|
سناء جعفر و "تفاصيل صغيرة" نقلا عن الاحداث
|
الاحداث الخميس 31 ديسمبر 2009
تفاصيل صغيرة
في كل يوم وربما في كل ساعة أو في كل دقيقة تزدحم حياتنا بمجموعة من التفاصيل الصغيرة التي تقتحم وجودنا... تستولي على جزء من ذاكراتنا وتحاصرنا بتصميم .. تفاصيل قد تكون ناعمة مثل فرشاة الرسم التي تغمس أطرافها في لحظاتنا الحاضرة وترسم عنها لوحة خالدة .. وتفاصيل أخرى قد تؤذينا خشونتها وتظل كالشوكة في عمق جرح مفتوح ..في كل الأحوال تصبح هذه التفاصيل جزء لا يتجزأ من وجودنا .. أحياناً وفي غمرة ركضنا اللاهث وانشغالنا بما نظنه المهم في حياتنا ..تتوارى بعض هذه التفاصيل خلف ستائر النسيان .. أو تتسرب وتسقط من ثقوب الذاكرة.. لكن في لحظة احتياج لها تباغتنا بصحوة مفاجأة وتدهشنا بقدرتها على تحسين مزاجنا ومداواة اعتلاله بمصل الثراء الروحي المكتنز داخلها.. وعندما نتأملها بإمعان .. نكتشف حجم الدور الذي لعبته في تشكيل زواتنا الحالية .. واتساع مساحة نسيج الألفة الذي يربطنا بإحداث سابقة عشناها وعاشتنا .. بأصوات سمعناها فسكنت في خواطرنا بروائح إستنشقناها فأصبحت علامة مميزة لأمكنة وأزمنة وبشر.. بمشاهد خاطفة علقت في أعمق أجزاء الذاكرة برغم البرهة الوجيزة التي استغرقتها.. هكذا هي التفاصيل الصغيرة .. تختار مواقفها ولحظاتها المفضلة دون تدخل منا ... في غربتي الضنينة .. تعملقت التفاصيل الصغيرة التي عشتها فيما مضى وأصبح لها لون وطعم ورائحة وملمس .. بت استرجع بحنين فتاك تلك الأحداث واللحظات التي كنت أظنها لا تملك القدرة على الالتصاق بذاكرتي المرهقة.. تفاصيل افترضت تلاشيها منذ أمد بعيد .. لكنها فاجأتني بصمودها .. والكيفية التي لونت بها أفكاري وأحاسيسي .. فكلما خُذلت في بعض البشر وراودني إغراء اعتزالهم .. تقفز من ذاكرتي إحدى التفاصيل الصغيرة التي كنت قد نسيتها عن ( قلدة ) حنينه من جارة أو صديقة أو قريبة ضمتني ذات حزن فقاسمتني الألم وامتصت وجعي ومسحت دموعي .. كلما بهتت ألوان ذكريات الماضي وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من حافة السقوط .. تلتقطني ذكرى تفاصيل عادية لم تعني لي شيئا مميزاً لحظة حدوثها مثل لقاء الصدفة الذي جمعني بإحدى زميلات الدراسة بعد طول انقطاع وفجّر بركاناً من الذكريات المتخمة بالتفاصيل الصغيرة عن أحلى مراحل العمر..رحلات الجامعة .. وجبة الإفطار بصحن ( البوش ) الذي تتصادم فيه عشرات الأصابع .. سهر الامتحانات .. رهبة انتظار النتيجة .. دموع الفرح وبكاء الحزن ولمسات المواساة ...وعند ارتفاع منسوب إحساس الوحدة والعزلة في غابات الاسمنت والزجاج التي تحاصرني .. استحضر فوضى الزيارات المحببة في بيتنا ..والباب الذي سلّم قياده لسلك رفيع يخرج من الثقب الصغير ويتجاوب مع اقل شدّ خارجي فينفتح على مصراعيه مرحباً بكل ضيف أو عابر طريق .. ومؤتمرات ( الحيشان ) المليئة بالثرثرة العفوية بين الجارات والتي تبدأ بدون تخطيط مسبق وتستمر لوقت طويل حتى تتذكر أحداهن ( حلة الطبيخ الفي النار ) أو الطفل النائم .. أو ( مشوار السوق ) .. وعندما تشتكي معدتي من أكل مطاعم الوجبات السريعة .. يأخذني حنيني إلى إحدى التفاصيل الصغيرة العادية .. إلى أطباق ( العصيدة والملاح ) العابرة للبيوت خصوصاً يوم الجمعة .. والى صحن ( فتة العدس ) العملاق المغطى ( بالشمار الأخضر ).. هناك تفاصيل صغيرة أخرى اعتبرها ( مِرِق) يسند سقف الروح ويمنعها من التهاوي في لجة النسيان ..وجسر يربطني بالماضي ويذكرني بالوطن .. رائحة ( دقن الباشا ) وهو يزهر ويملا الجو بعبير مميز ويفرش الأرض تحته ببساط قشيب .. رائحة الشاي المغلي في الصباح الباكر وصوت غطاء ( الكفتيرة ) الراقص على وقع نغمات الماء الصارخ من حرارة اللهب الأزرق .. زقزقة مئات العصافير التي بنت أعشاشها على شجرة الجيران .. رائحة الخبز وهو يخرج طازجاً منتفخاً من الفرن .. صوت اصطدام أنابيب الغاز ببعضها في المحل القريب من منزلنا .. صراخ مجموعة من الأطفال يلعبون في الشارع بصخب .. الابتسامات الودودة التي نتبادلها مع أغراب نلتقيهم دون سابق معرفة .. صوت القرآن في المذياع .. شعار نشرات الأخبار .. وموسيقى المسلسلات الإذاعية ..وشهقة اللحظة الأولى لاندفاع الماء البارد أثناء الحمام الصباحي في أيام الشتاء القاسية .. أحياناً تتخابث تفاصيلي الصغيرة وتتوارى خلف جدار التوهان فاقهرها بحيلة ماكرة ..ابحث في صناديقي عن إحدى الصور القديمة .. لا شئ كالصور يمكنه اختزان التفاصيل .. فهي تمسك بمعصم الزمن وتحتجزه في لحظة معينة تلغي فيها آثاره وقدرته على التغيير.. فالصورة عبارة عن ذاكرة محتشدة بالتفاصيل الصغيرة التي تتحدى الاندثار ..وقد تصبح ذاكرة بديلة إذا ما وهنت الأصلية .. وبرغم أن تفاصيل حياة كل منا تختلف عن الآخر كما تختلف طريقة تفاعلنا معها ..إلا أننا جميعاً نتفق على الأثر الذي تخلقه داخلنا .. فالتفاصيل الصغيرة هي المهندس الذي يساهم في بناء ركن مهم من إنسانيتنا يدعم هشاشتها ويثبت أركانها ..لذلك عندما نتجاهلها أو نتناساها بزعم تفاهتها واعتبارها ( كراكيب ) يجب التخلص منها .. يصبح الأمر وكأننا نتخلص من روابطنا مع ماضينا .. نتخلص من ذكرياتنا وذاكرتنا .. فلنتمسك بتفاصيلنا الصغيرة ..المفرح منها والحزين .. فلنتعلم متعة تذوقها بحميميةّ تكسر عنها رتابتها.. فلنحتفي بها لأنها تمنحنا مسرات غير متوقعة وهبات تنزل على قلوبنا برداً وسلاماً .. تسند ذاكرتنا وتحميها من السقوط في متاهة النسيان وتقيها من عواصف التفسخ والاندثار ...التفاصيل الصغيرة هي التي تجعل لحياتنا معنى ..هي الحجر الذي يحرك بحيراتنا الراكدة .. هي الريح التي تزعزع عرش الخمول والبلادة ... فلنمنحها حقها في التكرار والتأمل والتذكر والتقدير ... فتكرارها لا يفقدها سحرها .. بل يمنحنا متعة تذوق جمالها ..
|
|
 
|
|
|
|