|
الترابي... والبحث عن العنقاء / خليل على حيدر (منقول)
|
Quote: الترابي... والبحث عن العنقاء
خليل علي حيدر
قلة من الإسلاميين يمتلكون علما ودراية وخبرة وتجارب المنظر العقائدي لفكر الإخوان المسلمين في السودان وشمال أفريقيا وربما العالم العربي د. "حسن الترابي"! فقد درس في الخرطوم ونال الماجستير في القانون من جامعة لندن، وحصل على الدكتوراة من جامعة السوربون، فعمل عميداً لكلية الحقوق بجامعة الخرطوم، ثم صار عضواً في البرلمان.
دخل الترابي في تجربة جعفر النميري "الإسلامية"، ذلك أن الترابي أكاديمية كاملة في التنظير والتبرير، والتلاعب بشواهد التراث والنصوص الدينية ومدلولاتها، والدخول في مختلف "التجارب الإسلامية"!
ترك الترابي سفينة النميري قبل أن تغرق. وعندما قاد الجنرال عمر البشير انقلاب 1989 "الإسلامي"، ضد حكومة الصادق المهدي، أصبح د. الترابي المنظر الأيديولوجي لـ "ثورة الانقاذ" التي قادها الجنرال البشير، حيث مارس تأثيراً كبيراً في الحكومة السودانية، وأصبح رئيس البرلمان السوداني. اختلف د. الترابي مع الرئيس عمر البشير في صراع على السلطة عام 2001، فعمل البشير على تجريده من كل مناصبه ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتى أكتوبر 2003.
الترابي رغم كل ثقافته القانونية وتجاربه "وضع ضحية" اثنين من جنرالات جيش السودان في محاولاتهما توظيف الدين لدعم انقلابهما على الديمقراطية!
لم تكن هذه صدمة الترابي الأولى مع تجارب تطبيق الشريعة، فالتجربة الأولى كانت مع الجنرال جعفر النميري، الذي أشاد به مرشد الإخوان في مصر كذلك، مثلاً في مجلة "الأسبوع العربي" 27/4/1984، حيث قال المرشد الأسبق عمر التلمساني:"أسعدنا أن تطبق حكومة السودان شرع الله في عباداتها ومعاملاتها، ونحن لا نجري وراء الشائعات التي تريد أن تشوه جمال هذا الاتجاه، وتحرص على أن تشككنا في كل اتجاه إسلامي تقدم عليه دولة من دول الإسلام. نحن مع هذا الاتجاه ونؤيده ونتمنى نجاحه، وسمعنا عن أحد الصادقين في السودان أنه بعد تطبيق الشريعة الإسلامية، انخفضت نسبة الجريمة في السودان من 87% إلى 40%، وحسبك هذا تقدماً في الخير".
تحالفت الحركة الإسلامية السودانية بعد عام 1977 مع نظام جعفر النميري، وهو حكم دكتاتوري غير ديمقراطي وكذلك "غير إسلامي" بحسب وصف الحركة. ورأت الحركة الإسلامية في إعلان النميري للقوانين الإسلامية في سبتمبر 1983 نجاحاً لاستراتيجيتها، ودليلاً على بعد نظرها مقارنة بالأحزاب الأخرى التي عادت إلى معارضة النظام مرة أخرى. ولكن قوانين سبتمبر الإسلامية جاءت لتمنح الدكتاتورية العسكرية شرعية دينية مقدسة تسكت بواسطتها أية معارضة أو اختلاف. وصرح د. الترابي الذي أشرف على وضع تلك القوانين، بأنه اتفق مع الصادق المهدي بعد عام 1986 على أن يستدعيا علماء دين بقصد تقييم القوانين القائمة. وقد قيم العلماء تلك القوانين وأبدوا جملة من الملاحظات عليها، وطالبوا ببعض التعديلات. ولكن قبل ذلك لم يكن الترابي يقبل أي نقد لهذه القوانين، وبالفعل تمت معاقبة بعض المفكرين والساسة السودانيين بسبب رفضهم هذه القوانين. فقد نقدها الصادق المهدي في عدد من الجوانب، منها:
إن القوانين جاءت مخالفة لكل أقوال الدعاة الإسلاميين وآرائهم. مثال ذلك أنها بدأت بتطبيق الحدود، ولم تسبق الحدود أية إجراءات وقائية، كما تخلت عن وسائل لإثبات الشرعية المتشددة. لذلك أكثرت من إقامة الحدود، فقد قطعت أيدي أكثر من مئة شخص في ظرف عام واحد.
ورغم تأييد مرشد الأخوان الأسبق في مصر وزعيم الإخوان ومنظرهم في السودان لهذا التطبيق المرتجل والمتعجل للشريعة، ولما سمته سلطات النميري بالنظام الإسلامي، فإن بعض أهم مفكري التيار الإسلامي كان يحذر من عواقب مثل هذا التطبيق. ومثل هذه التحذيرات والتنبيهات لإعداد المجتمع، ولصعوبات تطبيق الشريعة ومشاكل إقامة النظام الإسلامي، رغم تداول بعضها في أوساط الجماعات الإسلامية وتظاهرهم بالاقتناع بها، إلا أنهم عادة من أسبق التيارات السياسية إلى تأييد كل انقلاب وكل انتفاضة وكل تجربة تزعم أنها بصدد تطبيق الشريعة وإقامة النظام الإسلامي، بل إنهم يرون في تأييد مثل هذه المحاولات المتخبطة المرتجلة، من باكستان إلى أفغانستان إلى السودان، واجباً شرعياً يؤثمون إن لم يقوموا به، "نصرة" للوليد الجديد! فقد اشتمل قانون العقوبات "الإسلامي" الذي أتى به جعفر النميري على مواد عديدة كانت تخدم تكريس الاستبداد السياسي وتحاول أن تسكت أية معارضة محتملة، وتضمن هذا القانون مواد من قانون أمن الدولة، مثال ذلك المادة (96).
وكانت "الجبهة الإسلامية القومية"، كما تسمت فيما بعد، تشارك في الانتخابات، وتحرز أفضل النتائج، وتهاجم الديمقراطية في الوقت ذاته، مطالبة بـ "الجهاد من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية لأن الديمقراطية لا تعبر عن تطلعات الشعب الدينية".
ولم يمض على هذه الحملة سوى شهرين، إلا وقد استولت مجموعة من الضباط الموالين للجبهة على السلطة في انقلاب 30 يونيو 1989.
وعندما سئل السيد "مصطفى مشهور" مرشد الإخوان في مصر، عن انقلاب "الجبهة الإسلامية في السودان"، لم يُذكّر السودانيين والمصريين والانقلابيين باحترام الديمقراطية، ودروس تجربة النميري، التي أيديها مرشد الإخوان السابق "عمر التلمساني" بحماس فائق. بل علق "مصطفى مشهور" على هذا الانقلاب قائلاً:"نحن نعلم أن لكل بلد ظروفه، وقبل انقلاب البشير كانت حالة السودان أيام الصادق المهدي سيئة جداً، وكان العجيب حقاً، أن د. حسن الترابي من كبار منظري "الديمقراطية الإسلامية"، وقابلية الإسلام لتبني وإعادة تشكيل المبادئ الحديثة. ويرى أن المسلمين لا يستطيعون الاستمرارية في تجاهل أهمية الديمقراطية التي طرحها الغرب. فلابد أن تكون الديمقراطية جزءاً من تجديد الفكر الإسلامي الحديث، وربطها بالفقه السياسي الإسلامي!
فكر نظري عصري وليبرالي في خارجه كما يبدو. ولكن د. الترابي رغم كل ثقافته القانونية وتجاربه "وضع ضحية" اثنين من جنرالات جيش السودان في محاولاتهما توظيف الدين لدعم انقلابهما على الديمقراطية!
ليست هذه هي القضية في مقالنا هنا، بل القضية الجديدة أن الترابي قبل أسابيع، شنّ من شرق السودان، كما جاء في الصحف، هجوماً عنيفاً على حكومة خصمه اللدود الرئيس السوداني "عمر البشير". وقال "إنها قدمت نموذجاً سيئاً للإسلام"، كما اتهمها مجدداً بالفساد. ووصف بيعة القبائل للرئيس بشير بأنها "تلاعب صريح بالدين"، وقال إن البيعة لله وحده. وقال إن الحكومة مليئة بالفساد والمفسدين، والسودان قد تصدر قائمة الفساد في العالم، ولا حكومة تمارس الفساد، وقال إن الوظائف صارت محتكرة على أقارب المسؤولين من أسرهم وذويهم وأصهارهم. وقال د. الترابي إن الحكومة قدمت نموذجاً سيئاً للإسلام الذي أصبح مجرد شعارات، ووصف الحكومة بأنها متسلطة، وقال المتسلطون من الحكومة فعلوا بنا الأفاعيل، وأوقفوا الشعائر الدينية.
ورفع الترابي من جديد راية الديمقراطية، مطالباً "بإقامة الشورى والعدل والحرية لكل الأحزاب والمواطنين، وتطبيق الحكم اللامركزي، وإيقاف تعطيل الصحف وحجز الصحافيين". واتهم الترابي الحكومة بإهمال الريف السوداني، وقال إن السودان الآن معرض لخطر الانقسام أكثر من أي وقت مضى، وأعرب عن استعداد حزبه للاتحاد مع الأحزاب القائمة على الدين، متى ما رجعوا إلى أصول الدين لأن المد الإسلامي "أصبح يعم العالم". (الشرق الأوسط، 13/1/2008). متى يرتاح د. الترابي بالوصول إلى "النظام الإسلامي" المنشود...ومتى يرتاح منه!
*نقلا عن جريدة "الاتحاد" الإماراتية |
تعليقات القراء في هذا الرابط http://www.alarabiya.net/views/2008/02/10/45413.html
|
|

|
|
|
|