|
الى حبيبتي جوليا ....وحدها
|
جوليا ...
كم أنا مشتاق للارتماء على شاطيء عينيك ، منهكا وخائر الدهشة .. !! أىّ غيمة وردية هطلت بك على أرضي اليباب ، واستزرعت حقلا من الورد على صحرائي ، لأقدم لعينيك وردة كل صباح ؟ لا يكتمل صباحي ، وأشعر فعلا انني لا زلت حيا ، الا حين أتحسس نبضي ، لأطمئن الى أنك تكملين دورتي الدموية ، وتغسلين دواخلي بالشعر ..!! لعينيك ، روعة النعاس ، وخدر الصحو ، وجنون التوقع ... لعينيك ، فيزياء خاصة ، كم مرة قلت لك أن عينيك " أسلحة دمار شامل" ؟! وأنا ... هنا فوق جسري المهلهل ، أجاهد للعبور .. اليك ، مشتاق حد الجنون ، ومجنون حد الشوق ، وحدي أهذي ..بك ، أهلوس .. بجغرافية عينيك ، وموقعهما فى خارطة الكرة الأرضية ، قريبا من الأدغال ، قريبا من البحر ، قريبا من الصحراء ، قريبا من السماء ، وقريبا جدا من أوردتي . حين يحضنني صوتك عبر الأثير ، اجد نفسي متمرجحا بين التنفس والاكتئاب !! وما العلاقة بين "الاكتئاب" و"الكتابة" ؟! لماذا حين أكتب اليك _ وأنت بعيدة _ أكون مملوءا الى هذا الحد ، بالتعب ؟!!
جوليا ..
أحبك الى الحد الذى يمنعني تماما من الاحساس بالحياة وأنت هناك مشدودة الى الوطن ، وأنا مشدود عنه ، مرتبك فى ترتيب تفاصيلي ، وغائب عن ذهني ، أتجرع الشعر ، وأنظم "القهوة" .
تفاصيلي هنا مملة جدا ، لا جديد قط ، الشمس تشرق كل صباح ، من دون أن تظفر بديك واحد يمشي باتجاهها ويكركر بأوجاع الليلة الماضية . ويخيّم المساء ، موحشا ضائعا عن ظلمته ، ومواقيته . متوحشة هذي المدينة الى أقصي حد ، ومفترسة . لماذا يا حبيبتي أنا خائف الى هذا الحد ، لماذا أنا مرتبك وقلق ومفجوع ؟ لماذا تقتلني هذي المدينة الصابئة عن الجمال . ليتني كنت أجد دربا الى مفازاتها لأهلك عند عتبات الصحراء . لا نسمة هواء ، ولا أغنية واحدة تهدهدني عند النوم .
جوليا .. اليوم ، عرفت بنبأ رحيل صديقي ثائر سلوم !! كنت واياه نعمل فى الصحيفة سويا . كان هو مدير مكتبها فى دمشق . أقرأ اسمه يوميا ، لك أن تدركي بأن فى هذا الفعل اليومي الساحر يكمن بعض الحب الانساني تجاه أشخاص قد لا نلتقيهم أبدا . كنت أعرف كذلك مؤنس الرذاذ ، الأردني الحزين . حين مات ، طاوعني القلم تماما لأبكيه سرا !! ثائر ، التقيته فى بيروت ، كان يرابض فى المركز الاعلامي ، فى حين كنت أتسلل الى فندق فيسنيسيا انتركونتننتال المدجج بالحراسة المشددة . كنت أنقل اليه أخبار الساسة والسياسة ، ليقوم بكتابتها وارسالها الى لندن . ثم نلتقي بعد فراغنا من مهام النهار المهلكة ، لنسهر فى "بيتيه كافيه " على أنغام الموسيقي وندخن الشيشة معا ، يأخذني فى سيارته الى فندق " الاسكندر" فى بيروت الشرقية . كان ثائر انسانا مفعما بالحياة والأمل يا جوليا . حين عرّضت عليه الذهاب فى رحلة صحفية الى جنوب لبنان ، تحمّس تماما ، وكدنا نذهب لولا ظروف أمنية حالت دون اتمام المشروع . حدثني عن زوجته وطفليه . كم أنا حزين من أجلهما ، ذهب ثائر فى طريق مطار دمشق ، ولم يكن يعرف أنها آخر رحلاته !! لماذا يا جوليا الموت يحاصرنا هذه الأيام ؟ مفجع أن تكتب عن رحيل كاتب زميل ، ومحزن جدا أن تتعرّض فى كتابتك الى سقوط "شاعر" مرهف كرامي سعد ... هو الآخر رحل فى مطلع الشهر !! لكن الشهيد رامي سعد ، لم يكن كاتبا وشاعرا فحسب ، انه سقط مدافعا عن غزة !! حين عاينت وجه الزميل "عادل أبوهاشم" مساء _ غرة مايو _ ولاحظت ملامح الاعياء والوجع المحتقن فى عينيه ، وهو يدلف الى المكتب ، ادركت أن الأمر ينطوي على رحيل مفجع . قبل أن يعلمني لاحقا باستشهاد الزميل "رامي سعد" ، رحت أفكّر فى "د. عبدالعزيز الرنتيسي" الذى يحمل كفنه على كتفيه ويمضي بعزيمة قوية وصلبة فى النضال ، كنّا مساء ذلك اليوم غير قادرين على التفوّه بكلمة ، والحقيقة أن الكلمات كانت تعوزنا فعلا ، وكنا نحاوّل ساعتئذ الاتصال برفيقة دربه الزميلة أميّة جحا غير أن محاولاتنا ذهبت أدراج الرياح ، لكن أىّ عزاء كان بمقدورنا توفيره لأميّة وهي التي تعايش يوميا الوجع الفلسطيني فى أقصي حالاته ، وتسير فى درب الراحل الكبير ... الكبير "ناجي العلي " ، بل لعلها الى الآن ، لا زالت تكابد وجعا لرحيله المرّ . جوليا ، لا اعرف ، لماذا وأنا احادث الفنانة أمية جحا لاحقا ، تذكرتك على الفور ، كان حزنها على رامي كبيرا كبيرا . هل سيكون مقدرا علينا أن نفترق فراقا أبديا وأنا أجوب هذه المنافي ، وأقتا الوجع !! ولماذا حين نبكي الآخرين ، نبكي أنفسنا ضمنا ؟! لا أريد أن أموت بعيدا عن حضنك ، جوليا !! ولكن أية دلالة رسمها فى دواخلي رحيل رامي ، ثم ثائر وهما فى ريعان الصبا ، لماذا تتكثّف صورة الموت فى نفسي لهذه الدرجة ؟ هل لأنك تمنحيني أملا فى الحياة ، وأنا أضحيت لا أستشعرها ؟ مؤسف يا جوليا أن يكون المنفي هو المقابل الموضوعي للموت . الوطن هو نحن . وحين يغيب الوطن ، نغيب عن أنفسنا !! ثائر ثائر كان متميزا فى كل شيء ، تري كيف حال زوجته الآن ، وهو المانح مشاعره الطيبة لكل المخلوقات ، فكيف تري كان حنانه وعطفه عليها وعلى صغيريه ؟! أية لذة فى الموت وجدتها ثائر ، والموت كان يترصدك فى كل الأنحاء ؟ تجولنا طويلا فى شارع الحمراء ، وتعشينا فى مطعم "بربر" ، أكلنا الكبّة ، والحمص الشامي ، وقال لى هو أن ذهابي الى دمشق لبضعة أيام سيكون مفيدا .. كم أنا الآن أتأسي على اعتذاري له ، ووعدي بالذهاب فى اقرب فرصة ... تلك الفرصة الأخيرة التى خطفت ثائر !! ثائر ، أيها الدمشقي الجميل .... يا سادن الشعر ، وعاشق بحر بيروت ، كم أنا غائص فى الحزن لرحيلك !!
جوليا ، تعالي الىّ فأنا هذه الليلة محتاج جدا للبكاء طويلا على كتفك !!
|
|
|
|
|
|