|
صحافي تونسي يكتب عن السودان ومحمود محمد طه والصادق المهدي والعلاقات بين النُخب والرموز
|
صحيفة العرب القطرية العدد 7193 الخميس 21 فبراير 2008م صلاح الدين الجورشي - كاتب وصحافي تونسي
عائد من السودان
عدت هذا الأسبوع من الخرطوم بعد زيارة قصيرة لهذا البلد الذي لا يزال يشغل المراقبين بأوضاعه الداخلية المثيرة على أكثر من صعيد. وتعود آخر زيارة قمت بها للسودان للسنوات الأخيرة من حكم الرئيس جعفر النميري ، قبل إعدام محمد طه زعيم حزب (الإخوان الجمهوريين ) يومها كان الجدل عاصفاً حول سياسة تطبيق الشريعة التي اتخذ منها النميري غطاء لتجديد شرعيته ، بعد أن قطع صلته بالحزب الشيوعي ،وأعدم اثنين من قادته الذين جاءوا به إلى السلطة في انقلاب شهير ، وبعد فشل اختياراته الاقتصادية والسياسية ، ولأن محمد طه قد انتقد ذلك الأسلوب العشوائي والغير منهجي في تطبيق الشريعة ، وقدم اجتهاداً مخالفاً لما هو سائد في كتبه التي استعرض فيها نظريته حول (العالمية الإسلامية الثانية) فقد وجد نفسه أمام محكمة تشبه إلى حد كبير محاكم التفتيش في أوروبا الكاثوليكية خلال القرون الوسطى . وقامت هذه المحكمة بمناقشة الرجل في معتقداته وآرائه الفكرية والسياسية ثم قامت بالإشراف على تنفيذ حكم الإعدام بحقه شنقاً أمام الجموع المكبرة دون مراعاة سنه إذ كان يبلغ 78 عاماً. كانت تلك لحظة مأساوية رهيبة لا تزال عالقة في أذهان الكثيرين من السودانيين الذين واكبوها وعاشوا كل تفاصيلها إذ لم يكن يتخيل أنه في هذه المرحلة التاريخية تقع استتابة شخص وتنتصب محكمة عينتها سلطة ظالمة ومستبدة لتضعه بين خيارين : التمسك بما يراه حقاً، أو مواجهة الموت فمهما كانت أفكار هذا الشيخ العجوز ، والقراءة الصوفية التي اعتمدها في فهم القرآن وأحكامه، فان الفكر لا يواجه إلا بالفكر. بدا لي واضحاً أن السودان تغير عما كان عليه أواسط الثمانينيات . فالطرقات المعبدة العريضة بدأت تشق أهم مفاصل العاصمة ، وقد أقر أكثر خصوم (نظام الإنقاذ) بأن جهوداً مهمة قد بذلت خلال فترة حكم الإسلاميين في مجالات البنية التحتية ، ومد شبكات الاتصال الالكتروني إلى جانب حسن التحكم في الطاقة ، إذ بالرغم من الحرب الأهلية والحصار الدولي على السودان ، وحتى قبل اكتشاف النفط ، لم تحصل في البلد أزمة محروقات بل بقى البنزين متوافر للجميع . كما تم ربط الخرطوم بعدد من الطرقات السريعة التي سهلت توثيق العلاقة بين العاصمة والمدن الرئيسية في الشمال. ولكن مع ذلك فان الغلاء بدا واضحاً في أكثر من قطاع، فقد اضطررت أن أشتري كتاب الدكتور حسن الترابي الأخير ( الحكم والسياسة) بـ25 دولاراً، وذلك في بلد يشكو من قلة المطالعة وعدم الإقبال على الكتاب. إضافة إلى أن علامات الفقر الشديد لا تزال بارزة للعيان في أكثر من زاوية والفوارق الاجتماعية بين الفئات السودانية أصبحت أكثر وضوحاً وفجاجة. ما يلفت النظر في السودان هو العلاقات الخاصة جداً القائمة بين نخبه ورموزه : هم يلعنون بعضهم بعضاً صباح مساء ، وفي جميع أيام الأسبوع كما أنهم يتبادلون التهم ، وتتغير تحالفاتهم بسرعة. وقد يتآمرون ضد بعضهم البعض. وفي مرات عديدة قد حملوا السلاح ضد بعضهم البعض. وأسسوا المليشيات وتحالفوا مع الأجنبي ضد السلطة المركزية. لكن ما أن يصاب أحدهم في عزيز له أو يموت له قريب، حتى تتوقف المعارك السياسية وتتم إعادة السيوف إلى إغمادها، ويتوجه جميعهم إلى من حلت به المصيبة ليعزوه، أو يساندوه ويخففوا عنه مصيبة الموت ، وما أن يسدل الستار على تلك الحادثة حتى يعود كل منهم إلى موقعه السابق في المعركة من أجل استئناف الاقتتال السياسي . مثال على هذا المشهد المتكرر في السودان عشته خلال إقامتي هناك الأسبوع الماضي . لقد بلغني وفاة زوجة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي فذهبت إلى موكب العزاء، نظراً لعلاقة جمعتني به ولا تزال على أكثر من صعيد، إذ نشترك معاً في تنشيط شبكة (الديمقراطيين بالعالم العربي) التي تأسست قبل ثلاث سنوات في الرباط. وجدت نفسي في حديقة واسعة لمنزل كبير وجميل، حيث كانت تتوافد الجماعات بوتيرة لا تتوقف وهناك حدثني أحد المحامين الكبار أنه خلال عملية الدفن تجمعت كل وجوه القوم ، بما في ذلك رئيس الجمهورية (عمر البشير) الذي بدا عليه التأثر إلى حد البكاء ، ونزل بنفسه مع أفراد الأسرة ، حيث القبر لينثر التراب على الفقيدة التي يبدو أنها كانت تتمتع باحترام الجميع، والمعلوم أن الجنرال البشير هو الذي استعان به الدكتور الترابي ليطيح بالحكومة الديمقراطية المتهمة بالضعف والتي كان يقودها الصادق المهدي. يُتهم الحزب الحاكم (حزب المؤتمر الوطني) من قبل كل الفصائل المعارضة بأنه يحتكر السلطة ويحارب الأحزاب ويضيق على الحريات العامة , لكن مع ذلك توجد في السودان حريات لا تتوفر في دول عربية عديدة فليس من النادر أن يتعرض الحزب الحاكم وقيادته لهجوم كاسح في الصحف والدوريات المحلية. كما تستعد جميع الأطراف لخوض انتخابات يتوقع البعض أنها ستعيد تشكيل الخريطة السياسية بشكل واضح ، وان استبعد بعض هؤلاء أن تؤدي هذه الانتخابات إلى انهيار كامل للحزب الحاكم وسلطة البشير. وهو ما يسعى إلى تحقيقه الدكتور الترابي وحزب المؤتمر الشعبي الموالي له، فهذا الأخير يريد أن يتخلص ممن أوصلهم إلى الحكم لكنهم انقلبوا عليه وسجنوه ودفعوه إلى خارج السلطة ، وتلك قصة مثيرة قد نعود إليها في مقال آخر.
____________________ الزارعنا غير الله ، اليقلعنا.
|
|

|
|
|
|