلندا بور. أما الفصيل الرئيسي فواصل الرحلة شمالاً وعبر النيل ليؤسس مملكة الشلك التي كانت تمتد حتي ملتقي النيلين الأبيض و الأزرق، بينما تفرعت مجموعة صغيرة واتجهت شرقاً لتكون قبيلة الأنواك. و أذكر أيضا في النصف الثاني من عقد الثمانينات في محاضرة قيمة لا تنسي لأستاذة الأدب العربي الدكتورة الراحلة سهير القلماوي (1922-1997م) عن الأدب العربي الحديث بمعهد البحوث و الدراسات العربية بالقاهرة التابع للمنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم (و كنا حينها ندرس في السنة الأولي في مرحلة الدورة العامة لبرنامج الدبلوم فوق الجامعي في الدراسات الإقتصادية و الذي عادة يتم فيه إعداد الدارسين خلال الستة أسابيع الأولي من عمر البرنامج و التي كان يطلق عليها ب "الدورة العامة" ببعض المواد التي لها علاقة بالقومية العربية بحكم تبعية المعهد لجامعة الدول العربية و حرصها (يحفظها الله كما يقول شاعر العراق مظفر النواب) علي تنشئة أجيال متشربة بالقومية العربية و ملمة بقضاياها من الخليج للمحيط، و ذلك قبل أن تبدأ الدورة التخصصية التي تمتد عادة لمدة سنتين تقريبا) و هي (أي سهير القلماوي) تتحدث عن السلالات التي ينحدر عنها البشر و قد قسمتها إلي ثلاثة سلالات رئيسية هي الجيرمان و التتار و الزنوج مبينة أن الأولي تنحدر منها الشعوب الأوروبية بما فيها تلك التي هاجرت إلي أمريكا، كندا، و أستراليا و غيرها. و الثانية تنحدر منها شعوب آسيا، جنوب شرق أسيا، إيران، أفغانستان، روسيا و تركيا و المنطقة العربية. و الثالثة و الأخيرة هي الزنوج و التي تنحدر منها الشعوب ذات الجذور و الأصول الإفريقية ،،، و قد تحدثت كثيرا عن قبائل الجنوب النيلية بكل فخر و إعزاز مبينة أنهم علي عكس ما يعتقد الكثيرون لا ينحدرون من سلالة الزنوج و إنما من سلالة التتار كغيرهم من الغالبية العظمي من قبائل السودان و يطلق عليهم المتزنجون ،،، و الذي تنحصر فيه القبائل المنحدرة من سلالة الزنوج في مناطق معينة أهمها جبال النوبة ،،، فالسمات الخاصة التي تميز الزنوج عن غيرهم من السلالات لا تنطبق علي قبائل الجنوب النيلية ،،، و إن صح هذا القول، و كما قال الشاعر تاج السر الحسن و تغني عبدالكريم الكابلي، فكلنا في الفجر و الآمال شرق ،،، و يحضرني في هذه اللحظة أخونا الصديق إدريس هباني و هو متزوج من إمرأة بولندية و يعيش حاليا في ضواحي وارسو القريبة مع زوجته و أبنائه يحفظهم الله جميعا منذ زمن مبكر ،،، فقد كان لزواجه من رفيقة حياته تريسا (الشديدة اللضيدة كما يصفها إعجابا بصلابتها و قوة شخصيتها) قصة طريفة ،،، و هي أنه عندما تقدم للزواج منها لم تمانع والدتها فقد كانت تعرف الصديق و تطمئن له و لكن المسألة واجهت معارضة من جانب والدها علي إعتبار أن الصديق ينحدر من أفريقيا و بالتالي فهو زنجي في فهمه و اعتقاده و لا جدال في ذلك ،،، و حتي لو وافق علي المصاهرة فلن يغير ذلك شيئا من هذا الفهم المتأصل فيه كغيره من سائر الخواجات ،،، فأرسل الصديق مباشرة خطابا لأخونا عثمان إدريس هباني بالدويم (فهما "الصديق و عثمان" بجانب علاقة الأخووة أصدقاء أيضا) و حكي له القصة و قال ليهو بالدارجي السوداني (المره أمها موافقة لكن أبوها قال أنا عب) فرد عليه عثمان بخطاب مماثل قائلا له (قول ليهو ياخي أنا ود الناظر إدريس) ،،، فسواء كنا تتار، زنوج، عرب أو أياً كان فإننا في نظر العرب أصحاب الإسم أنفسهم و كذلك الشق المتقدم من العالم المنحدر من سلالة الجيرمان زنوج و يطلق علينا تأدبا في بعض الأحيان بالملونين و لا ينفعنا في ذلك إن كنا دناقلا، شايقية، جعليين، حسانية، دينكا، نوير، شلك، فور، نوبة، صعايدة من جنوب مصر، أو رشايدة من قلب جزيرة العرب ،،،
و نواصل
| |

|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعا عن عرمان ،،،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب (Re: أبو ساندرا)
|
Quote: حاشية: (لكن ما وريتنا البولندي في النهاية قال شنو لي ود الناظر) |
شكرا صديقي الحبيب ود الكاشف لا يزال الصديق زنجي من قلب إفريقيا في نظر البولندي و ما عندو مخ أو كما جاء في أجمل روايات عميد الأدب العربي الراحل الدكتور عبدالله الطيب "من نافذة القطار" من تعبير علي لسان أحد الفرنسيين ضمن شخصيات الرواية لبطل الرواية الذي هو نفسه الدكتور عبدالله الطيب "مخ مافيشيه" و لكن هذه الشعوب برغم عنصريتها إلا أنها قد حلقت إلي ساحات بعيدة في التمدن و احترام حقوق الإنسان و علي رأسها حقوق المرأة ،،، كما لا توجد هنالك قوة علي الأرض بمقدورها فرملة التاريخ البشري و إيقاف ديمومة التطور و استمرارية لحظة التكوين ،،، و سيتطور هذا التداخل الصغير و يراكم تداخلات كمية عبر مسيرة التاريخ ستؤدي في النهاية إلي تحولات نوعية في الجنس البشري و ميلاد سلالات جديدة و قد تكون تحولات نوعية محدودة كما يمكن أيضا أن تكون تحولات كبيرة تتمتع بكل قسمات ما يعرف ب "الطفرة النوعية" بكل نتائجها الراديكالية ،،،
حكي لي أحد أصدقاء الصديق من أبناء دفعته في بولندا بأن سر التوافق بين الصديق و والدة زوجته أنه كان عندما يذهب لزيارتهم في البيت و يقرع جرس الباب ترد عليه الحاجة والدة تريسا و باللغة البولندية طبعا "مين" ،،، فيجيبها الصديق و طبعا باللغة البولندية أيضا و في ما معناه باللهجة السودانية "عِِبك صديِق" ،،،
| |

|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعا عن عرمان ،،،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب (Re: الهادي هباني)
|
الحلقة (3)
لا شك في أن الإستعلاء، التطرف، الإستبداد بالرأي، و التعصب هي من سمات الفكر و الآيديولوجيا المتصادمة مع حقائق الحياة و الكون و في نفس الوقت تملأ الدنيا صخبا و ضجيجا بإدعائها الفج قصير النظر إمتلاكها للحقيقة دون سائر البشر الأمر الذي يجيز لها أن تفعل بخلق الله ما تشاء من إقصاء و قهر و ظلم و تفرقة. و إن جاز لنا أن نعبر عن ذلك بمصطلح "البروكرستية" أو ''Procrustesism'' (من إختلاق كاتب الحلقات) و هو منسوب إلي بروكرست ''Procrustes'' بطل الأسطورة اليونانية التي عرفت تاريخيا ب "سرير بروكرست" أو "The Bed of Procrustes" و خلاصة الأسطورة هو أن بروكرست هذا قاطع طرق يوناني و قد كان يجبر كل من يقع في مصيدته (بعد أن يشبعه ضربا و يجرده من كل مقتنياته التي يحملها معه) أن يستلقي على سريره فإذا كان أكثر طولا من السرير قام ببتر الجزء الزائد حتى يتساوى طوله مع طول السرير. واذا كان أقصر طولا من السرير قام بشده ومطه حتى يتساوي طوله مع طول السرير. أما اذا تطابق طول الضحية مع طول السرير فإن بروكرست ينظر الى هذا التطابق على انه تطابق مع الحقيقة و هي حقيقة أحادية ثابتة لا تتغير و لا تتعدي حدود حجم سريره الذي يحمله معه أينما حل و هو متطابق فقط مع حجم و طول بروكرست نفسه و غير قابل للتطويع و التكيف مع أحجام ضحاياه و سرعان ما ينكسر و يتلف و يصبح بلا فائدة عند أول محاولة لتطويعه أو تعديله. فإن فكر أستاذنا الفاضل الطيب مصطفي و عصبته بكل طابعه الإستعلائي و الإقصائي الهادف إلي طمس هوية شعبنا و بلادنا يتمحور حول هذه الأسطورة ،،، و يجعل من مشروعه الإسلامي العروبي حقيقة مطلقة يجب أن يتطابق معها واقع بلادنا و ليس العكس (و في هذا قصر نظر) ،،، و لا يهمهم في ذلك إن تشظت بلادنا و تقسمت إلي دويلات عدة، فهم و في سبيل مصالحهم الخاصة (تحت ستار مشروعهم الوهمي غير القابل للتطبيق علي أرض الواقع بحكم تجربة التخبط و الفشل العملية لأكثر من عشرين عاما و التي لا تحتاج لشرح أو توضيح أو مغالطة و (من رأي ليس كمن سمع)) علي إستعداد تام لبتر أي جزء من أجزاء بلادنا يستعصي عليهم و يقف سدا منيعا لتنفيذ هذا المشروع غير الأخلاقي و الذي لا يمت لقيم شعبنا أو للإسلام بصلة ،،، السودان المتنوع و المتعدد الأعراق و الثقافات و الأنماط الإجتماعية التي تجسد هويته و مصدر ثرائه و قوته لن يحكم وفقا لفكر الأخوان المسلمين و مشروعهم الإستعلائي الوهمي و هذه حقيقة يؤكدها واقع السودان الإجتماعي الذي نتاج و إفراز طبيعي لعملية معقدة و طويلة عبر عدة قرون من التماذج و التداخل و التعايش السلمي و الطوعي بين شعوبه الإفريقية الأصلية بمختلف ثقافاتها و بين القبائل العربية التي هاجرت منذ زمن مبكر قبل و بعد ظهور الإسلام. و من الثابت في التاريخ أن رحلة سيدنا إبراهيم و إبنه إسماعيل عليهما السلام كانت الأساس الذي دفع بالكثير من المؤرخين، في تناولهم لمفهوم العروبة، التفرقة بين العرب البائدة و العرب العاربة و العرب المستعربة ،،، فالمفهوم الأول (العرب البائدة) لدي غالبية المؤرخين يعبر عن الشعوب و الملل التي أبيدت بالكامل و حل بها عقاب الله مثل عاد قوم نبي الله هود، ثمود قوم سيدنا صالح، وطسم وجديس، وغيرها من القصص التي وردت في التاريخ و كذلك في القرآن و التوراة و الإنجيل (و هنالك من أعطي من بقي علي قيد الحياة من تلك الأقوام مفهوما آخر عبروا عنه بالعرب الباقية). بينما يعبر مفهوم العرب العاربة عن عرب اليمن وهم العرب الأقحاح الذين لم يختلطوا بغيرهم من غير الجنس العربي و حافظوا بذلك على استمراره. أما مفهوم العرب المستعربة فهو يعبر عن الهجين من إختلاط العرب الأصليين بأجناس أخري غير عربية، و هنالك من المؤرخين من يري أن نسل سيدنا إسماعيل بن سيدنا إبراهيم الخليل عليهما السلام من العرب المستعربة نتيجة لمصاهرته لقبيلة جرهم العربية اليمنية التي استقرت معه هو و أمه بعد أن أنعم الله عليهم بتفجر بئر زمزم و تكونت من نسله فيما بعد قبيلة قريش وأن سيدنا إسماعيل لم يكن يتكلم العربية ولكنه تعرب لغة وثقافة من خلال اكتسابه اللسان العربي من قبيلة جرهم العربية اليمنية التي نشأ وتربى وترعرع فيها وأن نسله اكتسب عروبته من مصاهراتهم لقبيلة جرهم وعيشهم واختلاطهم معها على مدى قرون طويلة من التاريخ الإجتماعي. و إنطلاقا من هذا المفهوم الذي يجد قبولا عاما بين أوساط و مدارس متعددة من المؤرخين العرب و المسلمين (و من أشهرهم إبن خلدون، إبن كثير، إبن دريد، إبن إسحاق، المسعودي، و غيرهم) فإن الhybrid أو الهجين الذي عرف في تاريخ بلادنا بالقبائل العربية يندرج ضمن مفهوم العرب المستعربة و الذي نتج عن إختلاط القبائل العربية التي هاجرت للسودان منذ تاريخ مبكر بالقبائل الإفريقية التي كانت (و لازالت) تمثل السكان الأصليين و أصبحت تنطق اللغة العربية و تتخلق بكثير من سمات الثقافة العربية و خصائصها و لكنها برغم ذلك إحتفظت بلغاتها و لهجاتها المحلية و الكثير من عاداتها و تقاليدها بكل سماتها و خصائصها الإفريقية و من أبرزها الإختلاط مع النوبة في شمال السودان. (راجع: بروفسير محمد عمر بشير – السودانوية إشكالية الهوية و القومية السودانية – صفحة 5). و بالتالي فإن مصطلح القبائل العربية في السودان لا يجب أن يفهم كتعبير عن العرب الأصل الذي يندرج ضمن مفهوم العرب العاربة، فهم (أي عرب السودان) مستعربون إكتسبوا عروبتهم بحكم الإختلاط و بحكم المولد و بحكم الثقافة و الوجدان مثلهم مثل سائر الشعوب التي كانت نتاجا لمثل هذا الإختلاط. و قد جاء في كتاب (مقدمة في تاريخ االممالك الإسلامية في السودان الشرقي (1450 – 1821)) للدكتور يوسف فضل في الصفحة الثانية) ما نصه (فهؤلاء المستعربون لم يكونوا عربا أصلا و إنما عرب بالمولد و عرب بالثقافة و عرب بالوجدان يستوي في ذلك من استعرب من الفينيقيين و قدماء المصريين و البربر. فإذا انتشرت العروبة بين النوبة أو غيرهم من الشعوب التي تسكن السودان الشرقي و تفهموا ثقافتها و شعروا أنهم جزء من حضارتها و تراثها فإن هذا يؤهلهم ليصيروا جزءا منها. و لكن إختلاط العرب و تزوجهم من نساء النوبة و تمثلهم للنسب العربي لا يجعل منهم عربا خلصا من ناحية عنصرية أو عرقية كما يتوهم البعض، بل هم نوبة سودانيون مستعربون إذا جاز هذا التعبير). يستثني من ذلك و في حدود ما توافر لنا من معلومات و حسب إعتقاد الغالبية العظمي من المؤرخين قبيلة الرشايدة و التي إحتفظت بخصائصها و مميزاتها العربية نتيجة لعزلتها و عدم إختلاطها حتي الآن بالقبائل الإفريقية أو غيرها و كذلك لإختلاف هجرتها للسودان التي جاءت عن طريق البحر الأحمر، و أيضا لحداثة هجرتها التي يرجعها البعض للقرن التاسع عشر و التي لم يتوافر لها حتي الآن الفترة الكافية للتداخل الطبيعي مع القبائل السودانية الأخري علي إعتبار أن هذا الإختلاط و التماذج دائما يتم من خلال عدة تحولات و مسيرة طويلة و عملية إجتماعية معقدة حتي ينتج عنها hybrid أو هجين إجتماعي جديد. و من الثابت أيضا في تاريخ بلادنا هو أن الهجرات العربية إلي السودان بشكلها الذي أسهم فيما بعد بتداخله مع السكان الأصليين للسودان من القبائل الأفريقية بتشكيل المجتمع السوداني بتنوعه الحالي قد تمت بعد ظهور الإسلام. و علي الرغم من حدوث هجرات عربية إلي السودان قبل ظهور الإسلام عبر البحر الأحمر و عبر صحراء سيناء كما شهدت علي ذلك الآثار الحميرية التي أكتشفت في منطقة حلايب بجانب تواجد مجموعات من القبائل العربية التي تتحدث اللغة السامية أو لغة التقراي كالبني عامر إلا أن كل المؤرخين تقريبا الذين كتبوا عن ذلك أكدوا أنها كانت هجرات محدودة التأثير بهدف الثراء أو البحث عن الكلأ و لا يذكر التاريخ لها تأثيرات عميقة علي تركيبة السكان و ثفافاتهم. لذلك فإن هجرات العرب للسودان ارتبطت بدخول الإسلام و التي أعطتها هذه المرة بعدا روحيا و ماديا أكثر عمقا. و لا يعني هذا الإرتباط بين هجرة العرب و الإسلام إلي أن الهدف الرئيسي من هذه الهجرات كان بهدف نشر الإسلام فقط لمجرد كون الذين هاجروا من العرب للسودان كانوا مسلمين بل كانت نتاجا لظروف موضوعية إرتبطت بواقع الجزيرة العربية و بالواقع الإقتصادي و الإجتماعي للقبائل العربية العاربة و المستعربة التي هاجرت للسودان. و هي ظروف لا تختلف في جوهرها و خصائصها العامة عن الظروف الإقتصادية و الإجتماعية التي شكلت أهم الأسباب لما عرف تاريخيا بالفتوحات الإسلامية و الهجرات العربية التي ارتبطت بها إلي بلاد الفرس و الروم و شمال إفريقيا و بلاد الأندلس (راجع: حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية للوقوف علي أسباب الفتوحات الإسلامية). كما أن وقائع التاريخ و أحداثه في بلادنا خلال تلك الفترة المبكرة جدا في حياته تشير إلي أن هذا التداخل بين القبائل العربية العاربة أو المستعربة إلي السودان قد تم بشكل سلمي و من خلال المصاهرة و التعايش السلمي و المصالح المشتركة التي جمعت بين المهاجرين و السكان الأصليين فعلي سبيل المثال لا الحصر: •برغم الحملات العسكرية التي كان يشنها سلاطين مصر المملوكية من فترة لأخري علي مملكة النوبة المسيحية أو مملكة المقرة و التي أسهمت بشكل أو بآخر في إضعافها، إلا أن سيطرة العرب المسلمين المهاجرين عليها تم بشكل سلمي و من خلال المصاهرة و التعايش السلمي مع النوبة فقد تزاوجوا مع زعامات و قيادات النوبة و ورثوا السلطة القبلية عن طريق الأم. (راجع: د. يوسف فضل – مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي "1450 – 1821م" – صفتي 8 و 9). •كما أنه و علي الرغم من تباين الروايات التي وردت في كتابات المؤرخين السودانيين و المستشرقين حول سقوط مملكة علوة المسيحية إلا أنها أجمعت أو رجحت بشكل عام أن عملية التعريب و الأسلمة التي نتجت عن ذلك كانت اختيارية و أكثر سلاسة مدفوعة في ذلك بالمصالح الإقتصادية و الإجتماعية المشتركة التي كانت تربط بين القبائل العربية و القبائل الإفريقية مما جعل من المنطقة التي كانت تمثل مملكة النوبة و مملكة علوة سابقا من أكثر مناطق التعايش السلمي في بلادنا. (راجع: د. فرانسيس دينق – دينامية الهوية أساس للتكامل الوطني – 22). •إختراق العرب المسلمين لمملكة تقلي الوثنية و تحويلها إلي مملكة إسلامية من خلال المصاهرة و التسري التي أعقبت هجرة العرب المسلمين إلي كردفان خلال القرنين الخامس عشر و السادس عشر. و لعل قصة زواج محمد الجعلي من إبنة زعيم تقلي كير كير عام 1540م و قد أنجب منها إبنه أبو جريدة و الذي ورث زعامة أهله منتفعا بنظام الوراثة عن طريق الأم دليلا دامغا علي التداخل السلمي بين العرب المسلمين و القبائل الإفريقية بمنطقة النوبة بجبال تقلي و كذلك علي التداول السلمي للسلطة. (راجع: د. يوسف فضل – مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي "1450 – 1821م" – صفتي 92 و 93). •كما أن التعايش السلمي الذي حدث بين دينكا نقوك و قبائل المسيرية (البقارة) و الذي تطرقنا له في الحلقة السابقة قد شكل (و لا يزال) مثالا حيا للتعايش السلمي في بلادنا. (للمزيد في هذا الشأن راجع: د. فرانسيس دينق – دينامية الهوية أساس للتكامل الوطني – الصفحات 60/61). •و برغم إختلاف الروايات حول نشأة مملكة الفور إلا (أنها "كما جاء عن الدكتور يوسف فضل في كتابه "مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي في الصفحات (75/76)" تتفق في المغزي، و من مظاهرها العامة أنها تعطي البطل نسبا عربيا صريحا و ترمز إليه بالغريب الحكيم ذي الفطنة و الرأي السديد، و لهذا يعجب به السلطان فيزوجه إبنته، و يعهد لإبنه بالملك) و هو ما يؤكد و يدعم أيضا صور التماذج القومي السلمي الذي ميزت كل ممالك السودان الحديثة. خلاصة القول هو أن الهجين الذي يمثل شعبنا بكل سحناته و قبائله و أعراقه و ثقافاته هو نتاج لصور متعددة من صور التماذج و التداخل القومي السلمي. و أن هذا التنوع و الثراء هو الذي يميز الهوية السودانية ،،، و التي فشلت كل الأنظمة الشمولية في بلادنا علي استيعابها و تهيئة المناخ الملائم لإنطلاقها و تطورها و تلاقحها بل و قد سعت عن وعي لطمسها و تدميرها. و لن تبرز هويتنا و تتطور و تزداد تماسكا و عمقا و ثراءا إلا من خلال نظام يقوم علي أساس الديمقراطية و سيادة حكم القانون و حرية المعتقد و حرية التعبير و العدالة و التنمية المتوازنة التي تبدأ من الريف الذي يختزن كل خيرات بلادنا ،،، و أي نظام مدني أو عسكري لا يفعل ذلك مصيره إلي مزبلة التاريخ طال الزمن أو قصر.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعا عن عرمان ،،،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب (Re: الهادي هباني)
|
الحلقة (4)
في كل محطة في تاريخ بلادنا القديم و الحديث إبتداءا من ممالك كرمة، نبتة، مروي، المريس، المقرة، علوة، الشلك، العبدلاب، الفونج، السلطنة الزرقاء، تقلي، المسبعات، الثورة المهدية، ثورة 1924م، الإستغلال، أكتوبر 1964م، مارس/أبريل 1985م. و كذلك في كل بقعة من بقاع بلادنا الممتدة شرقا و غربا، جنوبا و شمالا و في كل إقليم من أقاليم السودان بما فيها مناطق التوتر، و في كل مدينة من مدن بلادنا، بل و في كل حي من أحياء مدن السودان ،،، تتجسد صورة من صور التمازج القومي و التعايش السلمي بين قبائل السودان و أعراقه المختلفة ،،، و حتي الأحياء الفارهة في العاصمة و غيرها من المدن (و التي تضم علية القوم و صفوتهم من أمثال أستاذنا الفاضل الطيب مصطفي و عصبته) تتمثل فيها كل سحنات و أعراق شعبنا. و لن يجد الطيب مصطفي و غيره من أصحاب اللسان و حملة الأقلام التي تروج و تؤصل للفكر الإستعلائي (مهما بذلوا من جهد جبار و سخروا من إمكانات ضخمة) في تاريخ و حاضر و مستقبل بلادنا و شعبنا ما يدعم فكرهم الظلامي و مشروعهم غير الأخلاقي "مشروع السودان العروبي المسلم" أو بعبارة أخري أكثر وضوحا "الدولة الدينية في السودان" من مبرر و أساس مادي أو وجداني ،،، فواقع شعبنا و تراثه المتنوع متعدد الأعراق و الثقافات و الأنماط الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية بكل عمقه و ثرائه يتناقض مع هذا المشروع غير الإنساني القائم علي أرضية صلبة من التعصب و الجمود الفكري المتعمق فيهم، و يتجاوز حدوده للدرجة التي يجدون فيها أنفسهم (كما يحدث الآن) في مواجهة مع شعبنا بكل طوائفه و ثقافاته و أعراقه و أحزابه و قواه السياسية مما يضطرهم و يدفعهم، في سبيل تكريس الحقيقة المطلقة المتجزرة في رؤؤسهم و ممتدة حتي أخامص أقدامهم، إلي البدء في بتر و تمزيق بلادنا و تقسيمها إلي كيانات و دويلات صغيرة متصارعة ،،، و مثلث حمدي ليس خرافة أو أسطورة أو إشاعة ،،، كما أنه لم يعد تلك الخرط و المسودات التي يتم تداولها سرا في حلقات التآمر الضيقة لنمور النظام الحاكم و أباطرته ،،، و أصبح مع إقتراب موعد الإستفتاء حول مصير الجنوب أمرا مكشوفا و معروفا للجميع يتحدثون عن مضمونه علنا بكافة أجهزة الأعلام المرئية و المقروءة و المسموعة ،،، و إذا كانت حملات تجزئة بلادنا و تمزيقها التي يسعر نيرانها و يدق طبولها الطيب مصطفي و زمرته حتي تتطابق ظروف بلادنا (بقدرة قادر) مع فكرة السودان العروبي المسلم تمثل الشق الإحتمالي الأول لأسطورة "سرير بروكرست" و التي تتجاوز فيها أطراف الضحية حدود السرير، فإن الشق الإحتمالي الثاني للأسطورة و الذي تكون فيها الضحية أقصر من طول السرير مما يضطر بروكرست لمطها و شدها لتتساوي مع طوله، تمثله الدعوة التي تروج لها نفس الذمرة (و يعلو صوتها هذه الأيام) بضرورة "إعادة كتابة تاريخ السودان" و هي في حقيقة أمرها عملية منظمة لتزييف تاريخ السودان و تحريفه لإيجاد مسوغات و مبررات يمكن بموجبها إيجاد توافق بين فكرة السودان العروبي المسلم (أو بعبارة أخري مثلث حمدي) و بين واقع بلادنا و تاريخه ،،، و هذا منطق لا يصدر إلا عن أناس جاهلون بواقع بلادنا و لا يحملون في قرارة أنفسهم أية مشاعر حب و وفاء لشعبنا الذي طالما كان يحرضنا علي العلم و المعرفة برغم ضيق الحال. من يعجز عقله عن استيعاب عظمة شعبنا و قوته التي إكتسبها من تنوعه و تعدد ثقافاته و راكمها عبر تاريخ طويل من التمازج القومي، و من هو فاقد للبصيرة و تعجز عينيه عن رؤية هذا الجمال و الإبداع الفطري الذي يميز إنسان السودان بإختلاف ألوانه و سحناته و ثقافاته هو قطعا لا يكن ذرة من حب للوطن و للشعب. و رحم الله إيليا أبوماضي الذي تحضرنا في هذه اللحظة بعض أبياته من قصيدة "فلسفة الحياة" و التي كانت تدرس في مناهج الأدب و البلاغة (الصادرة عن معهد التربية بخت الرضاء) في كل بقاع السودان و تحفظها أقسام كبيرة من السودانيين عن ظهر قلب ،،،
إن شرّ الجناة في الأرض نفس تتوقّى، قبل الرّحيل، الرّحيلا وترى الشّوك في الورود، وتعمى أن ترى فوقها النّدى إكليلا هو عبء على الحياة ثقيل من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا
و حقيقة يدهشنا و يشعرنا بخيبة الأمل ما يكتبه و يروج له و يصرح به دعاة مشروع السودان العروبي المسلم، و كلما نقرأ لهم أو نسمع منهم يراودنا نفس سؤآل أديبنا الراحل الطيب صالح "من أين أتي هؤلاء" فنحن كجيل و قد جئنا بعدهم بعدة أجيال لم نحس بمثل هذه المرارات التي يعيشونها و يترجمونها بكل هذا الغضب و الكره لشعب طيب لا يستحق ما يجري له، و في كل مراحل حياتنا و حتي اليوم و السودان علي باب قوسين أو أدني من التشظي و التمزق لا زلنا كجيل و كغيرنا ضمن كثير من الأجيال التي سبقتنا و التي جاءت بعدنا نعيش و تعيش في داخلنا كل صور التماذج القومي التي شكلتنا و شكلت شعبنا بدون تكلف و بشكل فطري و عفوي بسيط. و تعود بنا الذاكرة إلي زمن النشأة حيث العديد من الشرفاء من أبناء جيلنا خاصة أولئك الذين ترعرعوا في مدينة الدويم العزيزة علي النفس أو مدينة العلم و النور لارتباط إسمها بمعهد بخت الرضاء و معهد مبروكة و هما ليس كما يعتقد البعض مجرد مراكز للعلم و المناهج التعليمية و التأهيل التربوي و إنما هي في الحقيقة مراكز لتطوير المجتمعات الريفية أو ما يصطلح عليه في علوم الإجتماع و الإقتصاد و في لغة منظمات الأمم المتحدة المهتمة بالتنمية الريفية و علي رأسها منظمة العمل الدولية ب ""Rural community development centers و منذ نشأتهما في بدايات القرن العشرين و بفضلهما و فضل الأجيال المتعاقبة التي تخرجت منهما و عملت في النيل الأبيض، (و لعدة عوامل أخري متعددة لا مجال لذكرها هنا) دخلت بعض مظاهر التنمية الريفية البسيطة في مختلف أنحاء المنطقة و تجاوزت بالتالي منطقة النيل الأبيض برمتها "من الجبل للجبلين كما يقولون" و عبر تحولات إجتماعية و ثقافية و سياسية طبيعية عميقة في محتواها و سلمية في طابعها و عمومياتها كل أشكال الصراعات القبلية و العرقية التناحرية الحادة بكل مظاهرها المتخلفة من حروبات و ثأر و قتل و تناحر بين مختلف قبائلها المنحدرة من كافة أقاليم السودان و حدث بينها تزاوج و تداخل عميق و أصبحت بالتالي واحدة من أبرز مناطق التعايش السلمي في بلادنا ،،، و بجانب العلوم الأكاديمية يعلم معهد بخت الرضاء و المدارس التابعة له أيضا الزراعة و أدواتها البسيطة (الطورية، المنجل، الملود، الكوريق، الواسوق، المحرات، النجامة، الحشاشة، و غيرها)، تنسيق الحدائق، تربية الدواجن، النجارة، الحدادة، الصحة و الإسعافات الأولية، الموسيقي، المسرح، الإلقاء الشعري، النشيد الوطني و مختلف أنواع الفنون، هذا بجانب العديد من المناشط الرياضية. و قد كانت مدارس بخت الرضاء الإبتدائية الست مسماة بأسماء فرسان الثورة المهدية (المهدي، الخليفة، دقنة، النجومي، الزاكي، أبوعنجة) و قد كان ذلك من أهم عوامل ترسيخ قيم العزة و الكرامة و الإنتماء الوطني ،،، و كان لمدارس بخت الرضاء المتوسطة الفضل في تعليمنا و تدريبنا علي العمل النقابي و الممارسة الديمقراطية فعرفنا و لأول مرة (و نحن لم نبلغ الثالثة عشر بعد) ماذا تعني الجمعية العمومية، اللجنة التنفيذية، خطاب الدورة، محاسبة اللجنة التنفيذية، إجازة الميزانية و غيرها من مصطلحات ،،، حيث كان جرس السابعة إلا ربع صباحا في مدرسة الدويم الريفية إذانا ببدء نشاط الجمعيات (الصحة، الموسيقي، الحدائق، الإصلاحات، الرياضة، الجمعية الدينية) و التي كانت تستمر حتي السابعة و النصف صباحا حيث يقرع جرس الطابور و بداية اليوم الدراسي، و كان لكل جمعية رئيس و أعضاء يتم تدويرهم علي كل الجمعيات بشكل دوري نصف شهري و كان هنالك من يتم تثبيتهم في أحد الجمعيات لكفاءتهم في مجال معين بناءا علي طلب رئيس الجمعية و كان رؤساء الجمعيات يمثلون مجلسا له رئيس و نائب رئيس و يتم إنتخابه سنويا بعد إنعقاد الجمعية العمومية و محاسبة المجلس القديم و ذلك من خلال إنتخابات ذات درجة عالية من الشفافية و بموجب إقتراع سري و كانت العملية الإنتخابية كلها تدار من قبل الطلاب دون تدخل من المعلمين أو أي جهات أخري ،،، و كان في العادة يشرف علي كل ذلك أحد المعلمين يسمي في هيكل الجمعيات بالمستشار فهو دائما بجانب اللجنة التنفيذية و يحضر معظم إجتماعاتها و يقوم فقط بالدور التعليمي و التربوي في العملية برمتها ،،، كانت النيل الأبيض بحكم وجود معهد بخت الرضاء و معهد مبروكة و بحكم وجود مشاريع النيل الأبيض للإعاشة قبلة لكل قبائل السودان و علي رأسهم الدينكا و النوير و بالتأكيد الشلك الذين هم سكان النيل الأبيض الأصليين. و كذلك كانت قبلة للكثير من قبائل دارفور و جنوب كردفان و النيل الأزرق ،،، كما أن لقبائل شمال السودان علي اختلافها و تنوعها تواجدا كثيفا في كل قرية، مركز، أو مدينة من مدن النيل الأبيض ،،، و قد حدث تداخل عميق و تزاوج و مصاهرة بينها و بين قبائل المنطقة ،،، فهذا هو السودان و هؤلاء هم السودانيون فما أن يلتقي نفر منهم في أي بقعة من بقاع الدنيا إلا و يبدأ التعارف و التداخل بينهم بداية بالأسئلة المعهودة التي أصبحت لازمة و سمة تميز السودانيين أينما حلوا و حطت بهم الرحال و أصبحت جزءا من سلوكهم التلقائي العفوي "إنت من وين" ،،، "بتعرف فلان" ،،، و هو في جوهره سؤآل بسيط يعبر عن طيبة شعبنا و حبه للتعارف و السلام و تعميق أواصر الترابط و لا يخلو من دبلوماسية أيضا فالتعارف بهذا الشكل يخلق أرضية مشتركة و جو خصب و درجة كبيرة من الإرتياح تقرب وجهات النظر و تيسر الأمور و تعزز روح التعاون و التعاطف و تغلب جانب المجاملة ،،، و لرئيس مجلس سيادتنا الراحل أحمد الميرغني عليه الرحمة و المغفرة و قد اشتهر بدماثة الخلق و التهذيب و التشرب بخصال أهلنا و عاداتهم السمحة قصة طريفة يتداولها الكثيرون (و العهدة عليهم) هي أنه في إحدي زياراته للإتحاد السوفيتي استهل حديثه مع جورباتشوف رئيس الإتحاد السوفيتي حينها بسؤآل السودانيين الإفتتاحي التقليدي و التلقائي المعهود "بتعرف محمد إبراهيم نقد؟" ،،، و أذكر و نحن في المتوسطة في مدرسة الدويم الريفية و هي أحد المدارس المتوسطة التابعة لمعهد بخت الرضاء (بجانب مدرسة النيل الأبيض المتوسطة و مدرسة الدويم شمال المتوسطة) و التي كان يتم فيها تدريب المعلمين ،،، قرأنا كتابا من أعظم الكتب التي ضمتها مكتبة بخت الرضاء آنذاك بعنوان "People of cow'' لأحد الكتاب المستشرقين (للأسف الشديد لا يذكرني إسمه) ،،، و كم نشتاق اليوم لإعادة قراءة هذا الكتاب مرة أخري بمزيد من التدبر و التمعن و قد بحثنا عنه كثيرا و لا زلنا في كثير من المكتبات و كل مواقع الإنترنت و سبق و أن أوصينا أحد أشقائنا للإتصال بصديقنا و أحد أبناء جيلنا الشرفاء "آخر الرجال المحترمين" (لا داعي لذكر إسمه) و قد كان مسئولا عن مكتبة بخت الرضاء قبل أن يبتلعها سيل التدهور و الإنهيارات الكارثية المحزنة و تتلاشي هكذا ببساطة بكل عظمتها و ثرائها و التي كانت يوما ما تضاهي ال "British Library" بجلالة قدرها ،،، فقد كان الكتاب يتحدث عن أهم القبائل النيلية في الجنوب "الدينكا، النوير، الشلك" و من يطالع ذلك الكتاب سيدرك مدي عظمة هذه الشعوب و تاريخها الضارب في القدم و عاداتها و تقاليدها التي تجبر كل متصفح أو متطلع علي إحترامها و تقديرها و الإعتزاز و التفاخر بها ،،، و قد كان لهذا الكتاب و غيره من الكتب المشابهة أثرا عميقا في تعريفنا بشعب السودان بكل تنوعه و تعدد أعراقه و ثقافاته ،،، و كان معهد بخت الرضاء نموذجا مصغرا لهذا التنوع ،،، فقد كان دائما يعج بمختلف السحنات السودانية التي لا تخطئها العين المجردة من كل فج و صوب من حضر بلادنا و بواديه ،،، و كان من حظنا أن عشنا هذا التنوع و الثراء و تشربنا به من خلال علاقات الزمالة و الصداقة مع أبناء السودان الوافدين من مختلف مديرياته لتلقي العلم في مدارس بخت الرضاء ،،، و كذلك من خلال أساتذتنا الأجلاء المخضرمين الذين تتلمذنا عليهم بمختلف اللكنات خلال تلك الفترة و المنحدرون من كل أقاليم السودان ،،، هذه اللوحة الزاهية الجميلة متعددة الألوان و الخصائص و بخت الرضاء بكل جمالها و سحرها تمثل عمقا و خلفية لها ،،، إرتسمت في كل بقاع بلادنا و أقاليمه و التي شهدت صورا و إن إختلفت في بعض التفاصيل الصغيرة متشابهة في جوهرها و عمومياتها بما في ذلك المناطق التي عاش فيها دعاة الدولة الدينية و السودان العروبي المسلم أنفسهم و لكن للأسف الشديد كانهم غرباء و سيظلون كذلك. و من الثابت أن بلادنا كانت منذ القدم ملتقي للأفكار و الحضارات المختلفة و لتداخلها و تلاقحها. و قد ساعد علي هذا واقع بلادنا الجغرافي المتسع و هو محاط و مفتوح علي عدة حضارات و أجناس يسهل تنقلها و ترحالها من كل الإتجاهات جنوبا و شمالا، شرقا و غربا بجانب الثراء الطبيعي المتمثل في توافر المجاري المائية الطبيعية و التربة الخصبة الصالحة للزراعة بجانب الثروة الحيوانية و النباتية و كثافة الغابات و تعدد الثروات المعدنية في مناطق عدة ،،، و قد أكسب هذا الثراء الطبيعي في الموارد و الموقع الجغرافي تلك الأفكار و الحضارات المتداخلة بعدا إنسانيا أكثر عمقا ،،، فقامت حضارات السودان القديم كرمة و نبتة و مروي مرورا بحضارة النوبة و مملكتي المقرة و علوة المسيحيتان و مملكة نوباطيا أو المريس بجنوب مصر و شمال بلادنا و عاصمتها فرس. (راجع: البروفسير عون الشريف قاسم – من صور التماذج القومي في السودان – صفحات 10/11). و كما دخل الإسلام السودان (كما سبق و ذكرنا في الحلقة السابقة) بدون حروب أو صراعات و إنما عن طريق التداخل السلمي و المصاهرة، من الثابت أيضا في تاريخ بلادنا أن المسيحية دخلت السودان عن طريق التداخل السلمي و بدون حروب و قوبلت بكل ترحاب و وجدت رعاية كبيرة من ملوك النوبة و كان لها تأثيرها الواضح في وجدان شعبنا و في ثقافته منذ تلك الحقب و حتي الآن و لا زالت هنالك عادات و تقاليد مسيحية يمارسها السودانيين في حياتهم اليومية كالختان و الميلاد و غيرها. (راجع: المصدر السابق ذكره نفس الصفحات) و بالتالي فإن هذا التماذج و الإنصهار و التلاقح القومي في بلادنا المستمد ثرائه و عمقه و سلاسته من إرتباطه بالبعد المكاني و الجغرافي و الإقتصادي الذي خلق (و لا يزال) أرضية صلبة للمصالح المشتركة و تربة خصبة للوحدة و التعايش السلمي و لم يسجل تاريخ بلادنا و علي وجه الخصوص تاريخ الممالك الإسلامية و تاريخ الثورة المهدية أية مظهر من مظاهر الحركات أو التيارات الداعية لتقسيم السودان و تجزئته و حتي محاولات الإستعمار المتكررة في تاريخ السودان الحديث لفصل جنوب بلادنا عن شمالها بترسانة من القوانين و الإجراءات و علي رأسها قانون المناطق المقفولة قد باءت كلها بالفشل لعدم وجود مقومات أو أساس مادي و وجداني تقوم و ترتكز عليه.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعا عن عرمان ،،،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب (Re: Isamil Hussein)
|
الحلقة (5)
لا يخلو تاريخ و حاضر بلادنا من محطات حالكة السواد تعجز كل معايير الوصف عن التعبير عنها ،،، تجارة الرقيق، الحرب الأهلية، التطهير العرقي، و الإبادة الجماعية. فالتاريخ كما يقول الدكتور منصور خالد في مؤلفه الموسوعي "قصة بلدين" (ليس جوهراً صافياً، اذ فيه الزكى الطيب، وفيه الفاسد العطن). و لا مكان هنا لمغالطة من شاكلة "هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة"، أو "هل الحي من الميت أم الميت من الحي"، فالعلاقة بين هذه المحطات جدلية واضحة و جلية فجرائم الإبادة الجماعية و التطهير العرقي هي إحدي نتائج الحروب الأهلية و مآلاتها الطبيعية و التي هي بدورها نتاج لعدة عوامل من أهمها و أبرزها تجارة الرقيق بكل ما تحمله من معاني الإستعباد و الإستغلال، و ما أنتجته من إستعلاء عرقي و نعرات عنصرية تكاد لا تنتهي بل و تتفاقم و تتشعب، تسري و تنتشر في تراب بلادنا و تعرجاته كالسرطان الخبيث من إقليم إلي إقليم و من منطقة إلي أخري في ظل سيادة الفكر الظلامي المفروض علينا قسرا من قبل دعاة الدولة الدينية و المشروع الحضاري، و الذي تصبح معه حظوظ حلها و تجاوزها بعيدة المنال تماما مثل حظوظ شاعرنا الراحل إدريس جماع كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه. و لعل في ظهور الإسلام في قلب جزيرة العرب مكة، لعبرة، و هي تخوض غمار تغيير ثوري جديد، و تعيش واقعا إجتماعيا (تتجلي فيه كل مظاهر العبودية و الإستعلاء العرقي و الفوارق الإجتماعية الحادة،) يشكل أساسا واقعيا و موضوعيا لإنتصار الإسلام. فقد كان العبيد من أوائل الذين آمنوا برسالة الإسلام و لعبوا فيما بعد دورا تاريخيا بارزا في الجهاد في سبيله و إنتصاره لما طرحه من مبادئ المساواة بين الناس و عدم التفرقة بينهم علي أساس اللون أو العرق أو المكانة الإجتماعية، و قد جاء القرآن الكريم و سنة الرسول محمد عليه الصلاة و السلام زاخرة بالعديد من الآيات و التعاليم التي تؤٍصل لهذا المبدأ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا فرق بين عربي و أعجمي الا بالتقوى)، و قال أيضا (الناس سواسية كأسنان المشط) و غيرها العديد من الآيات القرانية و الأحاديث المؤكدة و التي في جوهرها و محتواها تشٍرع لمحاربة الإستعباد و تشجيع الخلق لعتق الرقبة و لنا في رسول الإسلام محمد عليه السلام أسوة حسنة في العتق و التحرير. فالإسلام و إن لم يمنع بعض الأشكال و المظاهر التي تصنف في عصرنا الحالي ضمن مفهوم الإسترقاق كالتسري و الإماء إلا أن الشرع حث على العتق وجعله كفارة لأعمال كثيرة فالرق ليس محبباً في الأصل بل المحبب هو عتق الأرقاء. و علي العكس تماما فلم يشرع الإسلام للتفرقة العنصرية و الإستعلاء العرقي و لا توجد لا في القرآن أو السنة نصوص تبيح ذلك. و لعل مقصد الإسلام في ذلك هو ترسيخ أهمية النظرة الواقعية الشمولية للأمور التي تضع في الإعتبار الجانب الغيبي و المثالي في علاقته الجدلية بالجانب المادي. فالعبودية و تجارة الرق في جزيرة العرب سبقت ظهور الإسلام بحقب ضاربة في القدم و أصبحت سمة من السمات الراسخة و التي لا يمكن إلغاؤها أو محوها من الوجود بشكل راديكالي أو بمجرد إصدار مراسيم و قرارات فوقية (خاصة و أن الدعوة الإسلامية بدأت بظروف ذاتية ضعبفة محدودة علي القليل من الإمكانيات المادية و علي نفر قليل من الذين آمنوا بها و كانوا يجتمعون بالرسول الكريم سرا في دار الأرقم) و لكنه بدأ بآيات و أحاديث تحرم التفرقة بين الناس علي أساس اللون و العرق و أخري تشجع علي تحرير و عتق الرقبة مقابل كفارة لبعض كبائر الذنوب و كانه قصد معالجة الأمر بشكل تدريجي دون تخطي المراحل و تجاوز الظروف الموضوعية و الذاتية و السمات الخاصة التي تعيشها جزيرة العرب آنذاك. و هنالك الكثير من عادات جزيرة العرب عالجها الإسلام بنفس منطق الواقعية و التدرج و علي رأسها تحريم الخمر الذي تم بشكل نهائي في السنة الثالثة بعد الهجرة كما يقول إبن تيمية. و بما أن الناس في جزيرة العرب كانوا مولعين بشربها، فأول ما نزل صريحاً في التنفير منها ، قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) فتركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعضهم، وقالوا: نأخذ منفعتها، ونترك إثمها، فنزلت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فتركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فصارت حراماً عليهم، حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئاً أشد من الخمر و صارت فيما بعد تكني بأم الكبائر. و علي الرغم من أن تجارة الرقيق من أفريقيا للشرق الأوسط قد سبقت ظهور الإسلام بعهود قديمة و أن تاريخها في السودان كذلك يرجع إلي تاريخ الممالك القديمة إلا أنها، و للأسف الشديد، بكل قبحها و عدم إنسانيتها إرتبطت بهجرة العرب المسلمين و إكتسبت طابعها القانوني مع إبرام إتفاقية البغط و التي كان أحد أهم بنودها إلتزام ملك المغرة بدفع 400 رأس من الرقيق سنوياً مقابل مؤن غذائية.(راجع: تاج السر عثمان - التركيب الاجتماعي لفترة النوبة المسيحية في السودان(500م- 1500م)). و لن نخوض هنا في الحديث عن تاريخ تجارة الرقيق في السودان فقد سبق و قتلت بحثا من قبل كثير من المؤرخين و المفكرين و الساسة السودانيين و غير السودانيين علي إختلاف إتجاهاتهم و مللهم و لم تعد من الجرائم التاريخية التي تحتاج إلي إثبات فهنالك إجماع علي حدوثها و علي قبحها و علي الآثار الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية الناجمة عنها. ما نود قوله هو أن هذا الإرتباط التاريخي بين هجرة العرب المسلمين و بين تجارة الرقيق أسهم في تطورها و رواجها خلال الفترات التي شهدت قيام الممالك الإسلامية مرورا بفترة الحكم التركي و المهدية و الفترات التي أعقبتها. و أنها خلال مسيرتها و تاريخها الطويل المعقد قد بذرت بذور الإستعلاء العرقي لدي الجلابة و القبائل السودانية المستعربة في الشمال في نظرتهم و تعاملهم مع سكان السودان الأصليين من قبائل الجنوب و الغرب و جنوب النيل الأزرق و كل مناطق الهامش (مسلمين، مسيحيين، و لا دينيين) علي أساس أنهم مواطنين من الدرجة الثانية. و لا تزال صور الإسترقاق و العبودية ماثلة في الحضر و الأرياف و مناطق تركز شبه الإقطاع القبلي و لا زالت بعض مفردات حقب العبودية و تجارة الرقيق في السودان مثل ("عب" ، "فِرخ" ، "ِسِرية" ، "فيهو عرق" ، "قرقور" ، "عب جعليين" ، "خدم" و غيرها من المفردات) شائعة الإستخدام و يتم تداولها بشكل يومي. و لا زالت آثارها مترسبة في وجدان أقسام كبيرة من سكان السودان و علي رأسهم قبائل الجنوب، دارفور، الأنقسنا و غيرهم و محفورة في ذاكرتهم و ستظل كذلك إلي أزمان طويلة ما لم يتم الإعتراف بهذه الجرائم في تاريخنا و حاضرنا و إدانتها بشكل جماعي و الإعتذار لكل قبائل السودان التي عانت منها لقرون طويلة و تعويضهم عن كافة الأضرار المادية و المعنوية التي تكبدوها تعويضا يرضيهم و يعيد لهم كرامتهم و عزتهم. و كذلك إدانة كل الأنظمة الحاكمة التي لم تسعي لمعالجتها بل سعت بنفسها لتكريسها و مفاقمتها و الإتفاق علي نظام ديمقراطي يحقق العدالة و التنمية المتوازنة و يساوي بين الناس علي أساس المواطنة و يضمن لهم حرية المعتقدات و التعبير و يفتح المجال لكل الثقافات السودانية للإنطلاق و التعبير عن نفسها. لا يختلف دعاة الدولة الدينية و المشروع الحضاري اليوم كثيرا عن تجار الرقيق و لعل الدعوة التي أشرنا لها في الحلقة السابقة لإعادة كتابة التاريخ هي في الحقيقة هادفة إلي التآمر علي التاريخ و تزييفه و تبرئة العرب المسلمين الذين هاجروا للسودان منذ إتفاقية البغط و أحفادهم من الجلابة و القبائل السودانية المستعربة من جرائم الإستعباد و تجارة الرقيق. و للأسف الشديد فإن هذه الدعوة قد بدأت بالفعل من قبل الطيب مصطفي و الكثيرين غيره من رواد الإستعلاء العرقي و دعاة الحرب و الإنفصال و يجدون و تجد معهم دعوتهم كل الرعاية و الإهتمام من قبل الدولة و أجهزتها الإعلامية و يقدمون للناس بوصفهم مفكرين و علماء. و من الطبيعي أن يتفق موقف دعاة الدولة الدينية اليوم المدافع عن جرائم الإستعلاء العنصري و التطهير العرقي في دارفور و عن الذين قاموا بإرتكابها مع موقفهم من تاريخ تجارة الرقيق النافي لوجود أي صلة بينها و بين هجرة العرب المسلمين للسودان فالإستعلاء العنصري موقف شمولي، كلي، لا يتجزأ. و كما يقول الدكتور منصور خالد في مؤلفه الضخم ("قصة بلدين") صفحة (30) (صحيح أن التاريخ ليس بريئا من كل عيب لأنه لا يعبر إلا عن رؤية كاتبيه) و قد استدل علي ذلك في نفس السياق بقول المؤرخ (E. H. Carr) (ليس للتاريخ وجود مستقل عن الذين يترجمونه (history has no free-standing from those who interpret it). و الفارق بين التاريخ و بين تفسير التاريخ هو أن التاريخ واحد لا يتغير بينما تفسير التاريخ يتم من قبل أفراد أو أطراف متعددة خارج هذا التاريخ نفسه لذلك يأتي تفسيره متعددا و متباينا. و معرفة التاريخ و تفسيره يمكن أن تقدم نماذجا و صورا كثيرة متشابهة أو متماثلة، كما يمكن أن تقدم صورا متباينة أو مختلفة و أن كل هذا التشابه أو الإختلاف صادر عن منطلقات إجتماعية لا فردية، موضوعية لا ذاتية لذلك فإن الموقف من التاريخ هو موقف آيديولجي و أي موقف أيديولوجي بالضرورة هو موقف طبقي له جذوره الإجتماعية التي يعبر عنها. لذلك فإن الذين يسعون لفصل تجارة الرقيق عن دخول العرب المسلمين للسودان هم في الحقيقة من نفس الطبقة التي ينتمي لها تجار الرقيق من العرب المسلمين و الجلابة من القبائل السودانية المستعربة. و إلا فما هو المبرر الذي يدفع بشخص مثل حسن مكي (و هو من أبرز دعاة المشروع الحضاري و الذي يطل علينا دائما عبر أجهزة الإعلام السودانية و بعض الفضائيات العربية كمفكر سوداني بارز). فقد نفي حسن مكي تجارة الرقيق عن هجرة العرب المسلمين للسودان إبان إتفاقية البغط في الحلقات التي نشرتها له جريدة الرأي العام بعنوان (عهد النوبة "البقط" مع الدولة الإسلامية في مصر "31هـ/651م" رؤية في التفاعل الحضاري الإسلامي/ النوبي وإسهاماته في التشكل التاريخي لشعوب السودان) و في نفس الوقت و بتناقض واضح أقر بإلتزام ملوك النوبة بتزويد الدولة الإسلامية ب 360 رأس من الرقيق لكنه حاول تبرير ذلك تبريرا متناقضا يجافي الحقائق التاريخية و لا يقبله المنطق حيث أورد ما نصه (كما دار جدل حول معاهدة البقط ومشروعية الرق، ولا صلة لعهد البقط بمشروعية الرق، لأن الإسلام شرع العتق، ولم يشرّع الرق، وذلك مبحث كبير في الثقافة الإسلامية، أكسبت معاهدة البقط النوبيين وضعية أهل الهدنة أو المصالحين أي أهل عهد، وأقامت العلاقات على الاعتراف بالكيان النوبي ويتضمن ذلك حسن الجوار وسلامة الحدود، وحرية التجارة، والحصول على سواعد النوبيين القوية لخدمة الدولة الإسلامية ونشر الثقافة العربية الإسلامية سلميا .وربما لأسباب أيدلوجية او غيرها، نظر بعض الباحثين في عهد البقط نظرة اختزالية، فاختزلوا عهد البقط في الثلثمائة وستين رأساً الذين تكفل النوبة بإرسالهم أو تسليمهم للدولة الإسلامية، ولو أن عهد البقط اقتصر على هذا النص لاختلفت قراءته ولكن هذا نص يجب أن يقرأ في إطار نصوص أخرى، بين كيانين ، وليس بين تاجري رقيق) و من النص نلاحظ التناقض حيث أنه نفي صلة إتفاقية البغط بتجارة الرقيق و في نفس الوقت أورد في نفس الفقرة "و الحصول علي سواعد النوبيين القوية لخدمة الدولة الإسلامية" أي أنه قصد تسمية تعهد ملوك المغرة بتزويد دولة الإسلام بعدد معين من الرقيق سنويا بمسمي ينفي عنها صفة تجارة الرقيق و هذا في تقديرنا تزييف واضح للتاريخ حيث أن الإتفاقية نصت علي ذلك صراحة و سمت الأمور بمسمياتها الحقيقية بأن يلتزم النوبة بتزويد 400 رأس من الرقيق سنويا للدولة الإسلامية. و التناقض الآخر هو أن المفكر الفاضل وصف نظرة غيره من غالبية المؤرخين بالنظرة الإختزالية و هذا مجرد رغبة ذاتية و فيه إستعلاء بين و إدعاء كاذب بإمتلاك الحقيقة. و كما قال المفكر اللبناني الراحل حسين مروة (ليس بالرغبة الذاتية يكون الشئ حقيقة أو لا يكون ذلك بأن الحقيقة ليست ذاتية إنها موضوعية و إلا فليست بحقيقة إطلاقا بل وهما أو تصورا أو رأيا أو رؤيا) ،،، أما الجزء الأخير من النص فلم نفهمه و لا ندري ماذا يقصد ب (بين كيانين و ليس بين تاجري رقيق) هل يعني أن تجارة الرقيق تتم فقط بين تجار أفراد فقط و لا يجوز لها أن تتم بين دول؟؟. إن محاولة تزييف الحقائق توقع الإنسان في تناقض و في تصادم مع الحقائق نفسها و تجعله مضطرا لإستخدام اللغة و التلاعب بالألفاظ و إستخدام تعبيرات غير مفهومة و هذا ليس من شيم المفكرين. و في نفس السياق فقد أورد كاتبنا الجليل في نفس المقال و هو يتحدث عن روح إتفاقية البغط تعبير آخر لم نوفق في فهمه و هو (معاهدة البقط في مجملها، معاهدة ذات روح حضارية، أساسها إنتقال الثقافة القرآنية والروح المسجدية في إطار الاعتراف المتبادل والمنافع التجارية المتبادلة) فما هي الثقافة القرآنية المقصودة هنا؟ و ماذا يعني بالروح المسجدية؟ و كيف شكل إنتقالهما (أي الثقافة القرآنية و الروح المسجدية) أساسا لإتفاقية البغط؟. من الصعب علي المرء إتخاذ موقفا آيديولوجيا معينا من الحاضر و في نفس الوقت يتخذ موقفا آيديولوجيا مغايرا من التاريخ أو التراث فهذا لا يفعله إلا السحرة و هذا ما يفسر تشابه اللغة و المصطلحات المعقدة التي يستخدمها الكاتب مع المفردات التي تستخدم كعناوين لكتب و مخطوطات السحر المبهمة و التي تحمل عناوينا و محتوي ليس له في حقيقة الأمر علاقة مباشرة بحياة الناس و واقعهم مثل (نواميس الاسرار فى علوم الاخيار لإبن ميمون)، (الدر المنظوم فى كشف السر المكتوم لمحمد بن السوسى المغربى)، (بهجة اللمعة لديوان العفاريت السبعة لمحمد التلمساني المغربي)، (تسخير الشياطين في وصال العاشقين لعبد الفتاح الطوخي) ،،، و يحضرني هذه اللحظة في باب التلاعب بالألفاظ و تحريف الكلام الأخ الفاضل عثمان كرتونة و هو أحد منشدي الإتجاه الإسلامي من أبناء جيلنا في فترة الجامعة و سمي بعثمان كرتونة لأنه كان يحمل دائما كرتونة معه في أركان النقاش ليستخدمها كإيقاع لأناشيده فقد كان ذو صوت جهور و مميز و له مقدرة عالية في تحريف الأناشيد و التلاعب بالكلمات و التأليف المرتجل. فقد كان يحِرف قصيدة (هيا بنا هيا نطوي الفلا طيا) مضيفا من عنده (يا طائر الإسلام طيري بلاد الشام ،،، سقطي صدام الطاقية البعثي) ،،، لكن و للأسف الشديد و بعد مرور أكثر من عشرين عاما و بدلا عن طائر الإسلام لم يسقط صدام علي طائرات الإف ستة عشر فقط بل شنق علي مرأي من العالم أجمع و أبنائه قتلوا و زوجاته ترملن و بناته تيتمن و لا يزال المسلمين من أهل السنة يتحسرون علي رحيله و ما بدلوا تبديلا ،،،
| |

|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعا عن عرمان ،،،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب (Re: الهادي هباني)
|
الحلقة (6)
يواجه شعب السودان علي تنوعه و تعدد ثقافاته و أعراقه بواقعه الإقتصادي و السياسي و الإجتماعي المعقد منذ منتصف 1989م و حتي يومنا هذا سلطة سياسية تعبر منذ نشأتها، عن فكر ديني سلفي بحت يفسر كل قضايا الصراع الإجتماعي و السياسي في بلادنا علي أساس أنها تمثل صراعا دينيا بين الإسلام الذي يتمثل فيهم و في من هو مؤيد لهم، و الكفر الذي يتمثل في كل المعارضين لهم من جماهير شعبنا، مسلمين كانوا أم غير مسلمين. فالوثنيين، و المسيحيين و غيرهم من الديانات الأخري هم بطبيعة الحال كفرة يمثلون ذراعا للقردة و الخنازير من اليهود و النصاري في السودان. أما المعارضين فلهم تصنيفات عدة. فالشيوعيين و التيارات اليسارية الأخري كفار لا محالة، أما الأحزاب الطائفية الكبري فهم مسلمون مع التشكيك الفكري في مدي صحة إسلامهم الصوفي، بجانب أن الأحزاب الطائفية تمارس الكفر بشكل غير مباشر بتحالفها مع الشيوعيين، الحركة الشعبية و تنظيمات أخري يسارية. لذلك نجد أن دعايتهم في أية إنتخابات نقابية، مهنية، طلابية، أو برلمانية تنصب علي وصف تجمع القوي الديمقراطية بأنه تجمع شيوعي علماني معادي للدين. و هذا الموقف السلبي المتعالي آحادي النظرة يجعلهم بالضرورة أكثر تشددا و تعصبا في التعامل مع قضايا الصراع القومي و يفسر موقفهم الإستعلائي من القوميات الإفريقية المسلمة و غير المسلمة و يبرر سعيهم طوال السنوات العشرين السابقة لفرض الثقافة العربية الإسلامية دون سواها علي واقع بلادنا حتي لو أدي ذلك إلي بتر بعض أجزائه و محوها تماما من أطلس السودان و جغرافيته. و لعل الخطاب السياسي لقيادات سلطة الإنقاذ الحاكمة منذ فجر الثلاثين من يونيو 1989م و حتي اليوم بطابعه الإستعلائي المتعصب يعبر عن تلك النظرة الدينية أحادية الجانب التي تميز الفكر الديني السلفي بشكل عام. و لن يمحو شعب السودان تلك الِغدد و المرارات التي ظل يكتمها و يراكمها بصبر و جلد و هو يستيقظ كل صباح، و لسنوات عدة، علي صوت إبراهيم شمس الدين و هو يلقي ببيانه الصباحي المثير للإمتعاض، و برنامج في ساحات الفداء الذي يسعر نيران الحرب و الدمار و يروج لثقافة القتل، مرورا بخطابات السيد الرئيس المشهودة و المحضورة التي لم يسلم من سهامها أحدا في الداخل و الخارج، و هستيريا التهليل و التكبير و الإنشاد علي أنغام الفرقة الماسية المصاحبة، وصولا للسيد نافع، بلسانه الهجائي الذي يضاهي شاعر الهجاء العربي بشار بن برد بجلالة قدره. و حتي قياداتهم الأخري التي تنأي بنفسها عن الهجاء في خطابها لم تستطيع إخفاء الطابع الإستعلائي المتشدد الذي يميز و يعبر عن فكرهم الديني السلفي آحادي النظرة. و هذا الموقف المتعصب و المتطرف من قضايا الصراع القومي في بلادنا ليس غريبا عليهم بل يأتي متسقا مع طبيعة حركة الأخوان المسلمين و التي هي أصلا و منذ نشأتها أحد أهم إفرازات الإضهاد القومي الذي مارسه الإستعمار الغربي علي الشعوب العربية و الإسلامية بشكل عام، و التي نشأت و تطورت كواحدة من أهم تيارات ما اصطلح عليه تاريخيا بحركة النهضة العربية أو البعث الإسلامي و التي تمثل فيها حركة الأخوان المسلمين الذراع الأيديولجي للفكر الديني السلفي الثيوقراطي المتطرف. فهو من ناحية، يفسر و يختزل الصراع بين الغرب و الشرق بكل أبعاده الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية في الجانب الديني فقط لإعتقاده الجازم بأن الغرب يهدف إلي محو الثقافة العربية الإسلامية و طمسها و تشويهها، و من ناحية أخري، يقدم الإسلام كدين و دولة، و كنظام شامل لا مجرد دين نظري منحصر فقط في الطقوس و العبادات و علاقة الإنسان الفرد بربه. و كما كانت حركة البعث الإسلامي و النهضة العربية (كما يبين الشهيد حسين مروة) تقدمية في حسها القومي المناهض للغرب و رجعية في فهمها القاصر للظروف التاريخية التي قام علي أساسها الإستعمار الغربي، و كذلك في عجزها عن تقديم بديل متكامل متصالح مع شعوب المنطقة و تطلعاتها، فقد فشلت أيضا حركة الأخوان المسلمين منذ نشأتها و حتى الآن في تقديم نظام اسلامي متكامل بأسسه و قوانينه و سماته الخاصة التي تميزه عن غيره من الأنظمة في كافة مناحي الحياة السياسية، الاجتماعية، و الاقتصادية. و السبب في هذا الفشل هو أن حركة البعث الإسلامي كانت مجرد ردة فعل تلقائية و حماس غير ممنهج يعبر عن دافع ديني و شعور قومي لبعض شرائح البرجوازية الصغيرة المتأسلمة (بقيادة حسن البنا) من المعلمين، الأطباء، طلبة و أساتذة الأزهر و بعض خريجيه، خريجي المعهد الديني و كلية دار العلوم و بعض المعاهد الدينية، و الجامعات و الكليات المصرية بضرورة وجود كيان إسلامي للدفاع عن عقيدة الإيمان بالله و إحياء التراث الإسلامي في مواجهة الغرب و في مواجهة المد الشيوعي و انتشاره في مصر عقب اندلاع الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م. و بما أنه و كما أسلفنا (في الحلقة السابقة) من الصعب علي الإنسان إتخاذ موقفا آيديولوجيا معينا من الحاضر و في نفس الوقت إتخاذ موقفا آيديولوجيا مغايرا من التاريخ أو التراث فإن عجز الأخوان المسلمين عن فهم طبيعة الصراع بين الإستعمار و شعوب المنطقة و التعامل معه بردة الفعل العاطفية المدفوعة بالإحساس القومي البحت يفسر عجزهم عن فهم الظروف الإجتماعية التي ظهر فيها الدين الإسلامي و نشأت بمقتضاه الدولة الإسلامية. و لذلك فقد ركز منهجهم السلفي كل إهتمامه علي إبراز السمات الخاصة بالجوانب الغيبية في التراث العربي الإسلامي دون ربطها بالظروف الإجتماعية و الإقتصادية التي شكلت الأساس المادي لمجمل المبادئ السامية التي نادي بها الإسلام من قيم التوحيد، المساواة، العدالة، و غيرها، و لعل في قول الرسول الكريم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" لعبرة فتعبير "إنما" في اللغة يفيد الحصر و القصر فهنالك فرق مثلا بين أن تقول "جئت لمعايدتك" و بين أن تقول "إنما جئت لمعايدتك" ففي الأولي تعميم أما في الثانية تأكيد و حصر. و لم يقل رسولنا الكريم جئتكم بشئ جديد و إنما لأتمم ما هو موجود في واقعكم من مثل و قيم كريمة. فمكارم الأخلاق ليست حكرا علي أمة دون سواها و لا بشرا دون بشر و لا جنس دون جنس و لا لغة دون لغة و لكنها لغة الإنسان، كل إنسان، علي مر العهود و الدهور و الأجيال، يفهمها الصغير و الكبير، الغني و الفقير، الساقي و الأمير. و لو لم تتميز الدعوة الإسلامية في صدر الإسلام بهذه النظرة الواقعية الشمولية ذات البعد الجدلي الذي يربط بين مبادئ الدعوة الإسلامية نفسها و بين الواقع الإجتماعي و الإقتصادي و السياسي الذي يعيشه الناس في جزيرة العرب، لما كتب لها النجاح. و لعل طابع الحكمة هذا هو الذي ميز به المولي عز و جل الدعوة الإسلامية و خص به رسوله الكريم و أكسبه الحكمة و العقل الراجح و البصيرة النافذة و النظرة الشمولية للأمور منذ فترة مبكرة من حياته، و سيرته الكريمة حافلة بالمواقف التي يبرز فيها هذا الطابع. فقصة إحتكام القوم إليه في حادثة الحجر الأسود ليست إلا واحدة من القصص التي تعكس حكمته التي جبل عليها. و إنطلاقا من هذا الفهم فإن النظرة السلفية للإسلام تفقد الإسلام محتواه الإنساني و جوهره المرن، الذي يعطيه القدرة علي التجاوب مع معطيات الواقع الحياتي للناس و الذي هو واقع متجدد و متغير علي مر العهود و الأزمان، و تجعله متصادما مع حقائق الحياة و معرض بالتالي للإصابة بداء الإغتراب و التطرف كتطور طبيعي للنظرة الجامدة آحادية الجانب التي تأخذ من الدين نصوصه فقط و تهمل جوهره و محتواه. و المتابع لميلاد و نشأة الحركات الإسلامية المتطرفة في العالم اليوم (في باكستان، أفغانستان، الجزائر، إندونيسيا، ماليزيا، العراق، مصر ... إلخ و التي تجد نفسها اليوم في مواجهة مع كل العالم مثل القاعدة، جماعة التكفير و الهجرة، جماعة جند الإسلام، و غيرها) يجدها و قد ولدت من صلب حركة الأخوان المسلمين و تفرخت منها و إتسع نطاقها و أصبحت تيارات إرهابية تهدد حياة الناس الأبرياء تحت دعاوي محاربة الغرب، و لا يمر يوم علي العالم إلا و كان هنالك خبرا عاجلا في الفضائيات المختلفة بموت العشرات بل المئات نتيجة لإنفجار ما أو عملية إرهابية هنا أو هناك. و هي بذلك تسئ لسمعة الإسلام للدرجة التي أصبحت معها صورته مشوهة و مقرونة بالإرهاب و القتل و الدمار بالذات في البلدان و المجتمعات التي من المفرتض أن تكون هدفا للدعوة الإسلامية إلي سبيل الله بالحكمة و الموعظة الحسنة من خلال إبراز جانب التسامح و التعايش السلمي و التصالح مع حقائق الحياة و واقع الناس المتجدد و متغيرات العصر. أما الأقسام الأخري التي ظلت باقية في حركة الأخوان المسلمين في كثير من الدول العربية فقد إنتهي بها المآل للتحول إلي كيانات إقتصادية كبري مدفوعة بتحالفها مع الرأسمالية الإسلامية الخليجية في حقبة السبعينات التي شهدت تحولات كبيرة في تركيبة المجتمع العربي و الإسلامي ساعدت علي صعود طلائع البرجوازية الصغيرة ممثلة في أقسامها الحاكمة في مصر و السودان و بعض البلدان الإسلامية في سلم الصراع الطبقي و تحولها و تحالفها مع الطبقة الرأسمالية الإسلامية المدعومة و المتحالفة مع الرأسمالية الخليجية إبان حكم الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود (1964- 1975) و ما نتج عنه من سياسة الانفتاح الاقتصادي في مصر و السودان بعد حرب أكتوبر 1973و التحول نحو الغرب و إبرام اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978م و إطلاق دور القطاع الخاص، و تصفية علاقات الإنتاج الاشتراكية و تدمير مؤسسات القطاع العام و حدوث تقارب بين السادات و النميري و بين الملك فيصل بن عبد العزيز الذي نجح في إحداث تقارب بين السادات و النميري من ناحية و بين الإخوان المسلمين بقيادة عمر التلمساني في مصر و حسن الترابي في السودان من ناحية أخري مستغلا حاجة النظامين الحاكمين في مصر و السودان لفوائض دول الخليج، و في نفس الوقت كان الأخوان يتطلعون إلي بناء مؤسساتهم الإقتصادية و التحول إلي كيان إقتصادي كبير و مؤثر. و قد ساعدهم هذا التحالف مع نميري عقب المصالحة الوطنية عام 1977م علي تدفق رأس المال الإسلامي الخليجي و الذي تم تتويجه بتأسيس بنك فيصل الإسلامي و مهد فيما بعد لفرض قوانين سبتمبر و أسلمة النظام المصرفي و نمو الرأسمالية الإسلامية الطفيلية و إتساع مؤسساتها الإقتصادية التي وظفت لتمويل و تقوية تنظيم الأخوان المسلمين و المنظمات و الأجهزة التابعة له مما ساعدهم لحد كبير علي إستلام السلطة السياسية في منتصف 1989م. و برغم كل هذه السلطة و الجاه اللتان أنعم الله بهما علي حركة الأخوان المسلمين في بلادنا لما يزيد عن العشرين عاما، و برغم الدعم المادي و المعنوي الذي وجدوه و لا زالوا يجدونه من دول منظمة العالم الإسلامي إلا أنهم فشلوا فشلا جليا في إقامة الدولة الدينية و في تحقيق مشروعهم الإسلامي الحضاري الذي يحلمون به و يسعون إلي تحقيقه منذ أكثر من ستين عاما برغم التنازلات الكبيرة التي ظلوا يقدمونها طوال السنوات السابقة تحت ضغط و مقاومة الجماهير بمختلف مستوياتها التنظيمية، لأنه مشروع غير قابل للتطبيق يتعارض مع واقع بلادنا متنوع الثقافات متعدد الأعراق و الأنماط الإجتماعية و الإقتصادية متباين القوي السياسية و التنظيمات الجماهيرية و كلما نشطت محاولات الأخوان المسلمين في بلادنا لتنفيذ مشروعهم الحضاري كلما إتسعت و إشتدت مقاومة الجماهير له. و من الثابت أن شعب السودان قد رفض الدولة الدينية منذ دخول العرب المسلمين السودان فبرغم تفوق قوتهم العسكرية إلا أن واقع مملكة النوبة بشكل خاص و السودان الشرقي بشكل عام حال دون فرضهم للدولة الإسلامية و لجأوا لعقد إتفاقيات سلمية مع النوبة و البجا دامت لأكثر من ستة قرون شهدت فيها المنطقة نموذجا فريدا من التعايش السلمي إنتشر خلالها الإسلام و تحولت الممالك المسيحية بشكل طوعي إلي الإسلام. و لذلك فإن قبائل النوبة في الشمال و البجا في شرق السودان برغم دخولهم الإسلام إلا أنهم حافظوا علي لغاتهم و ثقافاتهم المحلية و هذا يعتبر أحد أهم الجوانب التي تبين عبقرية و عظمة شعبنا. و في هذا يورد الدكتور فرانسيس دينق في مولفه القيم (دينامية الهوية أساس للتكامل الوطني في السودان "ترجمة محمد علي جادين" في الصفحة "24") إشارة للمؤرخ جاك ماندلسون (Jack Mendelssohn) مفادها (أن السودانيين الشماليين "قد مارسوا عبقريتهم من أجل الإستيعاب، و ذلك عن طريق إعادة تشكيل دين الرسول محمد بشكل يتناسب مع أذواقهم أكثر من رغبات علماء اللاهوت" "غنوا و رقصوا فيه، و وثنوا جزءا كبيرا منه، و لكنهم إلتزموا، دائما، الحقيقة الخجولة بوحدته المتأصلة تحت حكم الله الواحد الأحد") و في هذا قدر كبير من الفلسفة و الفهم الصوفي لإسلام السودانيين لذلك شكل المجتمع السوداني تربة خصبة لنمو و إذدهار الطرق الصوفية و التي لعبت دورا كبيرا في نشر الدين الإسلامي في السودان و هذا في حد ذاته دليلا إضافيا يعزز رفض السودانيين للفكر الديني السلفي. و علي الرغم من ظهور التصوف في القرن الثاني الهجري مع مشاهير الزهاد مثل إبراهيم بن آدم، وداود الطائي، معروف الكرخي، أبو سليمان الداراني، ذو النون المصري، إلا أن القرن الثالث الهجري مثل العصر الذهبي للتصوف حيث بدأ الانقسام والضعف يدب في جسم الدولة الإسلامية وامتد حتى القرن الرابع الهجري، و من ثم تحول التصوف إلي مدرسة لها قواعدها وأصولها و أصبح لها دور بارز و فعال في تطور الفكر الفلسفي الإسلامي حيث كانت حسبما بين الشهيد حسين مروة في موسوعته الضخمة (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) تمثل الشكل الآخر الجديد للفلسفة العربية لدي خروجها أول مرة في إطار البحث الكلامي حيث يقول المؤلف: (أن ما دعاه لتناول ظاهرة التصوف ضمن دراسته للفلسفة العربية الإسلامية هو ما لحظه في تراث الفكر الصوفي من بحوث ذات أسس وأصول ومفاهيم فلسفية، ومن اعتماد للنظريات الفلسفية في بناء نظرية التصوف حول مسألتي الوجود والمعرفة. لذلك استقر الرأي عنده أن الفكر الصوفي هذا هو جزء من الفلسفة العربية الإسلامية لكنه جزء تميز منها بطابعه الخاص، ونظريته الخاصة). و في الثورة المهدية وجدت دعوة المهدي الصوفية قبولا و ترحيبا من قبل كل شعب السودان بمختلف سحناته و أعراقه بما في ذلك القبائل غير المسلمة في جنوب السودان و التي أيدت الثورة المهدية و تحمست لها لمعاناتها من وحشية الحكومة التركية، مثل قبيلة الدينكا التي أعجبت بشخصية المهدي الصوفي و نظرت إليه كمصلح إستوعبته في دينها الخاص، و إعتبرته روحا مقدسة، ينظر إليه كإبن دينق الروح العظيمة التي يقدسها الدينكا و قد تغنوا له بترنيمة أوردها الدكتور فرانسيس دينق في مولفه (السابق ذكره: الصفحة "38") و التي تقول: أنه المهدي بن دينق نصلي له نحن النمل علي الأرض دينقنا نتضرع لآلهة العشيرة و كذا دينق قد ظل الرجال التعساء ثماني سنوات ما ضرنا و أساءنا هو في الماضي الذي تحدث عنه الأعظم من أعلي إنه المهدي بن دينق نصلي له علي الأرض دينقنا نتضرع لآلهة القبيلة طويلا طويلا
و لكن سرعان ما تراجع الدينكا عن تأييد المهدية بعد إنتصارها و إقامتها للدولة الدينية المتشددة و قاوموها مثل ما قاومتها كثير من القبائل الشمالية مما أفقدها أحد أهم مصادر قوتها، و هو، وحدة الشعب السوداني، و الذي ساعد فيما بعد علي هزيمتها. كما حاولت حركة الأخوان المسلمين من خلال تحالفها مع السفاح نميري إقامة الدولة الدينية فبايعته إماما و فرضت قوانين سبتمبر 1983م غير الإنسانية و التي أعدم بموجبها الشهيد محمود محمد طه أحد أبرز رموز الفلسفة و الفكر الصوفي في بلادنا، كما صلبوا ما صلبوا، جلدوا ما جلدوا، و قطعوا من خلاف و لكن في مارس/أبريل كانت لشعب السودان كلمته الفاصلة و خياره الديمقراطي الرافض للدولة الدينية و المشروع الحضاري و هو قادر علي هزيمتها في كل زمان و مكان.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعا عن عرمان ،،،،،،، و لكن حبا لهذا الشعب (Re: الهادي هباني)
|
الحلقة (الأخيرة)
قلنا في الحلقة السابقة أنه ((كلما نشطت و اشتدت محاولات الأخوان المسلمين في بلادنا (علي إختلاف مسمياتهم و علي إختلاف الأنظمة الديكتاتورية التي يعملون من خلالها عسكرية كانت أم مدنية) لتنفيذ مشروع السودان العروبي المسلم، أو الدولة الدينية، كلما اتسعت و اشتدت مقاومة الشعب له)) و قد ظلت مقاومة الشعب لهذا المشروع (و منذ تاريخ مبكر) تتخذ أشكالا مختلفة صعودا و هبوطا من حيث الحدة و الاتساع تبعا للظروف الذاتية و الموضوعية التي تحكمها و بهذا القدر أو ذاك من ردة الفعل نحو اشتداد و تصاعد صور الإستعلاء العرقي و الاضطهاد القومي و السعي المنظم لفرض الثقافة العربية الإسلامية كثقافة و هوية وحيدة دون سواها علي سائر الثقافات السودانية الأخري. و لكن هذه العلاقة الطردية لا يجوز فهمها بمنطق الفيزياء الرياضية عند إسحاق نيوتن (لكل فعل رد فعل مساوي له في القوة ومضاد له في الاتجاه) فالبنيات الفوقية للمجتمعات (و علي الرغم من إرتباطها الموضوعي و الجدلي بالبنيات التحتية) إلا أنها و بحكم طبيعتها عٍصية علي قوانين الطبيعة و الفيزياء بقواعدها و حقائقها العلمية المجردة و يصعب تطويعها و تغييرها بشكل راديكالي لأنها تتعلق بالإنسان الكائن البشري الحي بمشاعره، ضميره، وجدانه، عقله، ميوله، ثقافته و درجة إرتباطه و تأثره بالعادات و التقاليد. فالأنماط الإنتاجية و الإجتماعية السائدة كبنيات تحتية تتغير بشكل أسرع من تغير البنيات الفوقية كالوعي و الثقافة و الأخلاق و العادات و التقاليد و التي تظل عالقة في ذاكرة الناس تؤثر في حياتهم لفترات طويلة. و علي سبيل المثال فإن طابع الإنتاج القائم علي علاقات العبودية و الإسترقاق بمفهومه و مدلوله الطبقي و الإجتماعي الواضح قد إختفي في بلادنا و برغم ذلك لا زالت كثير من مظاهر الإسترقاق و العبودية تمارس في حياتنا، و لا زالت ثقافة العبودية و الإسترقاق تؤثر و تلقي بظلالها علي وعينا الجمعي و عاداتنا و تقاليدنا و علاقاتنا الإجتماعية، فعلي سبيل المثال، كثير من القبائل الشمالية المستعربة تري في زواج أبنائها أو بناتها من بنات أو أبناء القبائل ذات الجذور الإفريقية عيبا و خروجا كبيرا عن السياق العام لمجتمع القبيلة و عاداتهم و ثقافاتهم و وعيهم ((و نعني هنا الزواج بمفهومه الإجتماعي و الشرعي و القانوني و ليس العلاقات التي تنشأ و الزيجات التي تتم خارج إطار السياق العام المتعارف عليه في المجتمع، بل أن مثل هذه العلاقات أو الزيجات و علي الرقم من أنها تمثل ِفعلا من أفعال التمازج و الانصهار القومي (و لا يستطيع أحد أن ينفي عنها ذلك) إلا أنها منبوذة و محكوم عليها بالمقاطعة و العزلة الإجتماعية و فاعليها في أغلب الأحيان منبوذين و معزولين حتي من قبل أقرب الأقربين لهم و تظل فعلتهم هكذا وصمة عار علي جبينهم و علي جبين أحفادهم و أحفاد أحفادهم و الخلف من بعدهم لزمن طويل، و أن عملية تراكمها للدرجة التي يمكن أن تحدث معه تغييرا كليا لتلك المفاهيم السلبية و تحولا في وعي الناس الجمعي تحتاج بالضرورة لزمن طويل و لعملية معقدة من الصراع الإجتماعي)). فحالات التزاوج التي تمت بين بعض أفراد القبائل العربية أو المستعربة التي دخلت السودان مع إتفاقية البغط و بين بنات ملوك النوبة المسيحيات و حرايرهم إستغرقت ستة قرون (600 عام) لتٌحدِث تحولات جذرية في ثقافة الناس و في عاداتهم و تقاليدهم و برغم ذلك لا زالت قبائل النوبة (و التي إعتنقت الإسلام في خضم تلك العملية الطويلة و المعقدة من الصراع الإجتماعي) تحتفظ بلغتها الخاصة و بكثير من عاداتها و تقاليدها التي إكتسبتها خلال فترة مملكة المقرة المسيحية. كما يصعب أيضا تحديد الفترة التي تستغرقها العادات و التقاليد و المفاهيم و غيرها من البنيات الفوقية للمجتمعات لتتغير، أو حتي وضع معيار ثابت للمدي الزمني الذي يمكن أن تتغير فيه مهما استخدمنا من طرق إحصائية و قياسية. فالعملية تعتمد بشكل أساسي علي النظام الإقتصادي و السياسي السائد فكلما كان الصراع بين الثقافات و الأعراق المختلفة قائما علي بنية خصبة من التنمية المتوازنة و المناخ السياسي الذي يتيح و يضمن مزيد من الديمقراطية و الحرية و الإحترام الكامل لحقوق الإنسان و حق كافة الثقافات في التعبير عن نفسها بحرية دون أية قيود كلما كان هذا الصراع إيجابيا و منتجا لصوراً أكثر إستحساناً و إثماراً من صور التماذج و الإنصهار القومي السلمي و الطوعي، و بالتالي كلما قصرت الفترة التي تتغير فيها إيجابا تلك البنيات الفوقية. و علي العكس تماما كلما كان الصراع قائما علي أرضية صلبة من القهر و الظلم و التدهور الإقتصادي و مصادرة الحريات كلما أخذ أشكالا أكثر سلبيةً و حدةً و أصبح منتجاً لصوراً كارثيةً من الصراعات و الحروب و التدهور الإقتصادي، و بالتالي كلما طالت و امتدت الفترة التي يمكن أن تتغير فيها إيجابا تلك البنيات الفوقية. و في هذا أورد ((الدكتور الطيب حاج عطية في دراسة له بعنوان مدخل لمفاهيم و آليات النزاع منشورة في العدد الثامن بتاريخ يوليو 2002م من مجلة محاور الصادرة عن مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة أم درمان الأهلية في الصفحات 77/78 فهما للنزاع من أكثر المفاهيم دقةً و تعبيراً حين قال (النزاع سمة طبيعية في حياة البشر، و حذره الإختلاف في الطبائع و المصالح و الأفهام و المواقف. و لو لا بذرة التنوع و التعدد و الإختلاف ما جري تيار الحياة الصاخب، بل لركد و أسن ماؤه. إلا أنه إذا تجاوز حدود السلمية إلي العنف، و حدود المنافسة إلي الإقتتال، فقد إيجابيته و تحول إلي أداة دمار و خراب، و ما عاد مؤججا للحيوية و الديناميكية الإجتماعية، و دافعا نحو التجديد و التغيير)). و المتتبع لكثير من الصراعات التي شهدها العالم في مناطق عدة مثل التاميل في سيريلانكا، الصرب و الكروات في يوغسلافيا، فلسطين، الشيشان و الأنقوش في القوقاز، الأكراد في تركيا و العراق، و الأمازيق في شمال غرب إفريقيا، التوتسي و الهوتو في رواندا، الصومال، و غيرها من النزاعات الممتدة في كثير من البلدان يجدها (و برغم ما تحمله من خصائص و سمات خاصة) متشابهة في عمومياتها من ناحيتين الأولي: في أن أسبابها واحدة تقريبا و لا تخرج (كما حددها د. الطيب حاج عطية في المرجع السابق ذكره صفحة 83) عن (الأعراق و المواطنة، الدين و المواطنة، الحقوق القبلية و التقليدية، الصراع بين الجماعات المحلية و السلطة، و القضايا الإقتصادية و الآيدلوجية و الطبقية اللصيقة). و الثانية: في أنها تنشأ و تقوم في ظل أنظمة سياسية دكتاتورية (مدنية أو عسكرية) تصادر الديمقراطية و الحرية و حق القوميات و الثقافات في التعبير عن نفسها و تفرض نظما إقتصادية غير عادلة و لا تهتم بالتنمية المتوازنة. و بلادنا واحدة من أهم البلدان التي شهدت و لا زالت تشهد مثل هذه الصراعات الممتدة التي خلفت الملايين من الضحايا و المشردين و اللاجئين و أنتجت الفقر و الدمار و فاقمت منهما و أججت النزعات العنصرية و روح الكراهية بين أبناء الوطن الواحد و أثرت سلبا و لا زالت تؤثر في علاقات الجوار مع معظم الدول المحيطة بالسودان جنوبا و شمالا، شرقا و غربا بل و علي مجمل علاقات السودان الخارجية. و كغيرها من النزاعات التي شهدتها مناطق عدة من العالم (المذكورة سابقا) و التي تطورت و امتدت و ازدادت عمقا و تعقيدا في ظل الأنظمة الديكتاتورية، فقد وجدت أيضا الصراعات القومية في بلادنا (بجانب فترة الإستعمار) أرضية صلبة و تربة خصبة في الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان لأكثر من ثلاثة و أربعين عاما تمثل حوالي 78% من مجمل السنوات التي مرت علي إستقلال بلادنا و البالغة حوالي 55 عاما بينما تمثل سنوات الديمقراطية (التي لا تتجاوز ال 12 عاما) ما نسبته 22% فقط من مجمل السنوات التي مرت علي الإستقلال. (و لعل هذه المؤشرات تمثل إجابة قاطعة و كافية لأية تساؤلات حول أسباب التردي و الانحطاط الذي آلت إليه أحوال السودان). و بدلا عن قضية الجنوب و التي ظلت منذ عام 1955م تشكل أحد أهم المحاور المفصلية في قضايا الصراع السياسي و حتي عشية إنقلاب الأخوان المسلمين المشئوم في يونيو 89م إتسع نطاق الصراعات القومية و الحروب الأهلية في الشرق و الغرب و امتدت و تداخلت مع بعض دول الجوار و أصبحت بلادنا بموجبها ناقصة للسيادة، مسرحا و مرتعا للتدخلات الإقليمية و العالمية في شئوننا الداخلية و أصبح السودان متربعا علي عرش قوائم الدول الراعية للإرهاب و مافيا تبييض الأموال، و المنتهكة لحقوق الإنسان، و المرتكبة لجرائم الحرب و التطهير العرقي و الإبادة الجماعية. و حتي خلال تجاربنا الديمقراطية الثلاثة السابقة وجدت قضية الجنوب التي كانت تمثل محور قضايا الصراع القومي الإهمال و المماطلة و المعالجات الخاطئة من قبل العناصر اليمينية داخل الحزبين الكبيرين التي تلتقي مع فكر الأخوان المسلمين و مشروع الدولة الإسلامية في السودان في عمومياته. فمع بداية الاستقلال نكصت الأحزاب اليمينية الحاكمة وعدها للجنوبيين بالفيدرالية، التنمية الإقتصادية، الأجر المتساوي للعمل المتساوي، مناصب ضمن مشروع سودنة الوظائف، إلغاء ضريبة الدقنية، و غيرها من الوعود. (راجع: تاج السر عثمان - الحوار المتمدن - العدد: 2395 - 5/9/2008م - الجذور التاريخية للتهميش في السودان – الحلقة الخامسة). و حاولت خلال نفس الفترة فرض الهوية العربية الإسلامية من خلال تقديمها لإقتراح جمهورية السودان الإسلامية و الدستور الإسلامي التي عرضت على لجنة الدستور عام 1957 و لكن تم إسقاطه تحت ضغط و صعود حركة الجماهير بأغلبية 21 صوتاً مقابل 8 أصوات و إجازة مسودة دستور 1957 بروحه العلمانية بدلا عنه و قد كان هذا من أهم الأسباب التي قادت فيما بعد عبدالله خليل لتسليم السلطة للجيش في إنقلاب قصر في نوفمبر 1958م و الذي بدأ بدوره فورا بتعطيل مسودة دستور 1957 العلمانية المجازة في لجنة الدستور. و عقب ثورة أكتوبر نجح الأخوان المسلمين ممثلين في جبهة الميثاق الإسلامي بالتعاون مع نفس العناصر اليمينية داخل الحزبين الكبيرين من إسقاط حكومة جبهة الهيئات، و فيما بعد، من إختلاق تلك الحادثة المشئومة التي نجحوا بموجبها من حشد المشاعر الدينية لدي أقسام واسعة من أحزاب اليمين و إقناعها بتعديل الدستور لحل الحزب الشيوعي و طرد نوابه من البرلمان و مصادرة أملاكه، ثم قاموا بعد ذلك في عام 1968م بالتعاون مع نفس التيارات اليمينية في الحزبين الكبيرين بتقديم إقترح مشروع الدستورا الإسلامي الذي ينص علي أن الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع و أنه هو الدين الرسمي للدولة في حين أن السودان بلد متعدد الأديان, مما يعني تكريس الإستعلاء و الإقصاء لكل الأديان الأخري. و قد كان ذلك بمثابة الإجهاض الكامل لكل الشعارات و المبادئ التي وردت في برنامج مؤتمر المائدة المستديرة و قرارات لجنة الإثني عشر المنبثقة عنه و علي رأسها مبدأ حرية الأديان. مما أدي إلي تسعير نيران الحرب في الجنوب. و قد فاقم من كل ذلك تآمر نفس الحلف اليميني الداعي للدستور الإسلامي في مقتل القائد الجنوبي وليم دينق زعيم حزب سانو وستة من مناصريه في كمين نصبه لهم الجيش و هم في طريقهم من رومبيك إلى واو في مايو 1968م و ذلك بعد مرور أقل من شهر من نجاح حزبه في الحصول علي 15 مقعدا برلمانيا في إنتخابات إبريل 1968م، و ذلك لمواقفه المتمسكة بمقررات مؤتمر المائدة المستديرة و بوحدة السودان و تمتعه بإحترام واسع بين الأوساط الجنوبية و الشمالية المستنيرة، و قد أوردت (صحيفة الرائد بتاريخ 27/8/2009م) بعض مما قاله لبعض مؤيديه في نوفمبر 1967م ما نصه (هناك تكهنات هذه الأيام عما إذا كان الانتخابات العامة ستجرى في أبريل المقبل وفي تاريخ لاحق ولكن مهما يكن من أمرها فإنني أنصح مؤيدي سانو بالاستمرار في الاستعداد للانتخابات وذلك لأن مدة البرلمان هذه المرة خمسة أعوام وأنه لحري بنا وأحرى لنا أن نوجه جهودنا نحو ايصال ممثلين إلى البرلمان متميزين كما ونوعاً ومؤهلين لتحقيق النهضة في الجنوب وداخل السودان الموحد ونحن نناشد الحكومة أن تنفذ قرارات مؤتمر المائدة المستديرة التي منحت جنوب السودان حق الحكم الذاتي في إطار السودان الموحد كما يجب أن تقوم الحكومة بتنفيذ قوانين العفو العام وأن ترفع قانون الطوارئ وإذا تمت هذه الأمور فإن سانو يتوقع من كل الجنوبيين أينما كانوا أن يهدأوا ويتمسكوا بالسلام). كما قام نفس الحلف اليميني و قوي الهوس الديني و بنفس بنود الدستور الإسلامي المذكور بتدبير محاكمة ردة للمفكر الصوفي محمود محمود طه في نوفمبر من عام 1968م و التي تم إستكمال حلقاتها التآمرية مرة أخري (تحت ثوب الإمامة الذي ألبسوه السفاح جعفر نميري) و إعدامه شنقا و بدم بارد دون حياء بموجب قوانين سبتمبر 1983م البغيضة الظلامية المسماة بقوانين الشريعة و التي أرتكبوا بقوتها أبشع الجرائم التي عرفها تاريخ بلادنا بل تاريخ البشرية جمعاء. و في التجربة الديمقراطية الثالثة بعد إنتفاضة مارس/أبريل 1985م أدي تردد و عجز الحكومة عن إلغاء قوانين سبتمبر و إلغاء قرار تقسيم الجنوب (و اللذان كانا أهم الأسباب المباشرة التي أدت للتمرد في جنوب السودان عام 1983م). و كذلك تباطؤها في التعاطي مع إتفاقية الميرغني – قرنق عام 1988م تعد أحد أهم السلبيات التي صاحبت تلك التجربة و قد أدي هذا التباطؤ و ما تبعه من التفاف أقسام كبيرة من الجماهير حول هذا الإتفاق و مواصلة ضغطها علي الحكومة للقبول به مما دفع بالجبهة القومية الإسلامية للإسراع في تنفيذ إنقلابها المشئوم علي النظام الديمقراطي في منتصف عام 1989م لقفل الطريق أمام فرص نجاح تلك الإتفاقية المناهضة للمشروع الدستور الإسلامي و الدولة الدينية و التي نصت في بنودها علي تجميد قوانين سبتمبر 1983م و نقلها للمؤتمر الدستوري المزمع عقده للبت النهائي فيها. و هكذا نجد أن مشروع الدستور الإسلامي (و الدولة الدينية) قد شكل محورا ثابتا و قاسما مشتركا في مجمل محاور الصراع السياسي التي واجهت الأنظمة التي حكمت بلادنا (عسكرية كانت أم مدنية) بل و أنها تعتبر أحد أهم أقطار الدائرة الشريرة التي ظل السودان يدور حولها فكلما فشلت قوي الهوس الديني و علي رأسها الأخوان المسلمين في تمرير مشروع الدستور الإسلامي في ظل الديمقراطية كلما حدث إنقلاب عسكري تسعي من خلاله نفس القوي إلي فرضه بالقوة و آخرها إنقلاب نوفمبر 1989م المشئوم و الذي يمثل الدولة الدينية في أبشع صورها و التي أثبتت فشلها و استحالة إقامتها في بلد متعدد الأديان و الثقافات و الطوائف. و إذا كان الطيب مصطفي و ذمرته من دعاة الدولة الدينية بالفعل أحفادا لتلك القبائل العربية الإسلامية التي وقّعت إتفاقية البغط مع ملوك النوبة فحِريٌ بهم أن يستقوا منهم الدروس و العبر، و عليهم، قبل الجهاد في سبيل إقامة مشروعهم الواهم، أولا بالجهاد الأكبر، جهاد أنفسهم و غسلها و تطهيرها من الكره و الحقد و الغبن و التعالي و الكبر و الإدعاء و التطاول و حب السلطة و المال و الضيق و الإستعجال، و حتي لو إفترضنا جدلا أن فكرة الدولة الدينية أو الإسلام العروبي المسلم فكرة قابلة للتطبيق في بلادنا فإن تطبيقها لا يمكن أن يتم إلا من خلال الصبر و إحتمال الآخرين و التمسك بالديمقراطية و السلم و الإعتراف غير المشروط بالأديان الأخري و حرية المعتقدات، و مختلف الثقافات و حقها في التعبير عن نفسها دون قيد أو شرط، و سيادة حكم القانون، و العدالة و التنمية المتوازنة و التوزيع العادل للثروة. و بعد أن يقتنع و يؤمن بها كل جماهير الشعب السوداني بمختلف ثقافتهم و أعراقهم و انتماءاتهم بشكل طوعي و سلمي دون وصاية.
| |

|
|
|
|
|
|
|