|
|
 معلمون متميزون ومدرسون معاشيون مهمشون
|
معلمون متميزون ومدرسون معاشيون مهمشون
للمعلم دْين مستحق علينا فهو الذي اضاء لنا طريق الجهل المظلم بنور العلم الوضاء وما تبعه من قيم انسانية رفعية , ومن ُمثل اخلاقية سامية , حتي قال البعض في حق المدرس ان من علمني حرفاً صرت له عبداً , وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟
واخال ان كلاً منا تأثر بشئ من خُلق او لفتة او حركة من واحد من معلميه في فترة من فترات ايام التعلم , خاصة المتميزين منهم , واحسب انه ليست هناك فترة احب الي وجدان الفرد من فترة الدراسة , ولا زمالة أبقي في ذاكرة المرء سوي زمالة ايام المدرسة حيث الصداقة والزمالة صافية لا يشوبها منفعة او طمع اوغرض من اغراض الدنيا . وفي ظني انه ليست هناك ذكريات عذبة أبقي في الذاكرة غير ايام الدراسة ورفاق الدراسة . أما المدرسون فهم اشبه برحيق الازهار الذي يتغذي عليه نحل الحقول فتصنع منه عسلاً شهياً فيه غذاء وشفاء للناس , فينتجون تلاميذاً يمهدون بدورهم لاوطانهم ومجتمعاتهم سبلاً للتقدم والرفاه وعمارة الحياة .
ومع كل هذه القيمة المعطاءة العظيمة للمعلم فانه اقل الناس حظاً من متاع الدنيا , فراتبه شحيح ونصيبه ضيق في الحياة وبخاصة في هذا الزمن المادي البغيض . هل تصدق عزيزي القارئ ان ما يتقاضاه المدرس من معاش شهري وهو 125 جنيهاً أقل من الحد الادني للأجور للعاملين وهو 156 جنيهاً ؟! , وهذا المعاش يتقاضاه من كان في الدرجات الوظيفية العليا اثناء الخدمة . ولكن يبقي اثر عظيم راسخ في نفس كل معلم وهو مرأي تلاميذه وقد تسنموا ذري النجاح في حياتهم وتبوأوا مناصباً رفعية , وقدموا انجازات علمية او ادبية , فيشيع شعور بالرضا والغبطة في نفسه يعوضه عن الحرمان والنكران ! ولسان حاله يقول : هؤلاء تلاميذي فأتوني بانسابكم واعمالكم .
وواتانا الحظ ايام الدراسة فاتحفنا بمعلمين اكفاء ومربين عطوفين وكان من هذه النخبة افراد تفردوا بميزاتهم الباهرة , ومنهم من كان في المرحلة الاولية والبعض في المرحلة المتوسطة , ومنهم من كان في المرحلة الثانوية . ونحن اطفال في المرحلة الاولية بمدرسة الاحفاد في امدرمان كان لدينا مدرس هو حسن عبدالحفيظ وهو أب الفصل في نفس الوقت أي المسؤول عن الفصل كما كان المتبع , وكان سمته محترماً بجلبابه الابيض النظيف وعمامته التي يجيد ( لفها ) , ويعلق علي ساعده عصا تسمي (كريز) وهي عصا غليظة معقوفة من اعلاها , وكان يعاملنا كأبنائه من صلبه , وكانت تلك الفترة في الاربعينات ابان الحرب العالمية الثانية , وقد انقطع فيها ورود معظم السلع المستوردة , وكان من ضمنها الطباشير , فكان الاستاذ حسن يأخذنا الي شاطئ النهر قبالة مبني الاذاعة والتلفزيون الحالي حيث كان هناك بجانب النهر صخور جيرية بيضاء , قكنا نكسر الحجارة منها ثم نطحنها ونصنع منها اصابع الطباشير .
وفي المرحلة المتوسطة في نفس المدرسة كان هناك مدرس متميز وهو الاستاذ سيداحمد عبدالرحمن والشهير بغاندي , وهو فنان شامل فهو (خطاط – رسام – ممثل – حداد – مخرج) وكان يدرس الفنون ويشرف علي جمعية الفنون والاصلاحات بالمدرسة , وكانت المدرسة الثانوية تُشّيد في موضعها الحالي بجوار المدرسة المتوسطة , فعلّمنا الاستاذ سيداحمد عمل مفصلات الشبابيك في جمعية الحدادة وصنعنا منها الكثير والتي استعملت في تثبيت نوافذ المدرسة . كما علمنا نسيج الكراسي ونسيج فنايل الصوف .
وكان لنا ايضاً مدرس متميز آخر هو الاستاذ طه الجاك وهو مدرس الرياضيات واب الفصل في نفس الوقت , وكان رجلاً جاداً في مادته وشرحه , كما كان يجيد الانجليزية , وكنا نفزع اليه احياناً فيما يغمض علينا فهمه او نطقه من كلمات . ولا يفوتني ان اذكر انه وفي نفس الصف الرابع المتوسط حظينا بمدرس لامع قدير في اللغة العربية وهو الاستاذ عبدالحفيظ هاشم والذي كان يطلب من احدنا ان يفتح الصفحة في المصحف ويعرب الآيات وكنا نفعل ذلك بفضل ما علّمنا ورسّخ فينا .
ولا انسي الاستاذ احمد عبدالله المغربي فقد كان فذاً في علمه وتدريسه وتمكنه من مادته , ولقد درس لنا العربي والانجليزي والجغرافيا , وكان انساناً بشوشاً خفيف الظل .
وهناك مستر كوك الانجليزي ومدرس الانجليزي لنا في السنة الرابعة الثانوية وهو في نشاطه كالنحلة ويشرف علي مكتبة المدرسة الانجليزية في نفس الوقت ويصدق عليه وصف التفاني في العمل وأدائه علي الوجه الاكمل . ولا يماثله في هذا الا الاستاذ المصري محسن مدرس الجغرافيا فقد كان فذاً في مادته وكان يرسم علي السبورة من الذاكرة خارطة اي قطر في الدنيا ويضع المدن المهمة عليها وكأنها صُورت بكاميرا , وكان يدربنا علي اكتساب هذه المهارة بأن يستدعي احدنا الي السبورة ويطلب منه رسم خارطة معينة او وضع الموانئ او المدن المهمة علي خارطة افريقيا مثلاً , ولن انسي ما حييت كيف فاضت دموعه وعصي عليه الكلام عندما اقامت له المدرسة حفلة وداع عندما انتهت اعارته وعودته لمصر .
منذ ايام تلقيت رسالة علي بريدي الالكتروني من احد تلاميذي في مدرسة بيت المال المتوسطة بامدرمان وقد كنت ناظراً ومديراً لها في الفترة 1969- 1974 , وهو الابن الطيب مدني محمد وهو يشغل منصباً مرموقاً في احدي الشركات بالمملكة العربية السعودية , يعرب فيها عن مشاعره الطيبة هو وزملاؤه من نفس الدفعة حيالي عندما يجتمعون معاً وتلقيت رسائل من قبل من احد تلاميذي في مدرسة بورتسودان الاميرية الوسطي وكذلك من امدرمان ومدرسة الجنينة المتوسطة للبنات وبعض مدن السودان الاخري التي عمات بها مدرساً وناظراً ومديراً في اوقات متفاوتة . وجميع اصحاب هذه الرسائل قد تولوا مناصب مرموقة في الخدمة المدنية والعسكرية , فمنهم الاستاذ في الجامعة والمدرس والطبيب وضابط الجيش والمهندس . وقد نزلت رسائلهم المترعة بالوفاء الصادق برداً وسلاماً علي قلبي واسعدتني حقاً , واحسست بما يشبه نشوة الانتصار لقائد في معركة كبيرة خاضها , ويحدث هذا ونحن خاصة في زمن تغيرت فيه اخلاق الرجال وعم فيه التنكر للمثل والمبادئ ومنها الغدر بالصديق قبل العدو , وصار لبعض الناس ليس وجهين فحسب بل عدة وجوه . ويبقي العرفان والتقدير من تلاميذنا نحن المعلمين هو افضل جزاء لنا في هذه الفانية .
اللهم اجزي اساتذتنا افضل واحسن الجزاء في دنياهم وآخرتهم .
هلال زاهر الساداتي – القاهرة
[email protected]
|
|
 
|
|
|
|
هلال زاهر الساداتي
Raja
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست