|
في وادي حلفا رجال قهروا المستحيل وأعادوا حلفا إلى خارطة السودان
|
بلغت معاناة الحلفاويين في صراعهم مع النيل قمتها بقيام السد العالي عام 1964م الا ان البداية الحقيقية لمأساتهم كانت عام 1902م ببناء سد أسوان ثم التعلية الأولى عام 1913م ثم الثانية عام 1933م وكانت الطامة الكبرى عام 1964م حينها بلغت معاناة ومأساة النوبيين ذروتها وكل تلك الاحداث المتتالية تركت آثارا مدمرة على سكان ضفتي النيل حيث تجتاح مياه الفيضانات المزارع والحدائق والمساكن وبساتين النخيل فيضطر السكان الى التراجع الى اطراف الصحراء وسهولها ويتم تعميرها وتتكرر المأساة عند كل تعلية، والمثير للدهشة والاستغراب ان الحكومة السودانية او المصرية لم تلتفتا يوما لهؤلاء الضحايا الذين يعيشون على ضفاف النيل في ارض النوبة منذ ستة آلاف سنة والجارة الشقيقة مصر التي تعمر اراضيها بقيام الخزان وتعلياته المتكررة عاملت ضحايا تلك التعليات وكأنهم غير موجودين على الاراضي التي تغمرها الفيضانات عند كل تعلية. لقد كانت احداث تهجير النوبيين من وادي حلفا امتحانا عسيرا لقوة النوبيين ومدى عزمهم، استعملت معهم حكومة عبود كل الاساليب والحيل لتهجيرهم تارة بالتهديد والوعيد وتارة اخرى بالترغيب والتحفيز والوعود النرجسية الا ان رفض الحلفاويين فكرة التهجير كان مبدئيا وقفوا بقوة في وجهها. ولكن الحكومة بمكرها وحيلها تمكنت من شق الصف النوبي واستمالة بعض القيادات الهشة في المجتمع النوبي التي نشطت وصورت الوطن الجديد كأنه ارض الاحلام عملت بين اهلهم للترغيب والدفاع عن الوطن الجديد وظلت تنخر في صمودهم حتى كان لها ما ارادت وعملت بكل قوتها على التهجير. وامتلأت شوارع الخرطوم وعطبرة بالمظاهرات الصاخبة اشتركت فيها المرأة لاول مرة في تاريخ العمل السياسي في السودان. ولم تتخلف المرأة النوبية بل شاركت بفعالية بزيها النوبي المميز «الجرجار» بقيادة الاستاذة سعاد ابراهيم احمد، تعاملت السلطة معهم بعنف شديد وقسوة بالغة وتم اعتقال عدد كبير اذكر منهم الفنان وردي وابراهيم انور واسماعيل دهب وشخصي واعداد كبيرة من كل قرى وادي حلفا. ومن المؤسف تماما وقوف الشعب السوداني متفرجا بل ساخرا بل وقفت النخبة المثقفة على جانبي شارع القصر او جلوسا في مقهى الآتينيه يحتسون «البارد» يسخرون ويتندرون «البرابرة دقوهم وجرو» وهذه تجربة شخصية قاسية عشتها ابان تلك الاحداث حينما لجأت الى بوفيه الآتينيه للاحتماء به وربما يكون لهم العذر لانها كانت من اولى المظاهرات الجماهيرية في مواجهة حكم عسكري استبدادي قاهر. اما في وادي حلفا فقد استمرت المظاهرات لايام وبلغت ذروتها عندما جاء وفد حكومي لزيارة وادي حلفا، احاطت المظاهرات بفندق النيل حيث يقيم الوفد من كل جانب وتم اعتقال الوفد داخل الفندق لساعات طويلة الا انه تمكن من الهروب بحيلة خبيثة وذكية في نفس الوقت حيث اوهم المتظاهرين بضرورة توفير اسعاف لنقل احد المرضى من اعضاء الوفد الى المستشفى فورا. وفعلا تم حشرهم جميعا في اسعاف صغير رأسا الى المطار حيث كانت الطائرة جاهزة للاقلاع الى الخرطوم. وكانت تلك المبادرة من د. محمد احمد علي وزير الصحة آنذاك وهو من ابناء حلفا وربما اراد بذلك ان يجنب اهله مسؤوليات ما يمكن ان يحدث اذا اقتحمت المظاهرات الفندق واشتبكت مع الشرطة. وازاء هذا الموقف الصلب الذي وقفه النوبيون ضد التهجير لجأت الحكومة الى حيلة ماكرة حين ابدت موافقتها على تهجيرهم الى المكان الذي يختارونه من بين خمسة مواقع مقترحة بذلك تمكنت من امتصاص الغضب والهيجان. وقامت بتكوين لجنة شعبية لزيارة المواقع الخمسة المقترحة ووفرت لها كل مستلزمات الزيارة المريحة للمواقع المقترحة للتهجير اليها. ورفعت اللجنة تقريرها باختيار الموقع الذي يتناسب مع طبيعة النوبيين وبيئتهم التي ترعرعوا فيها وكانت الصدمة عنيفة عندما كشفت الحكومة عن وجهها الحقيقي وخداعها باختيار منطقة خشم القربة التي كانت في ذيل الخيارات فاشتعلت المظاهرات مرة اخرى خصوصا في وادي حلفا واحاطت بفندق النيل واعتقلت الوفد الوزاري فيه وكيف استعملوا الخديعة والمكر بالهروب في عربة اسعاف، وتشتت النوبيون ايدي سبأ فئة سيقت قسرا الى خشم القربة وفئة اخرى تشتت في ارجاء البلاد وخارجها وفقدت هويتها النوبية او كادت وفئة ثالثة واجهت الموقف بشجاعة نادرة وقررت التشبث بارض الاجداد مهما كانت النتائج فلاقت الامرين من معاداة الحكومة لهم وقسوة وشظف الحياة في منازل من المواد المؤقتة على ضفاف البحيرة بعد ان غمرت المياه كل ممتلكاتهم، وقررت الحكومة تجريدهم من حق المواطنة الدستورية فاغلقت مراكز الخدمات الصحية والتعليمية بل تمادت في عدائها الى محاولات اقتلاع الخط الحديدي بين وادي حلفا وعطبرة واستعملت كل وسائل الضغط والتهديد والوعيد الا ان ذلك لم يزدهم الا اصرارا وتمسكا بارض الاجداد. وعلى الرغم من هجرة كل القرى تقريبا فقد رفض جزء كبير من اهل حلفا دغيم فكرة الهجرة مبدئيا وانضم اليهم نفر قليل من الذين رفضوا الهجرة من القرى الاخرى ورابطوا معهم على اطراف البحيرة، اذكر منهم المرحوم وابراس ايوب من اشكيت، ومحمد احمد عواض من دبيره، واميري وسيد ايوب محمد احمد عثمان من صرص، وحسن عثمان من جمي، وصالح عثمان الحاج الذي اصر على البقاء في ارقين بالضفة الغربية للنيل حتى اعياه المرض وجيئ به قسرا لكي ينضم الى اهله بالضفة الشرقية حيث توفى بعد فترة قصيرة وهو يحتفظ بكمية من تراب ارقين بين مقتنياته، عشت بين رجال تميزوا بالجسارة والشجاعة والاستعداد للتضحية بارواحهم من اجل وادي حلفا. كنت اجلس اليهم واستمع الى حواراتهم التي تميزت بالصدق وبالاخلاص والوفاء لارض الاجداد وانا اراقب باعجاب وفخر قدراتهم الفائقة على ادارة الأزمات المتكررة بكفاءة عالية.. كثيرا ما كنت احاور نفسي لماذا تخلينا نحن عن ارض الاجداد لماذا لم نقف وقفة اهل حلفا دغيم، كنت الوم نفسي، على الرغم من انني كنت طالبا في ذلك الزمن ومن الذين وجدوا انفسهم مساقين الى خشم القربة فقد كنت الوم واعتب على اهلي على تركهم صالح عثمان وزوجته وحيدين في ارقين. لقد تمكنت من الدخول في اعماق مجتمع وادي حلفا والذوبان فيه ولم اشعر في اي يوم من الايام بأنني غريب عنهم على الرغم من انني كنت امثل سلطة الدولة ومحسوبا على «العينيين» وهو كنية كانت تطلق على الذين هاجروا الى خشم القربة. عشت معهم وجدانيا في كل مناسباتهم. اذكر من شباب ذلك الزمن صاوي عبد المجيد وشقيقيه يونس وشاذلي ومصطفى «زيزه» وعثمان بشنق وعثمان جديد وصاوي بتيك والاستاذ بيرم رحمه الله وحسن ظبطيه رحمه الله وعبد العزيز احمد سليمان وعبد الرحمن سيد احمد ومبارك وعبد الحميد وابراهيم وجعفر داؤد واحمد العمدة وشرف الدين جعفر رحمه الله وانور عبد الحفيظ وابراهيم ابو شنب واولاده والمهندس عبد الرحيم محمد دهب والمبدع الشاعر النوبي الشفيف شريف سعيد. كنت اعمل آنذاك مساعدا للاداري المقتدر محمد سليمان الملقب بالمصري معتمد وادي حلفا المسؤول عن المنطقة امنيا وعلى النزر اليسير من بقايا خدمات ما قبل التهجير الا انني كنت اشعر دائما بشيء من التعاسة لانني لم اكن احدهم في مقاومة التهجير ولكن وفي نفس الوقت كانت تتحرك في دواخلي احاسيس ومشاعر الفخر والاعتزاز لانني منهم بنوبيتي كنت اقف مبهورا امام عزم الرجال وصلابتهم وتضحياتهم وصمودهم ومواجهة المعاناة بقدر عال من الصبر والشجاعة والاصرار. رجال بقامات عالية وشجاعة نادرة قدرات كبيرة في امتصاص الاحداث وكفاءة في التعامل مع الظروف المتغيرة والأزمات المتلاحقة كانت لجنة المقاومة الشعبية من رجال افذاذ حملوا رؤوسهم في ايديهم للتضحية من اجل ارض الاجداد على رأسهم عبد الرحيم محمود العمدة محمد داؤد والشيخ محمد عبد اللطيف وعلوش وعبد الرحمن داؤد ودهب عبد العزيز وجعفر محمد صالح وحسن مدني واحمد خليل عباس وحسين جمبلان وحفني بتيك ومصطفى محمد طاهر وعباس محمد خليل، ومحمد داؤد فضل رحمهم الله جميعا، وغيرهم كثيرون... كنت اجلس اليهم كثيرا واتألم لان مثل هذا العمل البطولي الكبير يتم بدون اعلام وبتواضع شديد وتجرد يصعب وصفه وهي مواقف واحداث لم يشهدها العالم الا ابان الثورة الفرنسية. اجتماعات متتالية في كل الاوقات والاماكن حتى في مواقع المناسبات الاجتماعية بل المجتمع باكمله في حالة تعبئة واجتماع دائم ومتحرك وكان الهدف من ذلك المزيد من التوعية في صفوف المواطنين وسد كل الثغرات التي يمكن ان يتسرب منها اليأس او التقاعس او الخوف من الحرب التي شنتها الحكومة عليهم واعدادهم لمواجهة كافة الاحتمالات. كنت احب الجلوس كثيرا الى العم محمد عبد اللطيف وهو شقيق داؤد عبد اللطيف احاوره عن مصدر ذلك العزم وتلك القوة في مواجهة الحكومة وكان يقول لي هكذا نحن النوبيون نقف كالطود الاشم عند الشدائد، واسأله وما بال النوبيين الذين تم تهجيرهم، فيرد «بقوة وحسم هم ليسوا اقل منا عزما وشجاعة وسيعودون الى ارض الاجداد حتما»، لقد خدعتهم الحكومة ولكنهم لم يجدوا القيادة الواعية التي تأخذ باياديهم وقد استعملت الحكومة معهم صنوف المكر والغش واستمالت البعض وابعدت آخرين «ترغيبا وترهيبا» وهكذا تفرقت كلمتهم وسهل تهجيرهم ، واضاف حتى محمد صادق اويه الذي قاد معنا الكفاح اضطر الى اللحاق باهله في خشم القربة، هذا ما كان يحدث في ارض الكفاح في وادي حلفا معاناة وشظف الحياة وتهديد من الحكومة ورعب ونقص في كل شيء يقابلها قوة عزم واصرار وتفاؤل والمضي قدما في رفض التهجير وتحمل كل ما يمكن ان ينتج عن ذلك من تضحيات. في الخرطوم تكونت حكومة ظل لقيادة المقاومة (وادارة شؤون المقيمين في وادي حلفا) من رجال اكفاء قادرين على تحمل مسؤولية ادارة شؤون ذويهم في وادي حلفا قامت حكومة الظل بتوفير كافة احتياجات المرابطين في وادي حلفا من الغذاء والدواء ومعدات صيد الاسماك وخلافه كانت آنذاك في اول عهدي بالوظيفة نائبا للمعتمد في وادي حلفا وهي الادارة الوحيدة التي لم تتم تصفيتها على اعتبار انها منطقة حدودية وللحقيقة والتاريخ اذكر هنا انني كنت كثير الاعجاب والثقة بقدرات حكومة الظل في الخرطوم بقيادة الاداري المقتدر الخلاق داؤود عبداللطيف الذي ركل الوظيفة واستقال من رئاسة لجنة التوطين وانحاز لأهله الى جانبه كوكبة من رجال حلفا الاوفياء مثل محمد توفيق وعوض عبدالمجيد وصالح محمد طاهر وصالح محمود اسماعيل وغيرهم من ابناء دغيم وهم جميعا تقلدوا ارفع المناصب السياسية والتنفيذية في الحكومة منذ الاستقلال وقبله يتمتعون بقدرات عالية وكفاءات مشهودة في ادارة الدولة ناهيك عن قيادة مسيرة البقاء في ارض الاجداد ، وعلى الرغم من سوء وسائل الاتصالات والمواصلات في ذلك الزمن الا ان القنوات كانت مفتوحة بين الجانبين وتتدفق المعلومات بالتلغرافات بالكلمات النوبية بين اللجنة العليا في الخطروم ولجنة المقاومة في و ادي حلفا وذلك امعانا في سرية المقاومة. اولئك هم ابطال المعاناة الذين بمعاناتهم وصبرهم وقوة شكيمتهم وبأسهم بقيت حلفا حضنا دافئا لكل النوبيين واذكر ذلك اليوم العظيم عندما وصل عدد اللواري الجديدة التي اشترتها حكومة الظل وعلى ظهرها كل احتياجات المقيمين من غذاءات وادوات مدرسية وادوية وغيرها وكيف استقبلها كل السكان بالفرحة والبشر والحماس واذكر ايضا كيف تدفق المعلمون من ابناء حلفا من كل بقاع السودان تلبية لنداء اللجنة للعمل بالتطوع بعد ان سحبت الحكومة معلميها وكيف وافق العمال الذين اوقفت الحكومة رواتبهم العمل بدون رواتب. وكيف تدفق سيل المعلمين من ابناء حلفا دغيم للعمل مجانا تطوعا في المدارس والمرافق الصحية التي انشأتها حكومة الظل بعد ان اغلقت الحكومة منشآتها الصحية ومدارسها ونقلت العاملين فيها الى خارج وادي حلفا واوقفت مرتبات الذين رفضوا تنفيذ النقل. كان معي في الزمن النقيب آنذاك صلاح حامد وهو من ابناء المحس من (جزيرة سمت) وكان مبهورا بقوة وعزم وحماس اهل دغيم واضعا كل خبراته وقوته لمساعدة المواطنين في هجمات النيل المتكررة وحمايتهم من بعض ضعاف النفوس من الذين جذبتهم فرص العمل ابان التهجير وطاب لهم المقام على شواطيء البحيرة. واذكر جدا ذلك اليوم الذي جاء فيه عبود الى حلفا وذرف فيه دموع التماسيح وبكى وقال انه لم يكن يعرف ان حلفا بهذا الجمال والروعة وابدى اسفه وكيف بادره محمد صادق اويه برد قوي (لقد خربت بيوتنا ولكن امامك فرصة للتراجع عن الاتفاقية لأنها غير منزلة) وكيف اشاح ذلك الدكتاتور بوجهه خشية مواجهة مثل ذلك الحديث الصريح والشجاع. بتضحيات رجال وادي حلفا ومن رحم معاناتهم وشجاعتهم وصبرهم ولدت وادي حلفا من جديد وبقيت ارض النوبة على خارطة العالم، واليوم الذين تركوا ديارهم قسرا تشرئب اعناقهم وتتطلع قلوبهم وتمتليء مآقيهم بالدموع املا على امل العودة الى ارض الاجداد في ارقين ودغيم واشكيت ودبيرة وسرة بضفتيها وفرص وآرتي كرجو والصحابة وكشكوش ودبروسة (وارض الحجر) جمى وصرص وسمنة واتيرى وغيرها من قرى جنوب مدينة وادي حلفا وجميعهم يدركون تماما حجم التضحيات التي قدمها اخوانهم في وادي حلفا واستحقوا بذلك التقدير والعرفان ليس من ابناء هذا الجيل فحسب وانما من الاجيال القادمة ايضا وهي دعوة بل صرخة لكل اهلنا في القرى وغيرهم في ارض الشتات ان يحزموا امتعتهم للعودة الى ارض الاجداد لأنها صارت حقيقة بعزم اولئك الرجال الذين صنعوا التاريخ.
محمود اوشى ...صحيفة الصحافة
|
|

|
|
|
|
|
|
Re: في وادي حلفا رجال قهروا المستحيل وأعادوا حلفا إلى خارطة السودان (Re: Medhat Osman)
|
رابعاً : السدود والآثار :
لاشك أن المنطقة التي يقطنها النوبيون اليوم مليئة وغنية بالآثار التي لا يوجد لها مثيل في العالم ، ولا شك أن هذه الآثار قد تعرضت للغرق عند بناء سد أسوان عام 1902م وتعليته مرتين عامي 1912م و1932م، كذلك غمرت المياه المناطق الأثرية عند بناء السد العالي لأن من بنى هذه السدود لم يكن همهم إلا تخزين المياه فقط ، كما وأنهم لم يكترثوا لإنقاذها لأنهم لا يعرفون قيمتها التاريخية. كما لم يكن هناك الوقت الكافئ لهذا الإنقاذ لأنهم لم يوفروا الوقت ولا المال والجهد منذ أمد بعيد،ذلك لأن إنقاذ الآثار يأخذ من كل ذلك الكثير . ولا بأس هنا أن نتذكر قول رئيس البعثة الفرنسية لجزيرة صاي ( بأنهم يحتاجون لـ 200 عام للمسح والتنقيب عن كل آثار صاي ) . كان بالإمكان إقامة المدن السياحية المجهزة بهذه الآثار حول هذه الشلالات نفسها لجذب السياح وتسويق السياحة .
الآثار وخزان أسوان :
عند بناء هذا الخزان وتهجير النوبيين إلى داخل صعيد مصر عام 1902م لم ينقذوا أثراً واحداً ، بل لم يحاولوا ذلك أصلاً ولم يجروا أي مسح أثري ليكشفوا اي أثر هناك ومن أي حقبة تاريخية ؟ وبذلك غمروا آثار تلك المنطقة بالمياه .
الآثار والسد العالي:
وعند اكتمال بناء السد العالي 1963م وتهجير النوبيين بمصر إلى كوم امبو وفي السودان إلى خشم القربة، كان هناك معبد أبو سمبل الضخم وبه أربعة تماثيل ضخمة جالسة عند مدخل المعبد وأرتفاع كل تمثال رغم أنه جالس 20 متراً وهي منحوتة في جبل وليس بناءأً قائماً بذاته. وكان الجبل على النيل حيث كان للمعبد هيبة وجلال يحير الإنسان. وعندما فكروا في إنقاذه فكروا في حمايته ببناء سور ضخم واحد للمعبد ويصل إليه الزوار بالزوارق فيما بعد، ولكن الذين يجهلون العلاقة الحميمة بين الحدث والعبقرية والمكان أصروا على ترحيله بعد تقطيعه، حيث قطعت التماثيل الأربعة ورحلت إلى مكان أخر بعد أن تم تشويهه وتشويه التاريخ .
ثم كان ما كان لقصر "أنس الوجود " وهو معبد الإلهة النوبية الشهيرة "ايزيس " ويعد من أضخم آثار وادي النيل إن لم يكن أجملها . هذا المعبد ظل غائصاً في المياه لمدة 60 عاماًَ دون أدنى حماية للجزيرة الصغيرة التي حوت المعبد، حتى قطعت أوصاله بعد تلك المدة ورحل إلى مكان أخر ، وهنا بجهل تام بتلك العلاقة بين عبقرية المكان والحدث حتى أصبح المعبد مسخاً مشوهاً لمعبد كمعبد أبوسمبل . حدث هذا مع أعظم معبد بناه الإنسان ، فماذا نظن حادثاً للآثار والمعابد الأقل شأناً؟
المواقع الآثرية التي غرقت :
1] كنيسة فرص والتي كانت من أعظم الكاتدرائيات النوبية وهي أعظم ثلاث كاتدرائيات، منها كاتدرائية صاي وكاتدرائية دنقلا وكانت كاتدرائية فرص تتكون من 200 لوحة حائطية من اللوحات الملونة الضخمة حيث قام البولنديون بتقطيع تلك اللوحات من على الجدران، وبقيت الجدران والهيكل تحت مياه البحيرة إلى اليوم . وهنا أيضاً جهل ثالث بعبقرية المكان والحدث . 2] غمرت مياه البحيرة كنيسة دبيرة الأثرية . 3] تماثيل سمنة والتي تركت لمياه البحيرة أيضاً . 4] معبد أكشة والذي نقل منه جزء وأغرق الجزء الأخر . 5] آلاف القباب والكنائس والقلاع في جميع القرى النوبية التي غمرتها المياه ، وهذه جميعها غرقت حيث يستحيل ترحيل المباني المبنية من الطوب الأخضر أو الطين . 6] أغراق معبد بوهين والمدينة الصناعية الكبرى وعمكة المسيحية. 7] ضياع قلعة بوهين الضخمة التي تركت للمياه. 8] قلعة مرقسا أضخم قلاع بلاد النوبة . 9] إندثار وذوبان الحقبة المسيحية والإسلامية في المنطقة لأن جميعها بنيت من الطوب الأخضر . 10] إغراق كنيسة دبيرة غرب . 11] كل آثار "جزيرة مينارتي " حيث اكتشف فيها حوالي 1241 قطعة أثرية وهي الكميات التي استطاعوا تنقيبها بالرغم من العجلة التي شابت عملية الإنقاذ . والسؤال كم من القطع لم يسعفهم الوقت لتنقيبها؟ لقد كان أمير الشعراء احمد شوقي صادقاً عندما أنشد حين رأى قصر أنس الوجود في الماء وبكى عليه قائلاً : قف بتلك القصور في اليم غرقى ممسكاً بعضها من الذعر بعضا كعذارى أخفين في اليم بضــا سـابحــات به وابدين بضــا
نقلا من كتيب اللجنة التمهيدية لمقاومة بناء سـد دال
السدود: دمار أم تنمية؟ سد دال مثالا
الطبعة الثانية فبراير 2008
| |

|
|
|
|
|
|
Re: في وادي حلفا رجال قهروا المستحيل وأعادوا حلفا إلى خارطة السودان (Re: Medhat Osman)
|
قصة مدينتين مدينتان هما من أحب بلاد الّله إلي، جمعت بينهما المعاناة وتشابهت الوقائع.. ضغوط نفسة ، وحروب اقتصادية، ثم إرغام على الهجرة.. إنها أبشع صور الظلم والاضطهاد .. عبر عنها الصادق المصدوق بقوله : " لأنت أحب بلاد الله إلي، و لو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت" هما مكة المكرمة ووادي حلفا. من فوائد الإغتراب عن الأوطان والضرب في الأرض أن وفقنا الله لأداء فريضة الحج، وزيارة المدينة والوقوف على البقاع والأماكن التي سطر المسلمون فيها أروع تأريخ . مكة المكرمة التي جاء وصفها في القران بــ "واد غير ذي زرع"أي أنها لم تكن تملك المقومات الجاذبة للاستقرار والاستعمار البشري. ومع ذلك اختارها الله وشرفها ببيته العتيق. ولتكون مركزاً ومنطلقاً لخاتم الرسالات التي تحمل الخير للناس كآفة. عند دخولك مكة ورؤيتك للكعبة ينتابك احساس وشعور تعجز الكلمات عن وصفه وترجمته للآخرين. حتى إن المرء لينسى الدعاء الذي يقال في ذلك المقام!! وطوال تطوافك في الحجاز عموماً تاريخ صدر الإسلام يصحبك ويتجسد أمام ناظريك. ليل طويل من الأذى والمعاناة .. ضغوط نفسية.. حصار الشّعب.. هجرة قسرية. ثم ينجلي بصبح عنوانه الفتح والصفح والتمكين. وكلما قصدت مكة قفزت إلى ذاكرتي وادي حلفا عاصمة النوبة الحديثة،و مسقط رأسي القابعة في أقصى شمال السودان عند خط العرض 22شمالاً. وهي تتفرد بكونها المدينة الوحيدة في التاريخ البشري التي وأدوها وقدموها قرباناً للمد القومي الكاذب " الناصري" الذي خدع العرب وأوهمهم بأنه من سيحرر فلسطين ، ففقد العرب بقاع عزيزة في سيناء، والضفة، والجولان!؟ ولتتقوى مصر رأى ولاة أمرنا ضرورة إغراق وادي حلفا .. ذات الستين ألفاً.. وصاحبة الحضارة الضاربة في القدم .. والتي تعرضت للإهمال حيناً، وللسطو أحياناً أخرى.أرغم أغلب أهلها على الهجرة إلى شرقي السودان بعيداً عن أرض الحضارات والأجداد وذلك في العام 1964م. بينما مورست شتى صنوف الأذى والإكراه على من آثر البقاء مفترشاً الأرض ملتحفاً السماء. إذ قامت الحكومة بسحب الخدمات من صحة وتعليم ومواصلات، إمعاناً في كسر عزيمة القلة الباقية من أهل وادي حلفا. ولكن هيهات هيهات.. فقد ضرب المقيمون أروع المثل في المقاومة السلمية المدنية. استقال أبناء المدينة من وظائفهم ومن كل مواقعهم في مدن السودان المختلفة.. ولبوا نداء الوطن الصغير فجاء الأطباء والمدرسون للعمل متطوعين بلا أجر. ثم قام الحلفاويون بتنظيم أنفسهم حيثما تواجدوا في لجان لجلب الدعم لذويهم، وخرجوا في مظاهرات عارمة في كبريات المدن السودانية رفضاً للغبن الذي يلحق بأقربائهم. أما الأهل في وادي حلفا فقد شكلوا بتعاونهم وتآزرهم مجتمع الجسد الوآحد والبنيان المرصوص. حتى الضباع البرية التي تصنف على أنها وحشية كانت خير أنيس لهم عندما تخلى الرسميون عنهم . وفي ذلك تطابق مع قول الشاعر: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عوى**** **** **** **** ****وصوّت إنسان فكدت أطير عموماً تهون التضحيات مهما كانت جساماً اذا تحققت الأهداف والغايات .. وهو ما تحقق في كلا الحالتين.. مكة صارت أهم مدن العالم قاطبة ، تهوي إليها أفئدة ملايين البشر. بينما بقيت مدينتي الصغيرة في موقعها الحضاري المتقدم على ضفاف النيل الخالد حيث البحيرة التي كونها السد العالي والتي تضم رفات أجدادهم وما بقي من معالم حضارتهم ومع ذلك أصروا على تسميتها " بحيرة ناصر" بينما يصّرقومي على إطلاق اسم " بحيرة النوبة"عليها.. اذن وادي حلفا والنيل روح وجسد لايمكن الفصل بينهما على الإطلاق.
الشيخ علي بتيك
| |

|
|
|
|
|
|
|