|
عندما يئدون حتى الحلم
|
مقال للفنانة التشكيلية الفلسطينية العالقة على الحدود: أمية جحا
قالوا لي: أسرعي فقد فتحوا المعبر للحجاج العالقين منذ أسبوع في العريش عساك تعودين معهم، وبسرعة البرق لملمت حقائبي بعدما كانت حقيبة.. إنها سبعة شهور قضيتها بعيدا عن غزة .
واستقليت أنا وزوجي السيارة من العريش حتى المعبر، وطوال الطريق كنت أنظر للبلد التي احتضنتني بحنان شعبها وكنت أتمنى أن أبكي مودعةً إياها .. ولكن كلما حاولت دمعة ان تسيل شدها خوف العودة من جديد إليها فحنيني لوطني أكبر.
كنت ألتقط في مخيلتي مشاهد ما سأفعله أول ما اجتاز المعبر إلى غزة ,كنت سأسجد على الأرض و اقبل ترابها ثم أهرول احتضن صغيرتي نور و آه ثم آه يا نور ..نور كنت انتظره بعد عتمة الغربة القسرية بلا ذنب سوى أني فلسطينية الجنسية .!
كنت سأوزع القبلات على ذرات الهواء وسأحمل بيدي راية فلسطين أخرجها من شباك السيارة ليبقى يرفرف خفاقا ,كنت سأسلم على المارة و أحيي الدكاكين و الباعة , كنت سأحتضن كل أطفال غزة و أوزع عليهم حلوى اشتريتها من مصر فغزة محاصرة و شح فيها الطعام والدواء.
كنت سأغفر لكل من ظلمنا من حكام العرب وقد كنا لا نبيت نحن العالقون من نساء و رجال و شيوخ و مرضى إلا ونحن ندعو على من ظلمنا و غربنا عن أهلينا و سرق الفرحة من عيوننا و راحة البال من قلوبنا .
وتذكرت ابن أخي الذي مات جنيناً قبل أن يُولد بأسبوع , كنت أول من حمل هذا الطفل الجميل,وكانت أول مرة أحمل فيها طفلا ميتا, كنا ننتظر ميلاد هذا الطفل بفارغ الصبر عساه يدخل الفرحة إلى قلوبنا التي أدماها الحزن طويلا ..مات الطفل و دفن في العريش و مات و دفن معه الحلم بعودة قريبة للوطن.
وتذكرت شاطئ العريش الجميل,كنا نسهر طويلاً على الشاطئ الذي كان يعج بالمصطافين في الصيف, وأتذكر كيف كان كل واحد منّا يتحدث عن شوقه للأهل و الأولاد و كيف كان يصارع كل واحد الآخر ليثبت أن همه أكبر من هم الآخر ,كنا نضحك أحيانا و كنا نبكي أحيانا و أحيانا وأحيانا.
وتذكرت كيف كانت عيناي تتابعان حركة الأطفال المصريين على الشاطئ فأتلهف بقلب الأم إن وقع طفل في الماء ,وكيف أني كنت أرغب باحتضان طفلة تشبه طفلتي فأخالها تهرول نحوي و إذ بها تسرع بعيداً ناحية أمها .
وتذكرت كيف انتهى فصل الصيف بعودة كل المصطافين المصريين إلى مناطق سكناهم ...وبعدما عادت دفعة من العالقين الفلسطينيين إلى غزة, فبقيت وحدي على الشاطئ أكاد أسمع صوت صدى أنفاسي لولا صوت أمواج البحر, و لعب أطفال مبعثرة و بقايا طعام هنا و هناك...هي أطلال أناس كانوا هنا كل يوم !
أصواتهم..ضحكاتهم.. كلها رحلت معهم !
تذكرت كيف كنت أبكي ولا أزال عندما أجد الكل قد عاد إلى وطنه إلا نحن !
كنت اتمنى لو أتحول إلى سمكة تسبح في أعماق البحر إلى أن أصل إلى شاطئ غزة
كنت أحسد الطيور التي كنت أراها أسرابا أسرابا تهاجر من مكان إلى آخر لأن لها جناحين تستطيع بهما أن تطير فلا تحتاج إلى جواز سفر ولا توقفها حدود و لا رجال أمن و لا نقاط تفتيش ..
وتذكرت كيف قضينا شهر رمضان..صائمين عن الطعام و صائمين عن الفرحة , و كيف كان أملنا كبيرا أن نقضي عيد الفطر بين أهلينا فاشتريت فستان العيد لنور وحذاء و حقيبة و صرت أتخيلها تتراقص فرحة بهديتي إليها وترتمي في حضني وتقبلني..جاء العيد السعيد على قلبي الحزين و أنا أنظر للفستان الذي ربما سيصبح صغيرا عليها لو طال البعد أشهراً قادمة ..
وتذكرت كيف كنا نموت في اليوم ألف مرة و نحن نجد إعلاما عربيا ميتا لا يتناول قضيتنا و أمة ميتة لا تحرك ساكنا مما زاد شعورنا بأننا منسيون و سنبقى عالقين خارج الوطن .
وتذكرت كيف حل الخريف فتساقطت معه أوراق الشجر و تساقط معه الأمل بعود قريب !
وتذكرت كيف حل الشتاء و ما أقسى أن لا يشعر المرء بدفء الوطن في الشتاء ...
وتذكرت كيف جاء عيد ثان هو عيد الأضحى المبارك..وكيف ساهمت الاغاثة الطبية الإسلامية و اتحاد الأطباء العرب في رسم البهجة في عيون الأطفال الفلسطينيين العالقين فاشترت لهم الألعاب و ذبحت أمامهم العجول و وزعت على الأسر الأضاحي بسخاء..كان موقفاً نبيلاً لمسناه و لا نزال من الشعب المصري الكريم الغني بنخوته وأصالته رغم فقره المادي و الذي كان يتمنى أن يفرش لنا رموشه لنمشي عليها ...
ثم تذكرت كيف اتقن أطفالنا اللهجة المصرية و كيف جعلوا أقرانهم المصريين يتحدثون باللهجة الفلسطينية ..وكم كنت أضحك و أنا أسمع حديث الطرفين و هما يلعبان سوية .
ثم تذكرت إني لا أزال في السيارة...آه ما أحلاك يا وطني حتى لو كنا نتجرع لحبك علقما ..و ما أغلى ترابك حتى لو كان طريقنا إليك شوكاً ..
اقتربنا من بوابة المعبر في الجانب المصري و في مقدمتها عبارة ترحيب و تمنيات برحلة سعيدة..قلت في نفسي بحسرة"هه رحلة سعيدة !"
وقفت السيارة و أنزلنا الحقائب إلى حيث البوابة التي تجمع عندها العشرات من العالقين المتلهفين للعودة , كان عددنا لا يتجاوز المائة شخص من رجال و نساء و أطفال، الكل يزاحم الكل و الكل يسابق الكل و بوابة مغلقة تفتح كل نصف ساعة لتدخل نفرا قليلا ..استوقفني صحفي مصري يعرفني كنت قبل يوم رفضت الحديث معه لأن نفسيتي كانت متعبة و صار يسألني عن مشاعري و أنا سأدخل المعبر اخيرا .. أجبته بابتسامة و أمل حذرين ...و التقط لي صورا قلت في نفسي عساها تكون آخر صور تذكرني بتجربة مريرة عشتها مع غيري من العالقين !!
فتحت البوابة..ودخلت أنا وزوجي ..ربما لم تكن قدماي اللتين تمضيان بي...كنت أشعر بأني أطير....و بأني بت أمتلك جناحين كبيرين ...لأول مرة من سبعة شهور أتذوق حلاوة الضحكة من القلب ...كنت مستعدة ان احمل حقائبي دفعة واحدة فالآن يهون كل تعب ..انا الآن على بعد أمتار من الوطن..
وصلنا صالة السفر المصرية حيث يتم ختم الجوازات ومن ثم الدخول للجانب الفلسطيني. ربما هو ختم على كتاب يقولون لي فيه أنت الآن حرة طليقة، ما هي إلا خطوات و أصل الضابط المصري ليختم لي على جواز السفر حتى توقف كل شي...وقف الضابط وقال: أغلق المعبر!
آه يا أخي في العروبة و الإسلام , لو كنت تدرك مرارة كل حرف من جملتك هذه...لما استطعت أن تنطقها!
آه يا أخي في العروبة و الاسلام, لو كنت تدرك أن جملتك هذه هي أشد ثقلا علينا من حمل أمتعتنا ....لما استطاع لسانك حمل تلك الحروف !
آه يا أخي في العروبة و الإسلام , لو تدرك حلاوة الحلم بالعودة للوطن عندما يتحول لحقيقة لما هان عليك أن توقظنا !
آه يا أخي في العروبة و الإسلام: كيف تشتت العائلة من جديد فأولاد دخلوا و آباء منعوا! و نساء يبكين.و عجائز يتوسلون و مرضى يبكون و انا أنظر إلى كل الوجوه ..ربما لأخفف من شعوري بالقهر أو أزيد!
كيف تصل اللقمة إلى فم الجائع و يسحبونها منه !
كيف تبكي الحرائر و لا تجد لدمعتها وزناً لنخوة عربي !
طوال وجودي في صالة الجوازات لم يهتز لي جفن و لم أذرف دمعة واحدة حتى و أنا أرى رجال الأمن يقذفون حقائب المسافرين يجبرونهم على العودة إلى الجانب المصري...ربما كنت ابكي بصمت ..و ربما كنت أحاول التجلد في موقف يستحق من الرجال قبل النساء البكاء فيه !
كنت آخر من خرج من الصالة ..ربما كان تمسكاً بالأمل حتى آخر لحظة !!
وخرجت فقط قبل أن تُهان كرامتي كامرأة عربية مسلمة قبل أن أكون الرسامة المشهورة ....أغلقوا بوابة المعبر...حينها فقط بكيت ...وبكيت بحرقة ..كنت دوماً أداري دمعتي ...ولكني بكيت أمام الجميع..فالجميع يا إخوتي في العروبة والإسلام... كان يبكي
|
|

|
|
|
|