مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-14-2025, 10:52 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-22-2008, 07:05 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة

    في أواسط التسعينات انتهيت من تنقيح هذه الرواية وحفظتها بين ردهات الكمبيوتر .... الكمبيوتر وقتها كان ( بنتيوم ون ) والآن تغيّر كمبيوتري بالإحلال والإبدال إلى ( بنتيوم 5 ) غير أن الرواية ظلّت على حالها .
    لم يشأ الله لها أن تنشر وربما لسرعة تغيير الأوضاع منذ كتابة الرواية وحتى الآن .
    وبالأمس وجدت في نفسي الرغبة العارمة لنشرها على ردهات ( سودانيز أونلاين ) لم أحاول تنقيحها من جديد ولم أغيّر فيها حرفا ليقيني بأن الأصل هو الأصدق .
    وأتمنى بنشرها في عكاظنا العظيم ( المنبر ) أن يستمتع بها أشقائي سكان وزوار حوش بكري الكبير الرحب وأن يشرفونني برأيهم فيها مع جزيل شكري وامتناني
                  

02-22-2008, 07:08 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    الإهداء

    إلى صاحب الحوش والقلب الكبير الأستاذ / بكري أبوبكر ..... إلى كل البورداب وكل زوار الموقع .....




    إلى كل السودانيين بمختلف ألوان طيفهم... أهدي هذا الجهد المتواضع



    عبدالدين سلامه
                  

02-22-2008, 07:17 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    وهكذا خرج يتلوّى بين الطرقات وعقله يعمل بسرعة كنار متأججة أضيف لها البترول في الوقت الذي يذهب فكره ويأتي دون أن يراوح مكانه ؛ غير انه لم يكن في وضع يسمح له بالتركيز حول نقطة واحدة.
    حاول عبثا حصر أفكاره في نقطة واحدة ؛ ولكنه كان كقبضة رماد ذرّت في فضاء يوم عاصف...رباه... يا الهي مال البال لا يستطيع الأستقرار على شي واحد؟؟؟ ها هو ذا البؤس قد بلغ منه مبلغا عظيما؛ وملابسه البالية التي إرتداها هذا المساء حاول التأنّق بها فلم تنل منه درجة الرضا... ربما يكون جسمه كجسم ذلك الرجل الذي يتقدمه على الطريق؛ يغطيه دون تناسق كحديقة ترك البستاني لأشجارها العنان فأورقت وبدت كثيفة.
    وتأمل الرجل مرة اخرى فوجد حشو القميص داخل البنطال يبدو مضحكا فالرجل ضخم من الأعلا نحيل من الأسفل... ربما يكون مثله فهو لم يهتم من قبل بتحديد تفاصيل جسده؛ وكل مايعرفه عن نفسه ذلك الوجه النحيل المجرود اللحم والعينان الصغيرتان القابعتان أعلى الرأس كعيني الضفدع.
    لكم شعر بعقدة شديدة من دمامته للدرجة التي كانه يواري فيها وجهه عن الناس خجلا حينما يشرع في التحدث إليهم... وكم ضاق عن رؤية تفاصيله غير المعبرة في المرآة فلم يهتم بالوقوف طويلا أمامها كما يفعل الكثيرون... وحاول أن يتخيل نفسه بملابس الحج تارة وبالبدلة ورباط العنق تارة اخرى .
    قادته قدماه بمحاذاة كافتيريا صغيرة تصاعد منها الدخان فملأ الجو برائحة الشواء... وأصدرت بطنه عدة إحتجاجات مسموعة ولكنه كبت جماح إشتهائها سريعا ؛ ومضى متحاشيا النظر ناحية الكافتيريا حتى لا يرهق تفكيره بما لا يستطيع طالما أنه لا يملك ثمن ساندويتش الشاورما وواصل سيره دونه التفاتة حتى بلغ مطلع الشارع الخالي تماما من المارة... وفجأة مرقت أمامه سيارة (مرسيدس) آخر موديل تقودها فتاة بيضاء مليحة الشكل وقد تعالى من داخلها صوت موسقى أجنبية صاخبة.
    ود صاحبنا لو أنه كان يحب الموسيقى أو على الأقل يجيد اللغة الإنجليزية ليفهم معنى ما يترنم به المغني الذي كانت الفتاة التي تقود سيارتها على مهل تجاريه في التغني به ؛ ولكنه كبت هذه الأمنية ايضا.
    وانسرقت من صدره زفرة حادة وهزّ رأسه بحركة لا شعورية وإلتفت ناحية الفتاة دون أن يتوقف حتى تجاوز السيارة التي سبقته بالتوقف أمام إحدى البقالات وزمرت ببوق مزعج فسارع البقّال الهندي نحوها وتحدثت اليه قليلا...
    خمن صاحبنا انها تريد شراء زجاجة بيبسي؛ ربما؛ أو حتى علبة سجائر... المهم انها تريد شراء شيء.
    وقفز تفكيره فجأة وبلا مقدمات متجاوزا الواقع إلى عقل الخيال ؛ ماذا لو أشارت تدعوه للركوب معها ؟؟؟ وتخيّل المسألة قد حدثت بالفعل ..... فكّر قليلا ثم قبل أن يركب معها بعد إلحاح وتوسّل ... وما أن إستقر بداخل السيارة الفارهة ذات المقاعد الوثيرة والهواء البارد المنعش الممزوج برائحة العطر حتى طلبت منه بدلال وغنج مرافقتها لشقتها الخاصة .... تمنّع قليلا ثم وافق ؛؛ وإقتادته إلى شقة أنيقة ليذوب معها في وهج المتعة الشيطانية المحرّمة بعد أن تعشّيا عشاءا فاخرا ؛ ومن ثم أنقدته بعض الدراهم وودعته على أمل بلقاء يومي ... ووظفته بعد ذلك في شركة من شركاتها الكثيرة فأصبح مديرا للشركة بين عشية وضحاها وعشيقا لصاحبتها التي إشترت له مجموعة من البدلات الأنيقة الفاخرة والملابس الوجيهة ومهّدت له لعمل إقامة في جوازه ؛ ثم ذهبت به لمديرية المرور فحصل على رخصة قيادة وسيارة فاخرة كتلك التي تملكها عشيقة الخيال .
    و لم يسعفه الوقت لإكمال الخيال بعد بلوغه المقهى فقرر تأجيل تفاصيله ليعينه على النوم فيما بعد .
    وعلى المقهى وجد أصدقاء السمر اليوميين ؛ بعضهم شغل وظائف صغيرة وبعضهم لازال يعاني مثله منذ سنوات من الوقوف على أرصفة إنتظار الوظائف بيأس مرير قاتل ؛ فهذه هي السنة الخامسة من الجلوس على هذا المقهى الصغير ؛ يشربون الشاي ويختلقون المواضيع ويلعبون الورق قبل أن ينفضّ سامرهم عند إنتصاف الليل ليختلي كل منهم بمشاكله وهمومه .
    كان المقهى كما جرت العادة مكتظا برواده الدائمين الذين تكوّموا في مجموعات متناثرة ... حيّاهم بحرارة ثم سجل إسمه في دفتر (الكوتشينة ) منتظرا دوره في اللعب .
    جلس يرقب اللاعبين الذين إنهمكوا في اللعب والترنّم بعبارات سافرة طالقها الحياء ؛؛ وإنشغلوا حتى عن ردّ التحية لقادم يرميها لهم .
    ورمى محمود ورقة ( الآس ) فصاح أحمد بصوت عالي :-
    :- خمسين
    وجذب الورقة بطرف أصبعه الوسطى جذبة عنيفة ضاغطا عليها بشدة فتبعثر كل الورق ودوى لجميع بالضحك وإنهالت التعليقات .
    شعر صاحبنا بإمتعاض وقد إقتحمه إحساس غريب في تلك اللحظات .... يالهم من أغبياء ... إنهم يضحكون بلا مبالاة وكأنهم لايملكون من الدنيا سوى الضحك ...
    وخجل من نفسه بعدما تخيّل كونه غارقا مثلهم في لعب الورق دافنا في صدره جبال الهموم التي ناء بحملها طول السنوات الماضية ولايزال .
    أحسّ الورق في تلك اللحظات كذبة كبرى يسكّن بها الحاضرون واقعهم المرير لساعات قبل أن يقتحمهم ذلك الواقع بمجرد الإفتراق.... إنه هروب الضعيف الجبان فاقد كل الأسلحة والحيل ...
    وأحسّ برغبة ملحة في البصق على وجوههم ؛؛ ولم يتمالك نفسه فنهض واقفا وأدار لهم ظهره بعدما وجّه نحوهم نظرة إحتقار ..
    دهش محمود من تصرّفه الشاذ الغريب فسأله بإستغراب :-
    :- إلى أين يا نعيم ؟؟
    ردّ دون أن يكلف نفسه عناء الإلتفات نحو الوراء :-
    :- سأعود بعد قليل
    في الحقيقة كان نعيم يدرك بأنه لاينوي العودة ؛ وربما لن يعد مطلقا إلى لعب الورق ولا لشلته تلك على رصيف المقهى ؛؛ ولكنه قال جملته على سبيل المجاملة ومن ثم تحرك متثاقلا من مكانه على غير هدى يجوب الشوارع وكأنه يعرف طريقه جيدا.

    ونواصــــــــل
                  

02-23-2008, 06:50 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    ومرّ أمام مقهى آخر تجمّعت فيه أكوام الناس بإكتظاظ ملحوظ وقد توجّهت أنظارهم صوب المرئي الذي كان يعرض مباراة في كرة القدم ؛ وتناهى إلى مسمعه صياحهم المصحوب بالتصفيق الحاد وكأنهم يعيشون بكوكب هستيري تحكمه شريعة اللاوعي .... وصاحوا بصوت واحد منفعل :-
    :- جول.. هدف
    وصوت لمعلّق الرياضي المنفعل مع مجريات المباراة واصفا مع الصورة المعادة المتكررة جماليات الهدف وكيفية تمرحله وولوجه الشباك وقد تقمّصته هو الآخر حالة الصراخ والإنفعال لدرجة البكاء .
    هزّ نعيم رأسه بلا مبالاة وهو يقول في سريرته :-
    :- يالهم من أغبياء ؛ وياله من غبي ذلك المعلّق ؛ لماذا يتعب نفسه بالوصف طالما الجميع يتابعون بأعينهم ماحدث معادا لأكثر من مرّة ؟؟؟
    هزّ رأسه وكتفيه مرة أخرى ثم تابع سيره حثيثا لايدري إلى أين حتى إنكشف أمامه شاطىء البحر.
    وإستمر في السير بمحاذاة المياه التي تكر وتفر أمامه بينما تلوح من بعيد أضواء سفن متحركة وكأنها قرى مضيئة على الجانب الآخر من الشاطي .
    فكّر في أولئك البحارة الذين يقضون جلّ وقتهم خارج اليابسة ... لاشك أنهم يملكون عالمهم الخاص المختلف كليا عن عالم اليابسة ؛ فهو لم يسبق له ركوب البحر ولا حتى مجرد رؤية سفينة من الداخل ؛ ولكنه تخيلها مدينة كاملة تعمر بالمراقص ومباهج الحياة ….. لقد ركب بخياله عشرات السفن من خلال قراءته ل (موبي ديك ) و( جريت إكسبكتيشن ) و( حول العالم في ثمانين يوما ) ورحلة إبن بطوطة والسندباد وغيرها… وما شاهده في الأفلام السينمائية المختلفة ؛ ولكنه لم يركب البحر أبدا في الواقع ..... لابد أن تكون حياة البحارة نتفا من المتعة الدائمة .
    وقفز عقله إلى كلمة المتعة وما تعنيه من معان وأحاسيس ؛ فهي بالنسبة له تعني معنى كبيرا لم يتمكن من تحديده .... هو مولع بالنساء فهل المتعة عنده تعني جسد إمرأة أم أنها تعني الشهوة التي ظل لاهثا وراءها فاقدا كل أدواته دون أن ينال منها ؟؟ أم أنها كلمة مطاطية ؟؟؟ فأولئك الزملاء العاطلين عن العمل يجدون متعتهم في الجلوس لبعضهم ولعب الورق وقد لايجدونها في غير ذلك ؛ لكن يانعيم هل ما يجدونه في اللعب متعة أم لذّة ؟؟ وما الفرق بين المتعة واللذة ؟؟؟
    وقفز تفكيره المضطرب مرة أخرى فاستذكر ذلك الخيال الذي إبتدأ برؤيته تلك الفتاة المليحة المدللة صاحبة ( المرسيدس ) وإنقطع بوصوله تلك الثلة الغافلة ؛؛ هكذا يجب أن يسميها ؛ والأفضل ثلة الأغبياء ... إرتاحت نفسه للتسمية وإبتسم كأنه إكتشف عبقريته في إيجاد المسميات .
    إنهم لا يمارسون عملا نافعا ولايفيدون المجتمع في شيء وكل همهم اللقاء بذلك المقهى كل مساء للمسامرة ولعب الورق والتحدّث في غيرما موضوع مرتب ؛ يتناولون غيرهم بالغيبة والنميمة التي إستشرت بينهم فوجدوا فيها نوعا من المتعة المزاجية الخاصة التي تقرّب بينهم وتوفر لهم مادة دسمة يتناولونها في جلساتهم …. وإمتدت بهم النميمة لتتآكلهم أنفسهم ؛ فالغيبة مثل النار تأكل صاحبها أن لم تجد ما تأكله ؛ فما أن يدير أحدهم ظهره حتى يتناوله الباقون بالغيبة والنميمة لدرجة أن أغلبهم فضّل البقاء دائما حتى إنفضاض السامر ليسلم من ألسنتهم ... ورغم ذلك كانوا يهرعون إلى المسجد عند كل آذان يصلّون وراء الإمام ويستمعون لخطبه التعليمية الإرشادية بكل إهتمام ؛ ولكنهم يسمعون بقلوب غلف وآذان أوقرها الله عن السمع فيخرجون من المسجد ليغتابوا الإمام الخطيب إشباعا لتلك اللذة التي غدت مرضا مستعصيا لم يحاولوا الفكاك منه .
    وبدأ عقله يستعرضهم الواحد تلو الآخر ... ومرّ من خلال شاشة البال أولا محمود ؛ ذلك الشاب النحيل المستطيل الوجه والذي لايملك نصف درهم يشتري به كيس ( النسوار – الصعوط ) ليقضي يومه به ؛ يتصرف دائما خارج حدود اللباقة والأدب والإتكيت .
    كان عاديا عنده أن يبصق أمام الناس حتى لو كانوا يأكلون ؛ ولا يتحرج من التحدث بمفردات نابية تنفر منها الآذان ؛ و كان دائما يسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية؛ فقد عمل قبل قدومه من البلاد( مساعد سائق ) في لوري يملكه أحد الأثرياء لفترة من االوقت ؛ ثم تابع شلليات المنحرفين فتعلم فنون السرقة والنشل قبل أن يحمله أبوه لإحدى خلاوي القرآن الكريم حيث تعلم بعض السور القصيرة وتاب عن السرقة ؛ ولكنه لم يصبر على التعليم فهرب من تلك الخلوة قبل إكماله حفظ ( جزء عم ) ثم دخل سوق الله أكبر ليعمل بائعا للفواكه والخضروات بالتجزأة قبل أن تنتقل به الأقدار إلى مرافيء المهجر الذي أتاه ليقول عنه الناس ( مغترب ) وينظرون له بإحترام فجمعته الغربة مع هذه الثلة التي نال أغلب أفرادها قدرا لا بأس به من التعليم ؛ وإنصهر معهم بعدما تكسّرت كل آماله بإيجاد وظيفة على شواطيء واقع مرير .
    وكان في البداية ينظر إليهم كمتعلمين بنظرة فيها الكثير من الفوقية والتهويل العقلي والإجلال والإكبار ؛ ولكنه ما أن إنصهر بينهم وإكتشف معادن بعضهم حتى تحطم ذلك الجدار وبات ينظر لنفسه نظرة المساوي لهم في كل شيء ؛ ولم يعد يحفل بإستفزازاتهم ونظراتهم الإستفزازية والإستصغارية التي أذابتها محنة تساويه معهم في مجال البطالة وركوبه معهم قاطرة الحاجة .
    أما عادل ؛ ذلك الشاب المكتـنز ذو الضحكة المزعجة التي تنبعث من بين شفتيه الضخمتين كهدير البحر بمناسبة وبغير مناسبة حتى يخال لمن يراه بأنه يعيش بلا هموم ؛ كان هو الآخر عاطلا عن العمل بعد أن جاء من البلاد يحمل آمالا وردية تنقله من تلك الحالة التي تمرّد عليها داخل الوطن بعد عمله موظفا صغيرا في وزارة الأشغال عقب إكماله المرحلة الثانوية ؛ كان شابا لعوبا غير مبال بشيء ولا يعرف من الدنيا غير المتعة ؛ فهو أخ لثلاثة أكبرهم طبيب والثاني مهندس والذي يصغره بعامين تخرج لتوه من كلية الحقوق بعدما تعثّر قليلا في مراحل الدراسة .
    وسمير ذلك الشاب الفاره الحاد المزاج والذي نشأ مدللا للدرجة التي أفسدت أخلاقه فأصبح تعامله مع الآخرين لايطاق كان مغرورا جدا ميّالا للنساء ولايتحرّج من جرح مشاعر الآخرين ؛ فقط تحكمه المصلحة التي تنبني عليها علاقاته الهوائية ؛ يصالح من يحس بمصلحته معه ويثور وينقلب عليه ما بين غمضة عين وإنتباهتها ؛ وفي أعماقه مرض نفسيّ خلّفه في الماضي موت محبوبته بداء السرطان ؛ وكانت الشلّة تخشى شروره وتتحمله على مضض فقد أكمل تعليمه الثانوي ولم يشأ اللحاق بركب زملائه وولوج التعليم الجامعي وإكتفى بالشهادة الثانوية التي نالها بعد جهد جهيد وبتقدير أقرب للسقوط .
    وإسماعيل ؛ ذلك الشاب الملتحي ذو الكرش المنتفخ والعدسات الطبية كان من نوع آخر فقد عركته الحياة وتاه في أغوارها بعد تخرجه من المرحلة الثانوية ؛ فقد عمل في حقل الميكانيكا والتجارة والنجارة قبل أن تجرفه الأقدار إلى عمق الغربة التي عمل بها في إحدى ورش الميكانيكا التي توقف عنها بعد خوفه من مداهمات التفتيش العمالي ففضّل الجلوس على كراسي المقهى مع أولئك التائهين الضائعين .
    وبقية أفراد الثلة لايعرف عن ماضيهم شيئا ؛ فكلهم يدّعي أنه متعلم جدا ومن أسرة كبيرة جدا وأرستقراطية جدا وكأنما السودان كله وعاءا للأسر الأروستقراطية الكبيرة صاحبة الشأن ... ومنهم من إدّعى بأنه لعب في أشبال الهلال والمريخ والموردة وغيرها من الفرق الكبيرة الشهيرة ؛ ومنهم من إدعى شغله وظيفة مرموقة في مكان ما من البلاد .
    كانت الغربة عند هذه الشلة حائط مبكى يتباكون فيه أكذوبات زائفة ينسجونها حول أنفسهم ويصدقونها ولا يفترون عن التسبيح بمجدها الخيالي الزائف .
    أما نعيم فيختلف تماما عن ثلته ؛ فهو يملك أسلوبا جذابا في الحديث والإقناع ؛ ويعتنق مفاهيم يحب فيها غرابتها وتطرّفها ؛ وما كان يفهم نفسه أو يهتم بذلك ؛ وكثيرا ما يفعل أشياء دون دوافع أو ترتيبات مسبقة ولكنه يعتمد على اللحظة والظروف ليخلقان كل شيء ويرسمان كل طريق ؛؛؛ فقد بدأ حياته متعثرا فقد فيها والده وهو لا يزال في التاسعة من عمره ؛ وإنتقلت والدته إلى جوار ربها حينما بلغ العاشرة ؛ وعاش مع أخيه الأكبر عند خالته التي لم تنجب فإهتمت بتربيتهما وتعليمهما حتى تخرج أخوه من كلية الطب بينما توقف هو عند المرحلة الثانوية التي ختمها بنجاح ؛ ولم يفكر في دخول الجامعة بعد وفاة خالته وبقي عاطلا عن العمل معتمدا في مصروفه على ما يرسله أخوه الأكبر من مهجره حتى جاءته منه تأشيرة الزيارة فهاجر إلى بلاد الغربة حيث صدمته الظروف بعدم وجود وظيفة .
    كان يرى في نفسه شيئا مختلفا ؛ فهو يملك عقلية سبقت عمره بكثير وطموح يفوق الحدود ومقدرة خارقة على الإقناع والجدل ؛ وكان رغم نحوله قويا كالثور لم يعرف الخوف إلى قلبه طريقا ؛ جريئا يحب المغامرات ويعشق الأهوال والأخطار ؛ لايهمه أن يجد طعاما بالبيت أو يبيت جائعا ؛ ويكون جيبه ممتلئا بالنقود أو خاويا ؛ فكل الأشياء والحالات تبدو أمامه متشابهة ؛ ولكنه كان يكره البطالة في قرارة نفسه لا لشيء سوى أنها تشعره بالملل.
    وهزّ رأسه مرة أخرى وهو يدندن بمقاطع من أغنية قديمة لايدري كيف تذكّرها في تلك اللحظات ولا السبب الذي دعاه للتدندن بها ؛ يعتوره ذلك الإحساس باللذة الغامرة .
    وأطل دون مقدمات وجه خالته المتوفية فقرأ في سرّه الإخلاص ثلاثا وهبها لروحها لاالطاهرة الطيبة ... وتذكر زميله سليمان الذي شاطره الدراسة بالصف الثالث الإبتدائي منذ أكثر من عشرين عاما ولا يدري لماذا تذكره ولا كيف تذكر أستاذ حامد وملعب كرة القدم والمدرسة المتوسطة وعفاف تلك الفتاة البريئة التي رفضته حينما عرض عليها حبه وهو لايزال فتى غر ...
    همهم بكلمات لايدريها ثم نظر إلى ساعته دون أن يحدد كم أشارت إليه من الوقت وهزّ رأسه ثم غفل راجعا إلى المنزل .
    فتح الباب بمفتاحه الخاص وعرج مباشرة نحو المطبخ فلم يجد غير الخبز اللبناني الخالي من اللب وقليل من الفول المصري المطبوخ بعناية خاصة ... حمل الرغيفة الدائرية بين يديه ووقف قليلا يتأملها ثم هزّ رأسه وهو يفكر في كم تشبهه هذه الرغيفة ؛ فجسمه المجرود اللحم يماثلها تماما .. ولكنه طرد عن ذهنه هذه الفكرة متعللا بعدم جواز المقارنة بينهما فهي أفضل منه نفعا بتأديتها خدمات متعددة لبائعها وشاريها وآكلها ... إستسخف الفكرة ؛ ونشب فيها أصابعه بقوة ثم قطعها وملأها بالفول وبدأ المضغ بلا إحساس فقد كان يأكل بلا رغبة ولكنه مع ذلك يأكل بنهم شديد وكأنه غاب فترة طويلة عن الطعام .... فتح الثلاجة وتناول زجاجة المياه لمعدنية الباردة وشرب بفوهتها وإنصرف إلى سريره .
    لم يفكر في الضغط على زر الكهرباء لإضاءة الغرفة فقد كان يحفظها جيدا ؛ سريران يتقابلان ببلاهة وخزانة الملابس في الجانب المعاكس بينما الطاولة الصغيرة التي يضع عليها بعض أغراضه تنتصب بينهما مستندة على الجدار وفوقها تعلّقت ( آية الكرسي ) تقابلها ساعة حائط أثرية قديمة بجانب لوحة لطفلة حزينة تنحدر من عينيها الدموع .
    خلع بنطاله وقذفه تجاه السرير المقابل ثم ألحقه القميص وتمدد على السرير الآخر ... فكر في فتح الراديو والإستماع لإحدى الإذاعات ولكنه عدّل عن ذلك وفكر في تشغيل الكاسيت والإستماع لأغنية سودانية ؛؛ حاول النهوض لإنجاز ذلك ولكنه عدل عن رأيه بعدما تكاسل .. تمدد على السرير وأغمض عينيه .
    وإستدرك ذلك الخيال الذي إختزنه للتحايل على النوم فرآها تلك المدللة في شتّى صورها ؛؛ مطيعة تحبه لدرجة العبادة وتجري الفلوس بين يديه فتكبر الشركة ويجيئه شيخ عجوز ممزق الثياب حافي القدمين يسأله لقمة تسكت صيحات البطن وتسد الرمق ؛ فينفحه دون تردد شيئا من المال ويهديه العجوز خاتما صغيرا ما أن يضعه على سبابته حتى تتغير هيأته فيبقى بجمال سيدنا يوسف عليه السلام ويتحدث كل لغات العالم كسليمان عليه السلام ويلين له الحديد كداوود عليه السلام ؛ ويركع الجميع تحت قدميه وينال من كل النساء ويبقى معبود الجماهير وتكبر مكانته فينتخبونه رئيسا للبلاد وتحدث في عهده المعجزات وتتغير الأوضاع فيبدأ محاربة وإحتلال الدول العظمى فينتصر عليها ويحكم العالم .
    وتخيّل نفسه يخطب في أجهزة الإعلام والجماهير الغفيرة تتزاحم كي تراه ؛ فهو الرجل المعجزة ذو القرارات المصيرية الصعبة التي لا تقبل المساومة ؛؛؛ وتخيّل أولاده ؛؛ فهاهوذا يتزوج أجمل جميلات العالم وينجب توأمين ذكور آية في الجمال والفهم والرجولة والجاذبية ؛ وفي السنة الثانية توأمين آخرين لا يقلان عن الأولين ؛ وبعدهما بنت ؛ ثم توأمين وتوأمين .
    فريق كرة القدم كله من أبنائه .. وهاهم في عام واحد يصارعون أدغال إفريقيا ويتأهلون لنهائيات كأس العالم .. أول مباراة مع إيطاليا ويجرّعونها مرّ الهزيمة ؛ ثم ألمــانيا والهوليجينز وفرنسا والبرازيل والأرجنتين ... هاهم يحملون كأس العالم ويقدمونه هدية لوالدهم ..
    إبنه الأكبر صنع القنبلة النووية والجرثومية والعنقودية فأرعب العالم بينما قام توأمه المتخصص في الإتصالات بصنع محطة تلفزيونية إعجازية طغت على كل القنوات الأرضية والفضائية .
    وإستمر الخيال في سفره به حتى إفتقد التركيز وبدأ يتداخل في بعضه متأرجحا بين الحقيقة الخيالية واللاحقيقة وقد بدأ النوم يدب في أعضائه ويسرق كل آيات الوعي والإرادة شيئا فشيئا حتى إستولى عليه تماما .

    ورأى في الحلم نفسه أمام قصعة عسل شرب منها قليلا ثم تحول طعم العسل عند الجرعة الثالثة لحنظل مرير ما أن إجترع منه حتى بدأ يتلوّى من الألم ويتمرمغ في التراب حتى هوى إلى قبر سحيق .
    وبدأت الأحلام والكوابيس تتداخل وتتشتت وتتناقض حتى الصباح ؛ فإستيقظ متكاسلا قبل شروق الشمس ؛ وإغتسل جيدا ثم إرتدى ثيابه وحمل المظروف الكبير الذي تعود حفظ وثائقه به وإلتقط الورقة المالية التي إعتاد أخاه تركها على الطاولة لتعينه على المواصلات في رحلة بحثه عن العمل ؛وتحرك خارج المنزل بينما زوجة أخيه وأولادها يغطون في نوم عميق وقد أغلقوا عليهم حجرتهم من الداخل .
    ما أن إجتاز عتبة الباب الخارجي حتى تذكر بأنه لم يشرب الشاي ولم يأكل شيئا قبل خروجه ؛ وهم بالرجوع ولكنه تكاسل وواصل سيره على الأقدام .

    ونواصل..........................

    (عدل بواسطة ABDELDIN SALAMA on 02-23-2008, 06:55 PM)

                  

02-23-2008, 06:57 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    بدأ ذهنه المضطرب يعمل من جديد فحاول إكمال الخيال المنقطع في ليلة الأمس ليعينه على قطع المسافة بينه وبين المكان الذي يقصده ولكنه طرح المسألة جانبا وقـرر تشغيل العقل الواعي وإخـتزان اللاواعـــي لما بــعد كمخزون يخوض عبره معركة الهروب من الواقع المرير الذي يعايشه ؛ فالبلاد لم يرها منذ مغادرتها ولن يتمكن من ذلك طالما أنه لايملك إقامة شرعية ؛ والبقاء هنا قد يكلفه سنوات أخرى من الضياع ؛ ومحاولة السفر قد تكلفه هي الأخرى أياما بالسجن إضافة للغرامات وخاتم في جوازه يمنعه دخول الدولة لفترة طويلة ....و ماذا يفعل لو عاد للبلاد ؟؟؟ الإنسان في كل مكان أصبح مجموعة من الأوراق .. شهادة دراسة وخبرة لتقييمه ؛ جواز سفر يحدد هويته ؛ بطاقة عمل تنقذه من التفتيش العمالي ؛ بطاقة صحية تقيه هموم المرض وتضمن علاجه ؛ بطاقة بنك ؛ رخصة قيادة وملكية سيارة ؛ شيك بلا رصيد يرميه في السجن ؛ وصل أمانة يوقفه بين يدي القاضي ؛ عقد إيجار ؛ عقد عمل ؛ ؛؛ كلها أوراق في أوراق تبقى شخصية الفرد في هذا الزمن الغريب ؛؛ وهو لايملك شهادات تؤهله للعمل الحكومي ولا المال الــذي يعيـنه على العمل الحـر ؛؛؛ وماذا سـيقول عنه النـاس لـو عـاد خالي الوفاض خالي اليدين بعد كل هذا العمر المهجري الضائع ؟؟؟ ولو بقي ماذا سيفعل ؟؟؟ هو لايجيد مهنة محددة يتمكن عبرها من مواجهة حاجات الحياة المتزايدة ؛ وقد ملّ حياة البطالة الرتيبة فلماذا لايحاول إقتحام العمل الحر ؟؟؟ لماذا لايفتح كراجا أو مطعما أو حتى مغسلة ؟؟ كل شيء جائز وممكن لولا هذه الإقامة اللعينة التي لم يتمكن من الحصول عليها أبدا .... إنها العقبة التي وقف أمامها حمار شيخ أفكاره ....
    وقرر عدم شغل باله بتلك الأفكار والتساؤلات المفضية للاشيء والتفكير بلغة الواقع والإمكانيات ؛ فلماذا لايفكر في سرقة بنك مثلا ويتخلّص من كل الهموم ؟؟؟ ضحك دون شعور منه ... سرقة بنك ؟؟!!! يالها من فكرة مجنونة ويالك من رجل خيالي يا نعيم ؛ فأنت أجبن من أن تسرق قطعة خبز ناهيك عن مصرف تحميه الشبكات الميغناطيسية والكمبيوترية المعقدة ورجال الأمن .
    إرتد به التفكير مرة أخرى لعقلية اللاوعي فتخيّل ذلك العجوز قد لاقاه وأعطاه الخاتم ثم قاده إلى مديرية الشرطة ليعمل بها وإستخرج له الإقامة وخصص له معاشا شهريا ضخما .
    توقف عند بقالة بالطريق قاطعا خياله وإشترى سجائر وزجاجة مياه غازية شربها في حينها وأشعل سيجارة قبل أن يتحرك مواصلا سيره حتى بلغ مقصده .
    كان المكان مزدحما بالمئات الذين يحملون ذات الأظرف المحشوة بالشهادات ينتظرون فرص تقديمها بتلك النافذة لمغلقة ... وتخيّل أن يكون ما وراء النافذة صندوقا كبيرا أعدّ ليبقى مقبرة لتلك الشهادات تواري فـي أعماقها كل سنوات التحصيل الدراسي والخبرة لؤلئك الذين تمنّعت عليهم الأقدار وهم ينشدون عملا حلالا يغنيهم عن مدّ الأيادي ويرفع من شأنهم وأهاليهم ... فيا لهذه الدنيا الغريبة التي تعطي البعض وتحرم الآخرين .
    وإرتد به التفكير مرة أخرى ؛ إنه قانون الحياة الثابت أن تعطي أولئك الذين يريدون الكثير ويطمعون في المستحيل ؛ وتحرم الذين لايأمل الفرد منهم في أكثر من أن يأكل ويشرب ويعيش بكرامة وعزّة .
    وقفزت لذهنه تلك الواقعة التي شهدها في زاوية لليانصيب ؛ وكان السحب فيها على سيارة فاخرة حديثة الموديل وقد تجمع المراهنون لحظة السحب ليفاجئهم الحظ بإبتسامه لأحد أبناء الأثرياء ؛ فلم لم يبتسم لمحتاج مثله ؟؟؟ وحاول طرد هذه الأفكار خوفا من أن تجرفه عن حدوده فالأمور كلها تخضع لقانون القسمة والنصيب ؛؛ ولكن أين زملاء المقهى ؟؟؟ ولماذا لم يأتوا حتى الآن وقد إعتادوا على التبكير بالأتيان كل يوم للدرجة التي أصبح تواجدهم بغرض ملء برنامجهم الصباحي أكثر منه لبحثهم عن لعمل ؛؛ لربما هم الآن غائصون وسط هذا الزحام غير أنه لم يعثر لهم على أثر .
    وقضى نعيم النهار حتى المنتصف دون أن يتمكن من تقديم أوراقه ؛ فقد ظلّت النافذة مغلقة كعادتها ؛ .. أدار ظهره وغفل راجعا إلى المنزل تحمله أفكاره المضطربة وسخطه الشديد وتمرّده الخاسر على الأوضاع .
    ضغط على زر جرس الباب ففتحه أخوه .. يا إلهي .. ما الذي أتى به مبكرا من العمل ولماذا تنبعث من عينيه هذه النظرة الحزينة المهمومة ؟؟؟
    دلف إلى الداخل بعدما حياه بخوف وحذر ... وكانت زوجته تجلس على كرسي كبير وقد إحمرّت عيناها من شدة البكاء ... وبقلب خائف سأل دون أن يوجه سؤاله لأحد :-
    :- هل مات أحد ؟؟؟
    أجابه أخوه بنظرة حزن قبل أن يقول بنبرة مغلوبة :-
    :- لا ؛ لم يمت أحد .. ولكن رزقي هنا قد مات
    وصمت برهة ثم واصل بذات النبرة الحزينة :-
    :- أبلغوني اليوم بالإستغناء عن خدماتي وأن أكون جاهزا للمغادرة خلال أسبوع .
    وإنهار الأثنان وجلسا على كرسيين مختلفين في لحظة واحدة .. فهاهي ذي المصائب تزداد وتكبر ؛؛ فهل سيسافر مع أخوه أم يبقى ؟؟؟ رباه ما العمل ؟؟؟
    وأحسّ بإستياء بالغ وإنقباض حاد فنهض من علىكرسيه وتحرّك صامتا عدة خطوات حتى وصل حجرته ؛؛؛ وتمدد على السرير بكامل ملابسه وأغمض عينيه محاولا تعطيل صوت التفكير .
    قرر أن يرمي نفسه في معمعة الأقدار وليحدث ما يحدث ؛ فهو لايملك خيارا غير ترك الظروف ترسم الأحداث وتهندس الطريق .
    لم يدر كم من الوقت مرّ عليه وهو مستلق على سريره تتنازعه الأحلام المزعجة ؛؛ فقد رأى نفسه بالبلاد وقد وصلها منكسرا حزينا مفلسا نسي أن يحمل معه علبة سجائره وتداخل عليه حلم وجوده في حديقة خضراء زاهية تسكنها مجموعة من الثعابين السامة .
    وأخيرا إستيقظ على طرقات أخيه الخفيفة على طرف السرير بأصبعه ؛ فعرف أن وقت الغداء قد حان ... ونهض بتكاسل وإعياء إلى الحمام لتأدية فروضه المعتادة بعد النوم قبل أن يجلس مع الجميع على مائدة الغداء .
    ودّ لو يكون كطفلة أخيه الصغيرة التي تضحك وتشاغل وكأن الموقف لا يعنيها في كبيرة أو صغيرة ؛ تطلب ثدي أمها وتنهال عليه بنهم ولذة ... غير أن مجلس الغداء كان على غير جري العادة حزينا صامتا يتناول فيه الجميع غداءهم كأنما بالأوامر أو بالإكراه .
    أخيرا شقّ أخوه جدار الصمت قائلا :-
    :- ماذا ستفعل يانعيم ؟؟
    وبغير تفكير أجاب :-
    :- لا أدري
    :- هل سترجع معنا للبلاد ؟؟
    :- وماذا سأفعل فيها ؟؟؟ البلاد تحتاج لمن يعطي أكثر من حاجتها لمن يأخذ.. وأنا لا أملك شيئا أعطيه
    :- وأين ستقيم ؟؟ وكيف ستتمكن من ترتيب أمورك وأنت .....
    ولم يتمكن من إكمال عبارته بعدما أوقفته نظرة نعيم الحادة العميقة المركزة التي أعقبها بإصرار وتحدي لا يدري لهما سببا :-
    :- سأعمل على ترتيب أموري ... فكّر في مصابك يا أخي ؛؛ ولا تشغل بالك بي
    :- ولكنك تبقى جزءا من مصابي يا شقيقي
    قالها بنبرة أخوية صادقة فرد عليه نعيم :-
    :- لاعليك .. لم يخلق الله إنسانا ويهمله ... سيجد لي مخرجا .. أنا واثق من ذلك
    وأكمل عبارته الأخيرة واقفا ثم إتجه بخطوات مضطربة إلى الحمام وغسل يديه وسوّى شعر رأسه وخرج دون أن يلتفت وراءه نحو الجالسين .




    ونواصـــــــــــــــــــــــــــل .......
                  

02-23-2008, 06:59 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    لم يدر نعيم كم مرّ عليه من وقت قضاه في السير ولا أيّ الطرقات سلك للوصول إلى البحر ؛ ولكنه وجد نفسه جالسا على سطح صخرة عاتية تطل على البحر وبصره مركّزا على المدى الذي يخال للمرء فيه أن السماء والبحر يتعانقان ؛ والشمس تقف شاهدا على ذلك العناق وكأنها قديس يؤديان أمامه حركات القداس .
    وإنشغلت جاذبية البحر في معانقة الشمس التي إحمرّت من شدة الخجل وبدأت تتوارى بالزحف رويدا رويدا نحو أحضانه حتى ذابت فيها تماما وإندسّت بداخلها .... وضمّتها أحضان المياه بقوة ليغلق الكون بابه المضيء ويهجم الليل المتخندق في قاع النهار وتختلط نداءات المساجد تحثّ الناس على الصلاة والفلاح . .. وإرتفعت أصوات أبواق السيارات وبدأت أضواؤها في الظهور .
    لم يصل نعيم إلى قرار معين ولم يتمكن رغم محاولاته المستمرة من التركيز وترتيب أفكاره ؛ هل يعود مع أخيه خالي اليدين مكسور الجناح مجرجرا أذيال الخيبة أم يصمد ويتحدّى ويصبر على الوضع المزري الذي يعيشه على أمل تحسّن الأوضاع ذات يوم ؟؟؟ وهل ستتحسّن أحواله ؟؟ ولكن كيف ومتى ؟؟ ومع من سيقيم ؟؟؟ فلا أحد عنده غير أخيه الذي سيسافر ؛ أما ثلة القهوة فمنهم من يسكن مع أهله ومنهم من يعيش عالة على بعض العزّاب .. فلما لا يحاول البحث عن عزّاب يسكن معهم علّه يحتملهم ويحتملونه ؟؟؟ وهزّ رأسه محتارا وتمتم يقول :-
    :- لأترك كل شيء لله ؛ الظروف بلا شك تملك ترتيباتها الخاصة .
    ونهض متثاقلا من مكانه وإجتاز كومة الأحجار وأعطى البحر ظهره متجها نحو المدينة .
    مرّ في طريقه بمسجد صغير بدأالناس يخرجون منه بعد أداء صلاة المغرب فتوضأ ثم دلف إلى الداخل وأدّى صلاته منفردا ثم جلس في زاوية من زوايا المسجد يتلو كتاب الله ‘ قرأ آيات كثيرة فأحس بشيء من الطمأنينة يجتاحه و غادر المسجد هائما على غير هدى حتى وجد نفسه أمام المقهى .
    لم يكن هناك غير إبراهيم الغارق في التفكير وقد قبضت أصابعه طرفا من أنبوب ( الأرجيلة ) بعد أن دسّ الفوهة في فمه وأطبق عليها بشفتيه والشرود يسافر به ربما خارج حدود الواقع .
    حيّاه بكلمات خرجت من شفتيه بلا حياة وجلس بجانبه ... نظر إليه طويلا فمدّ إليه الآخر أنبوب الأرجيلة فإلتقطه وسحب نفسا عميقا جعل المياه تقرقع في إحتجاج صاخب ؛ وأخرج الدخان من فيه دفعة واحدة متماسكة ما لبثت أن تشرذمت في الهواء لتحاصر بكارة البيئة وتهتك سترها وهو يقول :-
    :- أراك تجلس وحيدا يا إبراهيم !!!
    نظر إليه إبراهيم نظرة طويلة قبل أن يجيب :-
    :- وماذا أملك غير ذلك يا نعيم ؟؟؟
    :- وأين بقية القطيع ؟؟؟
    :- لقد طالقهم الخوف عنوة
    :_ ليتني فهمت حرفا مما تقول
    نظر إليه إبراهيم مرة أخرى وتناول منه خرطوم الأرجيلة وجذب منه نفسا عميقا ثم قال والدخان لازالت بقاياه تخرج من فيه وتعم المكان غير آبهة بصرخات البيئة الصامتة :-
    :- لم يعد فيهم من يخاف أنياب التفتيش العمالي
    صرخ نعيم بدهشة بالغة وفغر فاه قائلا :-
    :- وهل وقع المحظور ؟؟؟
    :- إصطادتهم يد التفتيش العمالي أمس عند منتصف الليل وسيتم ترحيلهم إلى الوطن قبل نهاية الأسبوع
    :- إنّا لله وإنّا إليه راجعون
    :- مصير الماء يا نعيم مهما بلغ عنان السماء أن يعود للأرض
    :- ولكنه يعود طائعا وفي موسم الأمطار
    :- الرياح قد تلوي عنقه وتجبره على العودة قبل الموسم
    :- أيّا كانت الأسباب فقد عادت المياه بغير إرادتها
    جذب إبراهيم نفسا عميقا آخر وهو يقول :-
    :- خوفي عليها من صدمتها في إنطمار وضيق مجاريها القديمة
    :- حقا قد لاتسعها تلك المجاري
    :- تكفيها غريزة الإنتماء
    :- لقد بدا المقهى باهتا حزينا يفتقدهم رغم أنهم لا يؤدون عملا نافعا للمجتمع
    :- إنها العشرة يانعيم .. العشرة لاتهون ... وأنت .. ماذا بخصوصك ؟؟
    :- لقد ساءت الأوضاع أكثر
    قالها بحزن من يخاف مصير سابقيه ؛ فرد عليه الآخر :-
    :- سمعت أن أخيك قد جرفه التيار هو الآخر فماذا تنوي فعله ؟؟
    تنهد نعيم طويلا وإلتقط أنبوب الأرجيلة وقرقعها بهستيريا وهو يقول :-
    :- لازلت في حيرة من أمري والأعماق مرجل يغلي
    :- ألم تصل لقرار حاسم حول السفر والبقاء ؟؟
    :- لازال فكري طفل ينطق بالحكمة وكهل يمتهن الأباطيل
    :- لاعليك ففي الوقت متّسع لما يأتي .
    وإفترقا على أثر ذلك الحوار ... غاص صاحبنا مرة أخرى بين الطرقات تحمله تلك الحالة الحادة من التفكير غير المترابط والشتات الذهني ... فهاهي ذي الدنيا أمامه كومة حزن قاتم ... الشمس تبقى حارقة أو هكذا سيراها بعكس أولئك الذين يتغزلون بجمال خيوطها الذهبية وشعاعها ... الجو يحسّه خانقا والدنيا حجرة صغيرة لاتكاد تسعه وقد إنحصر تفكيره في نقطة اللاشيء ؛ وسهمت العيون وأصابت الوجه لعنة الوجوم فبدا كجثة محنّطة تقمّصتها آلية الحركة .
    لم يدر أيّ الطرقات سلك ولا اللافتات التي لقيته على الطريق ولكنه وجد نفسه مرة أخرى وجها لوجه أمام مياه شاطي البحر .
    سرّ غريب ذلك الذي يربط بينه والشاطي الذي بدأ في هذه اللحظات خاليا تماما من الناس ؛؛؛ تذكّر لحظة كان هنا قبل مغادرته إلى القهوة ؛ كانت الشمس تخوض مع الظلام تلك الحرب المحسومة منذ الأزل ؛ ورغم ذلك كانت تقاوم رغم قناعتها بنتيجة المقاومة وتقهقرها المستمر إلى الأسفل ؛ وكان الظلام يبذل قصارى جهده في محاولة الإطباق عليها بكل ما أوتي من قوة قبل أن تنسحب ململمة فلولها وشظاياها لتتماسك وتكرّ من جديد في باكورة الصباح لإلحاق الهزيمة الساحقة بجيوش الظلام في حرب لاتعرف التوقف وحسم المعركة نهائيا لصالح أحد الأطراف ... لقد أصابها خنجر الظلام في مقتل فسقطت في مياه البحر وإنسكب دمها مالئا الفضاء مختلطا برهبة الظلمة معلنا تجديد المقاومة في وقت لاحق .
    وجاء الليل المنتصر لغسل بقايا الدم وزوي الشفق ... رباه .. كل الدنيا حروب في حروب وصاحب العزيمة القوية هو المنتصر .
    لقد قضى يومه مشغول الفكر مضطرب البال ؛ أربع ساعات قضاها مابين الغداء والشاطي كانت فيها الشمس حارقة في عنفوان قوتها ؛ وهاهي ذي الآن تتهاوى وتنهزم وتختفي !!!! هو مثلها تماما يحاول المقاومة ولكن بلا شعاع وحرقة وأدوات ؛ فهل سيكرّ عند الفجر من جديد مثلما تفعل الشمس ؟؟؟
    إرتد به التفكير مرة أخرى إلى ما قد يؤول له الحال وينحدر المصير نحوه .... كان أخاه خير عون وسند ولا يدري كيف ستسير الأمور بعد رحيله .... وأحس بأنياب الوحدة تتأهب لإفتراسه وبنفسه قائدا بلا جيوش وفارسا بلافرس .
    غمرته موجة مياه متحركة كرّت بسرعة فخارت قواها لتذوب في رمال الشاطي ويعود ما تبقّى من فلول إلى حيث أتى ؛ رباه .. كيف تمكن هذا الرمل السهل من تكسير وهزيمة أمواج البحر التي يسهل عليها تحطيم أعتى السفن والبواخر ؟؟؟ وأحسّ بصداع عنيف يجتاحه .. وأطال النظر إلى البحر في نقطة اللامنتهى والتي بدت سوداء قاتمة في جدار الليل لايخترقها سوى أضواء باهتة بعيدة متفرقة لسفن ربما ؛ وأدار ظهره متجها نحو المنزل .
    مرة أخرى لايدري أيّ الطرقات سلك ؛ ولكنه وجد نفسه وجها لوجه أمام المنزل ؛ ضغط على زر الجرس ففتح أخوه الباب فدخل دون أن ينبث ببنت شفه ... وتهاوى على أحد الكراسي بالصالة بينما إرتمى أخوه على كرسي آخر .
    بعد فاصل من الصمت المتعب المشحون بهرجلة الأعماق وضجيجها اللامتناهي سأله أخوه بإشفاق :-
    :- بأيّ برّ رست سفنك يا شقيقي ؟؟؟
    صمت نعيم برهة قبل أن يجيب بلاوعي :-
    :- لقد قررت البقاء ومصارعة الأمواج
    لم يكن أخوه يتوقع هذه الإجابة فقال بدهشة :-
    :- البقاء ليس سوى نتف من المغامرة غير المضمونة ؛ فالبيوت لا تقف بغير أساس
    نظر إليه طويلا ثم أجاب :-
    :- السماء تبقى شامخة رغم وقوفها بلا أعمدة
    :- شتّان ما بين السماء والأرض .. الجاذبية والفضاء .. أعقلها ياشقيقي فليس في الوقت متّسع
    :- لقد قلت رأيي وكفى
    كان أخاه يدرك مدى عناده ؛ صمت طويلا على أمل أن يغيّر رأيه ؛ غير أن نعيم ظل صامتا يفكر في لاشيء .
    وأخيرا أطلق آهة طويلة مشحونة بالغلب والعذاب والإحتيار ... ونهض من مكانه متثاقلا ودخل حجرته وإرتمى بكامل ملابسه على السرير وغطّ في نوم عميق .
                  

02-23-2008, 07:02 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)


    إستيقظ نعيم من نومه وقد أسدل الليل ستائره وبدأت الظلمة تعم الكون ... نظر إلى ساعة الحائط فوجدها تعانق الثامنة إلا خمس دقائق فنهض متثاقلا من على السرير وذهب إلى الحمام ؛ وقبل أن يبلغه سمع صوت رنين جرس الباب ... دهش للحظات ولكنه أفاق بسرعة من دهشته وإتجه نحو الباب وفتحه .
    وتسارعت دقات قلبه حينما أطلّ من وراء الباب وجه إمرأة ؛ حيّته وقالت سائلة :-
    :- سمعت بأن سكان الشقّة قد رحلوا فهل هي معروضة للإيجار ؟؟؟
    نظر إليها برهة ثم قال بعد أن جال بباله خاطر :-
    :- ليس كلها ولكن بعضا منها
    :- أتعني الإيجار بنظام الغرف ؟؟؟
    :- بالضبط هذا ما أعنيه
    :- وكم غرفة توجد بالشقة ؟؟
    :- ثلاث غرف فقط
    :- وهل يسكن معك أحد ؟؟
    :- لا أحد
    :- هل لي بإلقاء نظرة على الغرف المعروضة للإيجار ؟؟
    تقهقر نعيم قليلا إلى الداخل وأشار لها بالدخول قائلا :-
    :- تفضلي
    ودخلت المرأة ... مرّت بغرفته أولا ثم الغرفة المجاورة التي كانت مخصصة للأطفال وأخيرا غرفة النوم.
    كان صاحبنا يتبعها صامتا متأملا .. إمرأة طويلة ممتلئة الجسم يتدلى شعرها للوراء كمجرى النيل ولكنه فاحم السواد ... خصرها المضغوط إلى الداخل يبيّن محاسن أردافها وصدرها ؛ ورائحة عطر قوية تنسرق منها لأنفه تثير فيه عوالم ساكنة يفتقد معها التركيز ويعيش لحظات الإرتباك .
    ما أن وصلت غرفة النوم حتى غزت عينيها نظرة خوف وإرتباك ... تأملتها جيدا أو هكذا إعتقد نعيم ؛ ثم جلست على كرسي بجانب المرآة .... نظر إلى وجهها من خلال المرآة فكان دقيق الملامح ؛؛ الأنف معتدل والشفتان غليظتان والوجه دائري ؛؛ جمال ملائكي ذلك الذي نطقت به الملامح ؛ وقارن في ذهنه سريعا بينها والموناليزا فكانت صاحبتنا في تقديره إلهة جمال لو رآها ( دافنشي ) لحظة رسمه ( الجيوكندا ) لما تردد في طرد الموناليزا وإجلاسها مكانها دون تردد.
    وتخيّلها ترقد بين أحضانه تغمرها اللذة وتعتري تقاطيعها تلك النظرة الإنهزامية المتزامنة مع زروة النشوة.
    إنتشله صوتها الحالم من ذلك الخيال حينما تمتمت تتساءل :-
    :- كم تبلغ قيمة إيجار الغرفة الواحدة ؟؟
    :- لا يهم .. سنتفق
    :- أنا ياسيدي موظفة أعيش وحيدة بعدما دخل زوجي السجن منذ فترة .

    لم يعلّق صاحبنا رغم إحساسه الخفي بالراحة والسرور وسألها :-
    :- وهل عندك أولاد ؟؟
    :- أجل وهم في مدرسة داخلية
    :- إذا من يسكن معك ؟؟
    :- قلت لك بأنني وحيدة
    وبلهجة ملائكية ماكرة قال :-
    :- وأنا أيضا وحيد فقد سافر اخي الليلة وليس لي أحد هنا .
    :- وأين تعمل ؟؟؟
    غمره إحساس بالحرج ولكنه ضغط على أعصابه وقال :-
    :- لازلت أبحث عن عمل
    :- وماهي مؤهلاتك ؟؟
    :- حصلت على الشهادة الثانوية
    نظرت إليه نظرة طويلة بادلها بنظرة أطول ولكنه ما لبث أن أطرق حينما أحس بصرامة العيون رغم سياج الجمال وبشيء ما ربما هو قوة شخصيتها يربكه ويطرد عنه ذلك التفكير السيء ؛؛ وبعد برهة من الصمت قالت :-
    :- عليّ مغادرة سكني اليوم ؛ فقد إنتهت المدة التي حددها المؤجر الذي ينوي هدم المبنى ؛ لابأس في السكن معك رغم أن الألسن تعودت أن تلوك سيرة كل إمرأة تظهر مع رجل ناهيك من أن تسكن معه
    :- وزوجك .. هل سيوافق ؟؟
    ودون شعور منها أجابت :-
    :- زوجي مات في ...
    وأمسكت عن ألإجابة وقد إمتلأت عينيها بالدموع وغدتا ضعيفتين وكأنها إستدركت بوحها بما لاتريد البوح به أو كذبت في بداية الأمر فأردفت تقول :-
    :- لا .. أقصد .. زوجي يهبني كامل ثقته مع حرية التصرف .
    مرة أخرى أحس صاحبنا بتعاظم الهوة الفاصلة بينهما ؛ وبرغم جلوسها على مسافة زراع واحدة منه إلا أن إحساسها بما يختمر بعقله ربما تكون مسافته ملايين الفراسخ ؛؛؛ وحاول أن يتقمص شخصية المتعاطف معها فقال :-
    :- لاعليك .. إعتبريه بيتك وبإمكانك البقاء فيه منذ اللحظة ؛ فالبيت مؤثث وأنا وحدي لن أملأه .
    :- لنكتب عقد الإيجار إذا
    :- فليكن
    أخرجت أوراق منها صورة عن جواز سفرها وشهادة العمل ؛ وأتاها بالورقة والقلم وإبتدأ صياغة بنود العقد.... تفحّص أوراقها جيدا ؛؛ تاريخ الميلاد بجواز السفر يقول أنها تصغره بخمسة أعوام ؛ والأوراق الأخرى تفيد بإشتغالها في شركة كبيرة .
    تلفتت ميمنة وميسرة بعد توقيع العقد قبل أن تخرج من حقيبتها اليدوية بعض الأوراق المالية وتمدها له ؛ لكنه لم يلتقطها وقال :-
    :- دعي عنك هذا الآن ؛ فالبيت مدفوع لستة أشهر قادمة ؛ لنتساعد في الإعاشة والنفقات ولا تعتبري نفسك مستأجرة وإنما صاحبة البيت .
    وإنسرقت من عينيها دمعتان مسحتهما بسرعة وهي تقول :-
    :- صعب على المرء تصديق أن الحياة لازالت تحتضن أمثالك
    :- أنا لم أفعل مايستحق المدح .. غيري في مكاني كان سيفعل ذات الشيء
    :- إذا سأحضر متاعي في الغد
    :- الضروري منه فقط ؛ أما الأغراض التي يوجد لها مثيل فبإمكانك التخلص منها ببيعها لمحال الأثاث المستعمل
    :- هذا يعني أن أقوم بإحضار ملابسي والقليل من الأغراض فقط
    :- ما رأيك أن نذهب لإحضارها الآن ؟؟
    وبنفس سرعة وغرابة اللقاء تحركا وكأنهما كانا يتعارفان منذ عشرات السنين .. وعرجا على محل لبيع وشراء الأثاث المستعمل أتيا بصاحبه وإتفقا معه ثم حملا حقائبها وعادا إلى منزله.
    قرابة الساعة أمضياها في ترتيب غرفتها التي كان يملؤها من قبل بوجوده ثم جلسا لأخذ قسط من الراحة فقالت له :-
    :- أنا أحب الشعر والموسيقى والكتابة
    :- وأنا لي محاولات عديدة في كتابة الشعر
    وأحضر دفاتره التي درج على التعبير فيها عن أحواله وخلجاته وتركها عندها ثم إنصرف إلى غرفة نومه .
    ما أن إستقر على السرير حتى تنازعته الأفكار ... لما لايذهب إليها ؟؟ لماذا ينامان منفصلين وهما يسكنان في بيت واحد ؟؟ ومن تكون هذه المرأة ؟؟؟ إن في عينيها شيئا من الصرامة وكثير من الجمال .. وجهها كالسماء الصافية التي من الممكن أن تكفهر وتتلبد بالغيوم ؛ لكن شخصيتها قوية ؛ فهي لم تدفعه عنها ولكنها في ذات الوقت لم تترك لشباكه سبيلا ولم تسمح لسفنه بحرية الملاحة في أراضيها غير أنه أحس بشيء ما يشده نحو عالمها ... ربما فترة الجفاف الحناني وإبتعاده عن هذه العوالم هو ما جعله كالطفل حين يرى الدمية ... غير أن تلك الشواطيء البيضاء أثارت كوامنه .
    ضغط على زر النور فعم الضوء المكان .. برهة وإعتادت عيناه الضوء فتناول دفتره والقلم الموضوعان على الطاولة وبدأ الكتابة .
    وجد الكلام يهبط عليه بغزارة ..... يتدفق من ا ليراع فيروي الورقة البيضاء .. يكتب دون توقف ... لقد تذوق مرارة العشق ؛ أحب بكل صدق غير أنه في السابق كان قد أخطأ العنوان حينما هواها خائنة لامبالية تبيع نفسها في كل سوق .
    وتذكر تلك الأيام البعيدة في صباه وحبيبته التي كان يكتبها الشعر ويقرأه عليها فتنتشي حواسها وتدهسه بأحاسيس زائفة حتى إكتشف وضاعتها ذات يوم فهجرها وكفر بالإخلاص والعشق ؛ وهاهو ذا الآن يعشق من جديد ؛ لقد نزل عليه وحي الشعر .. لا .. ليس وحيا هذه المرة ؛ فالوحي هو ذلك المعبر عن أحواله العامة ؛ ولكن هذا الأخير المعبّر عن إختلاجات أعماقه العطشى للرزيلة هو شيطان الشعر وليس وحيه .
    أحس بذاته تخاطب ذاتها وفي بيوت الشعر كانت المخاطبة صريحة ورد فيها إسمها أكثر من مرة وكأنها تقرأ ما يكتب فبدأ إستنساخ ودوكرة التعبير .. قرأ ما كتب مرة ومرتين وثلاث فلم يصدق بأن موهبته بلغت هذا النضج الذي توهمه في التعبير .
    وظل على هذه الحالة من التفكير حتى إنبلاج الفجر ... سبقها إلى الحمام فاغتسل وتعطّر وتأنّق ثم إستلقى على فراشه يقرأ وقد تعمد ترك الباب مفتوحا حتى تراه .
    ومرت من أمام الباب في طريقها إلى الحمام يسبقها صوت خطواتها المتزنة المتثاقلة ؛ خففت من سرعتها عندما قاصدت بابه المفتوح وقالت بصوت لاتزال فيه بقايا نعاس نفحته تلك البحة الملائكية المثيرة :-
    :- صباح الخير
    وواصلت سيرها دون إنتظار للرد بينما ظل نعيم ساكنا بعدما رد التحية حتى سمع صوت باب الحمام يغلق لينهض بنشاط غريب إلى المطبخ .... بحث بين الأواني الكثيرة فأخرج أدوات الشاي وأعده بسرعة فائقة وجاء به إلى المائدة التي تتوسط كرسيين متقابلين جلس على أحدهما وترك الآخر لتلك المخلوقة الغريبة التي إهتوس بها منذ النظرة الأولى .
    خرجت نوال من الحمام كإله البحر وقد لفّت جسدها بالمنشفة من فوق الملابس الخفيفة بينما إلتصقت خصيلات شعرها المبتلة ببعضها وقد بللت حبيبات الماء وجهها كما تبلل قطرات الندى خدود الأزهار وأوراق الأشجار في كل صباح... وبدت عيناها كأنما تعايشان ذلك الصراع ما بين اليقظة والنوم ؛ حالمة توحي بنكهة تاريخ قديم وحضارات ومعابد وحروب وآثار ... وهاهي ذي جماليات رهبة الصحراء حينما تعانقها الأمطار وتمر عليها نسمة صافية تداعب شجيراتها الشوكية القصيرة ساعة الخضرة ويعانقها صفاء السماء تبدو على معالم وجهها .
    جلست في اللحظة التي شردت منها إبتسامة كأنها عصفور حبيس إنفتح أمامه القفص ؛ فبدت أسنانها الصغيرة ناصعة البياض كأضواء تلمع من بعيد في رهبة ليل مظلم ؛؛
    كادت الإبتسامة أن تقتلع قلبه من بين الضلوع قبل أن تقول ببحة ملائكية غنائية مرتوية ببقايا النوم ورحيق الأنوثة :-
    :- صباح الخير
    وبيد مرتبكة تتحرك حركة الإنسان الآلي ووجه إعترته التقلصات الخجلى وشفاه تمصمص بعضها صبّ صاحبنا الشاي وقد عم الصمت المكان بينما الأعماق تعايش تلك الرهبة الظاهرية والهرجلة من الضجيج اللامتناهي ؛ والعقول تقتل التفكير بحثا عن مواضيع مشتركة تخرج بها من سجن هذا الصمت الإجباري وقد تمنّت أعماقه أن ينغلق باب الشقة ويتوقف الزمن وتدوم تلك الجلسة إلى الأبد ....
    تمنى أن ينفخ إسرافيل الصور فيموت كل الخلق ويبقى بالكون مخلوقين فقط يتناولان الشاي في صمت داخل إحدى الشقق الغائصة في المدينة الكبيرة ؛ ففي الصدر لواعج وفي الأحاشي أحزان والعالم كرة تدور بلا توقف ؛ والإنسان بطبعه إنعجن بطينة الأماني والأحلام ولكنه خلق عجولا يكره الإنتظار وكأنما بينهما ثأر قديم وكراهية فطرية وعداوة لاتنتهي .
    بدت الصالة برهبة ليل في صمت قاتل لاتشقه سوى أصوات رشفات خجولة حذرة حينما تعانق الأكواب الشفاه .
    ودّ صاحبنا لو أنه تحول لكوب في تلك اللحظات ليزيح ذلك الستار الفاصل بينه والكلام ويرفع الكلفة ؛ فهاهي ذي شفتاها قد ألفت الكوب من أول لحظة وعانقته بلا تردد أو خجل وبدأت مسامرته بذلك الصوت الإرتشافي المثير.
    كانت العيون تختلس النظر إلى بعضها بإضطراب وحذر حتى إذا إصطدمت النظرات عند حافة الرؤيا تهتز الشفاه بإبتسامات مضطربة فتتكسر النظرات وتموت سريعا كموجة عاتية تصول البحر وتجوله بكل ثقة وقوة وتتكسر عند الشاطيء بكل وهن وتقهقرها وتمتص غضبها بسهولة حبيبات الرمل البيضاء الناعمة .
    فتح صاحبنا فمه عدة مرات وأطبقه دون أن يقول شيئا ... أحس بالتردد لسبب لا يدريه ؛ ولكنه إستجمع كل قوته وما تبقى من شرود الشجاعة وقال بصوت مهزوز كأنه يواجه جيشا من العفاريت في خلوة :-
    :- أفلا تحدثينني عنك ؟؟

    ونواصــــــــــــــــــــــــــل........
                  

02-23-2008, 07:05 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)


    فتح صاحبنا فمه عدة مرات وأطبقه دون أن يقول شيئا ... أحس بالتردد لسبب لا يدريه ؛ ولكنه إستجمع كل قوته وما تبقى من شرود الشجاعة وقال بصوت مهزوز كأنه يواجه جيشا من العفاريت في خلوة :-
    :- أفلا تحدثينني عنك ؟؟
    أجابت بسرعة وكأنها كانت تنتظر فاتحة الحديث بفارغ الصبر :-
    :- وماذا يفيدك أن تعرف ؟؟ قلت لك من قبل أن إسمي نوال
    لكنه لم يدع للصمت فرصة ؛ فهو يريد الكلام .. أي كلام :-
    :- لاشيء سوى الفضول ومادة تقتل هذا الصمت اللعين ؛ ولاتنسي أننا قد نبقى فترة طويلة بين هذه الجدران البلهاء
    إبتسمت .. لاتدري لماذا هربت منها هذه الإبتسامة وأجابت قائلة :-
    :- موظفة صغيرة في شركة كبيرة
    ولزمت من جديد جانب الصمت ؛ لكنه قرر مقاتلة الصمت حتى آخر رمق ؛؛ أراق الكلام على الجمود قائلا بعبارات أقل إهتزازا وقد بدأ يستعيد ثباته وتوازنه المفقود ؛ ولسانه بدأ ينفك من عقدته شيئا فشيئا:-
    :- السماء لا تمطر القطرة .. الرياح تأتي بالأمطار من مكان ما ومناخ ما ... لكل شيء ماض وجذور
    سرحت بفكرها قليلا ثم ما لبثت أن تنهدت طويلا قبل أن تقول :-
    :- لن تصدق لو قلت بأنني وحيدة ... مات والداي بحادث في بلدنا وكنت وحيدتهما فلم يبق لي في الحياة سوى أولادي وزوجي الذي حدثتك عنه .
    وكست غمامة حزن كثيفة تلك العيون الملائكية وكأنها لاتود تذكّر ذلك المصير المرعب غير أنه طمأنها قائلا :-
    :- ربما المصائب تجمع المصابين ؛ فأنا مثلك مع قليل من الفوارق ؛ لا أهل لي أيضا ... أبي وأمي وخالتي ماتوا ومات الدود المسلط على أجسادهم ولم يبق سوى أخي الذي تم الإستغناء عن خدماته وسافر البارحة
    وتفرّست طويلا في معالم وجهه ؛ ربما لتثق من صدق قوله ؛ ثم ما لبثت أن رفعت بصرها إلى ساعة الحائط ونهضت فجأة وهي تقول :-
    :- حان وقت لذهاب إلى العمل ؛ أمامي قليل من الوقت لايكاد يكفي اللبس واللحاق بالعمل .. سنلتقي على مائدة الغداء
    وأكملت متحركة نحو حجرتها :-
    :- سأحضر معي الغداء فلا تتعب نفسك
    وظل يرقبها صامتا دون أن ينبث ببنت شفة وقد إجتاحته حالة من التبلد والوجوم ... أراد أن يقول لها أن الثلاجة ملأى بصنوف الطعام التي لاتحتاج سوى التدفئة ولاداعي لإحضار أكل المطاعم ولكنه عدل عن رأيه وتركها تمضي ....
    أغلقت عليها باب غرفتها فترة من الوقت ثم خرجت وكأنها إمرأة أخرى غير تلك التي قابلته بالأمس وغير تلك التي خرجت من الحمام قبل ساعة ... يا إلهي .. هذه المرأة تملك مقدرة خرافية على إستنساخ نفسها ؛ فبتمويجة معينة للشعر تتحول فتاة في العشرين ؛ وبتسريحة أخرى تبين في الثلاثين ؛ وبالخمار تبقى بين العمرين ؛ فمن هي ياترى ؟؟؟
    ودعته وإنصرفت والبال لازال مشغولا بها ؛ إذ كيف نامت معه ليلة كاملة دون أن ينال منها .؟؟ وكيف نسي همومه ومشاكله وإنصرف نحو التفكير بها ؟؟؟ وهل ستقبله ووجهه بهذه الدمامة ؟؟؟
    تحرك نحو المرآة فجأة ؛ وبحركة لاشعورية بدأ يتفرّس معالم وجهه ؛؛ أمعن النظر طويلا في تقاطيعه ... لأول مرة يدرك أنه ليس بتلك الدمامة التي صورها له عقله المجنون ؛ فهاهي ذي عيناه تبدوان آية في الوسامة ؛ وفمه ربما أكبر قليلا مما يجب ولكنه ليس بالدرجة المنفرة التي تجعل منه شكلا كالعفريت ... وهاهي ذي خدوده مكتنزة بعض الشيء ؛ وشعره الكثيف الأجعد ليس كمسامير الشيش؛ ولكنه رغم تفلفله يغطي وجهه حتى قرب منطقة الحاجبين ويبرز فوق وجهه كالمظلة ؛؛؛ إنه جميل حقا وليس فيه ما يعيب أو يدعو للخجل .. لاشيء يمنعها من القبول به سوى وضعه الإجتماعي لذلك وجب عليه البحث عن مصدر رزق ؛ وكيف يرتضي لنفسه التفكير في فتاة تكسب رزقها بعرق جبينها بينما هو لازال يتسول ويتسكع علي أرصفة البطالة .. وقرر الخروج فورا .. لم يمهل نفسه فرصة للتفكير وإنتعل حذاءه وحمل مظروف وثائقه وخرج .
    مرة أخرى تناهشته الأفكار المضطربة ولكنه كان يحس في قرارة نفسه إمتلاكه شيئا لايدريه ولكنه يحسه ؛؛ موجات التغيير العاتية يحسها تعتريه بقوة ؛ قد يكون للحياة طعم مختلف ؛وهاهو يحس بإندفاع وإصرار لم يعهدهما من قبل يلحان عليه بإيجاد حل لمعضلته التي أبت أن تنتهي ؛؛ كلها فترة محدودة وينفذ كل مامعه من مال ولا أحد ينقده بعد خيه وعندها لن يجد مايشتري به سجائره ؛ سيفقد السكن ؛ ولن يجد حتى الصابون الذي يتنظف وينظف ملابسه به ؛ عندها ستكون الحياة مريعة ؛؛ لكن الله موجود ؛؛ لم يخلق الله مخلوقا على سطح الأرض وينسه ؛؛ فقد عودته الظروف أن لايرصف لخطواته الطريق .. ألم يقل إمام المسجد أن الدود في الصخر والسمك في البحر والطير في الجو يصلهم رزقهم ؟؟؟ لكل أجل كتاب فلم يتعب نفسه بالتفكير المتشائم والخوف مما قد يأتي ؟؟ ومن يضمن إمتداد الحياة حتى بلوغ ما قد يأتي ؟؟؟ ليس يدري فالكل يحمل روحه بين كفيه ويمضي .



    ****** ******** ********





    ونواصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت .......
                  

02-24-2008, 06:43 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    على مائدة الغداء إرتصت صنوف الطعام المختلفة التي أحضرتها نوال من الخارج ؛ وجلسا يأكلان بحياء وحذر وكلاهما يبالغ في تصغير اللقمة وتطويل المسافة بينها واللقمة القادمة ... كلاهما يحثّ الآخر على الأكل وقسمات الوجوه تتقلص وكأنهما جيشان يريد كلاهما إكتشاف إستعدادات ونقاط ضعف الآخر .. وأخيرا قالت نوال :-
    :- لنرفع تلك الحواجز الوهمية .. هيا نأكل .. نأكل حتى نشبع .. هيا .. هيا
    قالتها وهي ترفع لقمة كبيرة شجّعت صاحبنا على فعل ذات الشيء ثم سألته بعد ذلك قائلة :-
    :- ما رأيك في وظيفة تتمسك بها ؟؟؟
    توقفت أسنانه عن المضغ وهو يقول :-
    :- ماذا تقصدين ؟؟
    :- في شركتنا شاغر لوظيفة بمعاش قد يستر الحال ولا يفيض
    :- المهم أن تكون وظيفة بمعاش
    :- إنها وظيفة لمراقب عمال براتب ضئيل ؛ ولكنهم يشترطون إقامة قابلة للتحويل فهل سيوافق كفيلك على ذلك ؟؟
    نظر إليها صامتا ... تردد أن يصدقها القول .. فكر قليلا ثم قال :-
    :- ولكنني لا أملك إقامة
    قالها وقد هربت من عينيه نظرة إنكسار حزينة وأحس بالبحر المتلاطم الأمواج في أعماقه يهدأ ويستكين ويغدو في وداعة الضعفاء ؛ وبمشاعره ميزان حرارة وصل مؤشره أعلا الدرجات ثم أخرج من فم المحموم ليهبط فجأة إلى مادون الصفر .. وشعر بالإنكسار وفقدان كل الأسلحة ؛ ندم على تسرعه فلربما تكون هذه الحورية البيضاء الناعسة العينين أفعى تندس بين أنيابها أفتك السموم ؛؛ ربما تطمع بالبيت وأثاثه وتقوم بإبلاغ لجان التفتيش العمالي عن مكانه فينقضون عليه بلا رحمة ويقودونه ذليلا مقيدا إلى السجن كما تساق الذبائح إلى المسلخ وتتحطم كل الأحلام والآمال .
    وبدأ عقله يعمل بسرعة جنونية ؛ لماذا صمتت وفيماذا تفكر ؟؟؟ ليته يستطيع محو ما تلفّظه ؛ ولكن مداد اللسان عكس مداد القلم لم يجد حتى اللحظة من يبتكر له أسلوب المحو والإزالة ... ما يكتبه القلم بالإمكان محوه أو تمزيق الورق المكتوب عليه ولكن ما يقوله اللسان لاسبيل لإخفائه .. الحل الوحيد هو تمزيق الأذنين اللتان دونتاه ... وفكر في قتلها لكنه تراجع سريعا ولم يجد غير الإستسلام وإنتظار ما سيحدث بعدما سلّمها قياده بتلك الكلمات البسيطة .. فالإنسان في هذا الزمان أوراق ولسان ؛؛ كان يعتقد انه أوراق فقط ولكنه أدرك الآن أهمية اللسان ؛ أليست أجهزة الأمن تعتمد على الألسن في التحقيقات لتحري الأقوال والكشف عن غموض الجرائم .
    لقد أدركت الآن أنه لايستطيع شكوها للعدالة لو أخلّت بشروط العقد وربما أدركت بأن العقد باطل من الأساس ؛ ولن يتمكن من محاسبتها لو أتت البيت برفقة رجل لأنها تملك ضده أقوى الأسلحة فيا لسخف الزمان الذي يجعل الإنسان القوي أضعف من قشة في مهب الريح حين يخالف القانون ... وأخيرا وبعد فترة صمت متعبة قالت :-
    :- سأحاول على كل حال والبقية على الله .
    وكأنما إستدرك شيئا فات عليه وقرر على أثره الخروج من معمعة الخوف وعدم شغل باله بالهموم .. أدخل يده في جيبه وأخرج ورقة مدها لها وهو يقول :-
    :- ما رأيك في آخر إنتاجاتي الأدبية ؟؟
    أمسكت نوال الورقة وفردتها وبدأت تقرأ بصوت مسموع كلمات القصيدة التي سهر ليلة أمس في كتابتها واصفا إحساسه بهذه الحورية التي إقتحمت حياته ؛ كان وقتها قد وصل للإحساس بفقدان الإحساس وأصبحت كل الأشياء تتراءى أمامه بلون واحد بعدما إنكشفت نقاط ضعفه ... لايهم الآن أن تعبس في وجهه أو تبتسم ؛؛ سيان عنده ؛ بيد أنها أطلقت إبتسامة غامضة كصاروخ ضلّ هدفه وهي تقول :-
    :- أنت جد رقيق .. ومحظوظة تلك التي إستولت على مقاليد قلبك
    أجابها سريعا بلهجة حالمة وكأنما ذلك الصاروخ الذي ضلّ هدفه قد أصابه وبعث فيه الحياة من جديد :-
    :- بل محظوظ أنا لو إستطعت بلوغ عنانها
    وإبتسمت مرة أخرى وغمزت عينها ليسرى وهي تقول متهربة :-
    :- لكل أجل كتاب
    ثم نهضت لغسل يديها قاطعة الحديث في هذه النقطة التي كان صاحبنا يقاتل في سبيل النقاش حولها


    **** *********** ***




    في المساء خرج نعيم كعادته إلى شاطي البحر بينما إنطلقت نوال إلى عملها المسائي ..... وجلس يرقب الشاطي هذه المرة بعين مختلفة وفكر متبلد الأحاسيس ... المياه هي المياه ... زرقتها باتت لاتعني له شيئا .. وذاك الأفق البعيد الذي يتراءى فيه إقتران البحر بالسماء أضحى منظرا مألوفا ؛ وهاهي الشمس تخوض معركتها الأذلية الروتينية مع الظلام ... لقد بات يحفظ بالساعة والوقت موعد نفاذ خنجر الظلمة في نحرها وتدفق دمها وكنس الظلام للدم المهدور ..... كل شيء بات روتينيا ومحفوظا ؛ فلمالا يترك البحر ويتجه إلى الصحراء والبر ؟؟؟ ربما يجد ذلك الإحساس الطفولي العميق الذي كان يعتوره حينما يسمع صوت تكسر الموج على الشاطي فيخاله فض بكارة بنت عذراء في يوم عرس ... تراجع سريعا عن فكرته ؛ فالصحراء بعيدة وستهلك ميزانيته سيارات الأجرة للوصول إليها .. فكر في العودة للبيت والجلوس على سطح المبنى لتأمّل المدينة من عل .
    كان عقله يعمل بكل طاقته في الوقت الذي تقوم يده اليمنى برمي الحصا في الماء ؛ وفكره يتساءل عن مصير تلك الأمواج ومن أين أتت كل هذه المياه وإلى أين ستذهب ؛ وعلى أيّ الشواطي تتكسروتموت تلك الموجة المضطربة الصاخبة الثائرة في عمق البحر وما مصير كل هذه المياه ؟؟؟
    ورغم توهان مياه البحر وجهل مصيرها إلا انها أفضل حالا منه ؛ فهي تدور كل شواطي الدنيا دون أن تطالبها السلطات بجواز سفر أو إقامة وعقد عمل ودون أن تحتجزها الدول وتقوم بتهديدها ؛ بل على العكس من ذلك فهي تتخاصم عليها وتدّعي ملكيتها .. وذلك العالم الكوني الغريب الغامض الذي تحتضنه هذه المياه ؛ ممالك من الأسماك والأحياء المائية التي لاتحصى ؛ ترى هل تملك تشريعات معينة وتنظيمات حياتية مثلنا نحن البشر ؟؟؟ وهل تقوم بينهم الحروب ويتسابقون في التصنيع التكنولوجي والحربي وسباقات التسلح وينتهجون تلك السياسات الرعناء التي إفتتننا بإنتهاجها فقادت للتوترات ؛ وأيضا تلك السياسات الحكيمة التي تدعو للتعايش والتكاتف والتسالم ؟؟؟ وهل بينهم أقوياء وضعفاء وتقسيمات وطوائف وأحزاب وأقطاب وعوالم أولى وثانية وثالثة ورابعة وما إلى ذلك ؟؟ وهل يمتلكون تلك التنظيمات الدقيقة التي تنص على حقوق الفرد والجماعة ويعتقدون ذات معتقداتنا ؟؟؟ وممالك الجن أهي بالبحر أم الصحراء ؟؟ ومثلثا برمودا وفورموزا هل هما كذبة كبرى أم حقيقة تحتمل التساؤلات والعجب ؟؟؟ والفضاء فوق لسماء أهو عالم آخر يربطه به إتصال مع سكان الأجرام السماوية أم أن الدنيا قد خلقت قارات أربعة منفصلة هي السماء والفضاء والأرض والبحر ؟؟؟
    تنازعته تلك التساؤلات وهو جالس لم يبرح موقعه وعيناه ساهمتان تنظران إلى البحر .. ذلك المارد الغريب الذي أفتتن بالمجهول فإرتداه قناعا وحمل الوداعة والصرامة في آن .
    نهض من مكانه متجها إلى المنزل يملؤه ذلك الإحساس بالتبلد وإمتلاك شيئا ما ... وكانت نوال تنتظره بالبيت فقد فتحت الباب سريعا بعد أول طرقة وكأنها كانت تختفي وراءه .
    حيّاها بفتور لايدري له سببا فردت عليه بطريقة آلية وجلسا في الصالة وأمامهما كومة الطعام التي سبق لها تجهيز مائدتها بعناية فائقة .
    كانت نكهة المنزل تختلف عن السابق فقد إستقبلته رائحة العطر الملطف ؛ وتغيّر نظام الكراسي بالصالة فبان البيت كأنه ليس ذلك القديم ... إنه نفس الأثاث ولكنه وضع بطريقة غير تلك التي ألفتها العين فقد إستنسخت منه نوال شكلا آخر مثلما تستنسخ من وجهها وجها آخر بتغيير تسريحة شعرها .
    لاشك أنها مغرمة بآلية الإستنساخ ولربما تستنسخ من وجهه ذات يوم وجها آخر غير هذا المألوف الذي ضاق كثيرا بتعبيراته المفضية للاجمال ؛؛ وفكر في تغيير تسريحة شعره فربما يختلف شكله قليلا ؛ لكنه ضحك من أعماقه حينماتذكر أن شعره الأجعد الكثيف غير قابل إلا لتسريحته الوحيدة التي إعتادها منذ الميلاد ؛ فتجعيداته المعقدة المنطوية على نفسها كمسامير الشيش الصغيرة لن تمكنه من التموج ولوصبّ عليه مصنعا من الزيت ... أما هذه الحورية البيضاء ذات الأرداف الممتلئة والخصر الضامر والعينين الواسعتين والصدر البارز والشعر المنسدل كمياه ظلمة أريقت من أعلا فإنسكبت وتعلّقت في الهواء دون أن تطالها قوانين الجاذبية فتملك موهبة إمكان التغيير لملايين الوجوه .
    وعلى نغمات الأكل إنساب الحوار فإبتدرته قائلة بملائكية شيطانية تنبعث من تلك الشفاه الوردية الحالمة :-
    :- أين كنت ؟؟
    فاجأه السؤال ؛ فهو لم يعتد على الأسئلة التي تندرج في قاموسه تحت عرف التقييد والتدكتور ؛ وكان يعتبر نفسه حرّ الحركة كالفراش ؛ يتنقل حيث يشاء كالطيور المهاجرة ؛ ويعود متى شاء دون مواجهة بالأسئلة ؛ ولكنه مع ذلك رد بغير إنفعال :-
    :- كنت أتجول على شاطي البحر
    :- أو تحب البحر ؟؟؟
    :- رابطة غريبة تلك التي تربطني بصفحاته الزرقاء ؛ فهو يحمل في جعبته جبال الهموم وأنا أنوء بحمل الهموم أيضا .
    تنهدت ضاحكة ثم أطردت تقول :-
    :- أيّ هموم يانعيم ؟؟ أنت الآن في قمة راحتك ومتحلل من كل الهموم
    :- لن يعرف المرء ما بداخل الإناء المغلق حتى يفتحه .. ربما أكون في ظاهري بعيدا عن كل هم ؛ لكن الدواخل كالباب الصديء الذي غطاه طلاء جديد حجب صدأه عن رؤية العين
    نظرت إليه نظرة ذات مغزى وهي تقول :-
    :- ليس بالدنيا إمرء بلا هموم .. من يفكر في مصائب الآخرين يهون عليه مصابه بلا شك
    أحس بإمساكه خيطا ضاع عنه وقال :-
    :- من يفكر في هموم الآخرين ياسيدتي هو ذلك الذي تدع له همومه مساحة الإنطلاق عنها ولو لثوان ولكن أمثالنا يتشبعون بهموم تشغلهم عن النظر لهموم سواهم
    :- إذا نحمل بعضنا .. هات مافي جعبتك علني أجد حلا لبعضها فالمرء لم يوجده الله بين الناس إلا ليخفف عنهم ويخففون عنه .
    مرة أخرى أحس بأنيابها .. إنها تحب الأخذ دون عطاء .. يالها من إمرأة ماكرة إستطاعت أن تنتزع منه معلومة أنه لايعمل وأنه بلا إقامة ؛ وهاهي ذي تريد أن تأخذ عنه معرفة همومه .. عرفت بجاذبيتها وإستغلال ظروفه كيف تتعرف عليه دون أن تمنحه معلومة عنها غير السطحيات الشكلية ... قرر المراوغة بإحساس من يدرك أنه سينهزم ؛ فهو يدرك بأنه عند الإندماج في النقاش ينسى كل شيء لأنه دائما يتحدث من أجل الحديث وإستعراض عضلات التعبير دون توخي الحذر .. ورد عليها قائلا في مراوغة مكشوفة :-
    :- لن تفعلي المستحيل ؛ فما أنوء بحمله غير قابل للحل
    نظرت إليه نظرة ناعسة محملة بالفضول وقالت :-
    :- الراحة كثيرا ما تندس في مطالقة الصمت
    مرة أخرى أحس بقوة الهجوم فحاول صده قائلا :-
    :-ولكن السكوت دائما من ذهب
    وكأنما إنتقلت إليها عدوى المراوغة والجدل أجابت :-
    :- سكوت الذهب يكون على الأغراض والحوائج .... يكون عن اللغو وسفاسف الحديث ... ولكن السكوت عن الهموم عملة لاتساوي قيمة المعدن الذي صنعت به
    نظر اليها بإعجاب وهو يقول :-
    :- أنت سيدة في المجادلة
    وكأنما العدوى تمكنت منها أكثر أطردت تقول :-
    :- ليست مجادلة ولكنه المنطق ... هل السكوت على الظلم يبقى من ذهب ؟؟؟هل السكوت على ذبح العدالة وهضم الحقوق يبقى من ذهب ؟؟
    :- لقد غلبتي فارسا لايقهر
    وإنسرقت منها إبتسامة جذابة غير مصطنعة أوقدها ذلك الإطراء المباغت فبدت في إرتياح معالم وجهها كقمر خرج لتوه من بين السحب في ليلة دهماء ليقود ثورة الجمال وقالت :-
    :- إذا لم يبق لذلك الفارس غير القفز فوق ذلك الحاجز الذي لا يزال عائقا بيننا
    وإقتحمته دون مقدمات شهوة عارمة ؛ ربما لأنه فسّر العبارة على غير التفسير ؛ فالمرء دائما في مثل هذه المواقف والحالات يحلو له تفسير الأمور بعقل رغباته وينظر للكلام بعين إرادته فأردف قائلا :-
    :- ولما لا تبادر الفارسة المنتصرة بالقفز على ذلك الحاجز
    ولم تضطرب أو تهتز وترتبك كما توقع صاحبناوكأنها كانت على موعد مع كل مفاجأة وكأنها كانت تنتظر السؤال .... ولم تكترث لنظراته الشهوانية السمجة ولكنها أجابت :-
    :- الفارسة لا ترى ذلك الحاجز ؛ ولكنها لو أحسّت به وحاولت أن تراه بالإجتهاد فلن تملك أكثر مما قالت ... فتاة تائهة معذبة ضائعة فقدت أبويها بيد هادم اللذات ثم فقدت زوجها بعد ذلك وأدخلت أولادها الإثنين مدرسة داخلية خاصة تملك أساليب الإعتناء بهما وتنشأتهما التنشئة الصحيحة ..... وباتت تحافظ على نفسها بالعمل الحر الشريف .
    وصمتت ... حاول الضغط أكثر .. هاهو يحس بإقترابه من الهدف ؛؛ وحاول التصويب أكثر فقال :-
    :- لكن الفارس يقتله الشوق لإستكشاف قارات طوح هذه الفارسة
    أجابت ببساطة بعدما أحس بإنتصاره المفاجيء عليها وإفلاحه في جرجرتها لمعلومات عنها :-
    :- ليس أبعد من أن تأكل وتشرب وتلبس وتعيش مستقرة دون أن تمد يدها لأحد.
    قال دون وعي منه :-
    :- كأنك تلخصين هموم الفارس وطوحاته
    :- بالنسبة لك كرجل هذا أسهل ما يكون
    :- نظريا فقط .. أما عمليا فتقف آلاف المطبات
    :- متعة الإنسان في الدنيا وقيمة العيش فيها أن يصارع المعوقات ويصر على تزليلها
    :- بشرط أن يملك الأسلحة والأدوات التي تعينه على الحرب
    :- ليس إمتلاكا .. المتعة الحقيقية تكمن في خلق الأسلحة .. في الكفاح من أجل إيجادها
    وتغيرت نظرات عينيه بطريقة مفاجئة غير مصطنعة ؛ وإنهارت دواخله وأحس بنفسه يتحدث بطريقة لا إرادية وبإسلوب شبه باكي ونظرات مستجدية وهو يقول :-
    :- أريد الإحساس بالأمان
    أشفقت عليه وخاطبته مخاطبة الأم لطفلها الذي لم يعي ولم يشب عن الطوق :-
    :- الأمان موجود وعلى المرء تحديد معناه فهو يتخفى في ملايين الأثواب
    :- لازلت محتاجا للفهم
    :- حسنا ... للفقير قد يبقى المال هو الأمان .. للغني قد يكون راحة البال ... للعقيم قد يكون الإبن وللمريض الصحة وما إلى ذلك
    :- بالنسبة لي تبقين أنت الأمان يانوال
    وصمت برهة ليترك للصمت في عينيها مساحة المفاجأة والذهول ؛ فقد باغتها بطعنة لم تحسب حسابها ؛ ولا هو أيضا كان يتعمد رمي السهم في تلك الناحية بهذه الفجائية اللاشعورية والتسرع ؛ ولكنه عندما أحس إصابته الهدف حاول التسليم بالأمر الواقع والوصول لفريسته من أقصر الطرق .. وواصل الحديث بعد برهة صمت :-
    :- بلى أنت .. صدقيني ؛ رغم العمر القصير جدا بيننا إلا أننا قادران على أن نحيا ونكون .. نحن محتاجان بعضنا يانوال
    لم تتمكن من الخروج عن دائرة ذهول المفاجأة وقالت بشفتين مرتعشتين وفكر حائر :-
    :- ولكن ...
    قاطعها بسرعة كأنه يخاف دخول يد تقطف كل ما بناه :-
    :- ليس في الأمر مجالا لكلمة لكن .. كل مافي الأمر أن إثنين في الحياة .. آدم وحواء كلاهما ليس له أب وأم وأهل ؛ إجتمعا معا في كون واحد ؛ لم تفكر حواء في هل تحب آدم أم لا ؛ ولا آدم فكر في ذلك ؛ أدركا فقط أن الله خلقهما لبعضهما البعض فتحابا دون تفكير وتعقيدات فكانت الدنيا بما فيها من الحب والحنان والوئام .. ونحن ياحوائي ؛ كلانا يحتاج الآخر لحمايته والإستقواء به على سطوة مجتمع يحكمه قانون الغاب ومنطق القوي والضعيف .. إثنان يبحثان عن الأمان و...
    وقاطعته قائلة :-
    :- ليس الأمر سهلا كما تتوقع
    :- بل أسهل مما تعتقدين ... وحدنا من يصنع العراقيل والعقبات ؛ الحب سيأتي بعد الزواج ؛ أما التفاهم فهو أساس كل حياة مشتركة ؛ الحاجة أم رؤوم لذلك التفاهم فالبلدان المتحاربة التي قتلت أبناء بعضها وشرّدت أسر بعضها ورفعت السلاح في وجه بعضها تعايشت وتصادقت وتحالفت ؛ الحياة ليست غير شراكة ومصالح متبادلة
    :- ولكننا لانعرف شيئا عن بعضنا
    :- لايهم أن يعرف أحدنا شيئاعن الآخر .. المهم أن نصنع من بعضنا بعضا .. أن نشكل بعضنا على مانتمنى ونشتهي .. ميلاد آدم كان لحظة لقاؤه بحواء وميلادها كان لحظة إلتحامها معه في ملحمة تاريخية أوجدت هذا الكون البشري الكبير .. هل تنكرين حاجتنا لبعضنا ؟؟
    :- الحياة لا تؤخذ بهذا المنطق .. هب أنني إرتضيت ذلك و ...
    وقاطعها بسرعة :-
    :- إرتضي فقط والظروف كفيلة بتذليل كل العقبات .
    صمتت طويلا وصمت هو الآخر وكأنما وحي الصمت قد هبط عليهما فجأة .. وكأنما اللحظة هي لحظة فوران التنور وهما يركبان مع الخلق زوجين .
    وبدأت الفراسخ تنكمش فتقاربت أقطاب الأرض البعيدة وأصبحت الكرة الأرضية مجرد كرة بلاستيكية صغيرة متعددة الألوان تستقر على طاولة صغيرة بلهاء لا يتعدى إرتفاعها المتر عن الأرض .
    بعد لحظات الصمت الطويلة قالت بإستسلام وعيناها ساهمتين :-
    :- هل أنت واثق من كل ماقلت ؟؟
    أحس نعيم بنشوة إنتصار مفاجئة فأجاب :-
    :- كل الثقة المهم أن تقتنعي به
    :- إذا دعنا ندرس بعضنا أكثر
    وكأنما بأعماقه مارد يريد قبض المساحة ومنعها من التفرسخ مرة أخرى قال بسرعة :-
    :- الأمر لا يحتاج دراسة .. أنا عن نفسي ليس بي ما يعيب ؛ ومهما أطلتي الدراسة والبحث لن تجدين غير ماقلت
    صمتت برهة ثم قالت بعد تفكير :-
    :- لابد من تجاوز العقبات أولا
    أجاب بإنتصار كسير وفرح معاق وحفل مؤجل :-
    :- أوافقك الرأي ولكن كيف ؟؟
    :- لنفكر معا
    وتذكر شيئا فقال بعد صمت :-
    :- ألم تقولي بوجود وظيفة في شركتكم ؟؟
    :- سأحاول المستحيل
    :- ألن يكفنا راتبها الضئيل لو مزجناه بما تتقاضين على تسيير أمور حياتنا ؟؟
    :- ليس المهم أن يكفي .. المهم أن نتحلى بالقناعة
    وإبتسم نعيم أبتسامة عريضة ؛ فقد لامست سفنه التائهة شاطيء النجاة .. وأطردت نوال تقول وقد تشبّعت نبراتها بالجدية :-
    :- هناك شيئا هاما يجب أن تعيه جيدا .. أنا إمرأة حافظت على نفسها رغم سخافات الظروف ولن أكون لك ولا لغيرك إلا بالحلال
    وبقدرما كان يتحالم بتعجيل الوصول بقدرما أحس بالفخر والإعتزاز والجلال والرهبة وأجابها مبتسما :-
    :- لقد كبرتي أكثر في نظري .. أعدك بذلك
    ونهضا بعد أن لملما أدوات الطعام والإبتسامات المضطربة ترتسم على شفاه ربما تطالق اللاإنفراج وربما العكس ..وودعا بعضهما وإلتزم كلاهما سريره بحجرته .


    *** ********** ***



    ونواصـــــل
                  

02-24-2008, 07:17 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    وأعيا نعيم الفراش بتقلّباته المستمرة ؛ كان عقله مرجلا يغلي وفكره خلية نحل دائبة الحركة ؛ فإتّخاذ القرارات رغم الظروف يخلف وراءه الكثير من جيوش التردد ... إنه طبع الإنسان ؛ يضع العراقيل الحسابية والحساباتية في كل شيء ؛ لكنه أحس بصوت قوي يعلو بأعماقه ؛ فماذا يضيره أ، يتزوج سودانية أو غيرها ؟؟ المرأة هي المرأة ؛ والنساء كالأسماك تختلف أشكالهن وألوانهن ولكنهن يحملن رائحة واحدة لا تتغير ؛ وبماذا تختلف نوال عن رقية وناريمان عن عفاف وومضة عن سحر ؟؟؟ الناس خلقوا سواسية أتـوا الحياة باسلوب واحد ... معاشرة وحمل وإنجاب وإرضاع ونمو ... نفس القاعدة تنطبق على كل الشعوب ؛ والناس خلقوا ليتعارفوا ويلتقوا في مثل هذه اللحظات الحاسمة من عمر القدر ... العالم آدم وحواء ؛ وبحث كلاهما عن الآخر هو مربط الفرس .. الوطن الحقيقي لكليهما هو الآخر .. ولكن لم الزواج والهم ؟؟؟
    ربما السؤال جاء في موعده ولكنه يحس بحاجة للزواج والأستقرار .... وكيف ذلك وهو لايملك إقامة شرعية ؟؟؟ لما لايسافران بلاده ويعيشان دون حاجة لتلك الإقامة اللعينة ؟؟؟ لكنك رفضت السفر مع أخيك ؛ وماذا ستفعل والعائدون من عطلاتهم يصورون الأوضاع تصويرا مخيفا وركضا لانهاية له .... وكيف تتمكن من إعالة هذه الحورية البيضاء والذريّة التي تتحالم بإنجابها منها وإضافتها لأرقام الموجودين في الحياة ؟؟؟ لابد أن أخيك الآن يعيش لحظات العناء ويمط شفتيه كعادته دائما حينما يحتار ؛ ستواجهه معضلة التأقلم على الأوضاع ومحاولة مجاراة الحياة العامة التي رسم عنها البعض صورة سيئة وبعض آخر أفعمها بالإطراء .
    لابد أنه عانى من سخافات التفتيش والجمارك والتعامل مع عملة غاب عن تداولها فترة طويلة من عمر الزمن ؛ ولفح حر الشمس وإيجاد المسكن ومدارس الصغار وبحث قاتل عن مستشفى يعمل به أو ترخيص لعيادة خاصة ... وسيارته التي شحنها معه قد تواجهه بالغوص في المصطلحات الأزمية المختلفة التي إستوطنت الساحة ؛ كأزمة الوقود والإسبيرات والرغيف وغيرها .. ولابد أنها الآن تقلّصت كما تتقلص أحيانا أجساد بعض العائدين ويصيبهم الهزال والدكنة فغدت عن الجمارك ربع نقل لا نصف نقل .
    وعجب من نفسه كيف نسي التفكير في أخيه بمجرد سفره ؛ فهو من إحتضنه فترة طويلة وأتى به وأنفق عليه وترك له المسكن ومصروفا يعينه على البقاء فترة من الوقت .. فيا لطبعه الغريب الذي يجعله دائما يحس بأن ما يقدمه له الآخرون دائما هو نوع من الواجب وليس شيئا من الجميل ؛ إنه خليط من تركيبة صعبة الفهم ؛ أحيانا يكون بثورة البراكين وأحيانا أخرى بهدوء السماء الصافية ... وهاهو الآن يفكر بالزواج ... غريبة هي الحياة أيضا ؛؛ فالمدينة تعيش في هذه اللحظات مختلف الحالات والأوضاع .. بعضهم يبتهج بالمراقص ويقيم الليالي الحمراء الآثمة وبعضهم يقيم الليل متعبدا مبتهلا لله في خشوع ... بعضهم يلعبون الورق وآخرون يتسامرون .. بعض يكتبون ويقرأون ... لصوص يتحركون ... ساسة يخططون .. مؤرقون يفكرون ... مساجين مغلوبين على أمرهم ... مكاتب تعمل ... مرضى يئنون ... وآخرون يغطون في نوم عميق ... مفكرون .. فرحون ... ضاحكون ... باكون .. كلاب تنبح .. أسرّة تصر ... آهات تنطلق ... لا أحد يفكر في الآخر وكل فرد ينظر للدنيا بمنظاره الخاص ....
    وهذه المخلوقة التي ينوي الآن ربط أقداره بها ؛ كيف سيتعامل معها وكيف سيتمكن من تذليل عوائق الوصول إليها ؟؟؟؟ أما هو فكأبيه آدم الذي عرف الشيطان وتر طموحاته فدفعه على العصيان بشجرة الخلد وملك لايبلى .. ورغم تواضع الخلد في وظيفة مراقب عمال وملك بالزواج وإمتلاك هذه المرأة الهيفاء إلا أنه قرر إسكات كل الأصوات ... قرر العصيان لكل المثبطات وإقتحام الوضع بلا تفكير .
    وإنطلق آذان الفجر معلنا بداية يوم جديد والدواخل لازالت مبعثرة الأفكار



    *** *********** *** **











    ونواصــــــــــــــــل
                  

02-24-2008, 07:39 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    وأعيا نعيم الفراش بتقلّباته المستمرة ؛ كان عقله مرجلا يغلي وفكره خلية نحل دائبة الحركة ؛ فإتّخاذ القرارات رغم الظروف يخلف وراءه الكثير من جيوش التردد ... إنه طبع الإنسان ؛ يضع العراقيل الحسابية والحساباتية في كل شيء ؛ لكنه أحس بصوت قوي يعلو بأعماقه ؛ فماذا يضيره أ، يتزوج سودانية أو غيرها ؟؟ المرأة هي المرأة ؛ والنساء كالأسماك تختلف أشكالهن وألوانهن ولكنهن يحملن رائحة واحدة لا تتغير ؛ وبماذا تختلف نوال عن رقية وناريمان عن عفاف وومضة عن سحر ؟؟؟ الناس خلقوا سواسية أتـوا الحياة باسلوب واحد ... معاشرة وحمل وإنجاب وإرضاع ونمو ... نفس القاعدة تنطبق على كل الشعوب ؛ والناس خلقوا ليتعارفوا ويلتقوا في مثل هذه اللحظات الحاسمة من عمر القدر ... العالم آدم وحواء ؛ وبحث كلاهما عن الآخر هو مربط الفرس .. الوطن الحقيقي لكليهما هو الآخر .. ولكن لم الزواج والهم ؟؟؟
    ربما السؤال جاء في موعده ولكنه يحس بحاجة للزواج والأستقرار .... وكيف ذلك وهو لايملك إقامة شرعية ؟؟؟ لما لايسافران بلاده ويعيشان دون حاجة لتلك الإقامة اللعينة ؟؟؟ لكنك رفضت السفر مع أخيك ؛ وماذا ستفعل والعائدون من عطلاتهم يصورون الأوضاع تصويرا مخيفا وركضا لانهاية له .... وكيف تتمكن من إعالة هذه الحورية البيضاء والذريّة التي تتحالم بإنجابها منها وإضافتها لأرقام الموجودين في الحياة ؟؟؟ لابد أن أخيك الآن يعيش لحظات العناء ويمط شفتيه كعادته دائما حينما يحتار ؛ ستواجهه معضلة التأقلم على الأوضاع ومحاولة مجاراة الحياة العامة التي رسم عنها البعض صورة سيئة وبعض آخر أفعمها بالإطراء .
    لابد أنه عانى من سخافات التفتيش والجمارك والتعامل مع عملة غاب عن تداولها فترة طويلة من عمر الزمن ؛ ولفح حر الشمس وإيجاد المسكن ومدارس الصغار وبحث قاتل عن مستشفى يعمل به أو ترخيص لعيادة خاصة ... وسيارته التي شحنها معه قد تواجهه بالغوص في المصطلحات الأزمية المختلفة التي إستوطنت الساحة ؛ كأزمة الوقود والإسبيرات والرغيف وغيرها .. ولابد أنها الآن تقلّصت كما تتقلص أحيانا أجساد بعض العائدين ويصيبهم الهزال والدكنة فغدت عن الجمارك ربع نقل لا نصف نقل .
    وعجب من نفسه كيف نسي التفكير في أخيه بمجرد سفره ؛ فهو من إحتضنه فترة طويلة وأتى به وأنفق عليه وترك له المسكن ومصروفا يعينه على البقاء فترة من الوقت .. فيا لطبعه الغريب الذي يجعله دائما يحس بأن ما يقدمه له الآخرون دائما هو نوع من الواجب وليس شيئا من الجميل ؛ إنه خليط من تركيبة صعبة الفهم ؛ أحيانا يكون بثورة البراكين وأحيانا أخرى بهدوء السماء الصافية ... وهاهو الآن يفكر بالزواج ... غريبة هي الحياة أيضا ؛؛ فالمدينة تعيش في هذه اللحظات مختلف الحالات والأوضاع .. بعضهم يبتهج بالمراقص ويقيم الليالي الحمراء الآثمة وبعضهم يقيم الليل متعبدا مبتهلا لله في خشوع ... بعضهم يلعبون الورق وآخرون يتسامرون .. بعض يكتبون ويقرأون ... لصوص يتحركون ... ساسة يخططون .. مؤرقون يفكرون ... مساجين مغلوبين على أمرهم ... مكاتب تعمل ... مرضى يئنون ... وآخرون يغطون في نوم عميق ... مفكرون .. فرحون ... ضاحكون ... باكون .. كلاب تنبح .. أسرّة تصر ... آهات تنطلق ... لا أحد يفكر في الآخر وكل فرد ينظر للدنيا بمنظاره الخاص ....
    وهذه المخلوقة التي ينوي الآن ربط أقداره بها ؛ كيف سيتعامل معها وكيف سيتمكن من تذليل عوائق الوصول إليها ؟؟؟؟ أما هو فكأبيه آدم الذي عرف الشيطان وتر طموحاته فدفعه على العصيان بشجرة الخلد وملك لايبلى .. ورغم تواضع الخلد في وظيفة مراقب عمال وملك بالزواج وإمتلاك هذه المرأة الهيفاء إلا أنه قرر إسكات كل الأصوات ... قرر العصيان لكل المثبطات وإقتحام الوضع بلا تفكير .
    وإنطلق آذان الفجر معلنا بداية يوم جديد والدواخل لازالت مبعثرة الأفكار



    *** *********** *** **









    ونواصل
                  

02-24-2008, 07:43 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    وأعيا نعيم الفراش بتقلّباته المستمرة ؛ كان عقله مرجلا يغلي وفكره خلية نحل دائبة الحركة ؛ فإتّخاذ القرارات رغم الظروف يخلف وراءه الكثير من جيوش التردد ... إنه طبع الإنسان ؛ يضع العراقيل الحسابية والحساباتية في كل شيء ؛ لكنه أحس بصوت قوي يعلو بأعماقه ؛ فماذا يضيره أ، يتزوج سودانية أو غيرها ؟؟ المرأة هي المرأة ؛ والنساء كالأسماك تختلف أشكالهن وألوانهن ولكنهن يحملن رائحة واحدة لا تتغير ؛ وبماذا تختلف نوال عن رقية وناريمان عن عفاف وومضة عن سحر ؟؟؟ الناس خلقوا سواسية أتـوا الحياة باسلوب واحد ... معاشرة وحمل وإنجاب وإرضاع ونمو ... نفس القاعدة تنطبق على كل الشعوب ؛ والناس خلقوا ليتعارفوا ويلتقوا في مثل هذه اللحظات الحاسمة من عمر القدر ... العالم آدم وحواء ؛ وبحث كلاهما عن الآخر هو مربط الفرس .. الوطن الحقيقي لكليهما هو الآخر .. ولكن لم الزواج والهم ؟؟؟
    ربما السؤال جاء في موعده ولكنه يحس بحاجة للزواج والأستقرار .... وكيف ذلك وهو لايملك إقامة شرعية ؟؟؟ لما لايسافران بلاده ويعيشان دون حاجة لتلك الإقامة اللعينة ؟؟؟ لكنك رفضت السفر مع أخيك ؛ وماذا ستفعل والعائدون من عطلاتهم يصورون الأوضاع تصويرا مخيفا وركضا لانهاية له .... وكيف تتمكن من إعالة هذه الحورية البيضاء والذريّة التي تتحالم بإنجابها منها وإضافتها لأرقام الموجودين في الحياة ؟؟؟ لابد أن أخيك الآن يعيش لحظات العناء ويمط شفتيه كعادته دائما حينما يحتار ؛ ستواجهه معضلة التأقلم على الأوضاع ومحاولة مجاراة الحياة العامة التي رسم عنها البعض صورة سيئة وبعض آخر أفعمها بالإطراء .
    لابد أنه عانى من سخافات التفتيش والجمارك والتعامل مع عملة غاب عن تداولها فترة طويلة من عمر الزمن ؛ ولفح حر الشمس وإيجاد المسكن ومدارس الصغار وبحث قاتل عن مستشفى يعمل به أو ترخيص لعيادة خاصة ... وسيارته التي شحنها معه قد تواجهه بالغوص في المصطلحات الأزمية المختلفة التي إستوطنت الساحة ؛ كأزمة الوقود والإسبيرات والرغيف وغيرها .. ولابد أنها الآن تقلّصت كما تتقلص أحيانا أجساد بعض العائدين ويصيبهم الهزال والدكنة فغدت عن الجمارك ربع نقل لا نصف نقل .
    وعجب من نفسه كيف نسي التفكير في أخيه بمجرد سفره ؛ فهو من إحتضنه فترة طويلة وأتى به وأنفق عليه وترك له المسكن ومصروفا يعينه على البقاء فترة من الوقت .. فيا لطبعه الغريب الذي يجعله دائما يحس بأن ما يقدمه له الآخرون دائما هو نوع من الواجب وليس شيئا من الجميل ؛ إنه خليط من تركيبة صعبة الفهم ؛ أحيانا يكون بثورة البراكين وأحيانا أخرى بهدوء السماء الصافية ... وهاهو الآن يفكر بالزواج ... غريبة هي الحياة أيضا ؛؛ فالمدينة تعيش في هذه اللحظات مختلف الحالات والأوضاع .. بعضهم يبتهج بالمراقص ويقيم الليالي الحمراء الآثمة وبعضهم يقيم الليل متعبدا مبتهلا لله في خشوع ... بعضهم يلعبون الورق وآخرون يتسامرون .. بعض يكتبون ويقرأون ... لصوص يتحركون ... ساسة يخططون .. مؤرقون يفكرون ... مساجين مغلوبين على أمرهم ... مكاتب تعمل ... مرضى يئنون ... وآخرون يغطون في نوم عميق ... مفكرون .. فرحون ... ضاحكون ... باكون .. كلاب تنبح .. أسرّة تصر ... آهات تنطلق ... لا أحد يفكر في الآخر وكل فرد ينظر للدنيا بمنظاره الخاص ....
    وهذه المخلوقة التي ينوي الآن ربط أقداره بها ؛ كيف سيتعامل معها وكيف سيتمكن من تذليل عوائق الوصول إليها ؟؟؟؟ أما هو فكأبيه آدم الذي عرف الشيطان وتر طموحاته فدفعه على العصيان بشجرة الخلد وملك لايبلى .. ورغم تواضع الخلد في وظيفة مراقب عمال وملك بالزواج وإمتلاك هذه المرأة الهيفاء إلا أنه قرر إسكات كل الأصوات ... قرر العصيان لكل المثبطات وإقتحام الوضع بلا تفكير .
    وإنطلق آذان الفجر معلنا بداية يوم جديد والدواخل لازالت مبعثرة الأفكار



    *** *********** *** **









    ونواصل
                  

02-24-2008, 07:45 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    لم تسلم نوال في تلك الليلة من هرجلة الدواخل وفوران تنور الأعماق ؛ فما أن أطفأت النور وتمددت على السرير حتى تناهشتها الأفكار وبدأ عقلها يعمل بطاقة خارقة ؛ هل آن لها الآن أن تستريح من وهج هجير الحياة المتعب بالوصول إلى ما كنت تتحالم به طول فترة المسيرة ؟؟؟ لاتدري ؛ فهي كغيرها من الناس مهما بدت جميلة وصارمة ومهما بلغ مركزها تبدو أمام نفسها هشة عارية مكشوفة ضعيفة ... هي تملك الرغبة والأمل والحلم بالإستقرار ؛؛؛ المرأة حتى لو كانت رئيسة للوزراء أو ملكة يبقى الرجل نقطة ضعفها وحلمها الرئيسي ؛ والرجل مهما بلغت به المبالغ تبقى المرأة حلما يراوده ... بان أمامها رجلا ينشد الحياة والإستقرار ؛ كل أمله في الحياة أن يتزوج وينجب ويحب ... لاتهمه مواصفات المرأة ولا من تكون ؛ المهم أن تكون إمرأة تصنع معه الإستقرار ؛ وهي لا تملك غير هذا الحلم .
    إنه يتمتع بمنطق ساحر وقناعات غريبة ولكنها صادقة ... لقد قطعت أمامه وعدا بالزواج فما بال العقل يهرجل والأصوات تتضارب وتعلو وتهبط فتبقى تشم رائحة الرحيق وتخافه في آن ؟؟؟
    لقد مضت حياتها تتهادى كأنها نسج من الخيال أو ألعوبة في يد طفل بريء ؛ ترى أي نوع من الناس ذلك المخلوق الداكن اللون الذي بدأ يشدها نحو عالمه ؟؟؟ وهل ستعانق لطافة آسيا أرض إفريقيا السمراء مرة أخرى وتتلاحم خصوبة الهلال الخصيب مع عذوبة وسحر النيل ؛ وتختلط الكبّة والمتبلة والحمّص بالكسرة والعصيدة والويكة ؛ ويخط ذلك المداد الأسود خطوطه على ورقة بيضاء ناصعة ؟؟؟
    ربما هذه الورقة بيضاء في ظاهرها فقط ؛ غير أن تركيبتها تبقى عجين من مواد أخرى فأي نوع من الناس أنت يانوال ؟؟؟ حتى هي وجدت نفسها لا تســتطيع الإجابة فــي هــذه اللحظـات والعـقل لازال يـجـوب المـاضي والحاضر مترقبا إيقاعات المستقبل .
    لقد تجرّعت الآهات منذ الطفولة بنشأتها التائهة المعذبة التي إفتقدت الحنان والود بعدما وجدت نفسها مسؤولة عن نفسها ووالديها الكفيفين منذ عرفت الحياة ؛ فكانت تبيع الفستق واللعب والحلوى للأطفال حتى تتمكن مــن إعـالة الأسرة الغــريبة التي كأنما الله خلقها لوحدها في هذا الكون العريض ؛ أو كأنها فقدت جذورها في الطوفان من عهد نوح عليه السلام فلم يتبق منها غير الوالد العتيق الذي يخال للناظر إليه أنه خرج من بين المومياوات المحنّطة أو متحف تاريخي قديم مهمل ؛؛ فقد كان ضخم الجثة ثرثارا ؛ كثير التجاعيد يحلق شعر رأسه بإستمرار ويمتطي صهوة الحكمة كأنه( برناردشو) زمانه
    كان يحكي الحكايات الخرافية القديمة ويمضي النهار حتى آخره متسولا ليجيء في المساء بالعملات المعدنية والورقية وينادي وحيدته نوال لتساعده في عدّها بعد أن يضع جانبا عصاه التي يتوكأ عليها لتعينه على الحركة وكأنها عين فقدت كل شروط الجمال .
    أما والدتها .. تلك العجوزة المسكينة فكانت لا تفتر عن التسبيح والصلاة وإسترجاع ذكريات الماضي الجميلة التي سبقت فقدانها نعمة البصر أثر علّة غريبة مع ذلك الوالد الضرير ؛ وتصرّ على مواصلة وحيدتها التعليم حتى آخر رمق .
    كانت نوال هي الأبنة المدللة لهذين العجوزين المعذبين وكأنها خاتم في يد متّسخة الأصابع ووردة نبتت في مستنقع أو كنز مدفون بين جبال القمامة ؛ وكانت تخدمهما بكل أناة وصبر فتحضر لهما ماء الوضوء والإغتسال ؛ وتفرش لهما المصلاة وتطبخ وتكنس وتذهب للسوق لشراء حلوى تبيعها لزميلاتها بين الحصص .
    لم تك نوال تهتم لإنكسار خاطرها خاصة حينما يتعلق الأمر بدعوة أولياء الأمور للمدرسة ؛ ولم تك أيضا تهتم لتهامس الزميلات وسخريتهم من وضعها الإجتماعي المزري والإقتصادي المعدم وطبيعة عمل والدها ؛ فقد كان عقلها نافذ الذكاء شرها لتلقي التعليم فشقّت طريقها بكل نجاح حتى المرحلة الثانوية العامة حيث تفتح جمالها اللاعادي وكستها روعة الأنوثة الساحرة فأصبحت هدفا لكل رائي من الرجال ..
    كانت دائما تتضايق من تلك النظرات الشرهة التي تلتهمها إلتهاما ؛ وتصد عنها أولئك السخفاء الذين يسألونها بضاعتها بكل وقاحة أو أولئك الذين لا هم لهم سوى المعاكسة ؛ ولم تحاول التقرب من زميلاتها والبوح بما يعتلج في أعماقها لأحد ؛ فقد كانت تحسّ بتلك الهوة الشاسعة التي تفصلها عنهن .
    وجال بخاطرها الذكروي ذلك الرجل الوحش الذي هاجمها بكل قسوة وأمسك تفاحتيها المتدليتين وشعرها وأراد إغتصابها فقاومته ونشبت فيه أظافرها وأخذت تصيح بأعلا صوتها حتى جاء رجال الحارة وأنقذوها منه بعدما تمزقت ثيابها الفقيرة وبانت على جسدها بعض آثار العراك فوجد الحاقدون بالحي في الحادثة ما يشفي مرضهم النفسي بعدما أعجزهم النيل منها فأطلقوا عليها سهام التّشفّي ولخيالهم العنان ليرتووا ويرووا معهم الجميع من نبع الإشاعات المغرضة ؛؛
    ونسجوا حكاية الحادثة وحبكوها جيدا وصوروها أحطّ تصوير واصفين كيفية إستسلامها للرجل الوحش الذي ما أن حاول ولوج الأحشاء لم تستطع الصمود فصرخت معللين ذلك بأن فعلته كانت داخل منزلها وهو خالي .... الوالدة خرجت لعيادة أحد المرضى بالحي فقد كانت رغم فقدانها البصر حريصة على تفقد أحوال الجيران ؛ بينما كان الوالد يتسول طلبا للقمة العيش ..
    وكانت صاحبتنا داخل المنزل حينما سمعت طرقات الباب ... ولما فتحته دخل الرجل دون إستئذان مدعيا إنتماءه للأمن وقد وردهم وجود ممنوعات بالمنزل ..
    تبعته نوال مذهولة لاتدري ما تقول أو تفعل ؛ وإنغلق الباب من تلقاء نفسه ... وما أن ولجا الحجرة حتى إلتفت صاحبنا بعد توقف فجائي وكانت على مسافة زراع واحدة منه .... أطلق نحوها نظرة غريبة أربكت كيانها ؛؛ أطرقت وحاولت التراجع خطوات للخلف بفطرة غريزية وكأنها إستشعرت مقدم خطر ما ؛ ولكنه كان أسرع منها فقد مد يد بسرعة وضمّها إليه بقوة فأصابها الزعر .
    بصعوبة تخلصت منه وحاولت الركض إلى الخارج ولكنه كان لها بالمرصاد ... وبدأت تقاوم بضراوة رغم ذلك الإحساس الغريب الذي يجتاحها كلما لامست يداه بقعة من جسدها وكأن مسّا كهربائيا خفيفا يصعقها فتخور قواها ....
    ولم تملك غير الصراخ فصرخت وهي تقاوم دون أن يتمكن من النيل منها حتى هرع الجيران وأنقذوها منه.
    بعد خروج المعتدي من السجن إدعى بأنها هي التي أغوته ؛ وأفلح في تحويل الأنظار إلى التعاطف معه فتحول من وحش كاسر إلى ضحية بينما غدت نوال في مفهوم الجميع حيّة خبيثة ومرض معدي تتجنبه الأسر وتتهامس بها الشفاه ؛ فقصرت حياتها بين منزلها والمدرسة وكرهت رؤية الناس ثم وجدت عملا مسائيا بعيدا عن الحارة في أحد بيوت الأغنياء لتقوم بالمسح والكنس والغسيل حتى حالفها التوفيق بالحصول على درجة عالية ساعدتها على دخول الجامعة ؛ غير أن فرحتها لم تكتمل فقد مات والدها تحت عجلات سيارة يقودها أحد المتهورين حينما حاول عبور الطريق وهرب السائق ولم يعثر له على أثر بعد ذلك وتم تقييد القضية ضد مجهول .
    وعندما تلقّت والدتها النبأ الأليم لم تزد على النطق بالشهادتين وفارقت روحها الحياة وهي على مصلاتها .
    حضر مراسم التشييع خلق كثيرون تعمد بعضهم إسماعها بأن حضورهم كان من أجل هذين العجوزين الطيبين لامن أجل المنبوذة التي وصفوها بالرماد الذي تمخضت عنه النار ؛ واللؤم الخارج من رحم الطيبة ... ولم تملك نوال ردا على تلك الإهانات سوى دموع بلا ثمن وإنكسار خاطر لم يجد من يواسيه .
    وتفاجأت بالثروة الهائلة التي تركها الوالد من تسوله وكانت كفيلة بوضعها في مصاف أغنى أغنياء البلد غير أنها رأت في المنام والدتها تأمرها بالإنفاق في أعمال الخير فدخلت إحدى داخليات الطالبات بالجامعة وشرعت في تنفيذ وصية والدتها فكانت ترتدي الملابس التنكرية وتتلثّم في كل مساء ثم تخرج في عتمة الليل البهيم لتوزّع المال والأكل على الفقراء والمحتاجين والمحرومين .
    وإنتابت المدينة موجة من الإشاعات المتواصلة بوجود( نبي الله الخضر) عليه السلام الذي يقابلك في الظلام ويزيح عن كاهلك كل الهموم .
    وفي الجامعة كان الأمر مختلفا تماما حيث بدأت زميلات نوال يتهامسن حولها ؛ وزعمن بأنها تخرج متنكرة في كل ليلة لتسويق نفسها وإصطياد الرجال .
    كثر الهمس حتى بلغ عميد الكلية الذي إستدعاها إلى مكتبه وبدأ التحقيق معه بصرامة فانطلقت من عينيها الدموع ساخنة وقالت بكل غلب وحرقة :-
    :- أقسم أنني لست كما يزعمون
    قاطعها العميد بصرامة الحريص على سمعة الكلية ومستقبل الدراسة :-
    :- ليس ثمة دخان بلا نار
    حاولت إقناعه بنبرات المغلوبة على أمرها فقالت من بين البكاء :-
    :- قد يكون الغبار في بعض الأحيان زيفا يغطي جوهرة ثمينة
    رد عليها بذات الصرامة :-
    :- الجواهر الثمينة تفقد بريقها وقيمتها حين يغطيها الغبار لأن القيمة مرتبطة بالرؤيا
    :- وماذا تفعل الجوهرة لو كانت العيون لاتستطيع بل لاتريد رؤيتها ؟؟؟
    :- وهل تتفق العيون كلها حول الغبار إن لم يكن غبارا ؟؟
    :- هذه العيون ياسيدي تريد رؤية الغبار لا الجوهرة
    :- الكلام طينة قابلة للتشكيل والظهور في مختلف الأقنعة ؛ ولكن المنطق شيء ثابت يقبله العقل
    وصرخت بجنون ؛ بكت بحرقة حتى أعاقها النحيب المتواصل عن الكلام وطغى على نبراتها :-
    :- أفعلوا كل ما من شأنه إقناعكم بعكس هذا الإعتقاد الخاطيء

    نظر إليها العميد نظرة متفحصة وقال بصرامة :-
    :- لاشيء غير الفحص الطبي
    لم تشفع دموعها ولا إستجداءاتها المتكررة فقد أحالوها الفحص الطبي الذي إنتظرت نتيجته بقلب خائف من لاشيء وسط تهامس الزملاء الذين جعلوا من موضوعها حديث الساعة .
    وتسرب الخبر إلى الصحف فالتهمته بشراهة وطالبت بالتشديد على الطالبات اللائي هن أمانة وثق أهلها حينما وضعوها بإدارة الجامعة ؛ ورفضت نوال كل طلبات الصحفيين بإجراء تحقيق أو مقابلة معها ؛ فقد إستمات البعض أملا في لقاء لا لمناصرتها بل لتحقيق ضربة صحفية لنفسه والصحيفة ؛؛
    ورصد رؤساء الأقسام مكافآت ضخمة لمن يتمكن من ذلك واضعين نصب أعينهم أن مثل هذا الحوار كفيل برفع معدلات البيع والتوزيع وخلق جو من الإثارة والتفاعل بين القراء .
    هكذا كان تحليلها الذي صور لها نفسها في تلك اللحظات سلعة يتنافس حولها نخاسة الصحافة وناقلي الأخبار فامتنعت بشدة عن كل لقاء بعدما أعمتها النظرة التشاؤمية عن رؤية بعض الصحفيين المخلصين لرسالتهم المهنية الباحثين بكل صدق وتجرد عن الحقيقة ...
    وهكذا تبقى الأوضاع في كل المهن ... الدخلاء يشوهون ويسيؤون للمهنة والشرفاء يدفعون الثمن ويعمهم الشر .

    لم تدر نوال لماذا خافت نتيجة الفحص الطبي رغم ثقتها الشديدة بنفسها ؛ ولكنه حال الإنسان دائما يخاف من كلمة إختبار؛؛ يضعف مهما بلغت قوته أمام عبارة إمتحان .. ومهما كان مستواه جيدا ومهما بلغت ثقته بنفسه إلا أن دقات قلبه تتزايد ويعتوره خوف خفي أو ظاهر حينما يجد نفسه وجها لوجه أمام إتهام أو تجربة أو إمتحان ... فالسائق القدير قد يسقط ويفشل في أبسط أبجديات الإختبارات المرورية بسبب الخوف من كلمة إمتحان ... والطالب الجيد ينسى ما حفظه حينما يضع في ذهنه كلمة إمتحان ذلك المصطلح المرعب .
    وبعد أسبوع كان الزمن فيه قد توقف تماما وأصبح بحسابات القرون أثبت الفحص الطبي أن نوال لازالت عذراء ......... ولكن الزملاء لم تعجبهم هذه النتيجة غير المتوقعة بكل الحسابات فقد نسج بعضهم إشاعات خيالية عن مراودتها له وكيفية إفلاته البطولي عن السياج الذي ضربته حوله ... وبعض آخر إدّعى ولوج شباكها .
    هكذا دائما في كل المواقف الحياتية ينبت أبطال الأزمات ؛ أولئك الذين تتسع آفاقهم الخيالية المدمرة وينسجون الأكاذيب ويؤلفون الإفتراءات ولكنهم يبقون نمورا من ورق إذ سرعان ما يخمد سوقهم وتزوي عنهم الأضواء بمجرد إستهلاك الحدث وفقدانه البريق وإزاحة الغموض عنه ؛ كانوا لايطيقون إكتشاف أكاذيبهم فشككوا في النتيجة وإدعى بعضهم أنها دفعت رشوة ؛ وبعض آخر ذهب إلى إن الجامعة في سبيل الحفاظ على ما تبقى من حبائل سمعتها أخمدت الموضوع ؛ بينما ذهب بعض ثالث إلى القول بأنها في أثناء التحقيق أوردت أسماءا لامعة على حال ( عليّ وعلى أعدائي ) وكانت ستجرجر معها شخصيات كبيرة بالدولة فتم إخماد الموضوع .
    كانت نوال تسمع كل هذه التفاسير المغرضة بصبر وغلب وحرقة ولا تملك غير البكاء والدموع والصمت والوحدة اللامتناهية .
    فكّرت في قطع علاقتها بالدراسة الجامعية والهروب إلى أيّ ركن قصيّ في الأرض لولا أن وقف أمامها نورالدين ؛ ذلك الزميل الأسمر الذي لاح في ساعة الصفر وقفز فوق دائرة الحسابات ليفرض عليها نوعا من الحياة الطوعية الإجبارية الجديدة التي غيّرت مسارها تماما

    .
    *** ********************* ****



    ونواصل
                  

02-24-2008, 07:47 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    كان من عادة نوال بعد تلك الأحداث المفجعة التي جعلتها إنطوائية تتقوقع حول نفسها الجلوس منفردة بعد كل محاضرة على كرسي منزوي في ركن قصيّ شبه مظلم من حديقة الكلية تندب حظها وتناقش ذاتها بصمت مفكرة في مكان تأوي إليه بعدما قررت جديا هجر الدراسة .
    كانت تود الهروب من كل الناس والبقاء بعيدا عن أولئك الذين يحملون في ظواهرهم صورة وأشكال البشر بينما فعائلهم وطبائعهم تنفر منها وحوش الغاب وأفاعي وعقارب وهوام الصحاري ...
    كانت تريد السفر إلى أي مكان بعيد لايعرف فيه تاريخها الذي زيّفوه أحد ولا يتقصّى عن سمعتها التي تجنّوا عليها ولطخوها بالوحل أحد ... ولكن .. أين يوجد هذا المكان والحياة كلها تعمر بتلك المخلوقات الغريبة التي تشبه البشر وهي في حقيقتها كالأبواب الصدئة التي غطّاها الطلاء حتى إذا تحاتت عنها بانت هشاشة المعدن وتآكله ورداءته ولونه المتغير ؛؛ وأين ستسافر وكل الدول الصديقة والشقيقة وحتى العدوّة تضع شروطا قاسية للترحال والإقامة والتنقّل عبر أراضيها ؛؛؛؛ أصبح العالم أمامها أضيق من ثقب إبرة لاتستطيع النفاذ منه ...
    تذكرت ساعتذاك جزءا من آية قرآنية لاتدري في أيّ سورة ولا لماذا تذكرت هذا الجزء بالذات وبدأت تردده في سرّها ( حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ) .
    حقا ذاك هو اليأس القاتل الذي يستحيل الخروج عنه ؛؛ فلماذا يعذبها الله كل هذا العذاب ؟؟؟ وتراجعت سريعا عن هذا السؤال المخيف برادع إيماني عميق حينما تذكرت طرفا من حديث والدتها التي كانت كلما داهمها كرب رددت بقوة وصبر ويقين رغم ضعف بدنها وفقدانها وزوجها البصر والعائل :-
    :- إذا أحب الله العبد إبتلاه .. دائما بعد الشدة فرج وبعد العسر يسرا.
    غير أن اليأس بدأ يدب الآن في جسم أمل ذلك الفرج.
    وقطع عليها حبل إضطراب أفكارها نورالدين الذي وقف أمامها وحيّاها ؛؛؛ تفاجأت بنبرات صوته فهي لم تنتبه لمقدمه ولا وقوفه ويرديده عبارات التحية أكثر من مرة .
    ردّت عليه بإرتباك ثم تماسكت قليلا بعد ذهاب بريق المفاجأة وقالت بتهذيب :-

    :- عفوا .. لم أنتبه لوجودك
    كان نورالدين ؛ذلك الفتى القادم من أرض النيلين ببشرته السمراء وشعره الأجعد الكثيف وحاجبيه المقرونين بكثافة يحظى بإحترام الجميع ؛ ولا يتدخل فيما لايعنيه ويقول دائما انه جاء من أجل التعليم لا من أجل حشر أنفه في شيء؛ وقد أفلح في نسج علاقات طيبة مع كل الزملاء وكان
    عضوا فاعلا في أنشطة الكلية .. ردّ عليها نورالدين بأدب وإحترام :-
    :- لاعليك .. أدركت ذلك .. ولكن إلى متى ستعيشين في هذا الركن المظلم من الحديقة ؟؟؟
    أطلقت آهة عميقة حمّلتها كل لواعجها ودهنتها بهموم صدرها قبل أن تقول :-
    :- الركن ليس أكثر إظلاما من الأعماق
    وبنبرة إشفاق وحنان أطرد يقول :-
    :-ولماذا تغلقين أعماقك في هذا الغار المظلم ؟؟؟؟ نحن لم نخلق لإحتضان الوحدة
    :- لقد اتى الله بي وحيدة إلى الكون ولو كان يعلم خيرا في غير ذلك لكنت توأما على الأقل
    نظر إليها برهة قبل أن يقول :-
    :- البالونة حينما يتكتّم فيها الهواء ويزداد قد تنفجر
    ردت بوهن وغلب :-
    :- وما حيلتي ؟؟؟
    نظر إليها طويلا ثم قال بعبارات قوية :-
    :- لتعتبرينني صديقا
    وردت بأسى وصدق :-
    :- الشقاء مرض معدي وأنا أحمل جرثومته وكل فيروساته في أقداري ... أنأى بنفسك فالنار تحرق كل من يقترب منها
    :- ولكنها تقدم له خدمات جليلة .. إنها رغبتي الأكيدة
    :- لا تتعب نفسك ؛ فما عدت أمتلك الثقة بأحد
    نظر إليها نظرة طويلة ممتدة كأنما يحاول عبرها تشييد جسر من الخيال على حافة الفراغ ... أحسّت في نظرته بذلك الإحساس الغريب الذي يشبه المس الكهربائي فإرتعشت فرائصها ولكنه عاجلها بنبرات دافئة قائلا :-
    :- هل تقبليني زوجا ؟؟؟ لاتردّي الآن وفكّري بعمق وسأعاود السؤال عن نتيجة التفكير .
    وبحركة لا إرادية إنكمشت على نفسها وتقلصت كفيها لحماية التفاحتين الناضجتين وكأنه يريد الهجوم عليها وإقتطافهما غير أنه صعقها بنظرة غمرت إحساسها وأوجمتها وإنطلق عنها بخطوات ثابتة وبصره مطرق إلى الأرض ..... وتبعته بنظراتها المذهولة حتى إختفى .
    حاولت طرد التفكير فيما قال غير أن التفكير كان كالوحي الذي هبط عليها وإستوطن الأعماق ... لأول مرة يجتاحها ذلك الشعور الغريب وكلمات نورالدين لازال صداها يتردد في أذنها ؛ وتلك النظرة التي تماثل صعقة مسّ كهربائي .
    :- هل تتزوجيني ؟؟؟؟
    أتزوج ؟؟؟ شيء غريب لم أفكر فيه من قبل .. وماذا سيقول الناس عن زواجي من هذا الزميل الأسمر ؟؟؟ مالي ومال الناس فقد قالوا عني من قبل ما لم يقولوه فيه ... ثم ماذنبه لو كان أسمر أو غير ذلك وماذا ينقصه ؟؟؟ كل الزميلات يتهامسن بفعائله النبيلة .. كلهن يتحدثن عنه بإعجاب ويعشقنه في أعماقهن ولكنهن يخفن من نظرة المجتمع للون ... لقد هبطت حواء في مكان ما من الكرة الأرضية وهبط آدم في مكان آخر ؛ ولكنهما إلتقيا رغم بعد الشقّة فتكونت الذرية .... سام وحام إخوة وكلنا أولاد نوح وأبناء آدم عليهما السلام ؛ والإنسان ينبغي قياسه بوحدة الأخلاقيات والسلوك والجوهر .. نورالدين ليس فيه ما يعيب فلما لا تقبلينه يانوال ؟؟؟؟
    وفي أثناء المحاضرة وجدت نفسها لأول مرة تعايش الشرود وتفقد التركيز ؛ وكان من عادتها دائما أن ترمي مشاكلها وهمومها خارج القاعة كما يرمي السباح ملابسه على الشاطيء ثم تعود وترتديها من جديد بعد إنتهاء المحاضرة ؛؛؛ لكنها اليوم نست همومهاومشاكلها ورغبتها الرحيل وهجر الدراسة ..أصبح التفكير فيه وحديثه يتبع فكرها كالظل ويغتصب بالها عنوة .
    و في داخل القاعة إلتفتت ناحيته أكثر من مرة فأحسّت به هو الآخر يسبح معها في عالم فسيح بلا حدود ... عالم يتجاوز قاعة المحاضرات ويبعد عنها ؛ فهو يختلس النظر إليها بين الفينة والفينة حتى إذا إصطدمت النظرات المتلصصة من الجانبين تضطرب الأعضاء وتطرق العيون خجلى بسرعة أتوماتيكية كإنهزام سارق أفتضح أمره .
    وأحسّا بأنهما يسبحان في عالم مختلف يقفز فوق الصوت الجهوري للدكتور المحاضر والصمت الرهيب الذي طغى على الطلاب وكأنما على رؤوسهم الطير ؛ كان عالما مضطربا ذلك الذي إنسرقت إليه روحاهما ؛؛ عالم يقتات الحذر والترقب والإرادة والتردد والوعـي واللاوعي ... إنه إحساس المغامرة غير مأمونة العواقب .... ترى كيف ستمضي بهما الحياة وماذا يستطيع فعله وماذا ستعطيه ؟؟؟
    غريبة هي الحياة الزوجية التي يعتبرها المستهترون مجرد حقبة تبدأ بالتوقيع على ورقة وتنتهي بإطلاق كلمة في ساعة غضب ... هي كون يختلف عن كل الأكوان ... إثنين يربطهما مصير واحد ويصارعان الحياة معا ويقتسمان كل شيء ؛؛ يصبحان جزءا من بعضهما ويتنازل كل طرف عن كثير من حريته ليهبها طواعية للآخر ؛؛ ترى أي نوع من الرجال أنت يانورالدين ؟؟؟ إنهم يقولون بأن الرجل يتغير بعد الزواج فهل سيعتريك جنون التغيير وتظهر خلاف ما أنت الآن تبطنه ؟؟ ولماذا إخترتني من بين الجميع مع معرفتك التامة بما وصلت إليه سمعتي من التلطيخ وعدم إمتلاكي أهلا تناسبهم وتتكيء عليهم فتحتمي بهم في هذا البلد الغريب عنك ؟؟؟ أم ياترى تسرّب إليك نبأ ما ورثته من ثروة جلبت لحياتي كل هذه المتاعب ؟؟؟
    أسئلة كثيرة حائرة لن يجب عليها غيرك أيها الفتى الأسمر .
    وإنتهت المحاضرة وهي ترقب حركته دون وعي منها ..... لاتدري لماذا أحسّت بالضيق حينما وقف مع إحدى الزميلات يشرح لها بعض مواد المحاضرة ... وتقمّصها شعور غريب ؛ وبحركة لا إرادية إندفعت نحوهما وقاطعتهما قائلة :-
    :- لو سمحت يانور الدين أريدك في موضوع هام
    إلتفت إليها ولم يزد عن كلمة :-
    :- حاضر
    وإستأذن زميلته التي هزّت كتفيها ومطّت شفتيها بإستغراب وأدارت ظهرها وخطت في الإتجاه المعاكس.
    وإنطلقت نوال صامتة يتبعها نورالدين الذي إنتقلت إليه جرثومة الصمت حتى إبتعدا عن قاعة المحاضرات .... وتلفتت ميمنة وميسرة كأنها تخاف آذان الجدران ثم وقفت مستندة على جذع شجرة ضخمة وارفة الظلال وقالت :-
    :- أريد أن أطرح عليك بعض الأسئلة
    رد عليها بهدوء :-
    :- تفضلي
    نظرت إليه نظرة عميقة قبل أن تقول :-
    :- لماذا نوال والكلية تعجّ بالحسان ؟؟؟
    :- لأن القلب لم ير في الكلية غير نوال
    ولم تكترث لنبراته الدافئة وواصلت بكل قوة :-
    :- حتى وهي ملطخة بأغبرة العار ؟؟؟
    :- لو فكرنا في وخز الأشواك لن نستمتع أبدا بجمال الورود
    غمرته بنظرة ثابتة متفحصة قوية ثم سألت بإلحاح :-
    :- لماذا أنا بالتحديد يانورالدين ؟؟؟
    أجابها بذات النبرة وبكل ثقة :-
    :- لأنك تختلفين عن غيرك ... لأنك حقا مميزة
    :- ومن قال لك ذلك ؟؟؟
    :- قلبي وإحساسي وهما لا يعرفان الكذب والنفاق
    وتغشّت نبراتها موجة ضعف فجائية وشيء من الإستسلام وقالت :-
    :- وكيف أتيقن من حقيقة نواياك ؟؟؟
    نظر إليها طويلا ثم أمسك بيدها وجرّها نحوه وهو يخطو للأمام بسرعة ويقول :-
    :- تعالي معي وسأقنعك
    تبعته مستسلمة لاتدري لماذا ؛ حتى دخلا مكتب عميد الكلية ووقفا أمامه واجمين ... سألهما بصوته العميق القاسي :-
    :- مشكلة جديدة أليس كذلك ؟؟
    كان نورالدين يفعل كل شيء ربما بلا وعي ... فاجأه السؤال ولكنه مالبث أن إستعاد تماسكه ورد بكل هدوء وثقة :-
    :- لا ولكني أردتك أن تكون الولي الذي يتولى أمر عقد قراننا
    وإتّسعت حدقتا عيون العميد أقصى إتساع ؛ ولم تكن عينا نوال أقل إتّساعا ؛ ولم يستطع احدهما التّفوه بكلمة


    ***** ***** *******
    1
    ونواصل
                  

02-24-2008, 07:49 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    ومضى كل شيء كأنه الحلم أو ساعة الخدر .. فبعدما إستفاق العميد من ذهوله أمطرهما بسيل من الأسئلة كان نورالدين يتولى الرد عليها بينما ظلّت نوال صامتة هائمة شاردة البال لا تعي شيئا مما يحدث.
    و بعد جدل عنيف وأخذ ورد إنتهى الأمر إلى المأذون وتم عقد قرانهما بتلك الطريقة الدرامية الغريبة .
    وأحسّت نوال رغم تهامس الزملاء والزميلات وسخافاتهم التعليقية ؛ بالأمان مع ذلك الشاب الأسمر الرقيق الذي أحال حياتها جنان وارفة الظلال ؛ وإنتزعها من ذلك الغار المظلم الذي حبست نفسها فيه .ولم يتقاسما الفراش بعد تعهدهما أمام عميد الكلية بمباشرة ذلك بعد إنتهاء العام الراسي وكان عامهما الأخير يتخرجان بعده لممارسة الحياة العملية .
    وكبرت في نظره حينما فسّرت له بصدق سر ميلاد تلك الضجة التي أثيرت حولها ؛؛ ودهش أكثر حينما إكتشف بأنها تنام على ثروة هائلة .
    وخرج بها من ظلمة حرم الجامعة إلى الحدائق العامة والشواطيء والمتـنزهات ؛ وأغراها بالإنفتاح على الحياة والجزم بإنحسار حقبة الشقاء في حياتها .

    كانا رغم عقد القران يعيشان فترة حب عذري بريء عفيف ؛ وأحبته بصدق وبادلها الحب الصادق حتى إنتهى العام الدراسي وتخرجا بتقدير جيد ثم نزحا لعاصمة البلاد التي تبعد عشرين كيلومترا فقط من مقر الجامعة وأنشآ شركة تجارية بما تبقّى من ثروة .
    كتب نورالدين لأهله عن موضوع الزواج غير أن الفكرة لم ترق لهم وتقيأوها بكل نفور ولم يتقبلوا تلك الزيجة التي لايعرفون فيها العروسة وعائلتها وجذورها ؛ ولم يرتضوا زواج إبنهم بتلك الطريقة الغريبة ومن إمرأة غريبة ؛ ربما غجرية أو سيئة الجذور وهم الذين يحسبون أنفسهم في قائمة الأسر الأرستقراطية ؛ وحتى في هذا الوسط كانوا يتشددون في المحافظة على الأصول والتقاليد والعادات ومجافاة التحرر .. وقد رأوا في زواجه دون مشورتهم ووجودهم نوعا من التحرر والإنحلال فردوا على رسالته بكل قسوة وأشعروه صراحة بعدم مباركتهم الزواج مذكرين إياه بأنهم بعثوه من أجل تلقّي التعليم لا الإخصاب وتحسين النسل وأن ( سلافة ) بنت عمه نائب البرلمان تنتظره بفارغ الصبر بعد رفضها سيل العرسان المنهمر تجاهها من أجل سواد عينيه .
    ناقشها في الأمر وقرر التحدي فقطعوا عنه المصروف الشهري عبثا ثم إنقطعت صلته بهم تماما بعد ذلك .
    ومرت أشهر الزواج الأولى وقد تحولت حياتهما فردوس تراءت فيه كل صور الراحة والحنان والدفء والنعيم ؛ وإبتسمت الأقدار حينما أحست نوال بشيء يتحرك في أحشائها ؛ وإكتملت الفرحة بإطلالة طفلهما ( وليد ) الذي ملأ عليهما الحياة وأعاق والدته عن مواصلة العمل بالشركة جنبا لجنب مع الوالد فاضطر لإدارتها منفردا .
    ومرّ بخاطرها ذلك اليوم البعيد حينما كان نورالدين مستلقيا على السرير في غرفة النوم متوسدا زراعها وهي تتمدد بجواره بينما الطفل ينام على سريره الخاص وجهاز الكاسيت يترنم بأغنية عاطفية حالمة وقد خلت الغرفة إلا من ضوء بنفسجي خافت ولحظات حب حالمة وهدوء مثير
    إلتفتت نحوه وقالت بعد تفكير طويل :-
    :- لابد من زيارة أهلك يانورالدين
    تنهد قليلا ثم إمتطى لحظة صمت وتفكير قبل أن يقول بصوت المغلوب على أمره :-
    :- ولكنهم تبرأوا مني
    حاولت تهدأة خواطره فقالت :-
    :- الظفر لا ينفصل عن العظم ؛ والدم لن يصبح ماءا على الإطلاق فقد يكون في ذهابك حرارة تؤدي لذوبان الجليد خاصة بعد إعلامهم بمقدم وليد
    تنهد مرة أخرى قبل أن يقول :-
    :- سأفكر بالموضوع
    كانت تدرك بحكم معاشرته بأنه حين يرفض أمرا يتهرب بطلب مهلة تفكير لذلك فاجأته بقولها :-
    :- أنا مصرّة كل الإصرار على ذلك .. ألم تقل بأنك ستفعل كل ما يرضيني ؟؟ حسنا هذا هو أقصى ما يرضيني .
    :- ولما الإصرار يانوال ؟؟
    :- حتى لا ينبت صغيرنا بلا جذور فيبقى كفرع قطع من شجرة لا يعرفها ... لقد تذوقت عذاب هذا الإحساس وأرفض أن يتجرعه إبني
    وكأنما مسألة الإبن لاتقبل المساومة صمت كعادته قليلا ثم قال :-
    :- حسنا .. سنسافر معا
    :- والشركة ؛ من يديرها ؟؟ إذهب لفترة مؤقتة .. نصف شهر مثلا تمهّد لذهابي
    :- حسنا ؛ لامانع عندي بشرط التمهيد لإقامتنا الدائمة ونقل أعمالنا إلى هناك
    أجابت دون تردد :-
    :- لامانع عندي إفعل ما تراه مناسبا
    وماهي إلا أيام حتى قطع تذكرة السفر وإشترى أغراضا وهدايا كثيرة ... ودعته في المطار وعادت إلى البيت.

    بدا البيت من غيره منفرا موحشا كأنه الصحراء وكأنما نورالدين كان نورالمنزل .. وإجتاحتها موجة من العصبية والغيرة والوساوس وفقدت شهيتها في الأكل .. هاتفها في اليوم التالي وطمأنها على وصوله ثم إستمرت إتصالاته بصورة منتظمة وقد سارت الأمور على أفضل مما كانا يتوقعان فقد إرتضى الأهل بعد الرفض وإحتضنوا إبنهم بعدما تبرأوا منه وقد وضعهم مقدم الطفل أمام الأمر الواقع .
    وعملت نوال ترتيباتها حسب توجيهاته فقامت بتصفية الشركة وباعت الضيع التي إمتلكاها مؤخرا ... وفجأة ودون أدنى مقدمات إنقطع إتصاله بها ... وإنتظرت يوم ويومين وشهر دون جدوى وكأنما الأرض إبتلعته إلى الأبد .
    وسيطر عليها الخوف وإستبد بها القلق فجفّ ثديها وشحب لونها وهزل جسمها ؛؛ وكانت تعزّي نفسها كل يوم بإنتظار الغد غير أنه لم يتّصل أبدا .
    ولما غلبها الإنتظار سافرت إلى بلاده ولكنها وجدت نفسها كمن يبحث عن إبرة في كوم قش ؛ وتفاجأت بقارة كاملة تعج بإسم نورالدين وأرض مترامية الأطراف أنفقت نصف ثروتها في التنقل فيها بحثا عنه دون جدوى.
    وأخيرا أضطرت للعودة بوحيدها وقلبها الكسير وقد إنتابتها هواجس كثيرة حول هذا التصرف الغريب ؛ ؛ وأضطرت للطلاق منه بواسطة المحكمة بعد مرور عامين على غيابه الميؤس ثم إنتقلت إلى إحدى دول الخليج وبدأت تتلمس طريقها في الحياة فالتقت بهاشم ؛ذلك الرجل الطيب الذي أواها ؛ وكان هو الآخر يعيش مع طفله الصغير الذي ماتت والدته أثناء الولادة بنزيف حاد .
    وكان هاشم يعمل موظفا بإحدى الشركات فلما تزوجها إشترى معها نصف أسهم الشركة وعملت معه فيها بعدما أحبت طفله اليتيم وشرعت في تربيته بجانب طفلها .
    وأدخلا الطفلين إحدى المدارس الداخلية العاملة بنظام الحضانة الشاملة تتعهد رعاية الأطفال وتربيتهم وتعليمهم مقابل مبلغ مالي محدد حتى بلوغ أعلا المراتب التعليمية .
    وأحبها هاشم حبا جما وأخلصت له وإستمرت حياتهما هادئه مطمئنة لا يعكر صفوها شيء قرابة العام ولكن الرياح دائما لا تستمر على حال وجرثومة الشقاء التي حملتها بين أقدارها لا تنفك تستيقظ مهما طال بها الرقاد ففي ذلك اليوم خرجت كعادتها مبكرة مع زوجها وبدأت في ترتيب الأوراق .. وبينما هي منهمكة في ذلك رنّ الهاتف فإلتقطت السماعة بصورة طبيعية وقالت :-
    :- ألو
    وكاد قلبها يقفز من بين الضلوع وإتّسعت حدقات عينيها أقصى ما يكون الإتّساع وبدأت أعضاؤها ترتعش بشدة بعد أن نقل لها الخط الهاتفي صوته مرتويا بالحب والهيام والوله ... صمت برهة ثم قال :-
    :- أين أنت يا نوال .... لقد قلبت الدنيا عليك

    وغدا بمشيئة الله نواصـــــــــــــــــــــل
                  

02-25-2008, 12:31 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    ونواصــــــــــــــــــــل
                  

02-25-2008, 09:45 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    وكاد قلبها يقفز من بين الضلوع وإتّسعت حدقات عينيها أقصى ما يكون الإتّساع وبدأت أعضاؤها ترتعش بشدة بعد أن نقل لها الخط الهاتفي صوته مرتويا بالحب والهيام والوله ... صمت برهة ثم قال :-
    :- أين أنت يا نوال .... لقد قلبت الدنيا عليك
    كانت المفاجأة تبين في نبرات صوته هو الآخر ... إنه نورالدين !!!! ولكن .. أيّ أرض تلك التي إنشقّت عنك يانورالدين ؟؟؟
    حاولت لملمة ماتبقّى من حبائل الأعصاب فقالت بصوت مرتعش :-
    :- أين أنت الآن يا نورالدين ؟؟؟
    :- في الفندق الغربي
    :- وما الذي أتى بك إلى هنا ؟؟؟ أقصد كيف أتيت ؟؟؟
    :- إنها قصة طويلة ... سأنتظرك يا عزيزتي على مائدة الغداء بعد إنقضاء ساعات العمل
    :- حسنا ... حسنا
    :- رقم الغرفة هو 242
    :- حسنا ... حسنا
    وأغلقت الخط .. إشتعل بالها بالتفكير ... إضطربت الأعصاب ووجمت العيون ... فأي أرض تلك التي إنشقت عنك يانورالدين وأيّ قبر ذلك الذي خرجت منه ؟؟؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات وأين كنت طول هذه المدة ؟؟؟ وكيف تستطيعين الخروج من هذا المأزق يانوال وماذا ستقولين لزوجك ؟؟؟؟ وماذا تقولين لنورالدين ؟؟؟؟ وطفله الذي يقضي معك بالمنزل إجازته السنوية هل ستعطينه له ؟؟؟ لقد تخلّى عنك في أحرج الظروف ولم يكترث لحبك أو يأباه لطفله وإختفى كل هذه السنوات .. كيف عرف مكانك ؟؟؟
    ماج صدرها بالتساؤلات وقررت مقابلته وحسمه .
    وما أن إنتهى موعد الدوام الصباحي حتى أطل وجه زوجها هاشم لإصطحابها إلى المنزل ولكنها سألته السماح لها بالذهاب لصديقتها ( منى ) التي تعمل بشركة أخرى ؛ وإدّعت بأنها دعتها للغداء قبل يومين ولكنها نست إخباره .
    وبكل طيبة وعفوية قادها هاشم إلى المبنى الذي تسكنه صديقتها وصعد معها السلالم وقرع جرس الباب ولاحت من وراءه منى فحياها بكل أدب وترك زوجته وإنصرف .
    وكانت المفاجأة تبدو واضحة في عيني صديقتها من سرّ هذه الزيارة الغريبة غير أنها عاجلتها بضرب الحديد على سخونته قائلة :-
    :-أعذريني يا صديقتي فقد أضطررت إضطرارا لوضعك في هذا الموقف الحرج ؛ فأنا اليوم متضايقة من البيت ولا أحس برغبة في البقاء مع هاشم فقلت له أنك دعوتيني للغداء عندك .
    تمتمت (منى ) بتردد وشك :-
    :- إذا تفضّلي
    :- لا .. عفوا .. سأذهب للغداء في المطعم
    قالت منى بدهشة :-
    لماذا المطعم والأكل موجود بالبيت ؟؟؟
    أجابت بإضطراب :-
    :- أرجوك .. حاولي أن تفهميني .
    ردّت عليها منى بطريقة رسمية وقد بدأت نظرات الشك تزداد في عينيها :-
    :- إنها آخر مرة أسمح لك فيها بذلك .. ولكن إذ تكرر منك ...
    وقاطعتها نوال بسرعة وإرتباك :-
    :- صدقيني .. أنا لا أعمل شيئا مشينا وأعدك بأنها لن تتكرر
    وأغلقت منى الباب بعنف ... وهبطت نوال تطوي السلالم دون وعي منها وعقلها يعمل بكل طاقته وبالها يسافر به الشرود إلى خارج حدود الواقع والوعي والمنطق ... ترى ماذا سيقول لها وماذا ستقول له ؟؟؟ ... إنه تافه حقير لايستحق منها الإحترام والإستمرار .. ولكن لماذا تذهب إليه ؟؟ إنه لايستحق حتى ملاقاتها له فقد تجاهلها دونما سبب ؛ وبسببه باعت شركتها وضحّت بإستقرارها وأنفقت نصف ثروتها بحثا عنه ... ولكن لما هذا الإصرار الذي يدفعها لملاقاته ؟؟؟
    وبدأت في رسم سيناريو اللقاء ... ستقابله بوجه عابس وتصفعه قبل أن تقرأ عليه السلام ... راقت لها الفكرة فهو يستحقها بعد أن خدعها بإحساس زائف ومشاعر سرابية وأنبت فيها سرطان التعلّق به للدرجة التي حملتها على أن تقترح عليه تلك الرحلة المشؤومة فكانت كبراقش التي جنت على نفسها ...
    لقد إستسلمت له ووثقت به ولكنه لم يكن على مستوى الثقة ولا أهلا لها وتمكن من إخفاء لؤمه وحقارته في ثوب طيبة زائفة وحديث معسول ومواقف مصطنعة ... ولم تك رومانسيته الخادعة سوى قشرة خارجية تهاوت عند أول تجربة إفتراق ؛ فلماذا لم يرد على نداءاتها في الإذاعة والصحف حينما ذهبت تبحث عنه في بلاده ؟؟؟ ولكم كانت ساذجة حينما طاوعت عقلها اللاواعي وقطعت الفيافي بحثا عنه ؟؟؟ ربما أحس بالغرور في هاتيك اللحظات حينما عرف تهافتها في قبول حبّه وتسرّعها في تسليمه قيادها ... وربما يكون نورالدين أكذوبة ... حلم جميل إستيقظت منه على واقع هاشم الذي إرتبطت به شرعا وقانونا ... وربما خيالها اللاواعي هو الذي صوّر لها هذه المكالمة الصباحية ... ولكن نورالدين شخص غير عادي .. كانت تصرفاته معها غير عادية ... زواجهما في الجامعة كان غير عاديا .. سحره ولطافته وتهذيبه أيضا ؛ وحتى حضوره إليها في هذه البلاد غير عادي ؛ فمن هو هذا النور الدين ياترى ؟؟؟؟ ولكن أيّا كانت نوعيته فهو لايستحق غير الردع والقسوة والتهاون معه ضربا من الخطأ الفادح ... فلماذا لاتتصل بأجهزة الشرطة وتدبّر له مكيدة إنتقامية تثأر عبرها لكرامتها التي أنزفها وكبريائها الذي جرحه بلاسبب ؟؟ فهي لم تخنه ولا جرحته يوم وإنما كانت تغار عليه حتى من هب النسيم أن يخدشه ؛ وجعلته مكمن أسرارها ووثـقـت به لدرجة العمى و..
    وإنتبهت لنفسها فجأة وإستغربت لطول المسافة لتي قطعتها سيرا على الأقدام دون أن تدري وكأنما بساط ريح خرافي يحملها إليه .
    كانت مشيتها ساعتئذ أشبه بالهرولة ؛ وكانت تشير بيديها وتتكلم وحدها دون وعي ... وتلفتت ميمنة وميسرة في إستحياء وقد خال لها في تلك اللحظات أن الكون كله يراقبها ويضحك عليها ويستهزيء بها ... وأشارت لأقرب تاكسي إرتمت على مقعده الخلفي ونطقت بإسم الفندق ... وماهي إلا دقائق حتى وقفت أمام الفندق فنزلت تهرول تجاه المدخل ولكن السـائق ناداها بإستغراب فقد نسيت أن تنقده ثمن الأجرة فإرتدت على أدبارها وإعتذرت له ثم هرولت ناحية المدخل ؛ وحيث موظف الإستقبال المتأنّق في بدلته رغم لفح الرطوبة في الخارج وقد تدلّت من عنقه ( كارافيتة ) وحوله مجموعة من أجهزة الهاتف ... وقفت تلتقط أنفاسها قليلا ثم قالت
    :- لوسمحت أكلم غرفة رقم 242
    نظر إليها وأجاب بابتسامة مصطنعة تعوّد بيعها للزبائن دون ثمن :-
    :- الأستاذ نور الدين ترك مذكرة وهو ينتظرك بالكافتيريا ؛ أول باب على اليسار
    وتسارعت دقات قلبها ... لم يكن خيالا ما سمعته إذا ؛؛ لكنها ربما تكون الآن في لحظة حلم وستستيقظ منه بعد قليل ..... وضمّت أصابع كفّها الأيمن إستعدادا لتوجيه صفعة حادة لوجهه .. تحرّكت بخطوات عصبية كأنها إنسان آلي ؛؛ وما أن إجتازت أول باب إلى اليسار حتى إنفرجت أمامها الكافيتريا التي لم تخل من بعض الرواد .
    كان نورالدين يجلس وحيدا وبين شفتيه سيجارة نفث منها دخان كثيف وعيناه مركزتان على ساعة الحائط .
    تحركت نحوه دون أن يراها ولكنه أحسّ بحركتها عندما إقتربت منه ..... تقدّمي الآن يانوال واصفعيه صفعة حادة أمام الملأ ........ وتقدمت بخطوات ثابتة ... إقتربت منه أكثر ولا زالت اليدان مضمومتي الأصابع تستعد للصفع .. سيستدير الآن فكوني مستعدة لتوجيه صفعة حادة خاطفة ... وفجأة إستدار وإلتقت النظرات .. وبدأت الأصابع المتعانقة تنفرد تدريجيا ... أحسّت بضربات قلبها المتسارعة تزداد تسارعا وشيء ما يقتحم أعماقها كأنه مسّ كهربائي ....
    إنه ذات الإحساس الذي وجدته في نظراته لأول مرة وكأنما بين عينيه وحي يحمل رسالة الضعف والحب والإستسلام ... ودون شعور وإرادة صرخت بإنفعال ودهشة :-
    :- نورالدين !!!
    وبذات الإنفعال صرخ صاحبنا :-
    :- نوال !!!
    وارتمت بين أحضانه فاحتواها وقد تركت وجهها يرتاح على شقّه الأيسر ودموع غزيرة تنهمر من عينيها .....فترة عصيبة مرّت عليهما وهما يقفان على تلك الحالة الغريبة من الإنفعال قبل أن يجلسها على أحد الكراسي ويجلس على الكرسي المقابل ويأمر النادل بإحضار العصير الطازج .

    ونواصــــــــــــل
                  

02-25-2008, 09:53 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    لأكثر من ربع ساعة ظلا صامتين تنام نظرة كليهما في نظرة الآخر وقد فقدا حاسة النطق وكأنما الدنيا كلها إنحصرت في نقطة إلتقاء هاتين النظرتين أو كأنهما مخلوقان أصابتهما لعنة ساحرة عجوزة فتحولا حجرين لا ينطقان ولا يتحركان .....
    واتاها الإحساس بذاك الشيء الغريب في نظرات عينيه ؛ ودون أن تعي قالت :-
    :- عرفت الآن كم أحبك يا نورالدين !!!
    أجابها بصوت مؤثّر ولهجة حالمة :-
    وأنا عرفت الآن أنك قدري
    وسألته بنبرة واهنة :-
    :- ولماذاحدث ما حدث ؟؟ وماذا فعلت لأستحق منك هذا الجزاء ؟؟؟
    وبنبرات حبّ صادقة تدعمها نظرات العيون أجاب :-
    :- لاتظلميني ياعمري فما من شيء في الدنيا يحملني على أن أقسو عليك
    صمتت برهة قبل أن تسأله :-
    :- وأين كنت طول هذه الفترة ؟؟؟
    تنهد طويلا ثم أجاب دون أن يرفع عنها نظرات عينيه الهائمة :-
    :- كل شيء حدث كأنه الحلم ... هل تذكرين عندما إتصلت بك آخر مرة ؟؟؟ كنت قبلها غادرت إلى البلاد ولا زالت عالقة بذهني تلك اللحظات العصيبة حينما كنا نتجه نحو المطار ومعنا الطفل .. كانت نفسي تنازعني البقاء ... كيف أفارقكما وأنا المتعلّق بكما حدّ التعلّق ؟؟؟ لم أتعود على فراقكما منذ أن إلتقينا ... وإنهمرت أنهار الدموع من عيني وكأنها تنافس دموعك حينما تلونا عبارات الوداع ومن ثم تحركت إلى الطائرة متباطئا ؛ ولازالت عالقة بعقل خيالي صورة إطراقك الحزين وكأنك لوحة رسمتها ريشة فنان معذّب .... وأحسست بضيق صالة لمطار رغم إتّساعها وقسوتي الشديدة على نفسي بإنتزاعها عنكما إنتزاع الروح عن الجسد .
    كان كل شيء يمضي بإيقاع أشبه بلحظات الغيبوبة ... لم أفكر في دخول السوق الحرّة وإنتظرت لحظات صعدت بعدها إلى الطائرة ....وهناك تنازعتني الأفكار والأحاسيس الغريبة المتناقضة ... تذكرت الشمس الحارقة في بلادنا وجليد الشتاء في بلادكم ؛ وأطلت كومة من الوجوه تستعرض نفسها على شاشة البال ... أمي الطيبة وأبي الصارم وإخوتي وأهلي وأنت وإبني ... كوكبة من الوجوه مرّت وكأنها معروضة على نظام الفيديوكليب تتعاقب بسرعة ..... تذكرت نتفا من حياة الطفولة وبعض الذكريات الحلوة وصورة لإحدى الفتيات كنت قد نسجت معها أنسوجة عاطفية بريئة في سابق عهدي قبل أن تكتب الأقدار تزويجها من غيري ؛ ثم صورة زملاء الجامعة وهم يدافعون بإفتضاح واضح عن أنسوجانهم الأباطيلية عنك ؛ وصورتنا أمام عميد الكلية حينما طلبنا الزواج .. وتلك اللحظات العصيبة التي زرعت فيها فناء المستشفى جيئة وذهابا يقتلني القلق وأنت في الداخل تستعدين لإنجاب الطفل....
    وجدت الإنسان لحظتذاك ذاكرة من صور الماضي وإرشيفا يحفظ كل الأحداث ... وتنازعني الحنين لأهلي والعودة لكما ... وظللت على تلك الحالة من الشتات الفكري والشرود الذهني حتى هبطت الطائرة مدرجات مطار الخرطوم الدولي.
    كانت الساعة وقتها قد تجاوزت الشروق بقليل وقد بدت الشمس حارقة رمت بكل ما تملك من كرم دفعة واحدة فأسالت عرق الجباه لتبدو كعذراء إنفضّت بكارتها للتو ... البنايات أمامي أقل علوا وأشكال الناس رغم التعب البادي عليها أحسست فيها بمسحة من الطيبة الفطرية والعفاف ....
    لم يك عندي وقت فركبت أقرب حافلة نقلتني لمدينتي التي تبعد ساعات عن العاصمة .
    أول ما فكرت فيه قبل الوصول إلى منزلي مهاتفتك وقد حدث ذلك ثم إتجهت إلى بيتنا القديم ... الحي السكني لايزال هو الحي والبيت أيضا ... فهناك في تلك الأرض البعيدة كل الأشياء تبدو وتظل ثابتة بلا إيقاع رغم شدة ضجيج الإيقاع ؛ فلو وضعتي حجرا في مكان ما وعدتي بعد عشرة سنوات تجدين الحجر في مكانه غير أن الوجوه هذه المرة بدت مختلفة فهاهي ذي البثور قد تسلّقت وجه أخي الصغير وغيّرت قليلا في ملامح وجهه وإذداد جسمه فراهة وداهمته موجات المراهقة ... وأخته التي أبصرت النور معه في لحظة واحدة هاهي ذي أطرافها تعدو وهاهي ذي تحييني وفي عينيها مسحة حياء لم أعهدها فيها من قبل .. وأمي بدأت التجاعيد تتسلل بحذر شديد على وجهها وكفّيها ...
    أما سكان الحي فمنهم من عرفته ومنهم من عرفته بإستغراب بعدما سألت عنه .... رباه ... ليست سنوات الغياب بالعدد الذي يجعل كل شــي مختلفا أمامي ... وربما هو عيب الإنسان أن يخال الأشياء دائما مهما طالت غيبته عنها ثابتة الإيقاع والحركة والنمو بنفس العين التي رآها بها آخر مرة وتنطبع في ذاكرته بذات الإنطباع ...
    أما دكان ( اليماني ) الذي كان يبيع الفول والطعمية ونتفا من ضروريات الأشياء فقد وجدت فيه شخصا آخر غير ( اليماني ) الذي عرفت أنه أفتتن بالهجرة العكسية فعاد إلى اليمن بعد أكثر من ثلاثين عاما قضاها في دكانه الذي لم يتغير شكله ولا نوع بضاعته .. ولم أر ( عم حامد ) صاحب طبلية السجائر المجاورة للنادي ولما سألت عنه عرفت بأنه غادر الحياة .
    لقد بدأت المدينة تتغير ؛ ولعلها كانت تسير في طريق التغيير والنمو والتطور منذ الأذل ولكن بقاؤنا فيها يعميناعن الإحساس بالتغيير طالما أننا نتغير معها .
    ووضعت أمي الطيبة أمام الأمر الواقع بمناقشتها حول أسباب رفضها زواجنا ؛ وأنت الآن أم وتفهمين أحاسيس الأمومة التي عزفت على وترها بنجاح جعلها تتكفل بإقناع الوالد لتتحول المواقف لمصلحتنا خاصة بعد أن أطلقت بالونتي في الفضاء بإشاعتي خبر التمهيد لنقل أعمالنا إلى هناك بما يجعلني قريبا منهم وتستوعب شركتي الكثير من العاطلين عن العمل ؛ وكنت أطلعتك على كل ذلك بالهاتف أولا بأول حتى حدث ذلك الإنقطاع الفجائي الغريب .
    صمت نورالدين قليلا وإرتشف جرعة من العصير إبتلعها بصوت مسموع وكأنه خائف إستيقظ من هلوسة حلم مخيف .
    وبلعت نوال هي الأخرى ريقها بصوت مسموع وقد إنتبهت كل حواسها وشيء ما في أعماقها يستعجل معرفة ذلك السبب الذي وضعها الآن في هذه المحنة القاسية التي لم تفكر بعد في كيفية الخروج منها.
    وبعد لحظات كأنها سنوات من الصمت المتعب بدأ نورالدين الحديث بصوت كأنه إمتزج بعتاقة التاريخ القديم وكأنه خارج من كهف مظلم تسكنه الرهبة أو مغارة نائية :-
    :- كل شيء مرّ كأنه الحلم .. كلحظة الغيبوبة ... لست أدري كيف حدث ذلك وفي تلك اللحظات بالذات فقد كنت في أيامي الأخيرة كما قلت لك أسعى للتمهيد لنقل الشركة وقد أفلحت في إستخراج التصاديق اللازمة لذلك من مدينتنا ومن حاضرة البلاد .
    و في ذلك اليوم المشؤوم فكرت في القيام بزيارة ميدانية لمواقع الإنتاج في مدينة ( أبوجبيهة ) التي تقع إلى الجنوب الشرقي من إقليم إسمه ( كردفان ) يقع في وسط البلاد إلى الغرب من مدينة الخرطوم ... كان من المفترض أن أذهب في الصباح الباكر وأعود في المساء لأتصل بك صباح اليوم التالي .
    ركبت الباص إلى مدينة ( أبوجبيهة ) حيث ترقد مزارع المانجو والخضروات والموالح فتنفح المدينة بهجة تجعلها جنّة حقيقية ضلّت طريقها فاحتضنتها الأرض ....و وصلت إلى المدينة في وقت مبكر مكّنني من زيارة مواقع الإنتاج وأصحابهاالذين تشاورت معهم حول كيفية التعاون مع شركة مبتدئة كشركتي ؛ ووجدت الشروط موافقة لشروطي ثم ودعتهم بعدما وعدتهم بالعودة مرة أخرى لإبرام العقود ثم ركبت الباص غافلا إلى مدينتي .
    وكان الجو غائما وسلاسل الجبال الممتدة على جانبي الطريق أخذت بالي نحو التفكير في أشياء بعيدة ؛ فلكل مكان أثره في التأمل والتفكير والإنسان بطبعه يتمنى لو يسكن كل مساحات الأرض في آن .
    وبينما الباص يواصل مسيرته الطويلة وصوت المحرّك يتردد صداه بين الجبال وكأن الطبيعة تقلّد معه النداء أو كأنما بين الجبال والصوت مناجاة وود أذلي وعناق دائم تتآنس معه لتكسر طوق عزلتها وصمتها الطويل ؛ إنشقّت الأرض فجأة عن مجموعة من المسلحين يسدّون الطريق أمامنا في محاولة لإجبار السائق على التوقف ؛ ولكن السائق العنيد الذي خبر المنطقة وتمردها لم يكترث لصرخات النسوة ولا دقّات قلوب الرجال وإتّخذ أقرب طريق إنحرافية بين الجبال وأطلق لباصه العنان بيد أنه لم يفلح في الإبتعاد كثيرا فقد أصابت الإطارات الخلفية مجموعة من الطلقات النارية تم تسديدها نحونا فتوقف الباص تماما وعجز عن مواصلة الحركة .
    أما مجموعة العسكر التي رافقتنا لحماية الباص فقد إستبسلت في الدفاع عنّا ولكن الكثرة غلبت القلّة في خاتمة المطاف ... وأوسعونا ضربا بعد ذلك ثم إقتادونا كأسرى من مكان لآخر حتى بلغت بنا الأقدار في النهاية قرية قريبة من الحدود السودانية مع دولة إفريقية مجاورة .
    وهناك في أحد المعسكرات قضينا فترة الأشغال الشاقة المؤبدة دون أن يكون لنا الخيار في ذلك ودون سبب أو ذنب جنيناه .
    كدت أجن من هول الصدمة ؛ فأنت تنتظرين الهاتف وأهلي ينتظرون عودتي بينما الوقت يمر بطيئا متثاقلا وكأنه أهمل تلك القرية أو كأنها لم تخلق له ....
    وفقدت ومن معي من الأسرى كل آمال العودة وبدأنا التفكير في مصيرنا المجهول ؛ فلو حاولنا الهرب سنتخبّط في أرض الله الواسعة بعدما ضاعت أمامنا الإتجاهات .
    وظللنا في تلك القرية نحمل المؤن والعتاد إلى قرى سودانية مجاورة نتبع آسرينا من الخلف ؛ ويعودون بنا بعد تنفيذ عملياتهم إلى ذلك المعسكر في تلك القرية التي فقدت الزمن والوقت ونحن كالحمار يحمل أسفارا طائعا كان أو مكرها .
    وإستمر هذا الحال لاندري كم من السنوات طاف علينا وكم من التغيير إعترى الحياة حولنا وكم بشر ولدوا وكم ماتوا وماذا حدث ؛ فالدنيا كلها في منظورنا إنحصرت في قرية صغيرة ترقد في مكان مجهول تنام خارج هالة الوقت وتمتاز بالقوانين الصارمة .... وجبة واحدة فقيرة طول اليوم وحمل للعدة والعتاد مرة أو مرتين في كل أسبوع وسجن دائم لامفر منه ؛ وقد خال لنا أننا ربما نكون وقتذاك في كوكب يسبح خارج فلك الجاذبية بعيدا عن هالة الكرة الأرضية وخارج دائرة الوقت والزمن .
    قد يكون كوكبا سقط في تلك البقعة من الأرض وظل يحتفظ بكل مميزاته فأسقطتنا فيه يد الأقدار .
    كل شيء في ذلك الكوكب كان ينطق باللاعادية ... وجوه الناس غير عادية .... العادات والتقاليد غير عادية ... الطرق المؤدية للخارج غير عادية ... حتى وجودنا فيه كان ضربا من اللاعادية .... أحلامنا ونومنا ويقظتنا وذكرياتنا وكل شيء .... لن أستطع الشرح فالكوكب لن تتمكن كل عبارات القواميس وكلمات الدنيا من شرحه .
    و رغم ذلك كنت وصغيرنا تعيشان معي في ذلك الكوكب الغريب ... كنتما تستوطنان ذاكرتي صباح مساء وتقتحمان أحلامي وتستمرآن بالي فقد كنتما آخر أمل إمتلكته وأحببت من أجله الحياة .
    و كنت أستقبل شمس الإستواء الحارقة في الصباح وقمر إفريقيا الساحر في الليل وأخالهما أنت .... ولم نك مسجونين بين قضبان الحديد فكوكبنا كان سجنا بلا قضبان ؛ فالغابات الكثيفة تحيط كل جانب ؛ وزئير الأسود يصك الآذان وأصوات الحيوانات المفترسة الأخرى موسيقى دائمة تردع كل من تسول له نفسه إجتياز حدود تلك القرية .
    أما الطريق منها وإليها فلا يعرفه غير أولئك الذين أتوا بنا لسبب لانعلمه وسخّرونا للعمل بلا أجور وكأنهم أرادوا أن يبنوا بنا في ذلك الكوكب مملكة خرافية . ... ولم نك ندرك جدوى أسرنا ونحن نعلم أن الحكومة المركزية في الخرطوم لن يهمها أمرنا بالدرجة التي تقدّم فيها تنازلات من أجل ركاب باص تاه في عمق الجبال وإنقطعت أخباره ولا آسرينا يحاولون المساومة بنا وهم يدركون أننا لسنا بالصيد الثمين الذي يمكن مبادلته .... ورغم ذلك كنا أحد نماذج ضحايا هذا الهوج المجنون من حرب تجتاح البلاد بلا هدف .
    كان بين آسرينا أحد أبناء الشمال حاولت التّقرّب منه عدة مرات ولكنه لم يعط نفسه الفرصة للتحدّث معي فقد كان حراسنا ممنوعين من التحدّث إلينا والإقتراب منّا إلا في حدود الأوامر والضروريات وكأنهم طبقة عليا تخاف عدوى طبقة دنيا .
    وبعد محاولات مستميتة بدأ يلين شيئا فشيئا لنبدأ تجاذب أطراف الحديث .
    حدث ذلك للمرة الأولى حينما إشتدت عليّ وطأة حمى الملاريا ؛ تلك الآفة القاتلة التي لم تتوقف يوما عن حرب الإنسان الإفريقي والفتك به وقد إنصرف عن حربها أغلب المسؤولين في القارة بمحاربة أبناء جلدتهم وإنفاق الأموال الخرافية في ذلك .
    ذهبت مع ذلك الحارس إلى المستشفى الوحيد بالقرية .... ورغم صغر ه إلا أنه أعد إعدادا جيدا يجعلك تستغربين وجوده في ذلك الكوكب المخيف بينما تخلو مدن كبرى في البلاد من المستشفيات ومرافق العلاج .... ولا تعجبي يا عزيزتي لو قلت لك بأن ذلك الكوكب الخرافي يضم كل أسباب ومقومات الحياة رغم صغر حجمه ونأيه عن المناطق المعمورة في اليابسة ؛ فهو يضم مخازن للأطعمة وأسرى يأتون بهم بعد كل غارة وحراس وجنود يتناقصون مع كل غارة أيضا ...... وفيه مرقص وحانات خمور بلدية وأجنبية وسبايا ومماليك ؛ وفيه أيضا كنيسة وقسيس وطائرات تعلو وأخرى تهبط مخترقة بأزيزها رهبة السكون ؛ ويوم للغارات ويوم للقداس ومخازن ضخمة للأسلحة يخال لمن يراها أن العالم يصنع أسلحته لتخزينها بذلك المخزن النائي العتيق ....... وفي الكوكب أناس بيض البشرة خضر العيون يأتون بإنتظام يتلون الأوامر وهم يحملون خرطا كثيرة معقدة في أيديهم يجتمعون مع أولئك الذين لفحتهم شمس الإستواء فأنضجت جلودهم لدرجة الإحتراق .


    ونواصل
                  

02-25-2008, 09:59 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    و بعد تحقيقات متعبة أطلقوا سراحي فسافرت بلاد الشام أبحث عنك ولم أجدك ..... وبالسؤال عرفت أنك هاجرتي للخليج فإقتفيت أثرك .
    وصمت برهة بينما أحسّت نوال في تلك اللحظات كأنما سحرا ما قد زال أوكأنها إستفاقت إستفاقة فجائية كاملة من نوم عميق .
    وإنتزعتها أفكارها من حلمها في المكان البعيد إلى أرض اليقظة ؛ فقد عاشت بكل كيانها وحواسها في اللحظات السابقة بأمكنة الأحداث ؛ كانت قدماها تتحركان أحيانا ؛ وأحيانا يداها ؛ ويتقلص وجهها أحيانا أخرى تبعا لمجريات الأحداث والرواية ... لكنها عادت الآن بروحها إلى المحسوسات أمامها ؛ فهاهي ذي الطاولة ؛ وهذا هو نورالدين ؛ وهذا العصير أمامها لم ترتشف منه رشفة واحدة ؛ وفي حياتها الآن تلك المشكلة المعقدة التي لم تجد لها بعد حلا .
    وواصل نورالدين حديثه قائلا :-
    :- عندما وصلت إلى هذه البلاد إستعنت بموظف الخدمات في الفندق فأتى لي من الإستعلامات بكل هواتف الشركات وبدأت الإتصال .... كان إحساسي يرجّح وجودك في شركة ... قلت في سرّي ؛ لو لم أفلح سأستعين بوسائل أخرى كالصحف وأجهزة الإعلام ... ولم يخب ظنّي فمن خلال الإتصال الرابع كان ترتيب هذا اللقاء.
    وصمت برهة ثم أطرد يقول :-
    :- وأين الولد يانوال ؟؟؟؟
    كانت نوال تعيش ببالها موجة إضطراب عنيفة وعيناها مثبتتان على شفتيه المتحركتين دون أن تعي كلمة مما يقول
    أعاد السؤال بقلق وحدة وخوف وصوت عال :-
    :- أين الولد يانوال ؟؟؟ هل حدث له مكروه ؟؟؟
    وأعادتها لهجته وإرتفاع صوته إلى الواقع واللحظة فسألته بشرود :-
    :- ماذا قلت ؟؟
    نظر إليها بإرتياب وأعاد السؤال بنفاذ صبر :-
    :- أين الولد ؟؟هل حدث له مكروه ؟؟؟
    رمقته بخوف خفي ثم أجابت :-
    :- الولد بخير يا نورالدين
    :- وأين هو الآن ؟؟؟؟
    :- معي بالبيت
    :- إذا سأحاسب الفندق وهيا بنا ننطلق إليه
    وتحرّك واقفا نصف وقفة ؛ لكنه ما لبث أن إرتمى على الكرسي بأعصاب متفاجأة من عدم تحرّكها وقبوعها واجمة تائهة ؛ سألها بخوف :-
    :- ما بك يانوال ؟؟؟
    أجابته بغلب ووهن :-
    :- لست أدري كيف أشرح لك الموقف
    صرخ بجنون وحدة :-
    :- ماالذي تخفينه يانوال ؟؟؟
    نظرت إليه طويلا وقد بدأت تحسّ بسريان الحمى يدب في أعضائها وعاصفة من الغيبوبة تبشّرها بالإجتياح وقد بدت الدنيا تدور حولها فأمسكت جبهتها بكفها الأيمن وضغطت عليها بعنف بعدما أحسّت بصداع قوي يجتاحها ... حاولت المقاومة فلم تتمكن ؛؛؛ وفاجأ الجفاف شفتيها وجاء صوتها كأنه صادر من بئر عميقة وقد تغشّاها الوهن :-
    :- لقد تزوجت يانورالدين .
    ودارت به الدنيا وأظلمت أمام عينيه ورأى بقعا من الألوان صفراء وحمراء وزرقاء تدور بسرعة وكل شيء يدور معها ... ولم يعي شيئا بعد ذلك


    ونواصل
                  

02-25-2008, 10:10 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    عندما إستيقظ نورالدين وجد نفسه يرقد على السرير وبجواره نوال تزرف الدمع السخين ... حاول أن يتحرّك ولكن أنبوب النايلون الناقل للدم والجلوكوز كان مثبتا في يده .. إستقر مكانه وأطال النظر إليها بعينين واهنتين وقوة خائرة .. وشيئا فشيئا بدأ يتذكّر ما حدث .. وسألها بوهن وإستسلام :-
    :- لماذا يانوال ؟؟ وكيف حدث ذلك ؟؟
    نظرت إليه طويلا قبل أن تجيب بلهجة المغلوب على أمره :-
    :- بعدما إنقطعت أخبارك سافرت السودان أبحث عنك دون جدوى ... وجّهت نداءات عديدة على أجهزة الإعلام عبثا وكأنك فصّ ملح ذاب في بحيرة أو كأنك برق لاح وإختفى إلى الأبد .... أضاء الكون برهة وتوارى لغير رجعة ... وعدت بالطفل مجرجرة أذيال الخيبة والحزن واليأس وقد بدأت الألسن تلوك قصّتي ... بعضهم فاض به الخيال فاتّهمني بالتدبير لقتلك ولا أدري لماذا ؛ وبعض آخر ألصق بي نعوت الشؤم والتّطيّر وقالوا بأن شؤمي قتل والديّ وأخفاك .. وأضحت نظرات الجميع تضايقني فاضطررت للهرب بطفلي للخليج ... ولكي أصون نفسي وأحفظها من نظرات وأفكار الطامعين ‘ وحتى يجد إبني رجلا يربيه ويرعاه بجواري كان الزواج .
    صرخ في وجهها بصوت منفعل ولكنه واهن :-
    :- وكيف تتزوجين على زواجي ؟؟؟؟
    نظرت إليه طويلا قبل أن تلقي قنبلتها بكل حزم وقوة :-
    :- طلّقتني منك المحكمة بطلب منّي
    وكأنما أصابته القنبلة القوية فتح فمه دون أن يتكلم ثم إسترخى وحوّل نظراته إلى سقف الحجرة وظلّ صامتا يطقطق أصابعه .
    أغاظها وحرق أعصابها صمته الطويل فاقتحمت السكون بلهجة درامية مؤثرة تلتحف إحساسا غريبا لم تدر له تسمية :-
    :- صدقني كان ذلك رغما عني .. ولكني أحبك يانورالدين
    ودون أن يحول بصره عن السقف سألها بصوت واهن :-
    :- وأين الولد ؟؟؟
    :- قلت لك أنه معي بالبيت ولكن ...
    وقاطعها بلهجة حادة شرسة :-

    :- ولكنك أصبحت زوجة لغير والده وإنتهى من حياتك مخلوق إسمه نورالدين أليس كذلك ؟؟؟
    أطلقت آهة قبل أن تقول بوهن :-
    :- لم أعهدك أنانيا يا نورالدين .. ضع نفسك مكاني
    وأجابها بحدة دون أن ينظر إليها :-
    :- ولماذا لاتضعين نفسك مكاني ؟؟
    نظرت إليه بوهن وقالت :-
    :- لاداعي للتباكي على الأطلال فما حدث قد حدث ولم يبق أمامنا سوى التفكير فيما سيكون
    نظر إليها ثم قام نصف قومة وقد أحسّ بوخز الإبرة في يده وقال لها بإصرار دون أن يرفع عنها عينيه :-
    :- الحل الوحيد أن تتطلّقي ونعود لسابق عهدنا
    وصرخت من هول الكلمة فهي لم تسمع طيلة حياتها كلمة الطلاق وأجابت بوهن :-
    :- ولكن ...
    ولكنه لم يمهلها وقال مقاطعا :-
    :- ليس في الأمر مجالا لكلمة لكن ... إختاري بيني وبينه
    نظرت إليه طويلا ثم نهضت وأدارت له ظهرها وتحركت دون أن تنبث ببنت شفه ...
    ووصلت منزلها واهنة قلقة وقد عزمت على الطلاق ... وما أن طرقت الباب حتى فتحه زوجها هاشم الذي سألها بلهفة :-
    :- أين كنتي ؟؟ لقد قتلت الأمكنة بحثا عنك ولم أترك مركز شرطة ولا مستشفى ولا ...
    وأمسك عن إكمال الحديث حينما أحسّ بجمودها وشحوبها وسألها بإستغراب :-
    :- ما بك يانوال ؟؟
    أجابته بلهجة قاطعة وبلا مقدمات :-
    :- طلّقني يا هاشم
    نظر إليها بإستغراب وذهول ثم هزّ رأسه وإتجه إلى السرير وشدّ عليه الغطاء وتمدد .... لكنها لحقت به وأزاحت الغطاء عنه بإنفعال وحاولت الثورة في وجهه فأحسّت بنفسها خائرة القوى فارتمت بجواره وغطّت في نوم عميق.
    ونواصــــــــل
                  

02-25-2008, 10:18 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    وأعيا هاشم الفراش بتقلباته القلقة في تلك الليلة وفي أذنيه يتردد صوت نوال بطلبها الغريب بعد غياب مريب .. وإنشغل باله بشدة ... رباه .. هل يمكن أن تكون ..... أو أن تكون .... أو أن يكون .... ؟؟؟ ولكن لا .. مستحيل ... وكيف تستطيع تفسير ما جرى ياهاشم ؟؟؟ لاتسألها ولكن تتبعها لتعرف السر الذي قلب كيانها وأدارها عنك .... لا .. لايمكن أن تكون نوال ..... ولكن لماذا طلبت الطلاق ؟؟ ولماذا كذبت عليك ؟؟ ألم تتصل بك صديقتها ( منى ) بعد لقائها بها مباشرة وتخبرك بكل القصّة ؟؟؟
    ومع إضطراب أفكاره لم ينم حتى إنبلج نور الصباح فنهض وصلّى الفجر ولكن الخشوع أبى أن يأتيه في ذلك اليوم وقد إنخطف عن وجهه بريق الشباب وبدت تقاطيعه كمن يحمل هموم العالم بأسره وكأنما في لحظة واحدة تقدّمت به عشرات السنين .
    لم تقدّم صاحبتنا القهوة والشاي كالمعتاد فهي الأخرى كانت في خالة يرثى لها ؛ كانت تعيش وضعا أشبه بالغيبوبة وفكرها يعمل بكامل طاقته .... ماذنب المسكين هاشم لتبيعه بهذه السهولة ؟؟؟ هو لم يقصّر في حقها مذ عرفته وكان نعم الزوج .. لكن نورالدين أيضا لم يقصّر في حقّها ... قلبها ميّال إليه... ......... نظرات عينيه تخترق شغاف قلبها وتقودها دون وعي للتّصرف لصالحه ... تربكها وتهز كيانها ... لقد أحبته بكل صدق والمعادلة أصبحت صعبة للغاية .. وماذا ستفعل لو طالب بولده وحرمها من رؤيته مدى الحياة ؟؟؟ الولد الآن أهم من نورالدين ومن هاشم ومن كل الدنيا ... رباه ماذا تفعل ؟؟ هل كتب عليها أن لا تعيش في هناء وإستقرار ونعيم ؟؟؟ هل تهرب مع نورالدين ؟؟؟ ولكن كيف السبيل إلى ذلك وكيف ستعيش معه وهي على عصمة رجل آخر ؟؟ هل تطرده ؟؟ وكيف تستطيع البقاء لو أخذ منها ( وليد )؟؟؟
    وكأنما خافت من أن يكون قد فعلها حقا ؛ نهضت من سريرها وهرولت إلى حيث ينام وإحتضنته بقوة حتى إستيقظ وقد بللت دموعها شعر رأسه .
    وإستمرت على تلك الحالة من الشتات حتى الصباح ... لم تقو على النهوض من سريرها .. وما أن أبصرت زوجها يخرج إلى عمله كالمعتاد حتى واتاها إحساس غريب فنهضت بسرعة ؛ وبحركة لا إرادية دخلت الحمام وأدّت فروضه بقلق وإرتدت ثيابها على عجل ثم هرولت تجاه المستشفى .
    وكان هاشم قد إنزوى في ركن قصيّ تحت المبنى منتظرا خروجها ثم تحرّك يتبعها من بعيد دون أن تراه .
    لم تجده بالمستشفى فقد خرج منها .. وبسرعة جنونية إتجهت نحو الفندق .. وإصطدمت به في المصعد وكان خارجا فدهش للقائها ... حيّته سائلة :-
    :-إلى أين يانورالدين ؟؟؟
    :- لست أدري
    أحسّت بنفسها تعيش خارج هالة الوعي وكأنها طفلة صغيرة ... وأمسكت بيده دون شعور منها وقالت ضاحكة وهي تجرّه إلى الشارع :-
    :- إذا هيا بنا إلى الحديقة ... هناك في أطراف المدينة حديقة هادئة بعيدة عن الناس
    أوقفا أقرب سيارة أجرة إرتميا على مقعدها الخلفي وأشارت للسائق بالذهاب إلى الحديقة .
    وإجتاح الذهول ( هاشم ) الذي أبصر بأم عينيه كل ماحدث وقد أحسّ بالدنيا تظلم أمامه بينما دواخله تفيض فجأة بالحرقة والمرارة والألم .. ودون وعي منه أيضا إرتمى على أقرب سيارة أجرة وأشار للسائق أن يتبعهما وإبتدأت المطاردة .
    نزلا وولجا الحديقة التي كانت خالية تماما من الرواد في هذا الوقت المبكر .. وإستقرّا تحت شجرة ضخمة جلسا على الحشيش المزروع وقد غاصت نظراتهما في البعض ليبدأ حديث الصمت يحملهما الإحساس بالحرية والطلاقة وكأنهما ولدا من جديد أو كأنهما آدم وحواء قبل نزولهما إلى الأرض .
    وأنتشلهما من ذلك الإحساس صوت هاشم المشحون بنيران ونبرات الحزن والغضب وهو يصرخ بشدّة والشرر يتطاير من عينيه كأنه كتلة بركان ثائر :-
    :- نوال!!!!!!
    وإندفعت من عينيها نظرة ذعر وكأنها شاهدت أمامها ملك الموت يستأذنها إستيفاء الدين ... وقبل أن تتحرّك من مكانها كان قد وصل إليها وصفعها صفعة حادة .
    لم يتحمّل نورالدين فظاعة المشهد ودون أن يقصد وبحركة لا شعورية وجّه لكمة قوية أصابت هاشم وإرتمى عليه بكامل ثقله ... وضربة بضربة سقطا على الأرض .
    نهض نورالدين مذعورا يبحلّق في كفيه المبسوطتين وكأنه ينكر صلتهما به ؛ فقد سقط هاشم على حديدة حادة مغروسة بالأرض إخترقت ظهره حتى البطن ... ولم ينهض هاشم ولكن عيناه كانتا شاخصتين إلى السماء وبين شفتيه ماتت بقايا لعنة لم تبصر النور ؛ وتشنّجت أعضاؤه ونزلت حرارته إلى درجة الصفر .
    ودون وعي منها إندفعت إليه نوال .. رفعت زراعه ثم تركتها فسقطت .. وصرخت صرخة عالية مدوية ولم تدر ما حدث بعد ذلك ما حدث

    ونواصل
                  

02-26-2008, 08:56 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    ونواصــــــل
                  

02-28-2008, 07:25 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    وحرّكت نوال رجليها ويديها في تثاقل وقد بدأت الظلمة أمامها تتحول لشيء أشبه بالضباب ؛ والأشياء تبدو باهتة وتنجلي شيئا فشيئا وكأنها تتفتح ببطء أو كأنها تعرض أمامها بفنّيات التقنية التلفزيونية البطيئة حتى إستردت وعيها لتجد نفسها ممدة على السرير وبجوارها نورالدين ينظر إليها ساهما شارد الفكر .. وبدأت في إستدراك ما حدث ... تذكرت الجري والنظرات وصوت هاشم والبركان المندفع من عينيه وصفعته الحادة وعراكه مع نورالدين وبقايا اللعنة التي ماتت بين شفتيه .. وتمتمت تسأل :-
    :- هل مات أحد ؟؟؟

    :- وإنتبه نورالدين وكأنه جندي عاد من عالم اللاوعي وصحراء التوهان ... نظر إليها نظرة طويلة حزينة مرتبكة وعيناه ترمشان كثيرا ثم أطلق من جوفه آهة عميقة وأطرق ففهمت كل شيء وعاودت تسأل :-

    :- وأين هو الآن ؟؟؟
    :- لا أدري شيئا .. لقد تركته هناك وأتيت بك إلى هنا دون أن يرانا أحد
    ودون وعي منها قالت :-
    :- هيا أهرب يانورالدين .. أهرب
    أجابها بخوف وقلق :-
    :-- ولكن ..
    :- أرجوك يانورالدين .. إهرب لوكنت تحبني حقا ...فأنا لا أريد رؤيتك تتعذب وتقاد إلى السجن .. فكّر في حال ولدنا يانورالدين
    وغابت عن الوعي مرة أخرى ... وذاب نورالدين مرة أخرى وكأنه فصّ ملح في ماء .
    وخرجت نوال من الفندق وإنكشف أمر الجثة التي مات صاحبها بفعل فاعل مجهول وقد أثيرت حولها الكثير من الإفتراضات وتعرضت لتحقيقات الشرطة ولكنها أنكرت تماما أية صلة لها بالحادث
    ورحل هاشم وإختفى نورالدين وأصبح الإثنان ذكرى غالية تستوطن أعماقها ؛ ولكنها دائما تحسّ بعقدة ذنب قاسية .
    وصرفت مستحقات هاشم وواصلت عملها في الشركة بكل جد وإجتهاد بعدما أعادت الطفلين إلى مدرستهما الداخلية الخاصة ليتعلما بعيدا عن تلك الجرثومة التي لازمت قدرها فجعلتها تعيش في شقاء مستمر .
    ونأت بنفسها تماما لأربعة سنوات عن الرجال حتى إلتقت بنعيم ؛ هذا الشاب الذي إمتلك الآن مفتاحا سحريا لمعالجة هذا القفل الذي علاه الصدأ وقادها نحو التفكير في نفسها وأنوثتها وجعلها تسهر هذه الليلة مستعرضة شريط الأحداث الطويل في حياتها التي طلتها مرارة المأساة ورصف الألم كل طرقاتها ؛؛ فهل ذاق ما ذاقت من أهوال وإلتحف العذاب وتجرّع الحرمان ؟؟
    لقد قال بأنه مثلها بلا أهل ..... ربما يكونان أكذوبتين ضمّهما التاريخ تحت سقف واحد ؛ بل ربما حانت نهاية الحياة وبدأت الدنيا في تجميع الأشقياء مكان واحد والسعداء في مكان آخر ... ولكنها تحسّ في نظراته ببريق نورالدين … تحس فيه وهج الحب وصبابات الهوى .. إنها الآن تملك مفاتيح الرفض والقبول فهل تتزوجه وتعيش وهل تستطيع أن تقدم له شيئا ؟؟؟ رباه .. ماذا تفعل وقد أصبح الفكر مرجلا يغلي ؟؟؟ هو لايملك إقامة تمكنه من البقاء في البلاد بصورة مشروعة ؛ ولا حتى من الزواج ... ولكن الإقامة أسهل شيء يمكنهما تذليله ... إنهما الآن يملكان كل شيء ... يملكان الإستعداد لأن يكونا لبعضهما .. يملكان أثاث هذه الشقة وما تبقّى من مستحقات زوجها .. ويملكان بوادر الحب فلماذا لا تتزوجه ؟؟؟ لماذا تدفن شبابها وأنوثتها في عقدة الذنب بسبب مقتل زوجها هاشم والتباكي على أطلال نورالدين ؟؟؟؟ لماذا لاتحاول التصالح مع الحياة ؟؟؟ ربما سترتاح وتسعد وتحسّ بالإستقرار الذي ظلّت تشتهيه منذ ولادتها .
    ومع آذان لفجر قررت أن تخوض التجربة .
    وكان نعيم في الغرفة الأخرى لايقل باله هرجلة وكأنما وحي الإضطراب التفكيري قد هبط على هذه الشقة برسالة تقرير المصير ؛ فقد رصف كلاهما الطريق وأخذ تفكيره مجرى الواقعية بعدما كان يسبح في الخيال .
    وعلى مائدة الشاي حسمت النظرات والبسمات الأمر برمته ؛ وقال لها نعيم بلهجة درامية تتدفق حنانا وحبا وولها :-
    :- لقد أحببتك من كل قلبي يا نوال
    وهزّت نبراته الدرامية خيطا رفيعا في وجدانها وإنتقلت العدوى لتستشري في الأعماق فقالت بنشوة حالمة زيّنتها إبتسامة هاربة :-
    :- وأنا كذلك .. أحببتك من كل قلبي يا نعيم
    وإحتضنت العيون بعضها بالنظرات وإنتزعت نوال نفسها إنتزاعا من الجلوس معه والذهاب للعمل .
    وظلّت واهمة واجمة تفكر طول اليوم في الدنيا الجديدة التي ستعيشها .
    ودخلت إلى المدير وقدّمت له أوراقه .
    أما نعيم فقام بمجرد خروجها بتنظيم البيت وترتيبه من جديد ووضع عليه لمسات سحرية يدفعه نشاط فجائي غريب لم يألفه في نفسه من قبل وقد أحسّ في أعماقه بإمتلاك شيء ما وإنتظار شيء قادم ؛ رغم أنه لايعرف كنه ذلك الشيء ... فرحة غامرة كانت تجتاحه وشفتاه ترددان بطريقة لا شعورية مقطعا من أغنية غرامية راقية .

    ونواصـــــــــــل
                  

02-28-2008, 07:28 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    ومرّت الأيام كأنها الحلم وهما يخرجان في كل مساء إلى الحدائق العامة والمتـنزهات ومختلف المناطق الترفيهية التي يتّخذها العشّاق معاقل لذكرياتهم ... وأنعم الله عليه بالإقامة والعمل بذلك المعاش الضئيل ثم تزوجها بعد ذلك .
    أخيرا إبتسمت له الحياة وكافأته بالإستقرار بعد صبر طويل وركض متعب تحت هجير الشمس القاسي الحرارة وقد أحسّ بطعم الحياة ؛؛؛ وكانت نوال هي الأخرى تسبح في ذات النهر من الإحساس ؛ وقد حرصا على جعل حياتهما الزوجية جنّة حقيقية .
    ومرّت السنة الأولى من الزواج وأنجبت له توأمين ذادا من بهجتهما بالحياة وسافرت معه إلى السودان وإلتقيا بأسرة أخيه الذي عركته الحياة فعمل سائقا لسيارته التي كانت حصاد مهجره الطويل بجانب عيادته الخاصة التي دأب على العمل فيها مساءا وقد بدأ الشيب يرسم خيوطه البيضاء على شعر رأسه .
    أما المدينة فقد إعتراها جنون التغيير فإختلفت نكهة الأرض وتغيّرت أشكال الناس وشحّ عدد المعارف .
    قضى مع أسرته شهرين من الزمان وجدت فيهما نوال كل أسباب الراحة والرفاهية والسعادة رغم الأحوال المعيشية الصعبة التي تجتاح البلاد فقد كانت زوجة أخيه وجاراتها يحرصن تمام الحرص على إسعادها ... وشهدت الكثير من إحتفالات الأعراس والختان ومختلف المناسبات التي تندفع دفعة واحدة في موسم واحد وكأنها فصل من فصول العام ؛ وشرع التوأمان في الحركة والكلام .
    أما طفليها الآخران اللذان إصطحبتهما معها فقد وجدا في أندادهما من صبية الحي ضالتهما التي يبحثان عنها ولعبا بالشارع وطابت لهما الحياة .
    وأخيرا عادوا إلى الخليج بعد إنقضاء فترة الإجازة وقد تسرّب إلى نوال شيء من الإنتماء لبيئة الزوج .
    كان نعيم حريصا كل الحرص على لقمة عيشه ؛ يخرج في الصباح إلى العمل مسابقا الطير ويعود في الظهيرة بينما يقضي فترات المساء على شاطيء البحر يخلد لنفسه ويتمشّى بجانب الشاطيء متأملا المياه الزرقاء وشاهدا على تشييع جنازة الشمس قبل العودة إلى البيت .
    وفي ذلك اليوم إمتدت به الجلسة إلى مابعد غروب الشمس وقد تاه به التفكير مرتدا إلى تلك الأيام الغابرة التي عانى فيها حينما كان يتمنّى إنشقاق مياه البحر عن جنيّة أو حورية تأخذ بيده وتنتشله من ذلك الوضع المزري الذي عاشه آنذاك .
    لايدري كيف تمكّن من نسيان تلك الأيام العصيبة وكأنها لم تكن ؛ ولاكيف نسي ثلّة القهوة التي قبضت عليها يد التفتيش العمالي والطائرة التي إحترقت بهم .
    إنه حال الإنسان دائما يتألم دائما لفراق أخيه ولكنه شيئا فشيئا يضطر للتعايش والنسيان ويصبح الآخر عنده ربما مجرد ذكرى تتأرشف بالدواخل .. حتى الأيام الأليمة الموجعة تحولها عصا الذكريات السحرية ساعة الإسترجاع شيء جميل ؛؛ وتستمر الحياة ويبقى الموت هو الحقيقة الوحيدة الباقية في هذا الوجود .
    وبينما هو منهمك في شتات التفكير مرّت من أمامه أنثى تسير على مهل وقد ملأت الشاطيء رغم الرطوبة الخفيفة برائحة عطر قوية ... ركّز بصره نجاهها وما أن حاذته حتى صفعها بنظرة خاطفة وهو يقول :-
    :- وعليكم السلام
    توقفت الأنثى وقالت بإرتباك :-
    :- السلام عليكم
    :- تفضّلي
    وقفت أمامه والتقت نظراتهما دون ترتيب مسبق لتبين المعالم عبر بقايا الضوء المتسللة في جوف الظلمة من شعاع قمر يغيب ويختفي ويظهر من جديد وكأنه يلعب لعبة ( الإستغماية ) مع السحب وأمواج البحر ..... إمرأة شارفت الأربعين ممتلئة الجسم رشيقة القوام رغم الإمتلاء طويلة القامة ؛ سمراء اللون ؛.
    نظرت اليه طويلا ثم قالت بنبرات قوية نفذ من خلالها الحزن :-
    :- لاتعتقدني من أولئك اللاتي إشتهرن بالخروج في مثل هذا الوقت !!!
    ردّ عليها دون إكتراث :-
    :- تفضلي بالجلوس
    لكنها ظلّت واقفة وواصلت الحديث بذات اللهجة :-
    :- وجدتك من أبناء جلدتي فقلت أننا ربما نستطيع حمل بعضنا
    ردد كلماته بإصرار لايدري له سببا :-
    :- تفضّلي بالجلوس
    وعلى مضض جلست منه على مبعدة وقد أطرقت ولم تقو على رفع بصرها تجاهه .. . صمتت هنيهة قبل أن تتنهد بعمق قائلة :-
    :- إنهم بلا شك يعتقدون كل أنثى ترتاد هذا المكان وفي هذا الوقت بالذات دون رفيق ......
    قاطعها بسرعة :-
    :- إختصري وقولي ما تريدين
    صمتت مرة أخرى ثم أجابت :-
    :- ربما أنت مثلي جئت تبثّ البحر شكواك وهمومك
    وضغط على الكلمات وهو يقول :-
    :- كان ذلك فيما مضى ... أما الآن فجئت للإستمتاع بجمال الشاطيء والقمر
    وكأنما القمر سمع العبارة ؛ برز فجأة بعدما كان قد إندسّ بين موكب سحب متحركة فأضاء الشاطي بشعاع فضي وإنعكس على صفحات المياه الزرقاء فبان كمن يستمتع بالسباحة في السماء والبحر ويطفو دون أن يغرق ... نظرت إليه طويلا ثم قالت :-
    :- لاشك أنك ستجافي الحقيقة لو دار بخلدك أنني طالبة متعة
    حاول التلاعب بأحاسيسها والإستمتاع بكسر كبرياءها فقال :-
    :- وهذا العطر القوي الذي يضوع منك ؟؟؟!!
    قاطعته بسرعة وكأنها إستدركت ؛ وبانت كحارس مرمى يحاول صدّ تسديدة مباغتة ويمنعها ولوج الشباك :-
    :- قارورتين مختلفتي المحتوى كنت أحاول مزجهما في قارورة عطر واحدة فإنسكب العطر على ملابسي والجسد
    :- ولماذا أنت في هذا المكان والوقت ؟؟
    :- لأشكو الموج آهاتي
    :- ربما تكون في دواخلي موجة تستطيع الرد عليك بما تفهمين من لغة ؛ فأمواج البحر العنيفة تصل الشاطيء واهنة متكسرة يقتلها الأعياء وتفتقد التركيز الذهني لإمتصاص الحديث ولا وقت عندها للإستماع والتفاعل.
    :- ولكنها مع ذلك تسمع وتنفعل وتلطم الرمل
    وصمتا من جديد ... إنشغل ذهنه بالتفكير ؛ ربما تكون هذه المخلوقة جنيّة إنسرقت من بين القمر والبحر .. وراقت له الفكرة وإجتاحه الفضول فقال :-
    :- وهل لمثلك هموم يا سيدتي ؟؟؟
    وأطلقت آهة عميقة قبل أن تقول :-
    :- وهل لمثلك مفتاح لحل ؟؟
    :- إن الله يضع سرّه في أضعف خلقه
    تنهدت مرة أخرى وقالت :-
    :- إمرأة متزوجة ؛ بنتها في سن الزواج وولدها تخطّى حاجز البلوغ ولكنها لازالت تعاني
    :- أمن فقدان الزوج ؟؟؟
    :- بل الخوف من إنفراط عقد الزوجية
    وجد نفسه مشدودا لحديثها ؛ وإنتابته موجة من الفضول فقال :-
    :- ربما أستطيع فعل شيء
    نظرت إليه مرة أخرى وقالت :-
    :- أمري لله وسأقول .. زوجي يعاقر الخمر ويلعب الميسر وقد أهمل البيت تماما ؛ والأولاد في سن تحتاج الرعاية والمراقبة والحزم ؛ ضربني اليوم عندما حاولت هدايته وطردني من البيت فجئت أهيم على غير هدى أطلب من الله الحل
    :- وماذا بيدي أن أفعل ؟؟؟
    تنهدت ثم قالت بعد أن سالت دمعة ضالة من عينها اليسرى :-
    :- قد تستطيع إقناعه بإرجاعي لأولادي فأنا لا أملك في الدنيا سواهم
    رقّ قلبه لحالها وتململ في جلسته وصمت برهة ثم قال :-
    :- إذا هيا بنا
    وأدارا ظهريهما للشاطيء الثائر المنحسر المياه في ذلك الوقت .. ومن بين الشقق أشارت نحو أحد الأبواب ... تقدّم نعيم وطرق الباب وقد بدأت دقّات قلبه تزداد تسارعا ... برهة وفتح الباب منداحا عن فتاة في الخامسة عشر من عمرها ؛ قمحية اللون مستديرة الوجه ؛ شفتاها صغيرتين وعيناها واسعتين ومسحة جمال ملائكية مثيرة تطلي معالم الوجه .. كانت طويلة مثل أمها تماما .
    إبتلع صاحبنا ريقه وقلبه كاد يقفز من بين الضلوع .... وإستجمع رباطة جأشه وتماسكه بصعوبة بالغة وقال لها بصوت لا يكاد يبين :-
    :- أين والدك ؟؟
    وبصوت تشرّب ببحّة ملائكية تنضح أنوثة مثيرة قالت :-
    :- إنه بالداخل .. تفضّل
    ومن ورائها علا صوت الوالد:-
    :- من بالباب ياوجدان ؟؟؟
    ردّت بذات الصوت الملائكي المبحوح :-
    :- رجلا يسأل عنك
    وأزاحت جسدها مفسحة المجال للوالد الذي وصل في تلك اللحظات بجثته الضخمة وعينيه الواسعتين وأنفه المستقيم وتلك التجاعيد التي بدأت تدب في وجهه دون أن تتمكن من محو بقايا جمال وشباب .. بينما رائحة خمر قوية تفوح منه وكأنه إغتسل بها .
    وقف عند الباب وحيّا نعيم بإستغراب ثم قال :-
    :- تفضّل
    دخل نعيم ومن وراءه المرأة فإستقبلته صالة متوسطة الأثاث .. مجموعة من الكراسي وطاولة ومقعد ومكتبة إرتصّت عليها كتب كثيرة وجهاز تلفاز .... رباه .. كل بيوت السودانيين تتخذ شكلا واحدا لا يتغير ... نفس قطع الأثاث مع إختلاف الترتيب واللون والماركة ..
    جلس على كرسي بينما جلست المرأة على آخر بالقرب من زوجها السكير
    صمت نعيم قليلا يستجمع حبائل أفكاره ؛ ثم قال بإضطراب :-
    :- عفوا لو إقتحمت منزلك في هذا الوقت .. وحتى لا تتقاذفك الأفكار .. أنا متزوج وأب وأعيش مع أسرتي في المبنى المقابل لمبناكم .. أنا إنسان ريفي و...
    قاطعه الرجل بلهجة جافة :-
    :-قل ماتريد وإختصر
    صمت نعيم برهة ثم قال :-
    :- لا أريد غير الخير ؛؛ وهات المصحف لأقسم لك على كل كلمة قلتها
    :- قلت لي أنك تسكن في المبنى المجاور أليس كذلك ؟؟
    :- نعم ... نفس الشقة التي كان يسكنها أخي قبل سنوات
    نظر الرجل إلى نعيم بدهشة ثم قال :-
    :- وماذا كان يعمل أخوك ؟؟؟
    :- طبيبا
    وبعد أن سأله عن إسمه أطرق قليلا قبل أن يقول وقد تغيّرت نبراته الحادة
    :- لقد أنقذ أخوك حياة إبنتي وإبني من قبل حينما أصيبا في حادث مروري ووقف معنا وقفة لن ننسها له أبدا ... أين هو الآن وكيف سارت به الأقدار والظروف ؟؟؟
    وسرقهما الحديث عن أخيه قبل الولوج في صلب موضوع المرأة المطرودة وتفاصيل حياة هذا الرجل الذي قدم من البلاد قبل سنوات ووجد عملا مريحا ثم أتى بزوجته وعاش معها أجمل أيام العمر ؛ ولكنه عاش بنفخة كاذبة واروستقراطية زائفة كانت أكبر من إمكانياته فدخل مع المصارف في قروض متواصلة ومشاكل مستمرة ؛ ودخل السجن عدة مرات لإصداره شيكات بلا رصيد ...وعندما إشتدت عليه المشاكل هرب إلى الأسوأ وإستجار من الرمضاء بالنار فإتخذ من الميسر قصرا لآماله بتحسين الأوضاع عبثا فزاد الطين بلّة وعاقر الخمر وأهمل أولاده .
    وبعد أخذ ورد وحوار طويل إعتذر لزوجته وأقسم على ترك الخمر والميسر من اللحظة ؛ وضبط منبّه ساعته على صلاة الفجر ثمّ ودّعهم نعيم وإنصرف .
    وبعد فاصل من التحقيقات القاسية التي تلقاها من زوجته بسبب التأخير المفاجيء إتجه نعيم إلى سريره وقد إجتاحته موجات من التفكير الضطرب ... الحياة لا تؤخذ بهذا المنطق المتسرع كما قال ذلك الرجل الذي عرف بأن إسمه ( صلاح ) وزوجته ( آمنة ) وإبنته (وجدان ) وإبنه ( خالد ) ..
    لماذا حقا يدفن نفسه مع نوال وحدها ؟؟ لقد صدق ( صلاح ) حينما قال له بأن الفروق الكبيرة في زواج غير بنات البلد تبين من خلال المعاشرة الزوجية .. اللهجة والمفردات تختلف ؛ وطقوس الزوجية أيضا ؛؛ بنت البلد تعمل ( الدلكة والخمرة والبخور والكبريت ) ... بنت البلد تطبخ ( الويكة وتعوس الكسرة وتسوط العصيدة ) وتربطك بالبلد ... لقد نبهه صلاح إلى أن بإمكان الرجل أن يتزوج من أربعة نساء .. وهاهي ذي نوال التي أحبها وأحبته صرفت عنه إهتمامها منذ زمن بعد أن إنشغلت بالأطفال ..
    .وأطل وجه وجدان .. ذلك الوجه الملائكي الرائع .. فتاة بكراء عذراء .. سودانية .. وتخيّلها تحمل ( الخمرة والدلكة والبخور ) وإيقاع الحياة يمضي بوقع آخر .. ألهبته الأفكار ... أحب وجدان .. فقد يكفي غصن صغير من شجرة ضخمة لصناعة ملايين أعواد الكبريت ؛ ولكن عودا صغيرا متواضعا لايساوي شيء من تلك الأعواد كفيل بحرق وإبادة غابة كاملة من الأشجار الضخمة ... ألم يقل ( صلاح ) أنه لا يمانع في إقترانه بها إن أراد ذلك ؟؟؟ ثم ألم تطرق وتبتسم إبتسامة تنم عن الرضا عندما سمعت ذلك ؟؟؟ ولكن ما ذنب نوال التي أعطته أحلى أيامها وإنتشلته من الحالة المريعة التي كان يعيشها قبل لقاءها ؟؟؟ لقد قال الله تعالى ( وأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وإن لم تستطيعوا فواحدة ) .. لقد جاءت كلمة ( وانكحوا )أمرا ؛ أما الواحدة فمقرونة بعدم الإستطاعة ..... هكذا فسر له ( صلاح ) معنى الآية رغم سكره ... وطاب له التفسير وقرر جادا أن يخوض البحر
    ونواصل
                  

02-28-2008, 07:31 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    وجلست نوال على الشرفة تتأمل الشارع وبالها مشحونا بالأفكار ؛ فزوجها نعيم بدأ يداوم الجلوس على هذه الشرفة بينما تقف على شرفة البناية المقابلة فتاة سودانية صغيرة تشير بيديها أكثر من مرة ... والهاتف اللعين يرن باستمرار وما أن ترفع السماعة حتى ينغلق الخط ؛؛ لقد أصبح زوجها كالمراهق العاشق الولهان يسرع لالتقاط السماعة عندما يرن الجرس ... يا الهي... ماذا حدث في الوجود؟؟؟ لقد اصبح نعيم ساهما واجما واختلف تعامله معها... واصابته قشعريرة الجفاف... انه ليس نعيم الذي عرفته في السنوات السابقة ولابد لها من حسم الأمر والوصول لموقف واضح.
    ونهضت من شرفتها واتجهت نحو الغرفة... وكان نعيم يتمدد على السرير وسماعة الهاتف تلتصق بأذنه وهمساته لا يكاد يسمعها احد..
    وما ان احس بخطواتها حتى اغلق الخط ؛ فسألته بغيرة واضحة واهتياج :-
    :- مع من كنت تتحدث؟؟؟
    فأجابها بارتباك واضح وهو يضغط على زر الهاتف :-
    :- احاول الحديث مع البلاد ولكن الخط يأبى
    ولم تحاول الحديث معه ولكنها ادارت له ظهرها وشدت الغطاء على جسدها وخلدت للنوم وفكرها يعمل بنشاط خلية النحل.
    وفي الصباح اتجهت الى موقع عملها تتآكلها الأفكار وهي تحس باللاعادية في حياة زوجها نعيم... وبينما هي مستغرقة بالتفكير العميق سمعت صوتاً يقول:-
    :- إليك هذه الرسالة ياسيدتي
    قالها الفرّاش وهو يمدّ اليها مظروفا منتفخا يبدو أنّه ورد ضمن بريد اليوم ... وبحركة لاشعورية امتدت يدها اليمنى من وراء الطاولة لتشغل المساحة بينها والمظروف في الوقت الذي انطلق فيه صوتها بسؤال عفوي غير مقصود :-
    :- رسالة .. لي أنا ؟؟؟
    قالتها باستغراب ويداها تلتقطان المظروف دون أن تهتم باجابة الساعي ... وملأ شكل المظروف مساحة رؤيتها ؛ لم تتعود وصول رسائل لها عن طريق البريد المكتبي ولا تتوقع مقدم رسالة من أحد .
    وباضطراب ليس له ما يبرره حاولت معرفة الشخص الذي أرسل الرسالة ... تفحّصت عيناها المظروف بدقّة بالغة وحذر شديد ..
    هذا المظروف القاتم الاصفرار يشبه المظاريف الحكومية الى حدّ كبير ؛؛ ليس في الخط مايدل على كاتبه فهو مطبوع على الآلة الطابعة ومكتوب عليه من الخارج العنوان والاسم الثلاثي .... قلبته من الخلف ؛ لعل المرسل قد عرّف عن هويته هناك ولكن لاشيْ يدل على ذلك .
    حاولت قراءة خاتم البريد لمعرفة الجهة التي أرسل منها فوجدت الطابع داخليا والخاتم مطموسا لا تبين حروفه .. رباه .. من الذي أرسل هذه الرسالة ؟؟ لعلها صديقتها الوحيدة التي تقطن في مكان بعيد عنها ؛ ولكنها كانت تحادثها قبل لحظات عبر الهاتف ؛ وهي لم تعتد منها على هذا الأسلوب ... بل لعله أحد رواد الشركة المشاكثين.
    واشتعل ذهنها بالاستقراء والتخمين دون الوصول الى نتيجة محددة ؛ وبدأت تغزوها موجة من الاهتمام بأمر تلك الرسالة .. من الواضح أنها رسالة غير عادية ؛؛؛ انتفاخها غير عادي .. بكل أسف لن تتمكن من قراءتها الآن فأمامها كومة من الأوراق تحتاج الخلاص الفوري ولن تتمكن من التفرّغ ولو لنصف دقيقة قبل انتهاء دوام الظهيرة .
    وأمسكت الرسالة ووضعتها في حقيبتها اليدويه ثم واصلت عملها كالمعتاد ؛ ولكن الرسالة ظلت تشغل بالها طيلة ساعات اليوم ... ولم تفلح زحمة العمل في إنتشالها من ذلك الشعور الغريب بالخوف من المجهول ؛ ولا رواد المكتب إستطاعوا سرقة بالها وإنتزاع الإحساس الذي تقمصها .
    وإستنفذ التفكير كل وسائل التخمين المنطقيه ثم إتجه نحو الإحتمالات الخيالية ؛ فلربما هو إنسان غني قدمت له خدمة ذات يوم فأراد مكافأتها ؛ فكم من خدمات جليلة تقدمها بعفويه وحسن نية وطيب خاطر دون أن تنتظر منها حصادا أو مكافأة أو جزاءا أوشكورا .
    ربما تحمل الرسالة بين طياتها قنبلة تنفجر أرسلها شخص حاقد لإغتيالها وربما هي رسالة تهديد أو وعيد ...و ربما هي من تلك البنت الصغيرة التي تجلس على الشرفة المقابلة وتسلب بال زوجها ... ربما وربما وربما .
    وإستمر الفكر منشغلا طيلة ساعات العمل التي ماثلت الساعة الواحدة فيها قرنا من الزمن ؛ فالزمن حالة إحساسية خاصة لاتحسبها الساعة أو الشمس لأن الساعة عند الخائف من مقدم مصيبة ما ؛ تمر كأنها دقيقة واحدة... أما عند الشخص الذي ينتظر شيئا تتوق له النفس وتتعجله فتمضي كأنها قرن .
    وأخيرا دقّت الساعة معلنة إنتهاء الوقت .. وبحركة أوتوماتيكية ألقت بكل ما في حوزتها من أوراق على الطاولة وامتدت يدها بسرعة لإلتقاط حقيبتها .. وبنفس السرعة أخرجت المظروف وألقت عليه نظرة خاطفة وتحركت أصابعها بحذر لهتكه ولكن الفراش لاح في تلك اللحظات ومعه مفاتيح المكتب يهم بإغلاقه .
    قطبت حاجبيها بضيق شديد وتراجعت أصابعها عن تمزيق المظروف فردته إلى الحقيبة ثم نهضت دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
    وإرتمت على السيارة التي ستوصلها إلى المنزل ؛ وما أن وصلت حتى فتحت حقيبتها بحرص من لا يريد لأحد أن يعرف شيئا عنها ؛ وخبأت المظروف بين نهديها وإتجهت نحو الحمام ...
    إنه أكثر مكان آمن في المنزل تستطيع فيه الخلو إلى نفسها والإحساس بالأمان .
    وبلهفة مضطربة مزقت أصابعها المظروف وغاصت في داخله لإخراج ما بأحشائه.
    وأخرجت مظروفا آخر من داخل المظروف الكبير ؛ وتفحصته عيناها بسرعه فوجدته مكتوبا على الأله الطابعه ( كوني أمينه بينك وبينه نفسيك ولا تفتحي هذا المظروف قبل ثلاث أيام من هذا التاريخ ... راعي ضميرك ) .
    وتلاطمتها أموج البال وهي تركز على التاريخ المكتوب ... صوت ما يناديها بفتحه وصوت أخر يناشدها الإنتظار ... وأصبح بالها رحى للأفكار المتناقضه ؛ وأعماقها ضجيج من صخب الاصوت المزعجه ... وأخيرا سمعت طرقا على الباب جعلها تفوق من تلك الحاله ونعيم يصرخ فيها بالإسراع لإعداد وجبة الغداء .
    وبسرعه أعادت المظروف إلى نهديها وخرجت بخطوات مضطربه إلى المطبخ ولا زالت أموج البال تتلاقفها ورياح التفكير والقرارات المتناقضه تهب بكل قوه وعنفوان .
    ثلاثة أيام !!! ما الذي تعنيه هذه الكلمات ومن هو الشخص الذي أرسل هذه الرساله ؟؟ ولماذا دئما عند حدوث كل شيء نقول من هو ... الذكر دائما هو المتهم في كل شيء ... ولماذا لا تكونو من هي التي أرسلت هذا المظروف ؟؟؟ ولكن أيا كان جنس الشخص الذي أرسله يبقي السؤال قائما ؛ من هو ولماذا ؟؟؟ هل كتب الرساله من أجل تعذيبها أم أنه يقصد شيئا ما وراء هذه الرساله ؟؟؟ وما الذي تعنيه تلك الأيام الثلاث ؟؟؟ تساؤلات حائرة طافت بذهنها دون أن تجد إجابه أو بصيص من الإجابه .
    ولاحت منها نظرة لمفكرة التاريخ فإشتغل عقلها بسرعة جنونية حاسبا الوقت ... خبطت جبهتها بكفها الأيمن في إستدراك ... يا لك من فتاه غبيه يا نوال فبعد ثلاثة أيام سيصادف ذكرى ميلادك .
    وأحست بشيء من الراحه والإطمئنان ؛ فهذه الرساله لابد أن تكون من شخص يعرفها ويعرف موعد تاريخ ميلادها الذي تناسته مع زحمة مشغوليات الحياة المتلاحقة .. ولكن من يكون ذلك الشخص وما الذي تحتويه هذه الرسالة ؟؟؟؟
    وبدأت في تقليب واستعراض دفاتر الذاكرة بحثا عمّن يكون ذلك الشخص الذي يعرف تاريخ ميلادها ويستخدم هذا الأسلوب ؟؟ ربما هو زوجها نعيم يحاول صنع مفاجأة يخرج بها من هذا الجو الروتيني ؛ ولكنه لم يتعوّد على هذا الأسلوب ؛؛ وحتى لو كان معتادا على ذلك فإن تغييرات الفترة الأخيرة وظهور فتاة الشرفة المقابلة في حياته وسهره على سماعة الهاتف ؛ كلها أسباب تستبعده من القائمة ... ربما هي زميلتها وداد التي تعمل معها في الشركة ؛ ولكنها إستبعدتها بعدما أفلحت في جرجرتها عبر الإستفسار بطريقة غير مباشرة .. فمن يكون ذلك الشخص ياترى ؟؟؟
    ومرّ اليوم ثقيلا متباطئا .. أفتحيها يا نوال فأنت ستفتحيها وتعرفين ما بداخلها سواء اليوم أو بعد ثلاثة أيام .. ولكن لا .. دعي المفاجأة لوقتها ( وياخبر اليوم بفلوس بكره يبقى ببلاش )
    ولكن كيف تعيشين على هذا القلق طيلة الثلاثة أيام ؟؟؟ والآن دعك من محاولة معرفة كاتب الرسالة وخمّني .. مالذي تحتويه ؟؟ هذا الشيء القوي الملمس هو بلا شك بطاقة تهنئة ولكن ماذا معها ؟؟ وما شكل البطاقة وما لونها ومن هو المرسل ؟؟
    لقد تعودت نوال الإحتفال بعيد ميلادها في كل عام .. ودائما يكون الإحتفال مقصورا عليها وزوجها وأولادها ... ربما يكون هذا المظروف من جارتهم العجوزة الطيبة التي دعتها لحضور إحتفال السنة الماضية ؛ ولكنها لا تعرف الكتابة والقراءة ولا تعرف شيئا عن طرقات البريد وربما لم يخطر ببالها أن هناك شيء إسمه بطاقات تهنئة أو عيد ميلاد ؛ ففي زمنها كانت الهدايا مناديل مزدانة بالخياطة والعطر وأبيات من الشعر ترتجلها حكامة الحي وابتسامة أو نظرة أو تلويحة باليد خجلى وما الى ذلك من أشياء ؛ والأعياد عندهم كانت الأضحى والفطر والمولد النبوي الشريف ... حتى الإحتفال السابق الذي دعتها إليه نوال تقبّلته بدهشة بالغة وسخرية لاذعة وإستهجان لأنها لم تقتنع ببدع هذا الزمان وتقاليع جيله ؛ ففي زمنها ماكان الناس يحتفلون بذكرى مولدهم ولاهي تدري شيئا عن ميلاد نوال ولا عدد سنوات عمرها ؛ ولكنها كبنات جيلها تأتي الدنيا لتعيش وتتزوج وتنجب وتهتم بأطفالها ؛ وترحل متى شاء الله لها أن ترحل .. لاتهتم بشكليات الحياة ولا تفكر بمنطق جيل اليوم .. ولا هموم عندها سوى الهموم المعيشية العادية ؛ وكل همّها أن يعيش أبناؤها بعيدا عن الحسد وإصابات العيون ويتزوجون لتحمل أبناءهم .. وتنحصر أمنياتها في إرضاء الزوج وصلاح الأبناء وزيارة الأراضي المقدّسة .. . إنها إمرأة أنضجتها سنون الحياة وملأت جعبتها بالحكمة والأمثال والحكاوي وديدن التأسّف على زمان شبابها الذي ساده الرّخاء والعفاف وحبّ الناس بعضهم البعض ... فهي تشرب قهوتها بانتظام في كل مساء ؛؛ ولا تمل أوتتضجّر من مضايقات الصغار ؛ وتتجول بين بيوت أولادها تتفقد أحوالهم ترافقها تلك الضحكة التي لم تتعود نسيانها أو تركها بالمنزل .. فهي لا تعرف النفاق والمدارة ؛ تتكلم عن كل شيء بحقيقته وتعطي كافة الأشياء مسمياتها الحقيقية حتى تلك التي يمنع الحياء تسميتها ؛؛ وتواجه كل المعضلات بجلد وشخصية قوية ؛ غير أنها تضعف عند شعور الأمومة مع أبنائها ... ربما هي لا تدري حتى موعد ميلاد أبنائها .. فلا يمكن إذا أن تكون هي صانعة هذه المفاجأة ... أما أبناء نوال فلا يزالون في طورإستبعادهم عن قائمة التوقعات ؛ فأكبرهم لم تمر عليه سوى ثلاثة أعوام على إجتياز عتبة الابتدائيه التمهيديه ... وزوجها نعيم ؛ ذلك الشاب النحيل الصامت في هذه الأيام بالذات أبعد الناس عن الإهتمام بمثل هذه الأمور والشكليات ... وحتى في غير هذا الوقت كان بعد الزواج قد بان هادئا رزينا يحسب خطواته بكل دقه ويفسح المجال لشخصيتها كي تطغى و تغطي على شخصيته التي يشوبها الضعف والإهتزاز ؛ ولكنه كان يثور بشده في بعض الأحيان ثورة تدري كيف تتم معالجتها ؛ فهي قد تعودت إخماد ثوراته بطرق مختلفة ؛ أحيانا بالصمت أو مقابلتها بثورة مضادة وأحيانا أخرى بحرمانه من معاشرتها أو إمتصاصها بالمعاشرة وتسليمه زمام قيادها لفترة من الوقت ... فهي في بعض الأحيان تجد فيه ذلك الشخص الذي قاتلت أفكارها للظفر به بينما في أحيان أخرى تحس أنها نادمه على الإرتباط به ... وكم تضايقت من تصرفاته الفجائيه في الفتره الأخيرة ؛ فهي تريد أن تصنع منه شيئا ما ؛ شيء يكمن في قاع النفس
    ؛ ولكنها فشلت في ذلك ولم تعرف الطريق الذي يخلق ويرسم منه تلك اللوحة التي تتمناها ؛ فلربما أخطأت التقدير حينما اسقطت عن فكرها ان الناس تشكلهم طبائعهم وليس في مقدور بشر أن يشكل غيره أو يجد نفس المواصفات التي يريدها كامله حرفية في آخر ؛ وإنما الظروف ومسيرة الأقدار وطبيعة التنشأة وسعة العقل والإدراك وطبيعة الشخص هي التي تصنع وتقوم بتحديد ملامح التشكيل ... فهي تحسه يحبها ويغار عليها وربما وصل مرحلة الخوف منها ... ربما حبه لأولاده وإرتباطه بهم هو ما أوصله لذلك ؛ ولكنه ليس الرجل الذي يستخدم هذا الأسلوب ويرسل المظاريف عبر البريد ... إذا ترى من يكون المرسل وما الذي يحتويه هذا المظروف الغريب .



    ونواصل
                  

02-28-2008, 07:35 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    مضت الأيام ثـقـيلة متباطئة وقد أصبح المظروف هو الشغل الشاغل الذي إستمرأ بال نوال ؛ وكلما حاولت طرد التفكير فيه وجدته شغل حياتها وأرّق مضجعها وكأنه لعنة كتبت عليها .
    نحتت عقلها عبثا في محاولة تخمين شخصية المرسل ولكنها كانت تصل دائما للانتيجة .. وضعت قائمة بأسماء معارفها غير أنها كانت دائما تستبعدهم واحدا تلو الآخر . ترى أيّ قدر أتى بك أيها المظروف الأخرس الذي استنطقت كل خبايا الصمت ؟؟؟ وأيّ سرّ تحمله بين طيّاتك وتحتويه ؟؟
    وأخيرا وبعد انتظار ممل رتيب مشى فيه الزمن بربع سرعة سلحفاة عجوز حان التاريخ .. عجلة الزمن المتسلحفة وصلت محطة طال الشوق إليها بين غياهب الإنتظار .
    وتحرّكت بالمظروف منذ الصباح الباكر الى الشركة ، وما أن إستقرت على الطاولة وحاولت فتحه حتى رن جرس الهاتف …... تركت يداها المظروف والتقطت السماعة بسرعة وأجابت بضيق واضح :-
    :- ألو
    ومن وراء الأسلاك لم يكن أحد يتكلم ولكن موسيقى خفيفة ناعمة كانت تنطلق مع أغنية الميلاد ... جاءت الأغنية عذبة بصوت مرتو سمعت كلماتها لأول مرة .
    وغاصت في كلمات الأغنية فهي تحب الشعر لدرجة العبادة ويبدو أن كلمات الموسيقى المنمقة الرائعة قد تم تأليفها خصيصا لهذه المناسبة الحاسمة من عمر الزمن .
    ونست نفسها تماما وتاهت في كلمات الأغنية ولحنها الجميل .. وانقطعت الأغنية فجأة وأغلقت السماعة دون كلمة .
    عاد عقلها مرة أخرى للإنشغال المكوكي القلق بينما الأصابع المرتعشة تقبض على الظرف وكأنها تمنعه من الهرب .
    ترى من يكون ذلك الشخص ؟؟ من هو ذاك الذي يعرف رقم هاتفها وتاريخ ميلادها ويحرص كل الحرص على تهنأتها ؟؟
    وتذكّرت المظروف ؛ لربما تكون هناك علاقة خفية بينه وذلك الشخص .. بالتأكيد هناك سرّا ما وجب عليها إكتشافه ..
    وما أن شرعت في تمزيق المظروف حتى جاءها الفرّاش بكومة من الأوراق قال أن المدير يريدها في الحال وبأسرع وقت ممكن .
    وتنهدت بضيق ووضعت المظروف داخل حقيبتها اليدوية وغاصت في العمل والتفكير تتجاذبها حبائله وتتلاقفها موجاته.
    وبسرعة مذهلة أنجزت العمل وفتحت حقيبتها اليدوية ... أخيرا ستكتشف السر.
    وأخرجت المظروف الداخلي ومزّقت أعلاه باضطراب وخوف وغاصت أصابعها داخله فاستخرجت شيئا صلبا فإذا هو سلسلة ذهبية محفور عليها الحرف الأول من إسمها والحرف الأول من إسم زوجها.
    واشتعل فكرها بشدة ؛ ترى من أشار عليه بإحداث هذه المفاجأة غير المتوقعة ؟؟؟ وكيف إستطاع المداراة حتى صباح هذا اليوم ولم يتبين عليه أنّه حتى يتذكر تاريخ الميلاد ؟؟ لا .. لايمكن أن يكون هو .. ولكن من يكون ؟؟ لماذا تترددين يانوال ففي المظروف أوراق قد تحلّ اللغز.. أفتحيها ولا تترددي .
    واذدادت خفقات قلبها تسارعا وأصابعها إرتعاشا .. وإمتدت الأصابع لإنتزاع الأوراق من عمق المظروف ..
    توقفت الأصابع فجأة بداخل المظروف في اللحظة التي شرعت فيها بانتزاع الورق .. وبرقت عيناها ببريق خاطف بعيد .. وسرح فكرها متمركزا في نقطة واحدة فقد تذكّرت شخصا لا تدري كيف غاب عن بالها طول فترة القلق والترقب والإنتظار .. إنّه هو .. الغناء .. الشعر ... الموسيقى ... بطاقة التهنئة …. الحرف الذي يتّفق مع حرف زوجها نعيم ... لاتدري كيف تمكنت من نسيانه ولا حتى طرق بالها منذ فترة طويلة .
    وغابت عن كل محسوس عندما أخرجت الأوراق وأخذت عيناها في إلتهامها بشراهة ولهفة وقد إستباحها شعور غريب ممزوج باللهفة والأسف والندم واللا إكتراث والإحساس بالضياع

    .
    ونواصل
                  

02-28-2008, 08:02 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    عزيزتي نوال


    إشتقت جدا إليك .. هكذا هي البداية ؛ لم أجد كلمات أبلغ منها للتعبير عما ينتابني لأن القواميس عقمت عن مولد غيرها فاعذريني وحاولي التعرّف عليها بمعناها الحسّي الأشمل .. مشتاق إليك وأحبك .. سأحاول الإختصار قدرما أستطيع لعلمي بأنك تكرهين الإطالة وتضيقين بالتفاصيل وتحبين دائما أن تبدأي من خلاصة الحديث .. تريدين الزبدة فقط دون المرور بالتفاعلات الكيماوية التي جعلت الحليب يتمخّض فيلد تلك الزبدة .. أولا كل عام وأنت بألف خير .. وأظنها ياروعة وجداني عبارة تمثّل الزبدة .. وزبدة الزبدة أنك في قلبي .. فأنا أكتب لك الآن وعقلى مضطرب وفكري حائر وقواي خائرة ؛ يتقمّصني إحساس غريب إمتزجت فيه كل الأحاسيس المتناقضة فبات كعصير العنب في الحليب الطازج ؛ التفكير الآن يقودني إلى حيث لا أدري ‘ وسأحاول التركيز والتفكير بالقلم وكأنك معي ؛ فقد كنتي لي من قبل عقل يفكّر ويصرخ في ذاكرتي بكل ماهو منطقي يدفع للنجاح والسعادة ؛ فهل تذكرين ذلك اليوم البعيد حينما كنا نحتفل برأس سنة الميلادعندما تنحنحتي وتحركت أذناك كعادتهما عندما تهمّين بالإنغماس في حوار منطقي مثير ؛ وأغمضتي عينيك نصف إغماضة وضممتي كفيك ثم فردتيهما وأنت تحاولين الحديث معي ؟؟

    لم أنس تلك اللحظة حتى الآن فقد إنطبع بذهني كل ما دار بها من نقاش .. خلتك وقتذاك خطيبا سياسيا ناجحا يخطب في جيش عظيم يحثُه على الإستبسال ويدفعه الى الموت والمخاطر ؛ وكانت أعماقي وقتذاك جيشا حقيقيا يستوعب ذلك الحديث ؛ وحواسي منتبهة في حالات إستعداداتها القصوى ... وكانت كل إطباقة وانفراجة لشفتيك تحجز مكانها في قلبي وكأنك مزارعة ماهرة تزرعين الأفكار والحب والإعجاب بأرض بكرة في أعماقي فتنبت تلك الأشياء لتبقى محصولا دائم التواجد في إرشيف الذاكرة .

    قلتي وقتها أننا قبل التفكير في الإحتفال بالعام الجديد وجب علينا تقييم الفترة المنصرمة وكيف مرّ العام السابق وكم ساعة منه أهدرناها سعيا وراء الطموح .. وكم ساعة إنقضت في العمل على بلوغه ‘ وكم ساعة فقدناها في النوم ‘ وكم ساعة ضاعت علينا ونحن نمشي أو نقود سيارة أو نقوم بشيء ما ننفعل ونضحك ونحزن ونبكي ونبتئس ونصارع ‘ فكل ساعة في عمر المرء مشكلة لأن كل دقيقة وثانية ولحظة تمر محسوبة عليه خصما على وقوده العمري ... والزمن يمضي على الإنسان كالنسيم يلفحه ‘ ويمسح عليه بطلاء مختلف في كل لحظة ... قلتي لي أيضا أن الإنسان مخيّر في حدود التسيير وهو مزيج من كل شيء غريب ... يمتلك الفرح ونقيضه والخير والشر والرذيلة والفضيلة .. وعاء يجمع مختلف الطبائع والمفاهيم وكافة التراكيب ‘ غير أن الإنسان الناجح هو من يتمكن من تشكيل هاتيك التناقضات وعرضها بطريقة تنال رضا الجميع .. وهكذا تختلف تقييمات الناس ومراتبهم مثل المعارض التي تتنافس في العرض بطريقة جاذبة للفت أنظار المتسوقين ؛ فمن يراك بعين المرتاح لتلك الطريقة التي تعرض بها ألوانك وتنسقها حسب مسيرتك في الحياة حسب نظرته التقييمية وتفكيره وأحواله وطريقته في رصّ تلك الألوان قال عنك أنك متميز ومن لم تعجبه تلك الطريقة في العرض قال عنك سيء بالضبط كمزهريات الزهور والأزياء المعروضة في متاجر البيع .. طريقة العرض هي مقياس الشراء ؛ والإنسان سلعة تعرضها الحياة في مختلف الألوان والأشكال والأحوال .. صداقة وزوجية وحب ومعرفة وو...الخ
    هل تذكرين ذلك اليوم يانوال ؟؟؟ قلتي لي بأننا لاندري ما يحدث في الغد ولا ندري بأيّ أرض نولد ولا في أيّ أرض نعيش أو نموت ... أشياء كثيرة لانملك في إختيارها يدا غير أننا يجب دائما أن نضع للآخرين كل الأعذار قبل أن ننهال عليهم بسياط اللوم والإحتمالات السيئة ؛ ونقول دائما أن الغائب يمتلك كل الحجج .. قلتي لى أيضا بأن الإنسان الناجح هو المتريث الذي لايتعجل الأمور ولا يتسرّع بحكمه على الآخرين ولا يحاول إستباق الحقائق الا بما يستوجبه الحدث .
    هكذا انطبع في ذهني كل ما قلتيه .. عفوا للتفاصيل فأنت لا تملكين النّفس الطويل الذي يعينك على تحمّل الإطالة وكل همّك ينحصر في ذبدة الكلام .


    فكثيرون هم أولئك الذين نلتقيهم في محطّات الحياة ‘ نعيش معهم أياما من عمرنا فيعمق التقارب ويشتد الترابط ثم تأخذنا عنهم المحطات الى أخرى نعايش فيها معهم ذات الإحساس وتدور عليهم عجلة الزمن ... وقليلون هم أولئك الذين يبقون في أعماقنا ؛ يقتاتون من نبضات قلوبنا ويصبحون أكبر من ذكرى عابرة نمرّ عليها مستذكرين مسيرتنا كجزء من تاريخ حياتنا ‘ فقد نتعامل مع البعض بأحاسيس سرابية ومشاعر زائفة ويتعاملون معنا بعمق الإحساس وجذور المشاعر فنفترق عنهم في محطة ما ؛ نبرحها ونتركهم عند ذات المحطة ؛ ننسى ذكراهم والأيام الرائعة لصحبتهم ‘ ولكنهم يتعذبون لفراقنا ويسجنون أنفسهم بين أطلال وهم كبير إسمه الحب ينحرف بهم نحو آفاق سلبية تسهم في تدمير حياتهم وصبغ مشاعرهم بطلاء غريب ..الأحاسيس الإنسانية تتفاوت وتتناقض وتختلف .. نحاول إستقراء حياة الآخرين فتبقى أعماقهم وخفاياهم سرأ يستعصى علينا وتبقى إهتماماتنا بهم تحرقنا من طرف واحد ونتوهم أحيانا أن الآخرين يبادلوننا ذات التعامل غير أن زحمة الحياة قد تجعلنا نخطيء التقدير فهم ربما نسوا تماما بأننا قد خلقنا معهم في هذا الوجود وربما لايتذكرون ملامحنا وأصواتنا إلا بعد إجهاد وضغط للذاكرة ... ترى ماذا ألمّ بهم وهل لا زالوا يسبحون بذكرى ما نتذكره ويقدّرون تضحياتنا ويتعذبون بما نتعذّب به ؟؟؟ أم أنهم قطعوا كل طرق بالبال تقودهم نحو تذكّرنا وطرقاتنا التي غدت شائكة وعرة المسالك ؟؟.
    لكم إنتظرت هذه اللحظات يانوال وهاهوذا الفكر يهيم بي .. منذ أعوام وأنا لا أفتر عن التسبيح بذكراكم تأخذني المواعيد إليكم والصورة أمام عقل خيالي محراب أقف تحته وقفة الراهب المتعبّد ... فهاهي ذي الدنيا الغريبة الألاعيب قادتني نحو هذه الهاوية السحيقة .. وأنت تعيشين بأعماقي في سجن بلا قضبان ؛ وربما أعماقي تعمّدت سجنك في دواخلها أو سجن نفسها في الإحساس بك .... كنت سجين حبك وكان السجن أليما فقدت فيه كل أشكال السعادة ؛ فمالي والحب منذ البداية وأنا لم أخلق للإستمتاع به ؟؟ ولماذا رهنت نفسي وحياتي وذاتي للآخرين الذين ربما رهنوا أنفسهم لنرجسيتهم وأنانيتهم بينما لم أزل وفيّا لهم رغم أنهم داسوا على قلبي وحطّموه بكل قسوة وحطموا كل جميل في حياتي ؟؟؟ نظرت لوجهي يا عزيزتي حينما دارت بذهني تلك التساؤلات فوجدتني إشتريت التجاعيد وإبيضاض الشعر وغور العينين وألم الإحساس ووجيعة الكون بلعنة العشق ... نهضت من مكاني على شرفة المنزل والشمس تبدو صفراء باهتة حزينة تميل للغروب وقد نزف جرح الأصيل دماءا حمراء غطّت الشفق .. ومن بعيد بدأ خيال أحذية جنود الليل تزحف بكل ثقل وبطء .. وبدت جيوش الظلمة تغزو الكون والتفكير يلعب بعقلي يتقاذفه ميمنة وميسرة .
    سامحيني ولا تتضايقي من هذه التفاصيل ودعينا نختلف ذلك الإختلاف الضاحك الذي كان لحنا بإيقاع حياتنا ؛ فأنت تضيقين بالتفاصيل وأنا أعشقها ... ألم تقولي لي ذات يوم ونحن نجلس على مائدة الغداء وقد تعمدت أن أخطف من بين يديك عظم كبير فخطفتي منّي برتقالة مقشّرة قبل أن تصل حدّ إطباق فمي عليها ؛ أنني أحب الثرثرة ثم غمزتي لي بعينك اليسرى وقلتي بابتسامة ضالّة مرّت كصاروخ أصاب أحشاء ذاكرتي أنك رغم ذلك تعشقين ثرثرتي ؟؟ وأنا الآن وحيدا وقد قررت العيش منفردا عن غيرك بإحساسي منذ إفترقنا ؛ فلم أكن في سابق عهدي كما أنا الآن ؛ فقد نشأت كما ذكرت لك في كنف أسرة إشتهرت بالثراء الفاحش والمكانة المرموقة بين الأسر ؛ وقضيت طفولتي عادية بلا تعقيدات ولا مرارة أو ألم .. وكنت كغيري حينما عبرت إلى مرحلة الشباب متجاوزا مسار الطفولة غزتني المراهقة فوقفت جسرا بين المرحلتين وإقتحمت كوني بلأخطاء العاطفية الشائعة في ذلك الوقت فاكتويت بالصدمات القاسية التي صقلت الحياة في أعماقي وأكسبتني مناعة وخبرة في التعامل ؛ ولمع نجمي وأنا أخطو أول خطواتي نحو الشباب وكان سيكون لي شأن آخر لولا إصابتي الفجائية بمرض خبيث إسمه العشق ؛ فقد أصابني في مرحلة حساسة فقضى على كل خلايا مستقبلي وأجبرني على مغادرة مقاعد الدراسة بعد التخرّج مباشرة من الجامعة واستغلال قاطرة الحياة المتعبة غير أن الصدمة المفاجئة أكسبتني مناعة وقوّة إحتمال وخبرة في التعامل مع حواء وفق منطلقات حذرة ؛ فقد كنت قبلها موفقا ومحظوظا جدا في حياتي العاطفية .. وربما لحياة العشق قانون ثابت ؛ أن تعطي غير الصادق أكثر مما يطلب وفوق ما يستحق وتبخل على الصادق بأبسط مقومات الحلم وتقوده نحو البلاء والألم المبين ... وهكذا قادتني أقداري التعسة بعيدا عن موطني لمصارعة أمواج الغربة في محاولة لتحقيق ذاتي .. فالغربة وعاء كبير مغلق يحمل في داخله كل طبقات البشرية ؛ فمنهم من جاء من أجل لاشيء ومنهم من أتت به الآمال ومنهم من إحتمى بها هربا من مشكلة عاطفية أو عائلية أو إجتماعية ومنهم من إختارها من أجل مواصلة التعليم فما كل من يغترب عن وطنه يتغرّب من أجل المال ...
    وعندما جئت بلادكم للدراسة كنت مغرورا حدّ الخيال ولايوجد شيء أحسه يستعصى علي فقد تعودت أن أجد كل ما أنشده سهلا طوع اليدين ... حتى النساء كنّ في نظري مجرد دمى أنتظر من مواطن شهوتي ورغباتي الإختيار فأعرف كيف يكون طريق الوصول ؛ ولكنني ما أن أشرب من الوعاء حتى أحسّ بالملل فأقذفه دون رحمة أو شعور وتفكير ... وكم هي تلك المشاعر التي دست عليها والقلوب التي مارست عليها ساديتي ‘ ولكن العاطفة مثل الروح لها لعنة تطارد كل من يغتالها ويحطمها ؛ تتحيّن الفرصة والظروف لتتمكن وتنقضّ عليه لتجبره على الشرب من ذات الكأس المريرة التي كان يسقي منها الآخرين .. إنه قانون الحياة .. دورات متعاقبة تكون مرّة لك ومرّات أخرى عليك .. أين هي مملكة سبأ الآن وأين الأندلس وحضارات النوبة ومملكة علوة وتقلي والفور والفونج والمسبعات والحضارات الفرعونية والرومانية والفارسية والأمهرية والعربية وغيرها من الحضارات المندثرة ؟؟؟ كانت بريطانيا ذات يوم أرضا لا تغيب عنها الشمس لكثرة مستعمراتها وإشتداد قوّتها في الوقت الذي كانت فيه أمريكا مجرد منفى لعتاة المجرمين فأين هي الآن منها ؟؟؟ والإتحاد السوفيتي الذي أرعب العالم بحروبه الباردة والساخنة وصلفه في إستخدام الفيتو بالحذاء أين هو الآن ؟؟؟ كلها دورات متعاقبة فالدهر مهما صفا لا أمان له والمرأة مهما تمكنت منها ستتمكن منك ذات يوم وتجبرك على الإكتواء بنيرانها.
    هكذا أنا يانوال رأيت الزمن على حقيقته حينما زرت ذات يوم إحدى عجائز الحي فوجدتها تشاهد في عرض الفيديو المنزلي تسجيلا قديما جدا ... وأشارت العجوزة بيدها لإحدى الفتيات اللائي كنّ يرقصن ببراءة وقالت لي ( هذه كنت أنا ) .... لن تصدقي ما فعله طلاء الزمن في تلك الغادة الهيفاء المرتوية الشباب في الشريط ولا الصورة التي تحولت لها وهي تندب حظهاحينما أفاقت على ملامح عجوز.
    وأنا ياعزيزتي ما كنت أدرك مع غروري بأن ملامحي الهادئة ستتحول لتلك العاصفة الهوجاء .. كنت أنت الجانية يانوال ولكنني لا أملك أكثر من رأس مال المحب ... الغفران ... والآن وقد إقترب موعد ذكرى ميلادك الذي إنتظرته بفارغ الصبر رغم مرارة الألم وتجهّزت تماما للإحتفال به و.....
    وتوقفت نوال عن القراءة بعد أن طوت الصفحة الرابعة وأراحت بقية الأوراق على راحتيها بينما تاهت عيناها عن دنيا الحس وسافر بها الشرود إلى خارج حدود الواقع منفلتا من الهالة الزمنية نحو فضاءات الماضي .. فيالتلك الأيام التي سقطت سهوا عن عقلك يانوال ...هل تتذكرين ملامحه ؟؟؟
    حاولت جاهدة أن تتذكر بعض تقاطيع وجهه الدقيقة المعبرة فبانت الصورة ناقصة .. نسيت حتى ملامح وجهه ونبرات صوته .. لقد بالغ كثيرا
    دون شك في رسم الصورة فسنوات الفراق ليست بهذا الطول الذي يحيله كهلا تزينه التجاعيد ويطلي البياض شعر رأسه ؛ ولكن ربما للمعاناة أثر في تغيير الصور وطمس جماليات الأشكال والملامح .. لقد نسيت ملامحه ولكنها لم تنسه .. إنه يعيش في أحشائها لا بملامحه ولكن بذاته .. وكل حياتها أغبرة قد تغطّي ذاكرتها وتصيبها بلعنة الإخفاء والنسيان ولكن ما أن يهب هواءا ذكرويا خفيفا حتى يتطاير ذلك الغبار فتنجلي الجوهرة التي لايقربها الصدأ ولا تستمرأها خدوش الحياة .. كانت تتوهم بأنه محطة مرت عليها وإنطلقت دون أن تنظر خلفها .. مجرد خفقة قلب في زمن محدد أثمرت طفلا وانتهت بتواري الأب عن عينيها فالبعيد عن العين دائما بعيدا عن القلب .. وكثيرة هي المحطات التي نمر عليها فتترك إنطباعا ما يتأرشف في ذاكرتنا ونسترجعه عند الحنين والفراغ .. فهل كان نورالدين واحدة من تلك المحطات يانوال ؟؟؟ وهل كان خطأ في حياتك ؟؟؟؟ ربما تخدعنا أحاسيسنا الوقتية فنعتقدها حبا ؛ ولكنك لست من ذلك النوع الذي يعرف الحب يانوال ... حياتك مقسمة بين همومك المعيشية وزوجك وأولادك والعمل ولا مساحة عندك في الوقت الحاضر لأية مغامرة غير محسوبة العواقب .. لاتهتمي إن كان يتعلق بك أحد أم لا فلست أنت بالتي تفرّط في بيتها مرة أخرى ؛؛؛ وأنت منذ صغرك إصطدمتي ببعض العقبات التي ولّدت في أعماقك عقدا نفسية مركبة أفقدتك ثقتك بالناس جميعا وجعلتك تحتقرين العواطف وتحاولين تدمير الرجل الذي ربما أفقدك الثقة بنفسك .. فالرجل هو الرجل في كل صوره وأشكاله .. مخادع منافق كذّاب ... ألم يكن نورالدين أفضل الناس في نظرك فاختفى ثم عاد ليجبرك على التستر عليه في جريمة مقتل زوجك السابق هاشم ؟؟؟ ثم ألم يمت هاشم ببقايا لعنة بين شفتيه ؟؟ ونعيم ؛ ذلك الرجل الذي إلتقطيه من عالم العذاب والضياع والقلق ؛ ألم يتغير الآن ويجعلك تشعرين بفراغ كبير في حياتك ؟؟؟ لقد كان زواجك متسرعا في كل مرة .. دائما لا تأخذين فرصتك للتفكير في الإختيار .. ربما لنشأتك وطفولتك أثر في ذلك ؛ وهناك مواقف كثيرة في حياتك لا تملكين حتى مجرد الرغبة في طرحها على أحد ؛ فقد نشأتي وأنت تشعرين بالحرية والتحرر وتنظرين للحياة نظرة غريبة .. لاشيء يستهويك ولا شيء يخيفك .. منذ صغرك وأنت تحسّين بمسؤوليتك عن نفسك ولكم تمنيتي أن تصبحي كذا وكذا أو تكونين في مكان واحدة من بنات جنسك ولكن شيئا ما في أعماقك كان يتذبذب حول تقييمك لنفسك ففي بعض الأحيان كنت تحسّين بأنك أميز من كل الناس وأحيانا أخرى بأنك لا تساوين شيئا .. لكنك دائما تحسّين بنقص ما في حياتك ولا تدركين كنه ذلك النقص ... ربما هو فراغ حناني أو عوامل أخرى جعلتك تدخلين كل تجاربك الزوجية دون وعي أو تفكير ... حقبة من حياتك مرّت بكثير من الأخطاء القاتلة التي أسهمت بطريقة أو بأخرى في تشكيل معالمك الشخصية .. وفي كل مرة كنت تولدين من جديد وتتوهمين بأنك قد فهمتي الحياة وبدأتي التّصرّف بشكل واقعي ومختلف ولكنك ماتلبثين أن تكتشفي بأنك لم تصلي لشيء .. ربما الحياة في حدّ ذاتها واقع مستحيل الفهم ... وربما لضعف ثقتك بنفسك وفراغك الكبير من الداخل .. وربما هو صراخ الضعف والوحدة في أعماقك يدفعك لنسج الإرتباطات الزوجية العاطفية المتسرعة التي تأتي دائما بلا تفكير وكأنك بائعة هوى ويا لفظاعة التشبيه وهوله ؛ فما من أنثى ترتضي بهذا الوصف … إنها طبيعة الإنسان أن ينظر لعيوب الآخرين كأنها الجبال ولعيوبه كالحصى الصغيرة التي تستطيع حفنة من الرمال مداراتها ؛ وأنت كغيرك تنفرين من تلك المسميات .. حتى بائعات الهوى الحقيقيات ينفرن من تلك التسمية ويعتقدن بأن الناس من حولهن يتعاملون معهن بغير هذا المفهوم .. ربما هناك لعنة من العفن تسكن جذورك فأنت لاتدرين شيئا عن أصلك وكل ما تذكرينه أبوين كفيفين عذّبتهما الحياة ردحا من الزمن وصهرتهما حتى أخرجتك من بين صلب وترائب إحدهما ورحم وأحشاء الآخر ؛ ثم صرفتهما عنك آخذة الأول بعجلات سيارة والآخر بصدمة المفاجأة .
    وأخرجتها شقشقة الورق بين أصابعها من ذلك التوهان ورمت الورقة الخامسة بنظرة متفحّصة .. نفس الخط .. الأوراق تملؤها الكلمات ؛ وبدأت العينان الإلتهام من جديد :-

    لاتستغربي حبيبتي من هذه المفاجأة المذهلة التي إختزنتها لك ؛ فالظهور في حياتك بعد كل هذه الكوكبة من هرج السنين ليس مفاجأة مدهشة بالنسبة لي لأنني كنت أخطط للقائك في كل عام ؛ فأنت لم تبارحين أفكاري فهل تذكرين ذلك اليوم ؟ يوم إفترقنا بإشارة منك وإختفيت تماما من حياتك ؟؟ لن تصدقي كيف عانيت بعدها لأعانق هذه الثروة الباهظة التي أنام عليها الآن فقد كنت طول الوقت أحاول عبثا تحطيم صورتك في أعماقي وأحاول إثبات تحقيق كل ما قد ترينه مستحيلا .. فقد كنت ولازلت أعشقك حدّ الجنون وقد تركتك يومها وهربت إلى بلادي وأنا أعلم بأن القبض عليّ يعني تحطيم صغيرنا وليد الذي جئت لأراه فدفعت صيرورتي قاتل ضريبة لأمنية لم تتحقق .. وكنت عند مجيئي إليك في تلك المرة أرزح تحت ثقل الفقر معتقدا بأن لقائي بك سيسهم في تحسين أحوالنا ويغيث المستقبل والأهل ؛ ولكنني عدت منك خالي اليدين لا أملك سوى حقيبة الملابس وأعماق حطّمتها المعاناة ودواخل أنزفتها الآلام . .. وبعد يومين من وصولي إلى بلدي نفذت حفنة الدولارات التي إمتلكتها بعد أن ذهب نصفها ثمنا لأجرة السيارة التي أوصلتني من المطار إلى عمق المدينة .
    لم ترق لي فكرة الرجوع إلى مدينتي خالي اليدين محطم القلب بعد أن فقدت مالي وزوجتي وطفلي ونقائي بعدما أصبحت قاتلا فاتجهت مباشرة لمنزل سليم هل تذكرينه ؟؟؟ ذلك الرجل الضخم الجثّة الذي كان يعمل معنا ببلادكم في شركتنا التي أنشأناها بعد الزواج وإستغنى عن خدماتنا وعاد بباص صغير كان حصيلة غربته ؟؟
    لقد فقد سليم بدانته ولكنه لم يفقد الباص ؛ جلست معه وشرحت له الوضع فكان كريما معي وإستوعبني للعمل معه كمتحصل أجرة ركّاب بالباص نظير أجر يومي لابأس به ؛؛ ولاتستغربي لمسيرة الظروف وإنعكاساتها وتعاكسها ؛؛
    وإستأجرت بدوري حجرة صغيرة بائسة في إحدى مناطق السكن العشوائي شمال أمدرمان .
    فترة رائعة من العمر كانت تلك التي عشتها تائها ضائعا أعمل فيها بالنهار وأحاول تحطيم صورتك بالليل غارقا في حياة جرفني إليها تيار الضعف وأغواني الشيطان فعاقرت الخمور وتعاطيت الحشيش ولم أتمكن من توفير سوى القليل جدا من فتات المال ..
    وحتى تلك الحياة البائسة لم يشأ الله لها الإستمرار بعد أن كثّفت قوات الحكومة في ذلك الوقت حملاتها لإقتناص الهاربين والمتملّصين من اداء الخدمة الوطنية الإلزامية العسكرية التي وضعني تاريخ ميلادي اللعين النحس في صلب قائمتها مما دفعني للهرب من عاصمة البلاد ..
    كنت أريد السفر إلى أيّ مكان خارج العاصمة فاتجهت نحو السوق الشعبي الكائن في غرب أمدرمان ووجدت كومة من الباصات ؛ ودون تفكير ركبت أحدهذه الباصات ولا أدري كم دفعت ثمنا للتذكرة ولكنني أذكر بأنني دفعت أغلب مامعي من نقود قبل أن يترك الباص عاصمة البلاد خلفه.
    تقاذفتني الأفكار وأنا أصارع المجهول فما كنت أدري وجهتي حتى تلك اللحظة ولكننا إجتزنا (كوبري ) أمدرمان واخترقنا الخرطوم حتى منطقة ( أبوحمامة ؛ ومرّ الباص من خلف السوق الشعبي للخرطوم بمحاذاة نادي سباق الخيول وعرج غربا ...
    والتفتت إلى الرجل الجالس بجواري وكان مستغرقا في التفكير العميق ؛ وحاولت التشاغل بإستقراء ما يدور بخلده في تلك اللحظات ؛ ؛ ربما يكون ضائعا مثلي أصابه مسّ لعنة النحس الحياتي وقذفت به الأقدار إلى حيث لا يدري ..... حاولت أن أفتح معه موضوعا يقصّر الطريق وينسيني همومي غير أنني لم أجد سبيلا لكلمات البداية .
    هكذا أنا دائما كما تعلمين ؛ أضعف وأرتبك وأتلعثم وأهتز وتضيع الكلمات عادة من بين شفتي وتتسارع دقّات قلبي حينما أهم بالإقدام على أي أمر .
    وبعد تردد طويل خرجت من بين شفتي كلمات مرتبكة وجسمي أصابه الإرتعاش والعرق بدأ يتصبب مني :-
    :- كيف حالك ؟؟
    صمت الرجل للحظات يبدو أنه لم يسمع حرفا مما قلت ؛ فقد خرجت الكلمات من بين شفتي خافتة وكأنني كنت أناجي بها نفسي ؛ غير أنه إلتفت فجأة وسألني بكل ثبات وأدب :-
    :- كيف حالك ؟؟
    أجبته وقد تسارعت نبضات قلبي أكثر وإجتاحتني للاسبب موجة فرح غامرة وكأنني عثرت على كنز :-
    :- حمدا لله أنا بخير
    :- أمسافر إلى الأبيض أم إحدى محطات الطريق
    إرتبكت بمباغتة السؤال الذي فهمت منه أن الباص متجها إلى مدينة ( الأبيض ) التي سمعت عنها الكثير وعاشرت أبناءها في العاصمة القومية وغيرها فأجبته :-
    :- بل ذاهب لمدينة ( الأبيض )
    :- وهل أنت من هناك أصلا ؟؟
    :- في الحقيقة كل أهلي في الشمالية ولكنني ذاهب في زيارة
    :- ومن من الناس تقصد هناك ؟؟
    :- إنها المرة الأولى التي أذهب فيها .. أنا لا أعرف أحدا هناك
    وإستمر الحوار بيننا فعرفت بأنه من سكان الأبيض وقد أتت به ظروف عمل خاصة الى العاصمة قبل أسبوعين فقط
    وإنقطع بنا الحديث بوقوف الباص قرب مدينة الدويم لتناول وجبة الإفطار .
    وفي تلك المقاهي المتناثرة وأكشاك الزنك تناولنا إفطارنا معا وقد تولّد بيننا نوع من الودّ المفاجيء فرويت له قصّتي بإختصار وصدق ؛ ولما فرغت منها صمت طويلا وشرد بعيدا قبل أن يقول :-
    :- كل أنسان يشكل في أعماقه وطنا لمأساة ما .. فالإنسان مأساة تسير على الأرض والدنيا دار للعذاب .. ولكن ما عليك سوى الإطمئنان ؛ فلن أدعك تتوه وتتخبط بين طرقات مدينة لا تعرف شيئا عنها ... وأنا مثلك يارفيقي .. مأساة كمنت في الأعماق هي كل أنا .
    وسألته بفضول :-
    :- مأساة ؟؟؟!!!
    :- أجل مأساة وراءها قصة طويلة
    واذداد الفضول أكثر وأنا أسأله بإلحاح وقد نسيت كل التردد والحرج والقلق وكل ماكنت أحسه في بداية الحوار وأحسست بقوة وطمأنينة نسيت معهما كل شيئ عنّي :-
    :- قصة طويلة ؟؟
    :- أجل وسأحكيها لك فلربما في الكلام تخفيف عن الضغط النفسي اللعين؛ ولكنني أطالبك بأن تكون أمينا على قصّتي لإنك الوحيد الذي سيعرفها
    أجبته بصدق وفضول :-
    :- إطمئن يا ...
    :- حسن .. نعم حسن هو الإسم الذي إخترته لنفسي ؛ فقمّة الحريّة أن يختار المرء إسمه بنفسه بعيدا عن دكتاتورية الوصاية الفكرية ..
    :- إعتبر سرّك مدفونا في أعماق بئر
    وتنهد بعد صمت طويل قاتل وعيناي لم ترمشان عنه لحظة وقال :-
    :- لاأدري السر الذي يدفعني لأحكي لك قصة مرّت عليها سنوات خمس وكتمتها عن كل الناس ؛ فلربما أوجدك الله في طريقي لأتخذك رفيق درب ؛ المهم أنني سأغامر وأقول .. وبيدك أن ترمي بي إلى التهلكة وتقودني إلى حبل المشنقة .. لكنك لو فعلتها تكون دون شك قد جنيت على إنسان بريء.
    وإذداد في أعماقي الإحساس بالفضول والخوف والشّفقة في آن ... مزيج من المشاعر المتناقضة إختمرت في أعماقي التي تحرّقت كلها في هاتيك اللحظات لمعرفة قصة هذه الشخصية الغامضة .
    وقبل أن يتفوّه بكلمة أخرى أطلق الباص بوقا طويلا مزعجا إيذانا بحينونة لحظة التحرّك .. وصرخت بإنفعال لا شعوري :-
    :- هل هذا وقته ؟؟
    وطمأنني بأعصاب هادئة قائلا :-
    :- لاعليك .. سأحكيها لك في الباص ؛ فأمامنا ستة ساعات قبل الوصول لمدينة الأبيض
    وركبنا الباص .. وما أن جلسنا حتى صمت في تردد واضح ومنازعة محسوسة بينه وبين نفسه في أن يحكي أو لا.. ثم عاد وإستجمع قوّته وقال لي :-
    :- سأحكيها لك .. وأشهد الله أنني سأحكيها بكل صدق
    وبدأ في حكاية مأساته مع حركة الباص .. وأحسست بنفسي طبيبا نفسيا يقرأ دواخل مريض أو قاضيا يستمع لإعتراف متهم ونسيت كل شيء إلا حكايته

    ونواصل
                  

02-28-2008, 08:08 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    في صباح ذلك اليوم البعيد وقد إنتهى موسم الحصاد .. مرّت نسمة باردة تداعب تلك القرية الوادعة الصغيرة المدفونة في قلب الإقليم الأوسط بمنطقة الجزيرة وقد أحاطت بها المياه من كل الجوانب ...فهاهو ذا الخزان الذي يشكل فرعا من فروع السقاية المصنوعة لإرواء مشروع الجزيرة الضخم يحاصرها من جهة الشرق بينما تحتضنها المجاري المتفرعة عنه ( أبو عشرين وأبوعشرة وأبوستة ) من بقية الجهات .. وتشكّل مزارع القطن وبعض المحاصيل الأخرى وبعض الأراضي البور فاصلا ما بين المساكن والحدود المائية ...
    أما سكان القرية الذين تكتظ بهم رغم قلّة عددهم فقد إعتادوا العيش على المحبة والتعاون واقتسام كل شيء حتى العمال الذين يفدون إليهم في موسم الزراعة والحصاد ؛ ولم تشغل بالهم منذ عشرة سنوات سوى مشكلة ( وداحمد ) ذلك التاجر الكبير صاحب الأراضي والأموال والسمعة العائلية التي تضعه في مصاف أعيان المنطقة مع صديقه ( الجيلي أبوحمد ) الذي لا يقل عنه مكانة ولا جاها حينما تقدم ( ود أحمد ) طالبا يد إبنة ( الجيلي ) لأكبر أولاده فرفضته البنت وماطل والدها في الموافقة لأنه في قرارة نفسه لايريد الإقتران بالولد الذي أكمل تعليمه الثانوي ثم سافر إلى رومانيا لدراسة لطب ولكنه عاد قبل إكمال تعليمه وعاش في القرية مخالفا كل العادات والتقاليد التي يقدّسها مجتمعها الصغير المحافظ بعدما صعقته عقدة النمط الغربي وبات لا يستحي من إرتداء الملابس الخليعة وتصفيف شعره على طريقة الخنافس ويتلوّى فمه عند الحديث بطريقة تثير إستغراب وإستياء وسخرية كل السكان ويستمع دائما لأغاني ( الكفار والملحدين ) ويتلوّى جسمه بالرقص دون إستحياء في أيّ موقع
    كل ذلك لا يجوز في تلك القرية الصغيرة التي إعتادت على الخشونة والإحتشام وإطلاق المسميات الساخرة والنعوت الهازئة على كل خارج . وإنتشرت الشائعات بأن عقله أخذته بلاد الغربة في قرية تبحث عن شائعة تلاك ..لذلك كان ( الجيلي ) يحتقره في قرارة نفسه غير أن الموقف وضعه في حرج بالغ ؛ فهو لايريد للعلاقة بينه وصديقه ( ود أحمد ) أن تتأثربهذه المشكلة ولكن ( ود احمد ) قاس الأمور بمقياس آخر ورفع راية التحدّي ؛ إذ كيف يرفض ( الجيلي ) الإقتران بأسرته التي لاتقل سمعة ومكانة وغنى وقال له في آخر لقاء :- :- إسمع أيها الجيلي .. لقد عشنا معا أجمل أيام الحياة ولكنك خذلتني اليوم
    وحاول الجيلي إفهامه الأمور بلطف فقال :-
    :- لا يا ود أحمد .. أنت صديقي .. وستظل كذلك ؛ ولن أرفض لك طلبا .. ولكنك تعلم بأن أولاد اليوم ليسو مثلنا نحن .. البنت طلبت مهلة للتفكير لأنها هي التي ستتزوج و...
    وقاطعه ودأحمد غاضبا :-
    :- ومنذ متى أصبح للنساء صوت يعلو على صوت الرجال ؟؟؟!! ومتى إستطاعت البنت الصغيرة الخروج عن طوع والدها وإرادته ؟؟؟ إسمع يا الجيلي ... نحن لسنا أطفالا .. لقد إنتظرت ما فيه الكفاية وأريد الرد الشافي
    ورد الجيلي في محاولة يائسة لإمتصاص غضب صديقه :
    :- أرجوك يا صديقي حاول الفصل بين علاقتنا وهذه المشكلة .. هؤلاء الذين نتحدث عنهم لايزالون صغارا وأنا تركت للبنت حرية الإختيار والموافقة
    :- إذا لاصداقة بيننا بعد اليوم ولا علاقة
    قالها ( محمود ود أحمد ) غاضبا وقد نهض بجثته الضخمة وأمسك بيد ولده متحركا خارج المنزل دون أن يلتفت لنداءات ( الجيلي ود أحمد )
    ومنذ ذلك اليوم إنفرط حبل الصداقة وعاش الصديقان في خصومة وحرب تجارية في السوق والعمال ؛ وقد حاول كلاهما حصار الآخر تجاريا بعدما إنقسم سكان القرية بين الفصيلين.
    و مرّت الأيام رتيبة تزوجت فيها بنت الجيلي من إبن عمها العائد من الخليج وهاجرت معه بينما سافر إبن محمود ودأحمد إلى يوغسلافيا وأكمل دراسة الطب ثم عاد وفتح عيادة خاصة في مدينة ( واد مدني ) حاضرة الإقليم الأوسط غير أن الخلافات بين الأبوين لم تعرف ملفّاتها الإغلاق
    وكان لمحمود ود أحمد بنت إسمها ( أميرة ) بلغت سن الإيناع فاخضرّ عودها وتقمّصها جمال رائع جعلها أمنية تسكن خيال كل رائي ؛ ولكن شبان القرية لم يجرأوا على التقدم لطلب يدها خوفا من الرفض بسبب الفوارق الطبقية والإجتماعية والإقتصادية القائمة بين أسرتها وأسرهم .
    وكان إبن عمّها ( برير ) الشاب الوحيد الذي واتته الجرأة للتقدّم ولكنها رفضته بكل عنف وشدة ولم يعجبه الرفض فأصبح يتودد إليها تارة ويغلظ في القول تارة أخرى دون جدوى ؛ فقد قالت أمام الملأ أنها لن تتزوجه حتى ولو كان آخر رجل تبقّى في الكون .
    وحاول ( برير ) إستمالة كفّة عمه للتأثير على قرارها ولكن والدها قال له بأنه لن يجبرها على ما لا ترتضيه حتى لو إضطر لتوزيعها قطع غيار على إخواتها . ... وماذاد الطين بلّة أن ( السنّي ) أكبر أولاد عدوّه ( الجيلي أبوحمد ) كان قد تعلّق بها وسكنت عقل تفكيره وأصبحت حلمه الوحيد .
    عاد ( السنّي ) للقرية المدفونة في عمق مشروع الجزيرة بعد أن هجرها بمجرد إكماله المرحلة المتوسطة من التعليم حيث تم توزيعه بمدرسة ( حنتوب ) الثانوية بمدني ومنها إلى جامعة الخرطوم لدراسة الإقتصاد ؛ ؛ وانتقل بعد تخرجه بفترة وجيزة إلى العراق ؛ وكان إرتباطه بالقرية قد بدأ يقل تدريجيا بعد إكماله المتوسطة ؛ فكان لايزورها إلا في الإجازات التي يقضي أغلبها مع الأفواج والقوافل الطلابية متنقلا بين ربوع الإقليم الكبير ...
    وافتتن بالعاصمة المثلثة واستأجر بعد تخرجه من الجامعة مسكنا صغيرا في مدينة الخرطوم بحري بمنطقة الشعبية ؛ وإشتغل بوزارة المالية والإقتصاد الوطني قبل أن تصله التذكرة من طرف أحد أصدقائه ويسافر مقتحما مجهول المهجر .
    وصدمته الحقيقة في العراق فقد كانت الإقامة التي تم إلصاقها بجوازه مجرد أحقية للقبوع الشرعي بالبلاد ؛ وظل عاطلا عن العمل فترة طويلة يتنقل بين بيوتات المعارف وأولئك العذّاب الذين تولدت بينهم وبينه علاقات حميمة بفضل وحدة الإنتماء .
    وبعد عامين من اليأس خدمه أحد أصدقاء الغربة بتأشيرة عمل في دولة الكويت في وظيفة لا تتناسب مع مؤهلاته التحصيلية ؛ ولكنه كان يشتاق العمل فعمل مراقبا للعمال في بلدية السالمية .
    ما أن إستلم زمام وظيفته حتى تداعبته الأحلام .. سيكتب لأسرته منذ الصباح بعدما إنقطعت عنهم كتاباته لفترة طويلة لأنه لايملك ما يقول ؛ وسيفكر في مستقبله بكل جدية لإنشاء تلك المشروعات المربحة السهلة التنفيذ والتي عمي عنها حينما كان بداخل الوطن ؛ فالغربة مرآة حقيقة تكشف الكثير المستور من جماليات الوطن وإمتيازاته ؛ الوطن مثل الصحة التي لا يعرف المرء قيمتها الحقيقية إلا عند فقدانها ؛ لقد وجد في الأرض التي هجرها كل إمكانيات تحقيق الحلم والأمل ... زراعة وعقارات وتربية مواشي ودواجن ومصانع و.... الخ ...
    ورغم راتبه الضئيل إلا أنه تمكن خلال سنوات ثلاث من إدخار مبلغا لابأس به من المال .. وكان يرسل لأهله الهدايا القيمة وكسوة المناسبات والأعياد قبل أن يقرر العودة إلى الوطن .
    لقد مرّت البلاد بمتغيرات كثيرة في فترة غيابه ؛ وإختلف الوضع المعيشي والأوضاع الإجتماعية والإقتصادية ؛ فهاهوذا يرى أشكال الناس مختلفة منذ أن وطأت قدماه أرض البلاد ؛ ولم يجد في شعبية بحري أغلب رفاقه القدامى الذين إبتلع منهم المهجر ما إستطاع وتفرّقت سبل الحياة بالبقية الباقية .. وكبر أولئك الذين تركهم أطفالا وتغيّرت أشكالهم.
    أما البيوت والشوارع فقد أخذت طابعا غير ذلك الذي كان يألفه ؛ وأحسّ بنفسه غريبا في عاصمة بلاده ومن ثم إتجه إلى القرية
    واستقبله الأهل بحفاوة بالغة ؛ وأقيمت الإحتفالات وذبحت الذبائح وبدت القرية جميلة رائعة خاصة وأنه وصل في موسم تبرّجها وإرتجالها روائع الطبيعة . عانى صاحبنا كثيرا في بداية الأمر فأغلب سكان القرية يجهل أسماءهم ؛ وعند الجلوس مع أنداده يتعاملون معه بحواجز تفتقد النديّة والعفوية المطلقة التي ينتهجونها بينهم وضاق ذرعا باحترامهم الزائد وإحساسه كأنه إله هبط على معبد مقدّس للوثنيين ..
    وكان عندما يحاول التسامر معهم يحس بالحواجز وتباعد المسافات والشعور الخفي بوخز الغربة الأليم جرحا يلازمه حتى في قريته الآمنة المدفونة في عمق المشروع . فالأحداث التي يتحدثون عنها كان يجهلها والمواضيع التي يتطرقون إليها كانت بعيدة عنه كل البعد ؛ والشخصيات التي يتناولونها في أحاديثهم لايعرف ملامحها ؛ ولكنه كان يتحدث بحماس ويعتلي دكة الحوار حينما يكون عاما يختص بسياسة الدولة ومعدلات الإنتاج ومواضيع حياتية عامة .
    وكأنما القدر قد أحسّ بمعاناته ومحنته وأراد إنقاذه وفك طوق العزلة عنه ؛ أرسل له الخلاص بقدوم عبدالوهاب ذلك الشاب الذي نشأ في كنف أسرة متوسطة الحال وانطلق من القرية بعد إكمال المرحلة الثانوية ليهاجر إلى أوروبا ؛ فعاش فترة من الوقت إنقطعت أخباره ويئس منه الأهل بينما كان يتجول بين أقطار أوروبا حاملا حقيبته الصغيرة يعمل مرة في جني العنب ومرة أخرى في غسل الصحون وبيع الصحف والسوبرماركت ومحطات الوقود وسياقة التاكسي .. وكان يعيش فترة من الوقت في دولة ليجمع ما يعينه على الوصول للتي تليها ... وهكذا مرّ به قطار العمر غير أن التجربة القاسية أنضجته وعلمته الكثير ... فلكم أحس بحنان ودفء هذه القرية وقتما كان ينام على أرصفة شواع إيطاليا ؛ وكم أحس بطيبة الأهل حينما قست عليه الظروف ولم يجد من يأويه في إسكوتلندا .. ولكم إفتقد كرمهم العفوي حينما لم يجد ما يأكله في فنلندا والسويد وألمانيا .
    لقد أحس عبدالوهاب بالوطن في كل ثانية قضاها خارجه ؛؛ وكان الوطن في تفكيره شيئا مختلفا .. كان الوطن كله هذه القرية الصغيرة وهاهو ذا قد عاد أخيرا إلى أحضانها الدافئة بعدما تعلم كيف يحبها ويحترمها ويتمسّك بها حتى النهاية .
    ووجد فيه ( السنّي ) رفيقا على شاكلة المصائب تجمع المصابين ؛ فكلاهما إكتوى بنيران المهجر وتقرّب من الآخر فتولّدت بينهما صداقة عميقة ؛ فقد كانا يتناقشان بمنطق غير الذي يحكم أهل القرية .
    وفي تلك الليلة التي أقيمت فيها حفلة ترحيب بعبدالوهاب جاء شبّان القرية المتأنّقون في ملابسهم البسيطة المضحكة ؛ وإذدان بيت ( ود أم ديّة ) والد عبدالوهاب بأنوار الزينة ورصّت الكراسي بعناية فائقة ؛ وجيء بجهاز ( البك أب ) بعد جلوس البنات على الكراسي ؛ وإنطلقت الأغاني من الجهاز وقد إنهمك الحضور من شبان القرية والقرى المجاورة في مراقصة الفتيات بكل براءة .
    ومن بعيد وقف ( السنّي ) مستمتعا بمشاهدة الرقصات الساذجة التي إنغمس فيها راقصوها بكل إرتياح وقد خال له أن عبدالوهاب في تلك اللحظات شخصا آخر يرقص الجميع من أجل إسعاده ويعشقون إحتفاءا بوجوده ويتشاجرون أيضا في ذات المناسبة بعد أن تعتلي وعي بعضهم شخصية الخمور البلدية التي يحتسونها إستعدادا للإنغماس في مثل هذه المناسبات النادرة ؛ وكان يتبادل الهمسات والتعليقات مع صديقه الوحيد عبدالوهاب .
    وتعثّر بصره فجأة عند فتاة لاتشارك الراقصين رقصهم وقد إنزوت علي أحد الكراسي الخلفية ... لوحة من السحر والروعة والجمال ؛؛ وجهها المستدير يحمل مسحة جمال خرافي ؛ وعيناها الواسعتين تشعّان بالجاذبية المطلقة وقد تحرر شعرها الأسود وانسكب إلى الوراء دون أن تطاله قوانين الجاذبية بينما نادت شفتاها الورديتين سفنا ضلّت الموانيء ..
    بدت الغادة الهيفاء حورية خرجت لتوها من نهر الطبيعة وأصابت عينيه بسحر جعلهما تركزان نظرتهما عليها وقد شرد الفكر .
    رفعت عينيها ببطء وغنج فالتقت النظرات وبدا عليها شيء من الإرتباك فأطرقت ؛ ومن جديد عاودت الكرّة ..... وهكذا دارت دائرة النظرات في مشوار طويل ... وسأل ( السنّي ) أحد الشبان بجواره :-
    :- بنت من هذه ؟؟؟
    أجابه الشاب بدهشة وإستنكار وكأنه يعيب عليه عدم معرفته لها :-
    :- هذه أميرة بنت محمود ود أحمد
    أحسّ صاحبنا بضيق شديد فمحمود ودأحمد هو العدو اللدود لوالده ( الجيلي أبو حمد ) وما بينهما من مسافات تجعل من الصعب بل من المستحيل عليه التفكير في هذه الأميرة التي تاقت نفسه إليها من النظرة الأولى .. ولكنه قاوم ضيقه ولم يتمكن من مقاومة رغبة عينيه فاستمرت النظرات التي حسمت كل شيء وكأنما الدنيا كلها إلتقت وتوقفت عند ذلك الخط الوهمي الذي رصفته نظرات أربعة أعين ...
    وإنتهى الحفل ولكن حفلا آخر كان على وشك البداية ؛ فالأعماق تهرجل والميناء والسفينة الضالة تعتريهما أمواج قلق الشعور والأعماق يسكنها الضجيج .
    وفي الصباح الباكر يمم ( السنّي ) ليبثُ شكواه لمجرى ( أبوستة ) المائي الصغير ؛ وكانت المفاجأة الكبرى حينما لمحها بين إثنتين من وصيفاتها كبدر يندسّ بين نجمتين فيفضحه الضوء وقد حملن أوعيتهن لملئها بالماء .. فأوقفهن وناداها فانفصلت عنهن وجاءت تسعى إليه في إستحياء وقد إعترى التغيير والخجل تقاطيع وجهها ونظرات عينيها وكأنها قمرٌ يتقلّص فيزداد جمالا وروعة .. ما أن إقتربت منه حتى عاجلها بجملة كصفعة النسيم :-
    :- لقد أحببتك يا أميرة
    أطرقت بخجل بعدما هربت منها إبتسامة كادت تنتزع قلبه من بين الضلوع .. وغفلت راجعة لوصيفاتها قبل أن تقول بصوت أقرب للهمس :-
    :- نلتقي هنا في المغرب
    وإهتزّ الكيان طربا ؛ فهاهي ذي القرية تربطه بها لأول مرة .. وبهذه البساطة المتناهية العفوية الساذجة إنتزع الفرح . .. فمن عادة بنات القرية الوضوح حتى في مشاعرهن حينما لا يجدن صبرا على كتمانها ؛ إنهن يكتمن ويتحملن وخز الحب ولهيب نيرانه حتى النهاية ؛ ولكنه حينما يفيض يتدفق بعفوية مطلقة .
    وعندما ترفضك الفتاة ترفضك من كل قلبها ؛ وقد يجبرها الأهل على القبول بك فترضخ طائعة ولكنها في أعماقها تظل رافضة رغم رضاها وقناعتها بالقضاء والمكتوب ومعايشتها لقسمتها بكل إخلاص ... وحينما تعشقك تتحايل عليك بالنظرات والبسمات وتعدك باللقاء ولكن يقلب طفل بريء نقي لايعرف من الحب سوى عنفوانه وقوته وعذريته ولا من الإرتباط غير الصدق والإخلاص والتضحية حتى نهاية الطريق .
    أحسّ ( السنّي ) بالحب ينمو في أعماقه كما تنمو شجيرات القطن على الأرض البتول .. .. وجد في سحر عينيها جمالية مياه الخزان وعفوية القرية وطيبة أهلها .
    ومع آذان المغرب وقد بدأت القرية تتجمع في مساكنها والناس ثعابين دخلت أجحارها في بيات الشتاء كان هناك في خور ( أبوستة ) قلبان ينبضان بلغة حب عذري وكأنما ممالك النحل كلها إجتمعت تتنافس على إراقة العسل في الحديث والنظرات والإبتسامات .. وابتدأت مسيرة القطار .
    هكذا وبكل بساطة ودون ضجيج وبفجائية وغرابة ولا توقٌع سطّر التاريخ ميلاد قصة حب في الوجود بين إثنين يعيش أبواهما أعنف مراحل الخصومة والقطيعة والأحقاد؛ لكنهما لم يأبها بالسير في طريق مسدود تملؤه العقبات والعراقيل ... وتعمّقت الصلة


    ونواصل
                  

02-28-2008, 08:15 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    بدأ صبية القرية يتهامسون بقصّة ( السنّي وأميرة ) ويتساءلون عمّا يمكن أن يفعله بهم إبن عمها ( برير ) الذي رفضته بكل قسوة لو أحسّ بهذه البارقة !!!! فقد كان ( برير ) مبغوضا قاسيا ثقيل الظل ... وكانت أميرة تصدّه بكل قوة وعنف وقسوة ؛ ولكن قلبه كان متعلّقا بحبها حدّ التشبّع ؛ وعقله مهتوس بها حدّ الجنون ؛ إلى أن كان ذلك اليوم الذي أقيمت فيه حفلة عرس بالقرية .
    كان ( السنّي ) على موعد مع (أميرة ) فقد إتفقا على أن تنسرق من وسط ضجيج الحفل دون أن يحسّ بها أحد وتتجه نحو الخزان فيلحقها ( السنّي ) لإرواء إدمانهما للحديث المعسول والجلوس مع بعضهما البعض
    .... ومن بين ضجيج الحفل إنسلّت أميرة خلسة وإتجهت نحو الخزان ... وكان إبن عمها ( برير ) الذي عرف من تهامس المتهامسين قصّتها مع ( السنّي ) يراقبها بحذر شديد ..
    وبدأ يتعقّبها دون أن تدري حتى إبتعدت عن القرية وإقتربت من الخزان ؛؛ رهبة الليل وتلاطم المياه كانت في مؤانستها المعتادة لتقصير مشوارها الطويل إلى حيث لاتدري ونقيق الضفادع وصفير الجنادب والحشرات يملأ المكان وكأنها أخذت على عاتقها المحافظة على إيقاع ضجيج الكون بعد سكون الناس .
    جلست ( أميرة ) على صخرة كبيرة بالقرب من الخزان تتنازعها غريزة الخوف من رهبة المكان ولهفة إنتظار مقدم قيسها وقد إنشغل عنها البال في حديثه المعسول ومفرداته التي تختلف عن مفردات شبان القرية الآخرين .
    أخيرا سمعت وقع أقدامه ؛؛ تظاهرت بعدم سماعها ... إقتربت الخطوات .. وأرهفت صاحبتنا السمع أكثر وحصرت كل حواسها في أذنيها ... ستكون أول كلماته ( أحبك يا عمري ) .. عندها سترفع رأسها بدهشة مصطنعة وتقول بأنها كانت تفكّر فيه ولم تنتبه لمقدمه ... صوت الأقدام إقترب أكثر فأكثر وبحواسها بدأت في تقدير المسافة وهي لا تزال مطرقة مغمضة العينين نشوى ... سيقول لها الآن ( يا عمري ) ..... وأرهفت السمع أكثر .... لكنها أحسّت بإرتطام شيء حاد كأنه الفأس برأسها وألم فظيع والدنيا تدور وتدور وتدور من حولها بسرعة جنونية و ... ولم تعد تعي شيئا .
    لم يكن القادم ملاك الحب كما كانت تتوهم ولكنه نذير الموت .. لقد زارها الموت في صورة ( برير ) .
    وبحقد شديد رفع سكينته وإنهال بها عليها فسدد عدّة طعنات إلى ظهرها لم تسعفها على الصراخ .. ثم نظّف سكينته في ماء الخزان وأدار ظهره لجثـتها وانطلق إلى القرية وكأن شيئا لم يحدث .
    أما ( السنّي ) فما أن إبتعد عن الحفل حتى حثّ خطاه نحو الخزان وفي عقله تدور العبارات التي بدأ تجهيزها وإعدادها للقول يحمله ذلك الإحساس العميق المتوهج بالعشق والوله ...
    وإقترب من الخزان .. وما أن رآها على ضوء القمر حتى تشنّجت أعضاؤه وكأن الكون كله قد توقف في تلك اللحظة ... صرخ صرخة مدويّة ثم إنكفأ على جثـتـها هاطلا ثخين الدمع كأمطار غزيرة على شجرة تيبّست وماتت فيها الخلايا .


    ونواصل
                  

02-28-2008, 08:18 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    عندما وصل (برير) إلى الحفل بادر بالسؤال عن إبنة عمه أميرة فلم يجدها بالطبع .. واتجه مباشرة إلى منزلها وطرق الباب ففتحه الوالد وفي عينيه بقايا نعاس.. سأل عنها زاعما أنها طلبت مرافقته المنزل لإحساسها بالصداع وطلب منها إنتظاره ريثما يقضي حاجته في الخلاء القريب ويعود .. ولكنه لم يجدها بالحفل عند عودته فجاء للإطمئنان عليها .
    وإستيقظت والدتها على صوته الجهوري العالي ؛ ولم تجدها على فراشها ؛ وتحرك الجميع بإنزعاج إلى الحفل ولكنها لم تكن هناك .
    واجتاح الحفل نوع من الذعر والتساؤلات وإشاعات فورية شقّت طريقها لإيجاد لحظة الميلاد ...
    ( السنّي ) لم يكن موجودا هو الآخر .. وتحرّك الجميع للبحث عن الإثنين وصدر ( محمود ود أحمد ) يغلي من الغضب وشفتاه تقسمان على غسل العار بالدم .
    إنتبه ( السنّي ) فجأة على وقع خطوات كثيرة تقترب منه وأصوات مختلطة ببعضها تتساءل غاضبة محتارة متوعدة ... وكان ( برير ) أول المقتربين .. تقدّم وأضاء بطاريته على وجه ( السنّي ) وصرخ بإنفعال مفتعل :-
    :- لاحول ولا قوة إلا بالله .... سأشرب اليوم من دمك أيها القاتل الحقير
    واندفع ( السنّي ) واقفا وأطلق ساقيه للريح ومن خلفه الجميع .... وبحركة لا إرادية لا يدري كيف نهض وإنطلق في حين إنقسم القوم بين الجثة ومطاردته .
    وظل ( السنّي ) راكضا والجميع خلفه حتى إعترضته مياه خور ( أبوعشرين ) المقترن بالخزان ... لم يكن هناك مجالا للتفكير فرمى نفسه في الماء وظل يسبح والكل خلفه حتى بلغ الضفّة الأخرى .. واستمرت المطاردة ...
    وكأنما القدر مهّد لإنقاذه فقد لمح القطار أمامه وقد بدأ تحرّكه من القرية الواقعة غرب ( أبوعشرين ) فأسرع نحو القطار الذي بدأ يزيد سرعته في تلك اللحظات ومدّ إليه أحد الشبان الذين يركبون على سلالم القطار يد العون وإلتقطه .
    وكان ( برير ) أول الواصلين وراءه ؛ ولكنه عندما إقترب من القطار جرفه هواء السرعة إلى تحت العجلات التي سحقته على القضيب وطحنته بلا رحمة.
    وهكذا يا عزيزتي حكى ( السنّي ) الذي حوّل إسمه إلى حسن بعجل وإختصار قصته الأليمة ؛ ورويت له ماحدث معي من أحداث الزمن وأوجاعه فترافقنا طول الفترة السابقة .
    كنت أعمل جاهدا على جمع المال الذي يعينني على الرحيل إليك يساعدني في ذلك صديقي ( السنّي ) أو (حسن ) كما سمّى نفسه والذي أصبح أكثر من رفيق درب جمعتني به الظروف داخل الباص .. ثم تزوج وأنجب ونسي قريته إلى الأبد .
    وبعد أعوام من العمل المتواصل تحركت إلى حاضرة البلاد وظللت لفترة طويلة أبحث عبثا عن تأشيرة لمغادرة البلاد ؛ فالتأشيرة تم ربطها بشهادة أداء الخدمة الوطنية العسكرية الإلزامية والتي تكلّفني سنوات إضافية من عمري التّعس .. وحاولت الإتصال بك في الشركة ولكنني لم أتوفق في ذلك فقد تم تغيير الأرقام الهاتفية عندكم ؛ ولم أتوفق أيضا في إيجاد تأشيرة أو فيزا توصلني إليك .
    وظللت منتظرا يقتلني الشوق إليك حتى وجدت أخيرا وبعد عناء وكدّ ويأس ومطاردات تأشيرة سفر سياحية بمبلغ باهظ فلم أتردد .
    وأخيرا حللت عندكم قبل أسبوع ؛ ولكنني قررت مقاومة رغبة الإتصال بك حتى يحين موعد الميلاد .. ولا تستغربي فقد لعبت الإستعلامات دورها في تسهيل إيجاد رقم الهاتف وصندوق البريد فكان ما كان .
    وسرح بها البال بعيدا وهي تتذكر ذلك اليوم البعيد قبل سيل من السنوات حينما حدث ذات الشيء الذي إنتهى بمقتل زوجها السابق .... وهاهوذا نور الدين ظهر من جديد كلعنة تطاردها وقدر يستحيل الفكاك منه ؛ ولكنه مع ذلك بقي أعظم معنى في أعماقها ...
    لقد تقدّم بها قطار العمر وأصبحت تتعامل مع جروحالحياة كالزنبور الذي يطير عن جحره فإذا وجده قد هدمته قدم لايأبه بل على الفور يبني حفرة بجانب الحفرة الأولى ويعيش عليها ولكن السنوات لم تتمكن من إنتزاع ذلك السحر الذي بثّه نورالدين بين خلاياها المتمزقة المهترءة وحفرته هي الحفرة الأولى والوحيدة التي سكنت ذاكرة وفكر دبّـورها ... وهاهي ذي تحسُ بذات المسّ الكهربائي العميق في نظرات عينيه .. ترى ماذا فعلت بك السنوات يانور الدين ؟؟؟ وهل لازال وجهك ينبض بحيوية الشباب ؟؟؟ وتلك الإبتسامة الساحرة الجذّابة هل لازلت تحتفظ بسحرها وجاذبيتها أم أن السنوات قد رسمت في ملامحك شيئا من معاناة الكآبة ؟؟؟؟
    لقد ظلمتك الأقدار ففرّقتك عن الأهل والزوجة والولد ... ربما لبقائك في ذهن نوال سببا هو ذلك الولد ( نزار ) الذي يحمل ملامحك وطبائعك وهدوءك المثير وصوتك العميق .. وربما هو الفراغ والملل اللذان أحسّتهما في حياتها بعدما تغيّر زوجها نعيم فأهملها وأهمل واجباته نحوها وبات يتصدّق عليها بحقوقها الزوجية والإنسانية بكفاف ... وربما لأنك أول رجل في حياتها ‘ فالمرأة مثل الرجل تماما .. الولد يتعلّق بأمه لأنها أول إمرأة رآها في حياته وبزوجته الأولى لأنها أول إمرأة إرتبط بها شرعا بعد أمّه ؛ وكذلك المرأة تتعلّق بأبيها لأنه أول رجل شرعي في حياتها وبك لأنك أول رجل في حياتها .
    هكذا جبلت الطبيعة الإنسانية ؛ والآن ماذا ستفعلين يانوال وزوجك نعيم إعتراه جنون التغيير هو الآخر وأنت لاتقوين على فعل أيّ شيء إكراما لمشاعر الأطفال وخوفك عليهم .
    أما نورالدين فالأفضل أن تذهبي إليه وتحسمي معه كل شيء من أجل الأطفال أيضا .... قولي له أن يتركك تعيشين في هدوء وينساكي إلى الأبد .. قولي له أن يعيش حياته بعيدا عنك وفق ما يحب ويشتهي ويحسبك في عداد الأموات .. لابد لك يانوال من حسم نقطة حسّاسة لقنبلة موقوتة إسمها نورالدين .

    ورمت بصرها على ماتبقّى من كلمات الرسالة :-

    :- سأنتظرك اليوم في تمام الساعة الرابعة مساءا .. لاتقولي شيئا ...تذكري فقط أنني عانيت كثيرا من أجل ميلاد هذا اللقاء وأنني أنتظرك على أحر من الجمر.. وأرجو أن تحضري معك ولدنا وليد فقد إشتقته كثيرا وأنا لاأعرف حتى ملامحه وأحواله ... ولا تحاولي التّهرب من الحضور وثقي بأنني لن أضايقك بعدما عرفت أنك متزوجة وأم ؛ وأنا واجد لك كل الأعذار في ذلك وإلى اللقاء

    نورالدين

    العنوان .. نفس الفندق / نفس الغرفة



    وسرح بها الفكر مرة أخرى .. ماذا يريد بالطفل ؟؟؟!!! ولكن !! أليس من حقه رؤية ولده ؟؟؟ إنه يملك فيه نفس الحقوق .. ولكن لا .. لا .. لقد حملته في أحشائها ؛ وعانت عند ولادته ؛ وأرضعته وربّته وعلّمته وهولا يعرف شيئا عن والده ... فهل أخطأت حينما قالت له بأن والده قد توفي في حادث مروري ؟؟؟ لاتدري لماذا كذبت عليه هذه الكذبة وهي لم تكن مضطرة لها .. وكثيرة هي الأخطاء التي ترتكبها دون إضطرار وللاسبب ثم تعود وتندم عليها بعد فوات الأوان دون أن تتعلم شيئا من نتائجها ... وماذا تقول له الآن ؟؟ هل تقول له أن والده قد بعث من جديد ؟؟؟ وقررت عدم إصطحابه معها إليه .

    ونواصل
                  

02-28-2008, 08:22 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    منذ الثالثة والنصف عصرا بدأت نوال دون وعي منها في إرتداء ملابسها والإنشغال بالتّأنّق ووضع المكياج الملائم والروج .. لبست أجمل ما تمتلك من ثياب ولاتدري لماذا .. ولكنه حال من يعشق !!!! يتجاهل حقيقة أنه يفعل ذلك لا بدافع نفسه وإنما بدافع آخر خفي وكأن معشوقه يعشق اللبس والعطور وأدوات الزينة دون أن يكلّف نفسه عناء السؤال بأنه لوكان ممزق الثياب رثّ الهيئة هل ستظل مشاعر الآخر ملتهبة بذات الحرارة والعنف ؟؟!! أو كأنما شخصيته لن تكتمل إلا بتلك الثياب الفوق عادية ... لآ ... ليس عيبا أن نتأنّق ونبدو في أحسن صورة أمام من نهوى يانوال ولكن العيب يكمن في أن يكون التأنّق مرتبطا فقط بمثل هذه اللحظات وكأننا نلبس المحبوب غشاوة تأخذه نحو الإنبهار بالمظهر الخارجي متناسيا الجوهر الذي لو لم يكن هدفا رئيسا للحب لأضحى الإحساس سرابيا هوائيا سطحيا يتلاشى عند هبوب أول ريح أو قبل هبوب الريح ...
    إنها لحظة الإستفزاز الحقيقية التي لاينتبه لها العشّاق بل على العكس من ذلك تأخذهم النشوة الخادعة بلا وعي حينما يبدأ كل طرف بالتغزّل في مايرتديه المحبوب أو ما يتأنّق به من عطر وغيره دون إشارة ولو لامحة لجوهر الكيان والروح .
    وطردت نوال سريعا هذا التفكير العابر ؛ فمثل هذه اللحظات لا تحتمل الفلسفة وإنشغال البال بتوافه الأشياء .
    حاولت بعفوية مطلقة إستثمار لحظة إحساسها الممزوج بين السعادة والتراهق واللاوعي والخوف ؛ أقصى إستثمارممكن فوقفت طويلا أمام المرآة يحملها الإحساس بأنها أضحت في خفّة الفراشة وعمر المراهقة محاولة بذلك محو ما تستطيع من أثر مرور السنين .
    وخال لها بعد التدقيق الشديد بأن التجاعيد قد بدأت تسترق الدبيب على أطراف الشفتين والعيون بدأت تغور والشعر تسللت إليه بعض نقاط الضوء
    وكان نعيم هو الآخر مشغولا عنها ؛ فقد أخرج من خزانة الملابس بدلته التي ظلّت حبيسة لسنوات .. ورشّ علي نفسه نصف قارورة العطر قبل أن يشرع في هندسة شعره الكثيف الأجعد وتسويته بدقّة بالغة بعد أن حلق ذقنه وقصقص أطراف وجنبات وزوائد شاربيه .
    كانت لحظة غريبة يخال لمراقبهما بأنهما خارجان إلى حفل عظيم ؛ ولكن القلوب كانت شتّى والغرفة الضيّقة التي إحتوتهما في الظاهر تمددت داخلها مساحات بحجم الكون وأكبر تفصل بين أعماقهما في تلك اللحظات .
    كان زوجها نعيم على موعد مع محبوبته ( وجدان ) للترافق إلى المعرض السنوي الذي يقام بقاعة أحد الفنادق الكبيرة بينما تستعد نوال لملاقاة نورالدين .... وسألته بلا إهتمام :-
    :- إلى أين يا نعيم ؟؟؟
    أجاب دون أن يكلّف عينيه عناء النظر تجاهها :-
    :- لحضور مناسبة زواج أحد الأصدقاء
    وخرج دون ألتفاتة نحو الوراء ... وما أن إجتاز البوابة الخلفية وتوارى عن شرفة المنزل حتى وقف أمام أحد محال السوبرماركت .. دقائق معدودة قضاها مضطرب التفكير قلقا ينظر إلى ساعته بين الحين والآخر قبل أن تتوقف أمامه سيارة أجرة كانت ( وجدان ) تتقوقع في زاوية المقعد الخلفي منها .
    إبتسم صاحبنا إبتسامة رضا عانقت إبتسامتها الملائكية الساحرة ثم فتح الباب وإرتمى إلى جوارها وتحركت بهما السيارة إلى موقع المعرض .
    لقد جنّ ( نعيم ) في الفترة الأخيرة بهذه المخلوقة الملائكية التي عرف فيها شيئا آخر غير نوال ... شيئا أحسّه دون أن يدري ماهيته ... وجد فيها قربا إنتمائيا عميقا كذلك الذي يربط الأبيض بالأزرق ساعة الإقتران فخطبها سرّا بطريقة رسمية بعدما قويت علاقته بأسرتها .... وشغله الحب عن بيته وأطفاله وبات يتحيّن فرصة إعلان الخطوبة وولوج بيت الزوجية للمرة الثانية .
    وبينما هما يتجوّلان بين أجنحة المعرض صرخت وجدان بخوف ودهشة :-
    :- تلك الداخلة .. أليست نوال ؟؟!!!
    والتفت نعيم ناحية أشارت وقد إذدادت خفقات قلبه وأصابه الإحساس بالخوف والرعشة والإرتباك .
    كانت نوال تحثّ الخطا بلا عقل ولا بال لدرجة انها لو إصطدمت به ربما لا تراه .
    تحدّثت للحظات مع مدير الإستقبال ثم داست على زر المصعد الكهربائي وإختفت فيه .
    وبدأ صدر نعيم يغلي بشدّة وكأنه التنور ساعة فورانه ؛ وإجتاحته لحظة ذهول وغضب ولا تصديق ... وبجنون العصبية ترك خطيبته دون أن يستأذنها واندفع كالثور الهائج نحو موظف الإستقبال .. حادثه للحظات بانفعال واضح ثم تحرّك نحو المصعد الكهربائي وغاص فيه .
    أما نوال فقد سبقته دون أن تراه لإحدى الغرف ؛ وطرقت الباب طرقات خفيفة وكأنها تخاف إيقاظ نائم بالداخل ثم فتحت دون إنتظار فانفرج الباب عن نور الدين جالسا وأمامه طاولة صغيرة إرتصّت فوقها الشموع المغروسة في قلب ( كعكة ) كبيرة وبطاقة تهنئة هادئة الألوان أنيقة الرسم وضعت بعناية فائقة بين الشموع .
    تأهبت لصفعه بأبشع العبارات غير أن نظرته نحوها حملت سحرا غريبا سرى في أعماقها كما الخدر فصمتت في إنهزام وضعف وإنقياد ..... فهاهوذا أمامها وقد إشتعل الرأس شيبا ؛ وتجاعيد خفيفة بدأت تراوده بحياء ؛ لكن العينين والشكل وقفا بصلابة وعزم ضدّ ثورة التغيير .
    نهض من مكانه وإقترب منها وحيّاها بلهفة قبل أن يقول بصوته العميق الذي يجعل أحشاءها تهتز وترتبك :-
    :- لكم أحببتك يانوال
    صمتت وصدرها يضطّرب وعيناها تنطقان بحنين دافق يجرفها بشدة نحو شواطئه... وتذكّرت أيام الجامعة والزوجية والحب ... لقد أحبّته حقا ولم يتمكن من إرتبطت به بعده من الرجال من وصول تلك القمم الشاهقة والمناطق البعيدة النائية التي إحتلّها في أعماقها .... إنه الآن كل حواسها ومشاعرها وذكرياتها ..
    همّت بإحتضانه لكنها ترددت وطرحت الفكرة عن بالها ... من أنت أيها المخلوق الغريب ؟؟؟ من تكون يا نورالدين ؟؟؟؟
    وبيد ثابتة مدّ إليها الثقاب لإشعال الشموع دون أن يرفع عينيه عن وجهها ... وإمتدت يدها المرتعشة نحو الثّقاب .
    وقبل أن تلتقي اليدان إقتحم نعيم الحجرة بكل عنف دون إستئذان .. وتوقف عند الباب مذهولا للحظات وقد إنقشع أمامه المشهد المثير .
    وكأنما بأعماقه مارد من اللاوعي يحرّكه إمتدت يده اليمنى بعصبية إلى السكين المعدّة لتقطيع الكعكة .
    وقبل أن يفوق نورالدين ونوال من وقع المفاجأة وينهضان من ذهولهما ندت عنهما صرخات رعب تحوّل بعدها البساط الأخضر المفروش بأرضية الغرفة إلى لوحة حمراء قانية ... وإستمر نعيم في طعنهما بكل شراسة وقد نسي الإحساس بكل شيء سوى الهستريا ورقصة اللاوعي العنيفة التي تحرّك يده على موسيقى الإنفعال اللاشعوري بينما تنسكب أنهار الدماء زاحفة تحثّ الخطا لإحتلال كل مساحات البساط الأخضر
    ونواصل......
                  

02-28-2008, 09:00 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    :- حكمت المحكمة حضوريا بسجن المتهم عشرة سنوات مع التنفيذ

    هكذا نطق القاضي الحكم ولم ينطق نعيم بكلمة واحدة طول فترة
    المحاكمة ونظراته القوية مصوّبة إلى الجدار الواقع أعلى باب القاعة من
    الداخل وقد تثبّتت عليه لوحة كبيرة رسم عليها ميزان يتوسط الآية ( وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل ) .
    ورفعت الجلسة فقيّدوه ثم إقتادوه مع عدد من المحكومين إلى سيارة الشرطة المغلقة الأبواب كطائر تمّ إحكام القبض عليه .

    ومن بين فتحات شبّاك السيارة أطلّ وجه محبوبته وخطيبته ( وجدان ) ... وإنسرقت من عينيها نظرة حزن عميقة .. نظر إليها ونظرت إليه فإنحدرت الدموع من عينيها وأتت كلماتها من بين الحزن والإنتحاب المتواصل :-

    :- سأنتظرك يا حبيبي
    أحسّ براحة عميقة في تلك اللحظات وبنفسه طائر وجد سعادته رغم القفص .

    وإنسرقت منه إبتسامة عفوية قبل أن تتحرك السيارة وعيناه مصوّبتان ناحية خطيبته التي بدأت تلوّح بيدها من بعيد ممسكة بأطفاله وقد إنهمرت من عينيها دموع غزيرة .


    ( النهاية )
                  

02-29-2008, 05:54 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    شكرا للمتابعة وفي انتظار أقلامكنم
                  

03-01-2008, 06:08 PM

ABDELDIN SALAMA

تاريخ التسجيل: 09-09-2005
مجموع المشاركات: 1438

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مأساة ولكن ..... رواية تنشر لأول مرة (Re: ABDELDIN SALAMA)

    في انتظار التعليق والنقد المفيد
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de