سأقيس نبضك يا سمندل

ميرفت يا الـ فاكهةالمغسولة لأجلي

نعم ، كنت أتوقع أن تكتبي لي ( لنا ) عن كوستي ــ وجعنا الخرافي الذي لن ينتهي ــ . عن دنيا العدم إياها .. عن الأرض الممسوحة بغبار الرماد.. والسماء المشعة بالنجوم المنطفئة. وعن نيرانهم التي يلتهم بعضها بعضاً، واؤلئك العسس الذين يتبادلون الضحكات والرشاوى السريعة، وهم يلتهمون طعامهم الحزين ويسردون حكاويهم المتخلصة من رقة المعنى

وتوقعتكِ أن تكتبي عن الذين غرقوا صدفةً في الوحول. عن الذين اشتعلوا بعبقرية الكيمياء. عن العائلات التي اختفت اختفاء مضطرباً تحت وهج النهار وجمر الليل. عن الذين يقيمون في تماسٍّ مع الموت. عن الذين يعيشون مع الماعز ويستدرّون اللبن في المناطق الوعرة. عن الذين يقيمون في عزلة الرمال والشموس. عن الذين انخرطوا في أسطورة النبيذ فراحوا يظهرون في الوشوشات الداكنة كطيور الحلم. عن الذين يتكئون على قبر عمر أحمد العَالِم ويرمونه بوردة التيه. عن الذين يقصدون المنافي ليجمعوا الشظايا. عن الدموع التي تراق في الصمت النهائي. عن الكلام الذي سيقال في أحد الأيام. عن القصائد التي لن تُكتب بعد الآن

لن أعفيك ، طبعاً ، من قلق الكتابة عن ذلك كله في رسائلكِ القادمة إلينا في البورد . لكنني سأغازل جنونك واستحثه كي يكون نصيراً لكِ على الضجر الذي بتُّ أراه رأي العين يتسلل إلى منامك ويحرمكِ اليقظة الصحيحة .. حتى صوتكِ في الهاتف بدا لي ابعد من شمس مواعيدنا. قلتُ سأغازل جنونك ، أنا الخبير بقطافه .. سأغازله بالكتابة عن كوستي .. مرة أخرى
***
ويا ميرفت صدّقيني
كلماتك إلى إشراقة مصطفى ما تزال تتقافز أمامي بشحنة غيّها الباهظة إذ تقولين لها : " تحملين كوستي ـ يا إشراقة ـ كشامة خد . وتتألمين لأنها تتآكل وتتحول إلى مجرد (بقعة مباركة منقرضة ) تحجين إليها بالذاكرة كلما أحاطتكِ الغربة بسديمها المرعب .. وقلة حنانها النادر" .. كان هذا كلامك لإشراقة ، وقد تحوّل إلى حقٍّ عام نحمله على أكتافنا ونجوب به دروب الغربة المشغولة بالتهام آدميتنا

كان ذلك . وكانت الكلمات تأتي من كل اتجاه وهي تحمل دفق السؤال عن تلك المدينة الراعشة والمتأرجحة بين جنوب الروح وشمال الخيال .. وبين غرب الحنين وشرق التفاصيل المدهشة. تلك المدينة الـ ( سودان المصغّر ) التي لم تكن ، بالنسبة لي وربما لكثيرين مثلي ممن غطّتْ عليهم بأهدابها وحرسَتْ منامهم ، مجرد مدينة .. بقدر ما أنها كانت حالة فكرية . وهي ما تزال تواظب على هذا الحضور الأخّاذ الذي سرى مسرى الدم حتى تشرّب باليقين

واليقين منطقة مأهولة بحقائق تعرفينها ولكن لا مناص من ترديدها
كوستي اختزالٌ منهجيٌ صارمٌ وبديعٌ لسودانٍ موزّع في الأطالس والانثربولوجيا وأغاني التراث. إنها القصيدة التي غازلها نجمٌ سماويٌ أنيق .. فقالت نفسها وتغبّشتْ بالمعنى ثم استراحت في حدق الغيم

إنها عشقنا الخرافي . و وجعنا الخرافي . وحالنا الفكرية المتعافية التي تنشَدُّ إلى أذهاننا وأفئدتنا فننشَدُّ لها كما تنشدُّ البحار إلى قرون اليابسة

تلك المدينة / الفكرة : امرأةٌ تليقُ بها الأمومة . يُقلقُها سهرنا خارج البيت لساعات تطول بفعل الفرح الذي كان يُعبّأ في القوارير ! .. ويشغلها ـ مع أن قلبها يطرب ـ انكبابنا على تعقُّب المعرفة على أي ضوء متاح .. ويشلُّ حركتها ويُبْئسها ضجرُنا من مناكفات " البوليس الصاقع شيوعية .. وفاكر نفسو بنبِّز فينا " ها
***
تلك كانت كوستي التي فتحتُ عينيَّ ـ وسائر الحواس ـ عليها .. قبل(مجيء هؤلاء) ، و قبل أن أغادرها، مرتبكاً ، إلى ما لستُ أعرف من جهات. واليوم ، تقولين لنا، إنّ كوستي " صارت أضيق من قبر الكافر " ! .. لا ، بل إنّ الوطن كله صار " كفناً يعاديه البياض " .
***
( قوس :
التالي مقطع طويل من رسالة كتبتُها للصديق نذير بيرو وغاب عني عنوانه فما أرسلتها .. وكان قد سألني ، بطريقة ما ، عنكِ وعن كوستي ـ أتمنى أن يقرأه الآن ـ .. خذيه عني مغازلةً لجنونك البرّاق

:
يحدث ، يا نذير، أن تعشق المكان لأن قلبك مشغولٌ بفردٍ فيه . ويحدث أن يقع العكس فتعشق فرداً من المكان لأن هذا مسقط رأسه. أعني أن تعشق واحداً ــ المكان أو الفرد ــ بسببٍ من الآخر. إلا في عشقك لكوستي فإنك عندما تعشق المكان فإنما تعشق كل مَنْ فيه .
ويندر أن تقيم في المكان ، أو تعبر فيه ، من دون أن تعبر أنثى في شرايينك وتضخّ فيها كريات الدهشة البيضاء وبلازما اتحاد الجسدين في جسدٍ . هذا يحدث غالباً .. وساعتها يتحول المكان من مجرد أبنية ومفازات يسهل نسيانها ، إلى إقامة في تفاصيل العشق وتمريناته التي تجدها في " طوق الحمامة " لابن حزم . أو يتحول المكان إلى مستودعٍ للذكريات التي تمدك بفائض الأوكسجين متى ما تعرّضتَ لتضجرات العصر الحديث

كوستي هي ميرفت .. وميرفت هي كوستي . ( طبعاً أقصد كوستي "الحالة الفكرية" .. لا هذي التي خرّبها مجيء هؤلاء) .
والحال .. فإنّ ثنائية كوستي وميرفت تتعانق وتتوحّد ، في داخلي ، بأريحية في: مكان تختصره أنثى .. وأنثى يختصرها المكان .

***

أحييك يا صديقي وأحيي من خلالك دهاقنة العشق في كوستي وسمّار الليالي .. أولئك الذين يُهذِّبون الضجر بمفاعيل النقيع .. وحديث الأماسي المطرزة بظلال النهارات الكئيبة .. ويرفعون عقيرتهم بالنشيد

صُّدْ ليْ ملامحك يا حراز
ريح العوارض غرّبَتْ
فرتِكْ ضفايرك في الرزاز
جَيْةْ العصافير قرّبَتْ

والذين يقلِّمون أظافر اليأس ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، "ويُطلُّون على الجوف" إذ يكتبون شعراً للحبيبة:
بِتْ مِنْ قهوةْ مزاج / تعتريك الشوارع والرواكيب في العشيّات / وألوان قزح وانتشاء

والتحايا ، كذلك ، إلى البنات . البنات الرائعات على وجه التحديد.نديدات ميرفت ورصيفاتها اللاتي يتركنَ في داخلنا شيئاً كما لو أنه نكهة القمر.
الذين ترعرعوا في كوستي يعرفون ، بلا شك ، كيف هي نكهة القمر
***
ميرفت
كيف أغسل الكلمات من آثارك

عزيزتي ميرفت
وأنا على شمس لي أغنيكِ

أحجم عن الإيقاع، وأسرق نغمة لكِ لتضيء الدفء السحري. أقطفها من حزني بمجاورة الشجر، وأسوق لازمة أولية: هنا تحت سمائكِ ضاعت أغنيتي. احتفالية صغرى تجمع إغفاءتكِ وصحوي على قارعة الليل، لعلي أفهم المسألة. سأتكفن بورقي، وأرسم حروفك أو أكتبها. اسألك أن تختبئي فيّ وتقهري الذبول المحنط أشعارا وقصصا
كنا مشرّعين للنيازك والشهب قبل أن تكون أرض وتكون سماوات. كم كان وزن الخطيئة كي تغار جنية من ياسميننا العفوي المبلل فتعبث بنا ؟. وزَّعتـْنَا بفوضى، فنفتني وأبقتكِ محاصرةً بأيامنا والشجر.. حتى بُحّ صوتكِ في هرمونيكا الندى
وظللتُ أنا أغنّيك ، واكتب عنكِ بريداً لن يتوقف وشعراً مستفيضاً عن لعنة بعدنا الأبدي،وعن شوقي لأن أعانق وجهك. ليتني أعرف هدفاً للقدر الذي نسايره ريثما ينضج

السمندل
***
تلويحة بين المسافات
الى كل الاصدقاء الذين عقبوا على جنوننا هذا .. الى الذين احتفوا بمقدمنا .. ونثروا علينا السنابل والغيم وملح الحنان
لكم مني ، ومن متقاسمة وجعي وأملي ميرفت : باقة ورد وأغنية
السمندل

ميرفت
كيف أغسل الكلمات من آثارك

لنا مهدي وزوربا

لكما منّي الود والتحايا اللطاف ، وأنتما تندهان معي التي لاسمها مكانة الحلم في النوم
لقد طار بي قلبٌ اليها ،، فقلتُ اكتبها
علّها ترجع من غيابها الطويل
قولوا آميين