|
Re: سوء التخطيط الاقتصادي في السودان(فك الارتباط بالدولار والاعتماد علي النفط كمورد سهل) (Re: عبدالعظيم عثمان)
|
Quote: [مأزق موازنة أم عجز عن إدارة الاقتصاد الوطني؟ خالد التيجاني النور المأزق الذي تواجهه موازنة البلاد للعام القادم هي مسالة أكبر بكثير من مجرد العجز الكبير في الإيرادات الذي ينتظرها بسبب انخفاض مداخيل النفط, ومحاولة ترقيعها بإجراءات لحلب إيرادات من هنا أو هناك في محاولة شبه يائسة لتفادي إثارة المزيد من حنق المواطنين في عام يفترض أن تجرى فيه انتخابات عامة, وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا وجادا لفرص المؤتمر الوطني الذي كان بعض قادته, قبل وقوع هذه الأزمة, يبدون واثقين من اكتساحها.
والمأزق الذي تواجهه الحكومة هذه المرة بشأن عجز الموازنة العامة ليس الأول من نوعه, فقد ظلت تكابد مثل هذه الحالة مع إعداد كل موازنة جديدة طوال السنوات الماضية, ولما كان في الوسع معالجة هذا العجز في كل مرة بفرض المزيد من الرسوم والجبايات وتحميل المواطن عبء تحمل العجز الحكومي في إدارة الاقتصاد الوطني, فقد كانت الأمور تمضي على مضض, غير أن الجديد هذه المرة أن الحكومة تواجه هذا المأزق وقد استنفدت كل السبل, وربما باتت تدرك للمرة الأولى أن عواقب اللجوء إلى تحميل جيوب المواطنين الفارغة اصلا المزيد من الأعباء لن تكون حميدة بأية حال وما كل مرة تسلم الجرة.
ولذلك بدا نظام الحكم هذه المرة (مكرها وليست بطلا) وهو يحاول التقليل من إثارة المتاعب لنفسه بقدر الإمكان لأنه لم يعد في جسد المواطن المنهك, وجيبه الخاوي, مكانا لإضافة رسوم أو فرض جبايات أخرى. ولذلك فإن الحديث عن أن الحكومة تخلت عن بدائل سهلة متاحة أمامها عن طواعية من أجل المواطن, أمر لا يسنده المنطق ولا الواقع لأنها تدرك ببساطة فداحة الثمن السياسي الذي سيتوجب عليها دفعه إن هي أقدمت على رفع اسعار سلع اساسية بصورة مباشرة.
ومع ذلك فإن الحكومة لم تتخل تماما عن اختيار الحل الأرخص لمعالجة أزمة الموازنة بالالتفاف وفرض رسوم جمركية جديدة على الواردات, والسيارات, ورفع ضريبة الاتصالات, ومن سيدفع الثمن ايضا هو المواطن, ولذا فإن الحديث عن ان الموازنة تجنبت تحميل المواطن وزر عجز الموازنة هو أمر غير صحيح بالمرة ويدخل في باب اللغو السياسي.
وفي الحقيقة فإن القادم أسوأ لأن إيرادات الموازنة النفطية, التي تشكل عمودها الفقري, بنيت على أسعار متفائلة, فاسعار النفط مرشحة للمزيد من الهبوط دون سقف الخمسين دولارا المعتمد في حساب إيرادات الموازنة, فخبراء اسواق النفط يعتبرون أن المراهنات على اسعار النفط التي تدور حاليا عند 50 دولاراً للبرميل قد لا تصمد بعد الركود الذي بات ينتشر من بلد الى بلد, وهو يجعل الرهان على اسعار النفط ينخفض إلى 40 دولاراً للبرميل, خصوصاً مع اعلان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ان الاقتصادات الدولية ستواصل انكماشها السنة المقبلة كلها, فيما خفضت وكالة الطاقة الدولية توقعاتها لارتفاع الطلب بما لا يزيد على 330 الف برميل يومياً, فيما تقدره الولايات المتحدة بما لا يتجاوز المائة ألف برميل يوميا.
وما يثير القلق في أمر الموازنة الجديدة ليست الأرقام المنذرة بأعوام عجاف مقبلة, ولكن الأسلوب الذي يتعامل به المسؤولون عن الإدارة الاقتصادية في الحكم مع الأزمة, فقد كشفت الحثيثات المعلنة عن الموازنة الجديدة التي أعلنت في المؤتمر الصحافي الخميس الماضي عن تعاطي الفريق الاقتصادي للحكومة مع المستجدات الخطيرة الراهنة عالميا ومحليا بصورة مغرقة في التقليدية, فجاءت موازنة أقل من عادية لم تتعد مجرد محاولة البحث عن بدائل سهلة لموارد مالية إضافية تغطي العجز الحادث عن انهيار اسعار النفط, دون النظر بعمق وروية في مآلات الأزمة العالمية وانعكاسها على البلاد. ولا تحمل أية رؤية ثاقبة وبدائل جريئة مع تحديات اقتصادية ومالية غير مسبوقة.
ومشكلة الفريق الاقتصادي للحكومة أنه يجنح للتعامل مع حقائق الاقتصاد الموضوعية, وضرورة إدارته بعلمية وواقعية, بعقلية سياسة هتافية تحرص دائما رسم صورة وردية زاهية للأوضاع على غير ما هي عليه في الواقع, ومحاولة إرسال تطمينات وهمية بأن كل شيئ على ما يرام, وأنه ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن.
وربما كان بوسع المرء أن يجد بعض العذر للمسؤولين عن إدارة الاقتصاد في البلاد وهم يصرحون لأول عهد الناس بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية منتصف شهر سبتمبر الماضي, بأن السودان لن يتأثر بهذه الأزمة معتبرين أنها أزمة أمريكية داخلية لن تطال البلاد بسبب القطيعة الاقتصادية بين البلدين, وعدم وجود ارتباط اقتصادي مباشر, وبل وزعم البعض منهم أن تلك القطيعة ظهر لها أخيرا أثر إيجابي, ومضى آخرون للحديث عن تعاظم فرص السودان للاستفادة من هذه الأزمة لجذب استثمارات من المنطقة العربية الباحثة عن بدائل للسوق الأمريكية المنهارة.
لقد كان ممكنا إيجاد عذر للفريق الاقتصادي وهم يطلقون هذه التصريحات التطمينية المتعجلة غير المتبصرة, وقصيرة النظر, والأزمة العالمية لا تزال في أولها, ولكن أن يصر هؤلاء المسؤولين على النهج ذاته وآثار الأزمة تمسك بخناق البلاد مباشرة, لهو امر مثير للعجب ومدعاة للاستغراب, ومثير للشكوك في سلامة تقديرهم لأمر إدارة اقتصاد البلاد.
فقد نقلت وكالة السودان للأنباء الرسمية عن وزير المالية قوله في مؤتمر الصحافي الخميس الماضي (إن الازمة المالية العالمية لم تكن ذات تأثير مباشر علي الاقتصاد السوداني لما يتمتع به من مناعة ذاتية), مضيفا (أننا مازلنا ندير اقتصاد بلادنا وموازنتها كأن لم تحدث الازمة المالية العالمية), كيف ذلك الله أعلم؟, والوزير نفسه يقول في فقرة أخرى من خبر سونا (وعدد وزير المالية التأثير غير المباشر للازمة علي السودان والمتمثل في اسعار النفط وتأثر الدول ذات التعامل المباشر مع السودان بالازمة فضلا عن تأثير واردات البلاد بها), والسؤال هو ماذا يملك السودان حاليا غير عائدات النفط موردا لخزينته العامة, ومصدرا لعملته الصعبة, وكيف يكون تأثير الأزمة المالية العالمية غير مباشر على السودان, والنفط الذي يشكل أكثر من نصف إيرادات الموازنة, وخمسة وتسعين بالمائة من صادرات البلاد, قد انهارت أسعاره بأكثر من 60%, ولا تزال تتراجع.
وما نقلته (سونا) على لسان محافظ بنك السودان المركزي أكثر عجبا فقد أعلن أن ( النظام المصرفي الاسلامي يتمتع بمناعة ذاتية ضد الازمات وقال ان الحظر المفروض علي السودان والتحول من التعامل بالدولار لليورو واتجاه السودان للدول الشرقية قلل من المخاطر الناجمة عن الازمة علي السودان), ولا أدري كيف تكون المخاطر التي تعرض لها السودان جراء الأزمة المالية العالمية قليلة, والجميع يلهث للبحث عن موارد لسد عجز الموازنة, اللهم إلا إذا كانت هناك موارد اقتصادية سحرية غير النفط لا نعلمها, ثم أين هي المناعة الذاتية التي يتحدث عنها محافظ البنك المركزي وقد سبق النظام المصرفي السوداني انفراط عقده حتى قبل حدوث الأزمة الأمريكية بفعل التعثر الذي يعترف البنك المركزي بأنها تفوق نسبة التعثر المتواضع عليها عالميا بأكثر من أربعة أضعاف, وما خفي أعظم, ولم يفلح البنك المركزي في تدارك أزمته مكتفيا بتحويلها لملف أمني.
من المهم جدا أن يدرك القائمون على الإدارة الاقتصادية للحكومة أن مثل هذه التصريحات التي يطلقونها على عواهنها قد تصلح للاستهلاك في منابر الهذر السياسي, ولكن الاقتصاد لغة أرقام ومنطق لا ينفع فيه اسلوب الفهلوة السياسية, ومن غير الممكن تسويق هذه الأماني للجمهور لأن نجاح إدارة الاقتصاد أو فشلها يدركه أبسط مواطن من واقع حياته اليومية. ولذلك فإن التغني بشعارات مثل (الايجابيات التي تحققت من الازمة والمتمثلة في انتهاج برنامج اصلاح الأداء الاداري ، استقطاب الموارد الخارجية ، التأكيد علي سلامة النظرية الاقتصادية التي ينتهجها السودان بجانب التوسع في مجالات الانتاج الاخري لتفادي التذبذب في اسعار النفط) كما جاء في قول وزير المالية هي مجرد تمنيات لا يسندها المنطق, ولا شيئ يقوم عليها دليلا في الواقع الاقتصادي المأزوم.
وموازنة البلاد ظلت تعاني من العجز طوال السنوات الماضية, حتى قبل بروز الأزمة المالية العالمية في الوقت الراهن, وكان السبب في ذلك واضحا اعتماد البلاد بصورة شبه كاملة على عائدات النفط في توفير أغلب إيرادات الخزينة العامة, وفي توفير العملة الصعبة, ولطالما حذر الجميع من مغبة الركون إلى العائدات النفطية السهلة, ولكن تواصل إهمال قطاعات الإنتاج الحقيقية الاخرى التي تذخر بها البلاد, وعلى الرغم من كل البرامج الحكومية المعلنة التي هدفت إلى تحريك تلك القطاعات إلا أنها ظلت مجرد برامج معطوبة, أهدرت باسمها أموال ضخمة, ولم تفلح في تغيير معادلة الاقتصاد الوطني ذي الرجل الواحدة.
ومن المهم إدراك أن أزمة الموازنة المزمنة التي تتجدد كل عام ليست سوى عرض لمأزق أعمق هو العجز الحكومي عن إدارة الاقتصاد الوطني الغني بموارد لا حدود لها, على نحو فعال ولذلك تتجدد الأزمات, ما يؤكد ما ذهبنا إليه أن الأزمة تتجدد هذه المرة في وقت يفترض فيه أن الاقتصاد الوطني يدار وفق خطة خمسية, ضمن استراتيجية ربع قرنية, ولا أدري كيف نتحدث عن خطة استراتيجية والاقتصاد يدار بعقلية النفير, وإطفاء الأزمات التي لا تنتهي واحدة منها حتى تشب أخرى.
ومن المهم كذلك الإقرار أنه حان الوقت لمراجعة جذرية لخيارات البلاد الاقتصادية, وأساليب إدارتها التنفيذية, صحيح أن هناك برامج معلنة للنهوض الاقتصادي لكن ينبغي الاعتراف أنها لا تعمل, ليس فقط سبب سوء التخطيط, ولكن أيضا بسبب قدرات التنفيذ المتواضعة. وثمة حاجة ماسة لمراجعة أخطاء هيكلية في إدارة المال العام, وإدارة الاقتصاد الوطني قبل اللجوء في كل مرة إلى حلول رخيصة لمعالجة الأزمات.
ودونكم مسألة الولاية على المال العام، فلا تزال وزارة المالية تشكو لطوب الارض عجزها عن ممارسة مسؤوليتها ووضع يدها على المال العام, المسؤولية التي يكفله لها الدستور والقانون، ولكن هيهات ها هي تفشل في المعركة ضد المال العام السائب، وتهدد بلا انياب وبلا فعالية الجهات الحكومية النافذة التي تمد لسانها طويلا غير آبهة، وهل هناك باب أوسع للفساد الرسمي من هذا؟ وكيف تضبط الدولة مواردها المالية اذا كانت وزارتها المعنية والمخولة قانونيا بذلك لا تعلم حجم ايرادات الدولة الحقيقية او أين تنفق ولمصلحة من؟
ثم كيف تضبط الحكومة ماليتها وتحسن ادارة اقتصادها، اذا كانت هي الحكومة نفسها التي تتبنى رسميا سياسة التحرير الاقتصادي.. تلتف عليها بأبشع طريقة.. والحكومة التي خرجت من السوق بالباب، عادت اليه بالشباك، متحللة من كل الضوابط والمعايير التي كانت مرعية عندما كانت تمارس مؤسستها الانشطة الاقتصادية علانية، وبعدما كانت تلك الممارسات حكرا على مؤسسات معلومة، ها نحن نشهد، ربما في سابقة عالمية، ان متصدري البزينس في بلادنا هي مؤسسات تابعة لجهات سيادية مثل وزارتا الدفاع والداخلية وجهاز الامن، فهل مهمة الجيش والشرطة والامن هي حماية البلاد والعباد, وأن الحكومة هي المسؤولة عن توفير احتياجاتها كاملا، ام ممارسة البزينس في منافسة غير شريفة وغير كفؤة مع القطاع الخاص الذي طالما عيرته الحكومة بالضعف؟
وكيف ينهض ويقوى عوده اذا كان عليه الدخول في منافسة غير عادلة مع شركات تابعة لاجهزة سيادية تتمتع بحماية وبامتيازات لا حدود ولا ضابط لها، ولا يخضعها قانون، ولا احد يعرف حجم الاموال التي تجنيها، ولا الى أين تذهب؟ ومع ذلك تزاحم هذه الاجهزة لتنال نصيب الاسد في الصرف عليها من موازنة الدولة.
وأمر آخر كشفته هذه النازلة، هو اعلان وزارة المالية تخفيض بعض اوجه الصرف الحكومي, ومع أنه لم يعلن عن حجم هذا الخفض.. فإن والسؤال هو مادام من الممكن تخفيض هذا الصرف الحكومي، فلماذا يُسمح به اصلا، حتى ولو كانت السماء تمطر ذهبا وفضة؟ أما كان أولى بهذا الصرف أوجه قصور لا تعد ولا تحصى في بنيات البلاد الاساسية التي لا يزال جزء كبير من مواطنيها يرزح تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.
وواحدة من اكثر اوجه الخلل في ادارة الحكم، هو هذا السيل من الامتيازات التي يتمتع بها الجيش العرمرم من المسؤولين الحكوميين من كل شاكلة ولون ومن كل درجة في المركز والولايات، ومن فرط التوسع في هذه الامتيازات وانتشارها حتى ليخال المرء اننا في بلد لا تجد الحكومة من تنفق عليه من عامة مواطنيها، الذين تحسبهم أغنياء من التعفف على حاجتهم، لتعمد الى الانفاق على كبار مسؤوليها وموظفيها وبطاناتهم، وهكذا شيدت الدور والقصور ورفلت في رغد العيش، وبئر مواطنيها معطلة.
وكارثة أكبر لا تقل فداحة هي الصرف السياسي، وفي كسب وشراء الولاء السياسي, ولا نحتاج إلى كثير عناء للحديث عنه فهو أظهر من ان تحتاج معه الى شرح أو تبيين.
ولذلك كله ليس مقبولا أن تطالب الحكومة المواطنين بالمزيد من الصبر على هذه الأوضاع المعوجة, فقد صبر الناس بما هو أكثر من كفاية, وليس معقولا أن يكتشف المواطنون في كل مرة أن حصاد صبرهم المر يتبدد بسبب العجز الحكومي في إدارة الاقتصاد الوطني بصورة سليمة وخلاقة وشفافة تخرج البلاد من أزماتها المتكررة, والمواطنون يرون دولا لا تملك شيئا من الموارد المتاحة للسودان, ومع ذلك نهضت بل وتنافس على مراكز متقدمة في سلم الاقتصادات العالمية.
وفي الواقع فإن مظاهر الخلل في إدارة الاقتصاد الوطني أكبر من أن تحصى في مقال عابر, والمطلوب بدلا من إلقاء المواعظ على المواطنين, ومطالبتهم برفع الإنتاج في وقت تطارد فيه السياسات الحكومية وجباياتها كل من يتجرأ على أن يكون منتجا حقيقيا, وتكافئ فيه المتبطلين على أبواب التهريج السياسي. المطلوب من إدارة الحكم أن تتحلى بالشجاعة والبصيرة وأن تتواضع للاعتراف بكل الخلل الذي يعانيه القطاع الاقتصادي والتخبط الذي يلازم إدارته, وأن تعكف على دراسة سبل الخروج نهائيا من هذه الحلقة المفرغة, وبالطبع ليس واردا حدوث تغيير جذري وفعلي ما لم تتغير العقليات التي أورثت البلاد هذا الواقع المأزوم.
|
مقال يسلط الضوء علي الموازنه العامه للدوله
| |
|
|
|
|