|
الجاحظ ........... والجهلوجيا
|
الجاحظ ............ والجهلوجيا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كنا جماعة، إلتقينا في منزل احد الأصدقاء، تعارفنا بسرعة علي الطريقة السودانية الفريدة، وكالعادة عندما يكون الجمع سودانياَ، يتشعب الحديث، ويتفرع، ويتمطي، ويصبح له اصول وفروع، واطراف وغصون، ومتون وهوامش، يذهباً شمالاً، ويتجه من هنالك غرباً، وفي خط غير مستقيم يزحف نحو الجنوب الشرقي، وقليلاً قليلاً ينغمس الجميع في ممارسة هوايتنا المفضلة، وهي الحديث في السياسة، لعنة السودانيين الأبدية، نبأ الحديث من العصر الحجري، وكيف تكونت المجتمعات اصلاً، وكيف كان الوضع السياسي العالمي في العصرور الوسطي، وكيف وأين ومتي قامت الحروب الأهلية، ومتي وأين كانت اول انتخابات ديمقراطية، ثم ماذا حدث في آسيا الوسطي، وكم كان ثمن الرغيف في البانيا في عهد انور خوجة، ثم تقرير وافي لما يحدث الآن في النيبال، وما هي نتائج أغتيال بي نظير بوتو، وما مصير الحزب بعدها، ولماذا استقال كاسترو، ومتي يموت، وماذا لو مات، ومن يخلف بوتن في روسيا، اما كشمير، فإننا ننقسم حولها وكأننا هنود وباكستانيين، ثم تغطية معقولة للوضع في العراق، ومن المخطئ في فلسطين، حماس ام فتح، اما الإنتخابات الأمريكية، فلنا فيها خبراء ومحللين، لو عرفهم مذيعي ال سي ان ان لتركوا لهم المحطة وتوارو في الظل، فيم نفعتنا كل هذه الثقافة (الجغراسياسإجتمإقتصاتاريخية)؟؟ لا ادري، المهم في تلك الأمسية، جلس بجانبي ظريف، قال انه يعمل في مجال البلولوجيا، ولما رأي علامات عدم الفهم علي وجهي، قال انه يعمل طبيب مسالك بولية، فعجبتني الكلمة، فقررت ـــ سامح الله جرأتي ـــ ان اخترع كلمات جديدة بنفس الطريقة، فأخذت كلمة (الجهل) علي سبيل المثال، وأبتكرت منها اسم (الجهلوجيا) و (الجهلوجي) لوصف مرض الجهل المتفشي بين المتعلمين، وليكن الجهلوجيا هو الإسم العلمي لمرض الجهل، والجهلوجي هو المصاب بالجهلوجيا، والجهلوجيا من اقدم الأمراض التي صاحبت الإنسان، ومن أكثرها انتشاراً، وهو مرض له قدرة عجيبة في اصابة الناس، مهما تعلموا وتثقفوا، وقرءوا وكتبوا، وسافروا واغتربوا، وقطعوا المحيطات، وأختلطوا بالأجناس، وعايشوا الشعوب والقبائل، الاّ ان المرض يصيبهم، وهو مرض مزمن لا يُـشفي منه المصاب، وهو مرض كثير الأعراض ظاهرها، وهو الي ذلك خبيث، يوهم المصاب بأنه عبقري، وأن فيه من الذكاء والفهم ما ليس في الناس، وأنه مزود بملكات خص بها وحده، كما أنه يضخم للمصاب عقله، فيشعر المسكين انه إكتمل، وأنه قد إمتلك الحقيقة المطلقة، فيتبختر في ثوب العالِم الفقيه، العاقل الواعي، الذي خصه الله بمعرفة الحق، فهو العارف والبقية جاهلون، هو المنتبه والبقية غافلون، هو المهتدي والبقية ضالون، هو المتمسك بالصحيح، والبقية علي خطأ، هو الذي ثبته الله، والبقية تبعوا الشيطان، يري الأشياء بمنظار (جهلوجي)، فيخلط حابلها بنابلها، تتداخل عليه الأشياء، وتختلط الرؤي، ويتشابه البقر، كل ذلك والمرض الخبيث يفرز في غدده ما يزيد الحال سوءاً، يتقدم الناس الي الأمام، ويريد هو للناس ان يعودوا الي الخلف، الي الزمن الماضي، فينادي بمنهج جهلوجي متناقض، ينقل به فهم القرون السالفة الي القرن الحالي، وكأن العقل الإنساني توقف، وكأن الزمن لم يتغير، وكأن مشاكلنا هي نفس مشاكل الناس في الزمن السالف، وكأن أفكارهم وحلولهم هي ما يجب ان نطبقها علي مشاكل عصرنا الحالي، وهكذا يدخل الجهلوجي في صراع مع العصر من جهة، ومع نفسه من جهة اخري، ويسوقه كل ذلك الي نفسية غير مستقرة، والي توتر يسيطر علي اعصابه، ويؤثر سلباً علي تفكيره، فيصبح شخصاً موتوراً، لايمكن محاورته، يبقي الناس في واد، وهو في واد آخر، وربما ازداد الحال سوءاً، فيصل الجهلوجي مرحلة التوهم الكامل، فيتحول الي شخصية (ممثل) فاشل، يستدعي الشفقة والسخرية، ويذكرك بحال احمد عبدالوهاب، الذي كتب فيه الجاحظ رسالة التربيع والتدوير، وكان احمد عبدالوهاب هذا، كما قدم عنه الجاحظ ( كان مفرط القصر، ويدعي انه مفرط الطول، وكان مربعاً، وتحسبه لسعة جفرته، واستفاضة خاصرته مدوراً، وكان جعد الأطراف، قصير الأصابع، وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه، أخمص البطن، معتدل القامة، تام العظم، وكان طويل الظهر، قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعي أنه طويل الباد، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد اعطي البسطة في الجسم، والسعة في العلم، كان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد. وكان ادعاؤه لأصناف العلم علي قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها علي قدر غباوته فيها، وكان كثير اللإعتراض لهجاً بالمراء، شديد الخلاف كلفاً بالمجاذفة، متتابعاً في العنود، مؤثراً للمغالبة، مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشيهة، فلما طال اصطبارنا عليه، حتي بلغ المجهود منا، وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رأيت ان اكشف قناعه، وابدي صفحته للحاضر والبادي، وسكان كل ثغر وكل مصر) وبعد هذه المقدمة التعريفية لأحمد (الجهلوجي) يبدأ الجاحظ رسالته الساخرة، وهي رسالة طويلة جداً وفي منتهي الإمتاع، وأنا انقل لكم هنا منها مقطتفات:ــ ( اطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك وكرامته لك، قد علمتك ــ حفظك الله ـــ أنك لا تحسد علي شئ حسدك علي حسن القامة وضخم الهامة، وعلي حور العين، وجودة القد، وعلي طيب الأحدوثة والصنعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي تلهج، وإنما يحسد ــ أبقاك الله ــ المرء شقيقه في النسب، وشفيعه في الصناعة، ونظيره في الجوار، علي طارف قدره، أو تالد حظه، أو علي كرم في أصل تركيبه، ومجاري أعراقه، وأنت تزعم أن هذه المعاني خلصة لك، مقصورة عليك، وأنها لا تليق الاّ بك، ولا تحسن الآّ فيك، وأن لك الكل وللناس البعض، وأن الصافي ولهم المشوب، هذا سوي الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه، فما هذا الغيظ الذي أنضجك، وما هذا الحسد الذي أكمدك، وما هذا الإطراق الذي قد إعتراك، وما هذا الهم الذي قد اضناك. إن الراسخين في العلم، والناطقين بالفهم، يعلمون ان إستفاضة عرضك أدخلت الضيم علي إرتفاع سمكك، وأن ما ذهب منه عرضاً قد اشتغرق ما ذهب منك طولاً. كيف رأيت الطوفان ؟ ومتي تبلبلت الألسنة؟ ومذ كان زمان الخنان، ويوم السلان، ويوم خزلر، وواقعة البيداء؟ ، هيهات ، بل أين عاد وثمود، وأين طسم وجديس، وأين أميم ووبار؟ وأين جرسم وجاسم، أيام كانت الحجارة رطبة، وإذ كل شئ ينطق، ومذ كم ظهرت الجبال، ونضب الماء عن اللحف؟ ومن سوشي المنظر، ومن قيري وعيري؟ ومن أولاد الناس من السعالي؟ خبرني ما كان بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون، وما دار في ذلك بينك وبين أرسطوطاليس؟ وأي نوع إعتقدت وأي شئ إخترت، فقد أبت نفسي غيرك، وأبت أن تشفي إلاّ بخبرك،. خبرني كيف كانت خدائع التنبئين، ومخارق الكذابين، وكيف تنصر النعمان، وتهود ذو نواس، وتمجس ملوك سبأ؟ ولم صار جميع الحيوان يسبح إلاّ الإنسان والقرد والعقرب والفرس الأعسر، خبرني مذ كم صنعت حساب الهسمرح، ومن صاحب خطوط الهند، وقد تعجب ناس من إطالتي ومن كثرة مساءلتي، وتعجبي من تعجبهم أشد، والذي كان من إنكارهم أعظم، ولو رغبوا في العلم رغبتي لأستقلوا من ذلك ما استكثروا، ولآستقصروا منه ما استطاعوا، فان أذنت لي أظهرته، إن تجد علي أعلنته. ولولا انك المسئول في كل زمان، والغاية في كل دهر، لما تفردتك بهذا الكتاب، ولم اطمعت نفسي في الجواب، ولكنك قد أذنت في مثلها لهرمس، ثم لأفلاطون، ثم لأرسطوطاليس، ثم أجبت معبداً الجهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وابراهيم بن سيار، وعلي بن خالد الأسواري، فتربية كفك والنشئ تحت جناحك أحق بذلك وأولي. رغم بعض تلاميذك أنك تعلم لم كان الفرس لا طحال له، والبعير لا مرارة له، والسمكة لا رئة لها، وحيتان البحر لا ألسنة لها. خبرني لم صار بعض الناس أحفظ للنسب، وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ للألفاظ ، ولم تضري وجه السامري، ولم تعض ماني وتمضه، ولِم لم تبزق في وجه فرعون، أم أن الطبيعة التي هيبتك من هشام بن خلف بن قوالة الكناني حين قال علي رأس النعمان ، وأنت رجل يمان، هي التي منعتك من ان تبزق في وجه الفرعون، وأنت سمعته يقولوما رب العالمين) فانظر في مسالمة النفوس مع تقارب منازلها ولم تجاذبت عند تقارب مراتبها ولم اختلف الكثير واتفق القليل ولم كانت الكثرة علة للتخاذل والقلة سبباً للتناصر وما فرق ما بين المجاراة والتحاسد وبين المنافسة والتغالب فإنك متى عرفت ذلك استرحت منا ورجونا أن نستريح منك. وكيف يعرف السبب من يجهل المسبب وكيف يعرف الوصل من يجهل الفصل وكيف يعرف الحدود من لم يسمع الفصول. بل يعرف كيف الحجة من الشبهة والغدر من الحيلة والواجب من الممكن والغفل من الموسوم والمحال من الصحيح والأسرار من المجهول ومن كبار الدلائل الخفية وما يعلم مما لا يعلم وما يعلم باللفظ دون الإشارة مما لا يعلم إلا بالإشارة دون اللفظ وما يعلم معتمداً ولا يعلم مكيفاً ولا يعلم معتقداً. وما المستغلق الذي يجوز أن يفارقه استغلاقه والمستبهم الذي لا يفارقه استبهامه ومن هو طائر مع العوام حيث طارت وساقط معها حيث سقطت مع الزراية والرغبة عنها. قد طلبها بفضل طلبه لنفسه وجرى معها بقدر مناسبتها لقدره. فاعرف الجنس من الصنف والقسم من النصنف وفرق ما بين الذم واللوم وفصل ما بين الحمد والشكر وحد الاختيار من الإمكان والاضطرار من الإيجاب. وسنعرفك من جملة ما ذكرنا باباً باباً أنت إليه أحوج وهو علينا أرد. وما في الأرض إقرار أثبت ودليل أوضح وشاهد أصدق من شاهدي عليك على ما ادعيت لنفسك من الرفعة مع ما ظهر من حسدك لأهل الصنعة. وهل يكون كذلك إلا فاسد الحس ظاهر العنود أو جاهل بالمحال. وما في الأرض إقرار أثبت ودليل أوضح وشاهد أصدق من شاهدي عليك على ما ادعيت لنفسك من الرفعة مع ما ظهر من حسدك لأهل الصنعة. وبعد فأنت - أبقاك الله - في يدك قياس لا يكسر وجواب لا ينقطع ولك حد لا يفل وغرب لا ينثني وهو قياسك الذي إليه تنسب ومذهبك الذي إليه تذهب: أن تقول: وما علي أن يراني الناس عريضاً وأكون في حكمهم غليظاً وأنا عند الله تعالى طويل جميل وفي الحقيقة مقدود رشيق. وقد علموا - حفظك الله - أن لك مع طول الباد راكباً طول الظهر جالساً ولكن بينهم فيك إذا قمت اختلاف وعليك لهم إذا اضطجعت مسائل. ومن غريب ما أعطيت ومن بديع ما أوتيت أنا لم نر مقدوداً واسع الجفرة غيرك ولا رشيقاً مستفيض الخاصرة سواك. فأنت المديد وأنت البسيط وأنت الطويل وأنت المتقارب. فيا شعراً جمع الأعاريض ويا شخصاً جمع الاستدارة والطول. بل ما يهمك من أقاويلهم ويتعاظمك من اختلافهم والراسخون في العلم والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك وأن ما ذهب منك عرضاً قد استغرق ما ذهب منك طولاً. ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك. وإن كانوا قد سلموا لك بالرغم شطراً فقد حصلت ما سلموا وأنت على دعواك فيما لم يسلموا. ولعمري إن العيون لتخطىء وإن الحواس لتكذب وما الحكم القاطع إلا للذهن وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل إذ كان زماماً على الأعضاء وعياراً على الحواس. ومما يثبت أيضاً أن ظاهر عرضك مانع من إدراك حقيقة طولك قول أبي داوود الإيادي في إبله: سمنت فاستحش أكرعها لا ال ني ني ولا السنام سنام ولو لم يكن فيك من العجب إلا أنك أول من عوده الله تعالى بالصبر على خطاء الحس وبالشكر على صواب الذهن لقد كنت في طولك غاية للعالمين وفي عرضك مناراً للمضلين. وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل عمر ومن القصير مثل عمرو إذ زعم أنه أفرط في الرشاقة ونسب إلى القضاضة لأن إفراط عرضه غمر الاعتدال من طوله وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار ويفتقر إلى الاعتدال. والمربوع بحمد الله تعالى قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار وبحكم الظاهر عن الاعتلال. وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار ولم نسمع أحداً ذم مربوعاً ولا أزرى عليه ولا وقف عنده ولا شك فيه. ومن يذمه إلا من ذم الاعتدال ومن يزري عليه إلا من أزرى على الاقتصاد ومن ينصب للصواب الظاهر إلا المعاند ومن يماري في العيان إلا الجاهل بل من يزري على أحد بتفاقم التركيب وبسوء التنضيد مع قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ". وبعد فأي قد أردأ وأي نظام أفسد من عرض مجاوز للقدر أو طول مجاوز للقصد. ومتى يضرب العرض بسهمه على قدر حقه ويأخذ الطول من نصيبه على مثل وزنه خرج الجسم من ولو جاز هذا الوصف وحسن هذا النعت كان لإبراهيم بن السندي من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب. وهذا كله بعد أن يصدقوك على ما ادعيت لطولك في الحقيقة واحتججت به لعرضك في الحكومة. كما أنك بإعمالك لما ينفيه العيان واستشهادك لما تنكره الأذهان معترض للصدق من المتكرم ومتحكك بالحلم من المتغافل. وأي صامت لا ينطقه هذا المذهب وأي ناطق لا يغريه هذا القول. وإذا كان هذا ناقضاً لعزم المتسلم فما ظنك بعادة المتكلف. فأنشدك الله أن تغري بك السفهاء وتنقض عزائم الحكماء. وما أدري - حفظك الله - بأي الأمرين أنت أعظم إثماً وفي أيهما أنت أفحش ظلماً: أبتعرضك للعوام أم بإفسادك حكم الخواص. وبعد فما يحوجك إلى هذا وما يدعوك إليه وأشباهك من القصار كثير ومن ينصرك منهم غير قليل.
وقلت: ولولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله تعالى وعز وجل الجنة بالعرض دون الطول حيث يقول: " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ". فهذا برهانك الواضح. ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى ما عند الله خيراً لك مما عند الناس وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق. . وقلت: ولولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله تعالى وعز وجل الجنة بالعرض دون الطول حيث يقول: " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ". فهذا برهانك الواضح. ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى ما عند الله خيراً لك مما عند الناس وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق. وأنا - أبقاك الله - أعشق إنصافك كما تعشق المرأة الحسناء وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين. ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين وأن تعقدك سماح رجال منصفين. وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة ومقابلة الاختيار بالاضطرار واليقين بالشك واليقظة بالحلم إلا للذي خصصت به من إيثار الحق وألهمته من فضيلة الإنصاف حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار وأشد ما تكون إلى الحيلة فقراً أشد ما تكون للحجة طلباً. غير أن ذلك بطرف ساكن وصوت خاضع وقلب جامع وجأش رابط ونية جسور وإرادة تامة مع غفلة كريم وفطنة عليم. إن انقطع خصمك تغافلت وإن خرق ترفقت غير منخوب ولا متشعب ولا مدخول ولا مشترك ولا ناقص النفس ولا واهن العزم ولا حسود ولا منافس ولا مغالب ولا معاقب. تفل الحز وتصيب المفصل وتقرب البعيد وتظهر الخفي وتميز الملتبس وتلخص المشكل وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حظه من المعنى. وتحب المعنى إذا كان حياً يلوح وظاهراً يصيح وتبغضه مستهلكاً بالتعقيد ومستوراً بالتغريب. وتزعم أن شر الألفاظ ما غرق المعاني وأخفاها وسترها وعماها وإن راقت سمع الغمر واستمالت قلب الريض. أعجب الألفاظ عندك ما رق وعذب وخف وسهل وكان موقوفاً على معناه ومقصوراً عليه دون ما سواه. لا فاضل ولا مقصر ولا مشترك ولا مستغلق قد جمع خصال البلاغة واستوفى خلال المعرفة. فإذا كان الكلام على هذه الصفة وألف على هذه الشريطة لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب وصار السامع كالقائل والمتعلم كالمعلم وخفت المؤنة واستغنى عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحجة واستبدلوا بالخلاف وفاقاً وبالمجاذبة موادعة وتهنئوا بالعلم وتقنعوا ببرد اليقين واطمأنوا بثلج الصدور وبان المنصف من المعاند وتميز الناقص من الوافر وذل الخطل وعز المحصل وبدت عورة المبطل وظهرت براءة المحق. وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان أو خوط آس وكأنه قضيب خيزران وكأنه غصن بان وكأنه رمح رديني وكأنه صفيحة يمان وكأنه سيف هندواني وكأنه جان وكأنه جدل عنان فقد قالوا: كأنه المشتري وكأن وجهه دينار هرقلي. وما هو إلا البحر وما هو إلا الغيث. وكأنه الشمس وكأنها دارة القمر وكأنها الزهرة وكأنها درة وكأنها غمامة وكأنها مهاة. وقد نراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا القضيف الطويل. وقلت: ووجدنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها على التدوير دون التطويل كذلك الورق والحب والثمر والشجر. وقلت: والرمح وإن طال فإن التدوير عليه أغلب لأن التدوير قائم فيه موصلاً ومفصلا والطول لا يوجد فيه إلا موصلا ومفصلاً. وكذلك الإنسان وجميع الحيوان. وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق وفما أكره على تركيبه دون ما خلي وسوم طبيعته. وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور فقد بان المدور بفضله وشارك المطول في حصته. ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة ثم تحتج للعرض والاستدارة وقد أضربت عما عند الله صفحاً ولهجت بما عند الناس. فأما حور العين فقد انفردت بحسنه وذهبت ببهجته وملحه إلا ما أبانك الله تعالى به من الشكلة فإنها لا تكون في اللئام ولا تفارق الكرام. وأما سواد الناظر وحسن المحاجر وهدب الأشفار ورقة حواشي الأجفان فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك. وأما إدراكك الشخص البعيد وقراءتك الكتاب الدقيق ونقش الخاتم قبل الطابع وفهم المشكل قبل التأمل مع وهن الكبرة وتقادم الميلاد ومع تخون الأيام وتنقص الأزمان فمن توتيا الهند ولترك الجماع ومن الحمية الشديدة وطول استقبال الخضرة فأنت يا عم عندما تصلح ما أفسده الدهر وتسترجع ما أخذته الأيام لكما قال الشاعر: عجوز ترجي أن تكون فتية وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر تدس إلى العطار سلعةأهلها ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر وكيف أطمع في نزوعك عن اللجاج وقد منعتنيه قبله. وكيف أرجو إقرارك جهراً وقد أبيته سراً وكيف تجود به صحيحاً مطمعاً وقد بخلت به مريضاً مؤيساً. وكيف يرجو خيرك من رآك تطاول أبا جعفر وتحاسنه وتنافره وتراهنه ثم لا تفعل ذلك إلا في المحافل العظام وبحضرة كبار الحكام ثم تستغرب ضحكاً من طمعه فيك وتعجب الناس من وأشهد لك بعد هذا أنك ستحاسن عمراً الجاحظ وتعاقله ثم تظارفه وتطاوله وتتغنى مع مخارق وتنكر فضل زبزب وتستجهل النظام وتستغبي قيس بن زهير وتستخف الأحنف بن قيس وتبارز علي بن أبي طالب ثم تخرج من حد الغلبة إلى حد المراء ومن حد الأحياء إلى حدود الموتى. هذا وليس لك مساعد ولا معك شاهد واحد ولا رأيت أحداً يقف في الحكم عليك أو ينتظر تحقيق دعواك ولا رأيت منكراً يخليك من التأنيب ولا مؤنباً يخليك من الوعيد ولا موعداً يخليك من الإيقاع ولا موقعاً يرثي لك ولا شافعاً يشفع فيك. يا عم لم تحملنا على الصدق ولم تجرعنا مرارة الحق ولم تعرضنا لأداء الواجب ولم تستكثر من الشهود عليك ولم تحمل الإخوان على خلاف محبتهم فيك اجعل بدل ما تجني على نفسك أن تجني على عدوك وبدل ما يضطر الناس أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يمسكوا عنك. ولا بد - يرحمك الله - لمن فاته الطول من أن يلقي بيده إنما يقول خلاف ما يجده في نفسه. فوالله إنك لجيد الهامة وفي ذلك خلف لحسن القامة. وإنك لحسن الحظ وفي ذلك عوض من حسن اللفظ. وإنك لتجد مقالاً وإنك لتعد خصالاً. فقل معروفاً فإنا من أعوانك واقتصد فإنا من أنصارك. وهات فإنك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت ولو جرت لقلنا قد اهتديت ولكنك تجيء بشيء " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً ". لو غششناك لساعدناك ولو نافقناك لأغريناك. وقد كنت - أطال الله بقاءك - في الطول زاهداً وعن القصر راغباً وكنت أمدح المربوع وأحمد الاعتدال. ولا والله لن يقوم خير الاعتدال بشر قصر العمر ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم. فأما اليوم فياليتني كنت أقصر منك وأضوى وأقل منك وأقما. وليس دعائي لك بطول البقاء طلباً للزيادة لكن على جهة التعبد والاستكانة فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك فهذا المعنى أريد وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك فإلى هذا المعنى أذهب. وقد زعموا جعلت فداءك أن كل ما طال عمره من الحيوانات زائد في شدة الأركان وفي طول العمر وصحة الأبدان كالورشان والضباب وحمر الوحش وكلحم النسر لمن أكله ولحم الحية لمن استحله فإذا كان هذا حقاً وكان نافعاً وكنت له مستعملاً وفيه متقدماً وتراه رأياً أخذنا منه بنصيب وتعلقنا منه بسبب. وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك وتعاور النقصان والزيادة إياك. وجوهرك فلكي وتركيبك أرضي. فمنك طول البقاء ومعك دليل الفناء. وأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي. وما ظنك بخلق لا تضره الإحالة ولا يفسده التناقض. جعلت فداك قد شاهدت الإنس منذ خلقوا ورأيت الجن قبل أن يحجبوا ووجدت الأشياء بنفسك خالصة وممزوجة وأغفالاً وموسومة وسالمة ومدخولة فما يخفى عليك الحجة من الشبهة ولا السقم من الصحة ولا الممكن من الممتنع ولا المستغلق من المبهم ولا النادر من البديع ولا شبه الدليل من الدليل. وعرفت علامة الثقة من علامة الريبة حتى صارت الأقسام عندك محصورة والحدود محفوظة والطبقات معلومة والدنيا بحذافيرها مصورة. ووجدت السبب كما وجدت المسبب وعرفت الاعتلال كما عرفت الاحتجاج وشاهدت العلل وهي تولد والأسباب وهي تصنع فعرفت المصنوع من المخلوق والحقيقة من التمويه. إنك - جعلت فداءك - كما أنك لم تكن فكنت فكذا لا تكون بعد أن كنت. وكما زدت في الدهر الطويل فكذا تنقص في الدهر الطويل. وكل طويل فهو قصير وكل متناه فهو قليل. فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك فإن للشيطان في مثلك أطماعاً لا يصيبها في سواك ويجد فيك عللاً لا يجدها في غيرك. وقد كنت أتعجب من محمد بن عبد الملك وأقول: ما يقولون في رجل لم يقل قط بعد انقضاء خصومه وذهاب خصمه: لو كنت قلت كذا كان أفضل أو كنت لم أقل كذا كان أمثل! فما بال عفوه أكثر من جهدكم وبديهته أبعد من أقصى فكرتكم! فلما رأيتك علمت أنك عذاب صبه الله تعالى على كل رفيع ورحمة أنشأها الله لكل وضيع. فخبرني عما جرى بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك وعن سماعك من أفلاطون وما دار بينك وبين أرسطاطاليس وأي نوع اعتقدت وأي شيء اخترت فقد أبت نفسي غيرك وأبت أن تتشفى إلا بخبرك. ولولا أني كلف برواية الأقاويل ومغرم بمعرفة الاختلاف وأني لا أستجيز مسألتك عن كل شيء وابتذالك في كل أمر لما سمعت من أحد سواك ولما انقطعت إلى أحد غيرك. وليس مع العيان وحشة ولا مع الضرورة وجمة ولا دون اليقين وقفة. وهل في تمامك ريب حتى يعالج بالحجة وهل يرد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة. وهل لك خصم في العلم أو ند في الفهم أو مجار في الحلم أو ضد في العزم وهل يبلغك الحسد أو تضرك العين أو تسمو إليك المنى أو يطمع فيك طامع أو يتعاطى شأوك باغ وهل غاية الجميل إلا وصفك وهل زين البليغ إلا مدحك وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك وهل يقدر الملهوف إلا غياثك وهل للطلاب غاية سواك وهل للغواني مثل غيرك وهل للماتح رجز إلا فيك وهل يحدو الحادي إلا بك ولولا أن يأخذ الواصف لك بنصيبه منك وبحصته من الصدق وبسهمه من الشكر لك لكان الإطناب عندهم في وصفك لغواً ولكان تكلفه فضلاً. ومن هذا الذي يضعه أن يكون دونك أو يهجى بالتسليم ولم نعد إقراره إحساناً وخضوعه إنصافاً وهل تقع الأبصار إلا عليك وهل تصرف الإشارة إلا إليك وأي أمرك ليس بغاية وأي شيء منك ليس في النهاية وهل فيك شيء يفوق شيئاً أو يفوقه شيء أو يقال: لو لم يكن كذا لكان أحسن أو لو كان كذا لكان أتم وأين الحسن الخالص والجمال الفائق والملح المحض والحلاوة التي لا تستحيل والتمام الذي لا يحيل إلا فيك أو عندك أو لك أو معك لا بل أين الحسن المصمت والجمال المفرد والقد العجيب والملح المنثور والفضل المشهور إلا لك وفيك وهل على ظهرها جميل حسيب أو عالم أديب إلا وظلك أكبر من شخصه وظنك أكثر من علمه واسمك أفضل من معناه وحلمك أثبت من نجواه ولربما رأيت الرجل حسناً جميلاً وحلواً مليحاً وعتيقاً رشيقاً وفخماً نبيلاً ثم لا يكون وقد تكون أيضاً الأقدار متساوية غير متقاربة ولا متفاوتة ويكون قصداً ومقداراً عدلاً وإن كانت هناك دقائق خفية لا يراها الغبي ولطائف غامضة لا يعرفها إلا الذكي. فأما الوزن المتحقق والتعديل الصحيح والتركيب الذي لا يفضحه التفرس ولا يحصره التعنت ولا يتعلل جادبه ولا يطمع في التمويه ناعته فهو الذي خصصت به دون الأنام ودام لك على الأيام. وكذا الحسن إذا كان حراً مرسلاً وعتيقاً مطلقاً لا يتحكم عليه الدهر ولا يذبله الزمان ولا يحتاج إلى تعليق التمائم ولا إلى الصون والكن ولا إلى المنقاش والكحل. ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سهل في العيون تسهيلاً وحبب إلى القلوب تحبيباً وقرب إلى النفوس تقريباً حتى امتزج بالأرواح وخالط الدماء وجرى في العروق وتمشى في العظم بحيث لا يبلغه السمر ولا الوهم ولا السرور الشديد ولا الشراب الرقيق لكان في ذلك المزية الظاهرة والفضيلة البينة. ولو لم يكن لك إلا أننا لا نستطيع أن نقول في الجملة وعند الوصف والمدحة: لهو أحسن من القمر وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث وأحسن من يوم الحلية وأنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأن عنقه إبريق فضة وكأن قدمه لسان حية وكأن وجهه ماوية وكأن بطنه قبطية وكأن ساقه بردية وكأن لسانه ورقة وكأن أنفه حد سيف وكأن حاجبه خط بقلم وكأن لونه الذهب وكأن عوارضه البرد وكأن فاه خاتم وكأن جبينه هلال. ولهو أطهر من الماء وأرق طباعاً من الهواء ولهو أمضى من السيل وأهدى من النجم لكان في ذلك البرهان النير والدليل البين. وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل والمثل في كل شكل. وأما قول الشاعر: يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا وقول الدمشقيين: ما تأملنا قط تأليف مسجدنا وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل واستخرج لنا التفرس غرائب حسن لم نعرفها وعجائب صنعة لم نقف عليها. وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم في الجواهر أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء فإن ذلك معنىً مسروق مني في وصفك ومأخوذ من كتبي في مدحك. والجملة التي تنفي الجدال وتقطع القيل والقال أني لم أرك قط إلا ذكرت الجنة ولا رأيت أجمل الناس في عقب رؤيتك! إلا ذكرت النار! ولا تعجب أيها السامع واعلم أني مقصر. وإذا رأيته علمت أني مقصر. وإذا رأيته علمت أني فيما يجب له مفرط. هو رجل طينته حرة وعرقه كريم ومغرسه طيب ومنشأه محمود غذي في النعمة وعاش في الغبطة وأرهقه التأديب ولطفه طول التفكير وخامره الأدب وجرى فيه ماء الحياء. فأفعاله كأخلاقه وأخلاقه كأعراقه وعادته كطبيعته وآخره كأوله تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد. لا يعرف التكلف ويرغب عن التجوز وينبل عن ترك الإنصاف. لا تمتنع عليه معرفة المبهم ولا يلحج باستبانة المشكل ولا يعرف الشك إلا في غيره ولا العي إلا سماعاً. فمن يطمع في عيبك بل من يطمع في قدرك. وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا تعثر باسمك ولا قينة إلا وهي تغنى بمدحك ولا فتاة إلا تشكو تباريح حبك ولا محجوبة إلا وهي تنقب الخروق لممرك ولا عجوز إلا وهي تدعو لك ولا غيور إلا وقد شقي بك. فكم من كبد حرى منضجة ومصدوعة مفرثة وكم حشاً خافق وقلب هائم وكم عين ساهرة وأخرى جامدة وأخرى باكية وكم عبرى مولهة وفتاة معذبة قد أقرح قلبها الحزن وأجمد عينها الكمد واستبدلت بالحلي العطلة وبالأنس الوحشة وبالتكحيل المره فأصبحت والهة مبهوتة وهائمة مجهودة بعد ظرف ناصع وسن ضاحك وبعد أن كانت ناراً تتوقد وشعلة تتوهج. وليس حسنك - أبقاك الله - الحسن الذي تبقى معه توبة أو تصح معه عقيدة أو يدوم معه عهد أو يثبت معه عزم أو يمهل صاحبه للتثبت أو يتسع للتحير أو ينهنهه زجر أو يفيده خوف. هو - أبقاك الله - شيء ينقض العادة ويفسخ المنة ويعجل عن الروية ويطوح بالعزاء وينسى معه العواقب. ولو أدركك عمر بن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر ابن الحجاج ولركبك بأعظم مما ركب جعدة السلمى. بل لدعاه الشغل بك إلى ترك التشاغل بهما والغيظ عليك إلى الرحمة لهما. فمن كان عيب حسنه الإفراط والطعن عليه من جهة الزيادة كيف يرومه عاقل أو ينتقصه عالم. وما ندري في أي الحالين أنت أجمل وفي أي المنزلتين أنت أكمل إذا فرقناك أو إذا جمعناك وإذا ذكرنا كلك أم إذا تأملنا بعضك فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها ويختال بها كل ما صار فيها. وكما أصبحنا وما ندري: آلكأس التي في يدك أجمل أم القلم أم الرمح الذي تحمله أم المخصرة أم العنان الذي تمسكه أم السوط الذي تعلقه وكما أصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن أم أيها أجمل وأشكل: آللمة أم مخط اللحية أم الإكليل أم العصابة أم العمامة أم القناع أم القلنسوة وأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى أنها لم تخلق إلا لمنبر عظيم أو ركاب طرف كريم. وأما فوك فهو الذي لا ندري: أي الذي تتفوه به أحسن وأي الذي يبدو منه أجمل: الحديث أم الشعر أم الاحتجاج أم الأمر والنهي أم التعليم والوصف وعلى أننا لا ندري أي ألسنتك أبلغ وأي بيانك أشفى. أقلمك أبلغ أم خطك أم لفظك أم إشارتك أم عقدك وأنت في ذلك فوقهم - والحمد لله - وواحدهم وأعيذك بالله تعالى. وقد علمنا أن القمر وهو الذي يضرب به الأمثال ويشبه به أهل الجمال يبدو مع ذلك ضئيلاً ونضواً ويظهر معوجاً شختاً وأنت أبداً قمر بدر وفخم غمر. ثم مع ذلك يخرق في السرار ويتشاءم به في المحاق ويكون نحساً كما يكون سعداً ويكون ضراً كما يكون نفعاً ويقرض الكتان ويشحب الألوان ويخم فيه اللحم. وأنت دائم اليمن ظاهر السعادة ثابت الكمال شائع النفع تكسو من أعراه وتكن من أشحبه. وعلى أنه محق حسنه المحاق وشانه الكلف وليس بذي توقد واشتعال ولا خالص ولا وكثيراً ما يعتريه الصفار من بخار البحار. وأنت ظاهر التمام دائم الكمال سليم الجوهر كريم العنصر ناري التوقد هوائي الذهن بري اللون روحاني البدن. وإن احتجوا عليك له بالجزر والمد احتججت عليهم بالحلم والعلم وبأن طاعتك اختيار وطاعته طباع واضطرار وبأن له سيرة قد قصر عليها ومنازل لا يجاوزها ولا يمكنه البدوات وليس في قواه فضل للتصرف. على أن ضياءه مستعار من الشمس وضياؤك عارية عند جميع الخلق. وكم بين المعير والمستعير والمتبين والمتحير وبين العالم وما لا خير فيه. تعير نسيم الهواء طيباً وتراب الأرض عبقاً. إن تفتيت فالرشاقة والملح وإن تنسكت فالرهبانية والإخلاص وإن ترزنت فثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل. وطباعك - جعلت فداءك - طباع الخمر إلا أنك حلال كلك. وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت. وقد حويت خصال الياقوت إلا ما زادك الله وأخذت خصال المشتري إلا ما فضلك الله به وجمعت خلال الدر إلا ما خصصت به دونه. فلك من كل شيء صفوته وشرفه ولبابه وبهاؤه. وإياك أن تتعرض لجرير إذا هجا وللفرزدق إذا فخر ولهرثمة إذا دبر ولقيس بن زهير إذا مكر وللأغلب إذا كر ولطاهر إذا صال. ومن عرف قدره عرف قدر خصمه ومن جهل نفسه لم يعرف قدر غيره. وعليك بالجادة ودع البنيات فإن ذلك أمثل لك. وأنت - والله يا أخي - تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الأخبار أني أظهر منك حرباً وألطف كيداً وأكثر علماً وأوزن حلماً وأخف روحاً وأكرم عيناً وأقل غثاً وأحسن قداً وأبعد غوراً وأجمل وجهاً وأنصع ظرفاً. وأكثر ملحاً وأنطق لساناً وأحسن بياناً وأجهر جهارة وأحسن شارة. وأنت رجل تشدو من العلم وتنتف من الأخبار وتموه نفسك وتعز من قدرك وتتهيأ بالثياب وتتنبل بالمراكب وتتحبب بحسن اللقاء ليس عندك إلا ذاك. فلم تزاحم البحر بالجداول والأجسام بالأعراض وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ. فأما الباد والقامة فمن يعدل بين القناة والكرة ومن يميل بين النخلة والدقل وبين رحى الطحان وبين سيف يمان. وإنما يكون التمييل بين أتم الخيرين وأنقص الشرين وبين المتقاربين دون المتفاوتين وأنت لا ترضى بجحد العيان حتى تدعو إليه ولا ترضى بالدعاء إليه حتى تعادي فيه ولا ترضى بالعداوة حتى يكون لك في ذلك الرياسة ولا ترضى بالرياسة دون السابقة ولا بالطارف دون التالد ولا بالتالد دون الأعراق التي تسري والمواليد التي تنمي. ولا ترضى بأن يكون أولاً حتى تكون آخراً ولا بالمداراة دون المباداة ولا بالجدال دون القتال. وحتى ترى أن التقية حرام وأن التقصير كفر. وحتى لو كنت إمام الرافضة لقتلت في طرفة ولو قتلت في طرفة لهلكت الأمة لأنك رجل لا عقب لك).
|
|

|
|
|
|