اخيرا استطعت إلتقاط بعض الانفاس بعد المعركة الفكرية الممتعة الحامية الوطيس التي خضتها في بوست حلقات في نقد المادية الجدلية مع الاصدقاء بكري ومحمد حسبو، وحقيقة الامر لقد استفدت ايما فائدة من نقاشاتي معهما، فهم شركاء في الهم كما قال الصديق محمد حسبو، ولا انكر انني فخور بصداقتهم فقائمة اصدقائي ضمت نجوم شيوعيين جدد، بعد عاصم الحزين ومحمد عبد الغني سابل ومريم هارون والصديق اسيل.
كنت قد نوهت في الحلقة السابقة الي انني سأبحث عداء الماركسيون مع المنطق القديم، وهل هذا العداء له مبررات موضوعية ام لا ولكنني اثرت ان اكتب في موضوع اخر حفاظا علي تماسك البوست، في هذه الحلقة سأقوم بمحاولة نقد وتفنيد الحتمية القانونية – اي حتمية قوانين الطبيعة – وهي حجر الاساس في بناء الفكر الماركسي.
مقدمة لا بد منها
لا يجوز لنا بأي حال من الاحوال لوم ماركس وانجلز علي قولهم بالحتمية، فهذا هو اتجاه التفكير السائد في عصرهم، وهو قول يتلائم الي حد كبير مع معارف وعلوم القرن التاسع عشر. كان القرن التاسع عشر يعرف بأنه قرن الغرور العلمي، حيث ظن العلماء ان ميكانيكا نيوتن وموجات ماكسويل وقوانين الديناميكا الحرارية كافية لتفسير اي ظاهرة، وظن العلماء ان الضوء والموجات الكهروميغناطيسية عموما عبارة عن موجات تتحرك خلال الخلفية الكونية الساكنة التي تتخلل كل شيء المعروفة بالاثير، حيث الزمان مطلق وسرمدي بدأ من اللانهاية وسيتمر هاكذا الي مالانهاية، وكل الجسيمات تتحرك في هذه الخلفية الساكنة حركة متصلة بلا فجوات، وعلاقة السبب بالمسبب هي علاقة متصلة وعلاقة اقتضاء طبيعي ومنطقي، وإذا توافرت نفس الظروف دائما فإن الظاهرة الفيزيائية الناتجة تتكرر بحذافيرها، هذه القوانين الحتمية جعلت عالم كبير مثل لابلاس يقول مقولته المشهورة: " إذا علمنا سرعة واتجاه كل الجسيمات في الكون فإنه يمكن التنبؤ بالمستقبل الي الابد". في وسط هذه الظروف، ظن العلماء انهم عرفوا كل شيء، وما تبقي ليعرفوه هو اقل من القليل، حيث لم يبقي لهم سوي قياس خواص الاثير المرنة حتي يتمكنوا من التنبؤ بسلوك المادة بشكل مطلق، وفي وسط هذه الاجواء وضع ماركس و رفيق دربه أنجلز نظريتهما المادية الجدلية، وهي نظرية عبقرية بحق إذا حوكمت بكم المعارف الموجودة في عصرهما، ولكن الاعتقاد انها صحيحة بشكل مطلق وصالحة لكل زمان ومكان فهو امر فيه نظر!.
ما بين نيوتن وميكانيكا الكم
صمدت حتمية نيوتن الميكانيكية لما يقرب من الثلاثة قرون، وبنيت حولها هالة من القدسية لم تبني حول اي نظرية علمية في مدار التاريخ، وحقيقة الامر فإن ميكانيكا نيوتن علي مستوي التطبيق ليست خاطئة بشكل كلي ولكنها في نفس الوقت ليست صحيحة تماما. الذي اثار الغبار حول ميكانيكا نيوتن عدد من الاشياء وليس شيئا واحدا، كانت اولي الضربات التي وجهت لها تجربة ميكسلون ومورلي، وهي تجربة كان الغرض منها في الاساس قياس الخواص المرنة للاثير، إلا ان نتيجة التجربة جاءت مخالفة لكل التوقعات، حيث اثناء محاولة ميكسلون ومورلي قياس السرعة المطلقة للارض بالنسبة لخلفية الاثير الساكنة وجدوا ان سرعة الضوء – وهو معيار المقارنة الذي ارتضوه – ثابتة تماما وليس لها علاقة بحركة الارض، هذه النتيجة الخطيرة هزت الاوساط العلمية بشدة، وحاول الكثيرون ايجاد تبرير لنتائج التجربة ضمن النسق النيوتوني واشهر تلك المحاولات محاولة عالم الرياضيات الشاب لورنتز – استفاد انشتاين فيما بعد من نتائج ابحاث لورنتز ولكن بشكل مختلف – حيث حاول لورنتز ايجاد تحويلات رياضية تحدد العلاقة بين الجسم والاثير في حالة حركة الجسم خلال الاثير، إلا انه رفض التخلي عن فرضية الاثير التي بين اينشتاين فيما بعد انها حشو لا طائل من وراءه. ثاني الضربات التي وجهت لحتمية نيوتن كانت قنبلة ماكس بلانك التي فجرها في مطلع القرن العشرين حول تكمم الذبذبات التوافيقية، حيث بين ان الجسم الاسود يشع ويمتص الطاقة ليس بشكل متصل كما تقول قوانين الفيزياء الكلاسيكية وإنما بشكل متكمم، هذه الضربة جعلت ميكانيكا نيوتن تترنح ولكنها لم تسقط تماما.
مبدأ اللاتعيين لهايزنبرج
الضربة القاصمة كانت في مولد ميكانيكا الكم علي يد ماكس بلانك و دي برولي ونيلز بوهر وهايزنبرج وشرودنجر ، ولعل ابرز النتائج التي ولدت مع بزوغ فجر ميكانيكا الكم هو مبدأ اللاتعيين او مبدأ الشك لهايزنبرج، يقول هذا المبدأ الفيزيائي الهام – والمثبت تجريبيا – انه في حكم المستحيل تقريبا تعيين سرعة وموضع الجسيم بنفس الدقة في نفس الوقت، حيث انه يوجد حد ادني للشك في الموضع والسرعة لابد من وجوده، هذا المبدأ يجعل من الحتمية القانونية في خبر كان، ويجعل من عبارة لابلاس التي قالها مجرد احلام واماني غير قابلة للتحقيق.
مثال بسيط
لنفترض انه لدينا لوح من الزجاج نصف الشفاف، هذا اللوح يمتص 30% من الضوء الساقط عليه ويعكس 10% من الضوء ويمرر الباقي الذي هو 60%، هذا اللوح سيكون مشكلة حقيقية إذا سقط عليه فوتون واحد فقط، فبحسب ميكانيكا الكم الفوتون غير قابل للتجزئة، وبالتالي فإنه في حكم المستحيل التنبؤ مسبقا بسلوك هذا الفوتون، ولكننا نستطيع القول انه يوجد احتمال 30% ان يمتص هذا اللوح الفوتون وإحتمال 10% ان يعكسه وإحتمال 60% ان يمر الفوتون من خلال اللوح، فإذا حدث وانعكس الفوتون تصبح هذه الاحتمالات جميعها عديمة الجدوي، فالفوتون انعكس ولم يعبأ بضآلة الاحتمال، وإذا حدث واستطعنا اسقاط فوتون اخر بنفس الزاوية وتحت نفس الظروف علي اللوح الزجاجي، فنحن لانضمن ان يكرر الفوتون نفس ما فعله في المرة السابقة، فاللعبة لعبة احتمالات وليست لعبة حتمية.
مع موت الحتمية في الفيزياء هل هناك وجود للحتمية في المجتمعات؟
هذا السؤال غاية في الاهمية، فتطبيق قوانين الجدل علي المجتمعات هو ما قاد الي النظرية الشيوعية، حيث تري هذه النظرية المجتمعات من خلال الصراع بين الطبقات المتناقضة المصالح، هذا الصراع هو مايدفع بحركة التاريخ الي الامام، حيث يري الماركسيون ان المجتمعات تمر بتطورات حتمية تمليها قوانين الطبيعة التي يرون انها ذات طابع حتمي بالاساس. إذا حاولنا اقناع عامل منجم سويدي يقضي اجازته السنوية في جزر المالديف بأنه مستغل – بضم الميم وفتح الغين - ولابد ان يثور ضد مستغليه – بكسر الغين – لان هذه هي حتمية التاريخ سيكون منظرنا في غاية الغباء، لأنه لا يري في ما يقوم به انه مستغل، فهو يستطيع الحصول علي حقوقه جميعها بدون ان يثور او يتعب نفسه، فهو يري الامور من منظور مختلف تماما، املته عليه ظروف الحياة الصناعية المتطورة في الدول التي تحترم حقا حقوق الانسان ولا تأخذها علي انها مجرد شعارات. هذه الظروف تختلف عن ظروف العمال في القرن التاسع عشر حين وضع ماركس وانجلز نظريتهما الشيوعية، فالمجتمعات تطورت بطريقة مختلفة عما تنبأ به الفيلسوفان لاسباب كثيرة جدا، فأين ذهبت الحتمية إذا؟ انا متأكد لو ان ماركس وانجلز عاشا اليوم لما وجدا حرجا كبيرا في تعديل وتحسين نظريتهما لتتلائم مع التطور الحادث في معارف الانسان وحاجاته، ولكن الازمة دائما ما يفرزها تعصب الاتباع الاعمي للنظرية بشكل يأخذ درجة التقديس، حيث نجد الكثير من الشيوعيين اليوم ماركسيين اكثر من ماركس نفسه – ماركس وانجلز عدلا الاعلان الشيوعي عقب كمونة باريس ليتلائم مع المتغيرات السياسية الحادثة والغريب ان بعض الشيوعين رفضوا هذه التعديلات (لست متأكد من صحة هذه المعلومة ولكن ارجح انها صحيحة بالنظر الي تصرفات الشيوعيين اليوم) – فنجد الماركسيون يردون اي ظاهرة جديدة الي قوانين الجدل، حيث اصبح الامر مشابه لتصرفات الاسلاميين حين يقولون ان اي اكتشاف علمي جديد ذكر في القران قبل اربعة عشر قرنا، ويسارعون بذكر اية او حديث غالبا ما يكون ليس لها علاقة بالاكتشاف لا من قريب ولا من بعيد!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة