|
روايه نوبيه (من يوميات امرأة كادحة)
|
منقول من المنتدى النوبى حسن فهمى رشوان
من يوميات امرأة كادحة
بقلم: فكري أبوالقاسم
إمرأة من بلاد النوبة
تفاصيل هذه الحكايات منتزعة من اعماق المجتمع التراثي النوبي، بطلتها إمرأة من كادحات المجتمع السوداني الفقير، صارعت قساوة الحياة في صحراء النوبة، وحواشات حلفا الجديدة، ثم قاومت في ايامها الأخيرة أوجاع المدينة، وقد كان سلاحها خلفيتها التراثية التي تزرع الرضا والثقة بالله. امتدت قصتها من حوالي 1914م حتي 2002م حبكت هنا مفصلة على مدي ثلاثة فصول: سنوات التكوين "غبش الصباح". سنوات الظهيرة "1946-1964م". سنوات الغروب.
نُشرت فقرات من هذه "اليوميات" وتُرجمت إلى اللغة الإنجليزية بواسطة الأستاذ قرشي عبدون في "الخرطوم مونيتر".
أما القيمة الانسانية الفلسفية التي ننشدها -فيما ننشد - هي أن قيم الرضا والتي هي مفتاح السعادة إن وجدت من يرعاها في كل الظروف تستطيع أن تهدي الانسان لسر الوجود وهذا السر هو: أن يرى الجمال في كل شيء.
الفصل الأول: غبش الصباح (1920-1936م):
في ظل شجرة جميز كبيرة. وفوق بساط من البرش الملون، كان مجلس عبدالسيد، وهو رجل طاعن في السن، وبدأت عليه أعراض فقدان الذاكرة . زوجته لقية وبناتها الست، كن يحرسنه بالتناوب. برعت بهية من بينهن، في الصبر علي متطلبات الرعاية القاسية لهذا المسن! عندما يخرج من النيل بعد ممارسة هوايته المعهودة، كانت بهية رغم صغر سنها تقوم بستره. لم تنتبه لأنوثتها إلا عندما بدأت تهتز نهديها علي صدرها وهي تجر الواسوق! فقد كان أخوها "قمصل" هو الوحيد الذي بقي معهم- لا يرحم ضعفها وسنها يغرس شفرات الواسوق - وهي آلة حديدية تسحب بالحبل -يغرسها في أعماق التربة الطينية الجافة ويصرخ في وجهها: - بت الكلب .. (تُلي .. تٌلي)، أي (جرّي .. جرّي)، عندما كانت ترتعد من الخوف كانت هناك قوة جبارة تنبعث من دواخلها!!. ثم تتنفس الصعداء وترتاح عندما ينهي أخوها صراخه .. ايوه ..ايوه ..ايوه!!.. تتلفت يمينها فتجد نفسها أنها أقامت أكوام من التراب شبيهة بأكتاف القبور!.
هذه القوة ستساعدها عندما ستعود تلعب في الليالي المقمرة مع زميلاتها لعبة "همام قوقي".. يضعن أياديهن علي خصورهن ثم يقفزن علي أمشاط أرجلهن، والمنتصرة منهن هي التي تبقى بعد أن تسقط الاخريات. لم تكن تجيد فقط سحب الواسوق بل برعت أيضا في إستعمال المنجل "الترب"، و"الاربر"، والطورية. أما العمل على الرحى وهي آلة طحن الحبوب فقد كان عملاً يومياً مع شروق الشمس.
كانوا يتركون لها حمولة (حمار) كامل من "الماروق" لتقوم بتشتيته، دون أن تسأل عن بنات وزوجات الشركاء الخمسة الذين يشاركون أخيها "قمصل" في الساقية . تنتهي من التسميد لتبدأ في محاربة أمراض العسل، بتحريك شعلة من الدخان، أو بوضع حزمة من الحرجل في "السبلوقة"، ظناً من أن شراب الحرجل يغسل المرض من الأحواض.
لهذا عندما يعلن حكيم القرية (العراف) موعد بداية الموسم (الدميرة، الشتوي، الصيفي) كانوا يسألون عنها). علي مدار الموسم عندما ينتهي العمل الشاق، كانوا دائماً يجدونها تحمل الشاي في الصباح، ثم الطعام في الظهيرة ثم تجلس علي "التكم" أثناء نزول الرجال للطعام، وهي تلوح بالجريد مقلدة لأصوات أعتي الرجال: (عا.. عا) فتجري أمامها أبقار الساقية وعلي أثرها تهبط "الألس" المبلول حاملة كمية من أوعية "الفيشيه"، لتعود بالماء من أعماق "المتّر"، فتجري المياه محدثة صوتاً ترتاح إليه بهية!!.. تعود إلي البيت وهي تحمل العلف للأغنام أو البقرة الوالدة، ثم تعود بالصفيح "أمن كوبي"، لتملأ أزيار الدار أو "السبيل". أكثر اللحظات مفعمة بالسعادة في حياتها، كانت عندما تطوف في حواري الحي منادية الأطفال ليشربوا من لبن البقرة الوالدة لمدة أسبوع كامل، لأن اللبن في هذه الفترة كان محرماً علي بيت صاحب البقرة!!.. لم تكن زوجات وبنات شركاء الساقية يظهرن الاهتمام إلا عند ذر المحصول ونظافته وقد يقمن قبل ذلك "بتلييس" مكان المحصول "الدار". في مواسم هذه التجمعات كانت بهية تمثل سيدة الحقل!.. كان المحصول يدرس بمجموعة من الحمير مربوطة بأعناقها تدور حوافرها فوق أكوام المحصول فتتهشم وتهرس ثم تقوم النساء بعد ذلك بذرها وتنظيفها. أما عندما يبدأ الكيل للشركاء فقد كان الجميع يصمتون إلا بهية فقد كانت تساعد حكيم "الكيل"..
من حكايات جمارا: أرسلوها بصرّة من التمر إلي الشاطئ حيث يرسو "كنتين" همد خليل الذي كان تاجراً متنقلاً يوزع بضاعته من مرسى لآخر. قايضت التمر بقطع صغيرة من فتات حجر العطرون وبحفنة صغيرة من "التلّي" وهي من التبغ المضغة التي كانت تلاك كالتمباك. وهي تهم بالإنصراف سمعت أصوات نسائية تولول في الضفة الشرقية:
- إبيو ..إبيوه أشاري إبيو.. وسرعان ما انتقلت الولولة إلى الضفة الغربية حاملة المصيبة تجاه ديار "آل دلوكه ".. ماتت أشاري التي كانت بالأمس في عرس بنت أختها .. هكذا نقلت إحداهن الخبر إلى إمرأة استفسرت من بعيد عن حقيقة الخبر. - ألم تكن بالأمس معنا؟؟.. - نعم.. لكنها حملت إلى المركب في حالة يرثى لها من الإعياء.. تسأل الأولى: ما الذي حدث لها بعد أن رأيناها علي أحس حال؟.. - رقصت في ظلال النخيل.. نخيل "خليل كسبه" حتي غروب الشمس.. - مع من؟!! - مع "بسميقو" .. رأيتها مغمى عليها ولكننا ما كنا نتوقع أن تفارق الحياة بهذه السهولة.. تتدخل أخرى وكأنها لم تسمع شيئاً: مع من كانت ترقص؟!! تساعدها إمرأة أخرى كبيرة في السن: ألا تدرين أن الجن ينتشر بكثرة في جمارا .. وخاصة في ظلال هذه "القرقودة"؟.. صمت الأخريات شجعها علي المزيد.. فأكدت أنهم ليسوا فقط يشاركوننا أفراحنا بل ويقاسموننا ما ننتجه من المحاصيل التي تزرع وسط هذه الأشجار.. - سمعناهم يرقصون أيام الحصاد!!..
"علي حجي" "أورمي" أي (فليزرع علي حجي ما يشاء) "كسبه" "جوقمي" أي (ولتطحن زوجته كسبه ما شاءت) "اقون جمّ توقل سلمنو أي (أما نحن سنذر هذه المحاصيل في مهب الريح)!!
كانت بهية رغم صغر سنها أكثر الحاضرات خوفاً من قصة الجن في جمارا، لهذا رفعت صوتها بالكلام: جستورك جستورك: لا تحرضوا علينا هذه المخلوقات ..
هنا تحمست "عشمانة" سيدة حلقات الزار.. هؤلاء أهلنا لا تأذوهم بالكلام.. "عثمان أيوب" تعرفونه ينام هنا بين أشجار "اورقينا" ولم نسمع بأن أحداً اقترب منه.. تقاطعها أخرى: شيخ "عثمان محروس"، وهو من أولياء الله، إذا وضع أعواداً صغيرة أمام منزلكم يموت لكم أحد!!!..
تتدخل المصرية البيضاء وهي تسخر بلكنة صعيدية: "التو" "ابشور" ولي.. والضباع أكلته..، وده سميتو الشيخ الاطلسي وهو نفسو طفش ؟!!.. عاد الرجال الذين قصوا آثار أقدام الشيخ "أحمد أبشور" بين التلال والجبال لانهم خافوا علي أنفسهم من أن يهلكوا في الصحراء، سافر بعيداً إلى خلف درب الأربعين إلى تلك الأرض التي كان يتنبأ بها ويقول عنها سيدفن في الأرض الطاهرة. أما الضباع فقد نهشوا لحم بعض من ضلوا الطريق من رجالات القوافل.. واصلت المرأة سيرها وهي تردد : جستورك ..جستورك!! - شيوخ آل: مجانين ودراويش .. نجوع مليانه بلاوي .. بهايم!! لم تكد المصرية تنتهي من سخريتها تلك، إلا ونشبت إحداهن أظافرها في شعرها الطويل، ولم تتركه إلا بعد أن ملأت كفها بكومة كبيرة من شعرها.. ألقتها بعيداً كأنها تذكرت شيئاً.. قامت المصرية مذعورة وهي تندب حظها وتبكي حتي رقت لها إحداهن وهمست لها وهي خائفة في أذنها لتشتكي المعتدية لمجلس "الأوربانية" الذي ينعقد عقب صلاة الجمعة في مسجد شيخ مختار في كرفه.. هناك يحكم الرجال علي لجنة الأربعة باستعمال "مقص" الجمعية.. تحضر الخصلات المقطوعة أمام الشيخ "عطا المنان" الذي يقوم بحصر عددها ثم يقوم هذا الشيخ بقطع العدد نفسه من شعر المعتدية عقاباً لها .. وإذا كانت المعتدية صغيرة السن تحلق شعر أمها أو مربيتها!!.. انتهزت المصرية هذه الفرصة وأعلنت انها ذاهبة لمجلس "الاوربانية".. خافت النسوة الحاضرات من مسئولية الشهادة أمام مجلس الرجال فأسرعن الخطي صامتات فلا تسمع إلا خشخشة "الجرجار" والأقدام وهن يهربن من المشهد نحو بيت العزاء .. الخطبة: بقيت بهية علي يومياتها تلك حتي حدث أمر غريب، فقد جاءها أخوها "قمصل" هاشاً باشاً.. يضاحكها ويتلاطف معها وقد كان هذا في حد ذاته امر غريب لم تتعوده من أخيها الاكبر ولم يحدث أن جاءها من قبل علي هذه الصورة.. بل لم تكن قد رأته من قبل يضاحك أحدا.. لم يستمر طويلاً على صورته الجديدة تلك صاح في وجهها: - يا بت الكلب شيخ إبراهيم يريد الزواج!!!.. رغم أنها لم تفهم شيئاً شاركت أخوها الحديث: عم إبراهيم العجوز داير..؟ - قولي شيخ إبراهيم.. يا وليه يا مجنونة.. ده راجل لسه صبي!! لم يدعها تقول شيئاً آخر وكأنما انتهت الشورة طردها: (يلا امشي .. امشي).. لم تفهم الذي حدث إلا عندما دخلت بيت أمها ووجدت إخوتها على غير العادة يعاملنها باشفاق إلا واحدة لم تستطع أن تكتم غيظها وصرخت في وجهها كأنما تلومها : - قدر أبونا يا بهية .. - مين يا عاشة؟.. - انت ما عارفة بصير الساقية "إبراهيم النجار" ، يريدك زوجة ثالثة مع بدرية الصعيدية، وتفيدة الكنزية.. أصابتها رعشة سرت من قدمها حتي شعر رأسها، ثم شعرت ببرد قارس كأنها في شهر طوبة .. القت نفسها علي عنقريب من جريد النخل. ثم بعد برهة تصببت عرقاً.. وكأنها كانت فاقدة الشعور بأنوثتها في معمعة حياتها الخشنة بدأت تعيد الشريط .. - يا كسوفي عم إبراهيم العجوز، كنت أعمل معه من الشمس إلى الشمس في نفير السواقي وصناعة المراكب.. كان يأتي لتجهيز الساقية في "اسن امبي" في شهري ابيب قبل موسم الدميرة وهاتور قبل الشتوي .. كان دائماً يطالب بنصيبه من محصول موسمين وقد كان يبلغ السدس هل هذا السدس مهري؟.. هل كنت من النساء ليتزوجني هذا العجوز؟.. انزوت أياما بلغت الشهرين في ركن معتم من الدار، لا يقربها أحد حتى جاءها بعض شركاء الساقية الذين عرفوا قصتها وبشروها بأن البصير أخذ نصيبه بالكامل. وسافر إلى بدرية الصعيدية التي هربت إلى بر مصر!!.. - الساقية في إنتظارك يا بهية!!.. عاودها الحنين إلى أرض الساقية ولكن كلما نزلت تجاه البحر وسط أكمة النخيل ترى صورة إبراهيم العجوز مرسومة علي هامات النخيل .. وبدأت توقظ أهلها في منتصف الليالي وتصرخ: (أمن دقر) يطاردني من شقوق الجروف.. (أمن دال) يهاجمني ليشرب دمي كلما مررت بظلال النخيل !!.. - (يا بهية قولي بسم الله).. تردد وهما ترتجفان كل من دارية وجليلة.. اتفقتا علي ان تذهبا بها إلى خلوة الشيخ مختار في "كرفه" وبالفعل تركوها هناك تخدم الشيخ..
الزواج : ظلت تتردد علي مجلس الشيخ في "كرفه" حتي ضحى ذلك اليوم من أغسطس عام 1936م .. دخلت في ذلك اليوم علي مجلس الشيخ إمرأة نحيفة ذات بشرة مائلة إلى البياض، وانخرطت علي غير عادة الزوار في حديث هامس مع الشيخ وعندما خرجت المرأة أشار الشيخ إلى بهية أن تقترب منه، ثم سألها: أنت بنت كبرت وعلى وش زواج: (هل توافقي على الزواج من ابن أختي؟) ولكن عندما بدت عليها علامات الإرتباك والتلعثم تركها وشأنها كأن لم يكن هناك شئ).. يتبع/....
|
|

|
|
|
|
|
|
Re: روايه نوبيه (من يوميات امرأة كادحة) (Re: خليل عيسى خليل)
|
من يوميات إمرأة كادحة - 2
انقطعت بهية من مجلس الشيخ ولازمت دارها وهي خائفة من أن تعود لها متاعبها القديمة من العمل في الساقية مرت عليها أسابيع وهي في هذه الهواجس. ربما كانت هذه المرة أكبر مما توقعتها فقد أخبرها بأن عليها أن تنتقل إلي ساقية العائلة في "دقالفا" في أقاصي جنوب القرية، في جروف منطقة "اريان". لم تكن في وضع لتفهم أسباب هذه المتاعب الجديدة لأن المشاورات كانت تدور بعيدة عنها، لم يكن الرجل راضياً عن عريسها الجديد، لهذا ساقها بعيداً عندما شرعت والدتهم في إتمام عقد الزواج، تدخل وليها الأكبر "عثمان تو" وقد كان شيخهم المطاع ليعيدوا الفتاة إلى دار أمها، طلب من الحجيات والشباب أن يتصدوا "لقمصل" ولكنهم خافوا منه ومن سطوته . لم يرفع عنهم الحرج إلا رجل وقور من" آل نجار" جاءهم من أقاصي بريسي يسوقها معه. إنتقلت الي دار الزوجية لتبدأ فصولا جديدة من يومياتها. أصبحت بهية عبد السيد واحدة من سيدات حي "كرفة" وكرفة هذه كلمة تركية تعني القلعة الحصينة. وهي من أحياء قرية "سره غرب" شمال وادي حلفا قبل طوفان السد العالي. في غياب الرجال للعمل في مصر، كانت هناك مجموعة من النسوة يدرن الحياة في هذا الحي، أسماؤهن من أهم مذاقات النشأة لجيلنا (عائشة، خضرة، حجة طه، طهرة حسن، هانم آشة، هجلة طاهر، طهرة صالح، طهرة لوندي، هانم سكينة، حجة شميشة، حجة زكية، عائشة سكينة وأخريات...). هذه المجموعة وغيرهن خضن معاً ملحمة بناء المنازل بعد فيضان 1946م الذي دمر كل شئ. وقد كان من أسباب هذا الدمار أيضاً التعليات المتتالية التي حدثت لخزان أسوان دون تعويض للمتضررين من فقراء المجتمع النوبي وقد كان تجارهم -كما قال رفعت السعر- أيضاً فقراء .
ذكريات الشباب عند هذه المجموعة كانت منصبة جلها في قصة تلك المأساة من حياتهن قالت إحداهن، وقد أصبحت فيما بعد واحدة من سيدات المجتمع في الخرطوم، أنها ذهبت ومعها بهية التي نحكي بعضاً من يومياتها، إلى دكان أحد تجار القرية تطلبن المزيد من الإستجرار فوق حسابهم القديم ويبدو أن حوالات الرجال كانت قد تأخرت بسبب العجز أو خلافه، وعندما رفض صاحب الدكان قلن له: عندما يصلح الله أحوالهن إن شاء الله سيتم التعوي.
تقول السيدة وهي مستغرقة في الضحك أنه قال لهن (متى سيصلح الله أحوالكن)؟. تقول: مرت الأيام والسنوات وامتد بها العمر حتي طرق بابهم في الخرطوم طالباً مبلغاً من المال ليتم به منزلا كان يملكه!!.. قالت: (دخلت في عراك مع زوجي وعندما قال لي أن لا أتحدث في حضرته مذكرة إياه بكلامه القديم مراعاة لحسن الضيافة، قالت: وقفت وسط الغرفة المغلقة ووجهي علي الحائط وصرخت: (هكذا أصلح الله احوالنا). تحكي تلك القصة بكثير من الروح والفكاهة، بلهجة خالية من الأضغان والأحقاد باعتبارها من عبّر المعاناة التي كانت تطارد الجميع: التاجر والمدين!!!!..
البشارة في ظل الجميزة الوارفة الظلال جلس "محمد سعيد" وهو من الفقيراب وحوله مجموعة من النسوة، جئن متلهفات لخبر من مصر أو طرد أو رسالة تحمل حواله. كان يكنى بالمندوب لأنه كان يحمل بوستة القرية الواردة من مصر، وعندما كانت ترسو مركبة الريس "مبروك أوشي" كان دائماً يرفع صوته مفاخراً وسط النسوة المنتظرات: من أرسل عصفوراً إلى مصر فليأت إلينا علنا نحمل له شيئاً من هناك!. في ضحي ذلك اليوم كانت بهية منهمكة في زراعة نصيبها من ساقية "محمد أحمد حاج" ولم تكن تدري ما تحمله لها الأقدار فقد طال عليها الرجاء!!.
عادت مع غروب الشمس ووجدت أمام باب كوخها مجموعة من النسوة يرقصن فرحاً فقد انتشر خبر بوستتها. حوالة وطرد صغير وجواب يوعدها بالسفر الي مصر!.. ويالها من بشارات لامرأة تسكن في العراء بين فجوات أكواخ من القصب الجاف بنتها على عجل عقب تخريب فيضان 1946م لمنزلها القديم.
حرائق بين الحين والآخر.. ذئاب تهجم علي الأغنام، حتي تلك التي كانت محروسة في حوش "محي الدين أبوالقاسم".. وقد كان المنزل الوحيد المبني من الطين !!.. الرقص والزغاريد .. صفين من النسوة، نساء الصف الأول رافعات أيديهن ومائلات نحو اليمين، والصف الثاني يتجه اليهن من الجهة المعاكسة رافعات أيديهن نحو اليسار بين زغاريد الفرح كانت تسمعهن وهن يتغنين: قندول إدن فليتا شاي سادة كوجن جلوية
المعني بالعربية: ظهر زوجك في محطة قندوله ويا سعدنا سنشرب الشاي السادة
شراب الشاي كان من مفاخر العادات.. فلم يكن يشرب إلا للتداوي أو في مجالس العز والترف!!!.. كلمات الأغنية لم تكن دقيقة فزوجها -كما اتضح فيما بعد - لم يصل ولكنه أرسل هداياه تلك والتي كانت منها: قطع من الصابون، والكبريت، وعلبة طحنية، وسكر راس، وزجاجة "ريحة" عطر بت السودان !!!.. قامت بهية صباحاً مع صياح الديك ثملة بالأحلام والآمال ثلاثة جنيهات بالتمام والكمال ستفعل في حياتها الأعاجيب، ستذهب إلى دكان "شاطر"، وسيأتي "عبد الرحيم الطياني" ليبني البيت الجديد ويضع الأساس، وستبدأ مشوار الأمومة التي طالما انتظرتها لأكثر من أربعة عشر عاماً ويالها من بشارة ستزور مصر أم الدنيا !!.. انتزع "شاطر" قلم الكوبيا من خلف أذنه اليمنى وبدأ يكتب وهو يقرأ بصوت عال: أهل منزل "أحمد صفره".. ومن وقت لآخر ينظر إليها وهي واقفة أمامه ثملة بمزيج من أحاسيس الزهو والخوف والأمل والرجاء. ولكن كانت هذه التعابير تعد نوعاً من التجاوز أمام تجار القرية الذين تعودوا على الخواطر المكسورة أثناء الإستجرار بالدفع الآجل!!.. توقف عن الكتابة فجأة وقال: - آها ياست بهية.. نقطع الدين القديم ؟!!؟؟ هنا استيقظت بهية فجأة وبدأت تصيح في وجهه: آدي المصيبة.. دي قروش البيت!!.. الا .. المعيز الناجية من مذبحة الذئب في حوش "محي الدين ستسدد الدين إذا تأخرت الحوالات القادمة ياحاج الله يفتح عليك!!..
أومأ التاجر بالموافقة وطفق يجمع لها طلباتها: زيت للزينة، مسلي، حنة، رطل من "التلي" وهو نوع من التبغ المحلي كانت تستعمل كتمباك وهو نصيب الحاجة الكبيرة "صفره شيخ" أم زوجها..
مرت الأيام و"عبد الرحيم الطياني" يرفع "السريقة" تلو الأخرى ثم يتوقف بأوامر "شاطر" إذا توقفت الحوالات ثم يعود للعمل مرة أخرى حتي جاء ذلك اليوم الذي توقف فيه العمل تماماً ولم تعد تجدي مجهودات بهية وإخواتها في مساعدة "الطياني" في الرفع والعجن ليقللن من آثار ضعف التمويل .. - ارسلي تلغراف واستعجليه يا بهية، عبد الرحيم لديه أشغال أخرى هكذا نصحها التاجر وزاد عليها: أنا عارف العنوان: دكان حسن صادق الدخاخيني الزمالك شارع البرازيل من هناك يرسلوا ليه في أبو المطامير.. بهذا الاستباق لم يترك لها التاجر أن تطلب منه تمويل الجزء الباقي من المنزل حتي تصل حوالة جديدة!!.. وعندما زمت شفتيها غير مقتنعة بالنصيحة قرر أن يتخلص منها بإثارة مواجعها وقال لها ضاحكاً: وجد زوجته المصرية ونساك يا وليه. لم تستطع أن تبتلع أعماقها الفائرة بالغيظ إلا بالخروج من الدكان باحثة عن نسمة هواء، ولكن لاح لها فكرة فلتذهب الي بنت خالها "حميدة" وقد كانت أقرب أهلها من مكان الدكان وقد كانت فوق ذلك حلوة الحديث.
- بختك يا بهية "انّسي" سمعنا أنك موعودة بزيارة مصر !! ستزورين "شريفة" في حي عابدين، و"عبد المجيد" في بولاق الشارع الجديد، و"جمال" في السيدة زينب. أما إمبابه والمعادي ومصر الجديدة والاسكندرية وغيرها أهل البلد مليانين.. ثم صمتت قليلاً قبل أن تسترسل في نبرة حزينة: ياعيني علي أخيك "احمد" لقد ضاع هناك مع "صباح" الخادمة المجذوبة . عندما أحست الضيق في وجه بهية، وقد كانت في الأصل لا تريد المزيد من الأحزان أرادت أن تدخلها مرة أخرى في أجواء مصر الفرايحية، وبدأت في حكاوي جديدة أيقظت همها مرة أخرى. بدت أكثر نشاطا وهمة وراحت تنظر في أختها في خدر عميق وهي مستغرقة في نسج الحكايات وقد كانت "حميدة" أكثر نساء القرية ثقافة وعلماً. كانت تجيد التحدث بالعربية وقد كانت لهجة ذات نكهة صعيدية بقيت معها من أيام صباها في جنوب مصر، تقرأ القرآن وتعرف الكثير عن الشيوخ والأولياء وقصص الجان والغيبيات!!.. في مجلس أختها استردت روحها وسرت في عروقها رعشة غسلت أحزانها!!.. عادت تطلب دارها في جنوب "سره" وهي في الطريق جاءتها بشارة: "جمال باركة" امام منزلك ياحجه بهيه.. هكذا بشرها "عبد العزيز" وهو في عجلة من أمره.. "جمول وبنسيره" أمام منزلها وهما من الابالة الذين كانوا يحملون البضائع للمسافرين في الحدود السودانية المصرية وهم من شباب قرية "فرص" الحدودية .. - بلاص عسل، وصفيحة تركينج، وطرد صغير.. أوضح لها "جمول" وهي واقفة أمامه مبهوته.. - هذه الأمانة استلمناها من الشيخ "أحمد أبوالقاسم" في قرية بلانة المصرية وطلب منا أن نسلمها لاهل منزله .. - سألت: هل ترك زوجي أبو المطامير ورحل الي جنوب مصر؟!!.. - والله يا وليه أنا ما بعرف شئ!!.. الحصل هو ما قلناه لك كل الذي قاله لنا أن هناك حوالة سترسل مع التاجر "قرقوده" في سوق وادي حلفا، وعليها أن تنجز بناء غرفة واحدة وترحل فيها وتصبر حتي يفرغ من استلام عمله الجديد كشيخ غفر في جناين بلانه الحكومية!!..
يتبع/....
| |

|
|
|
|
|
|
Re: روايه نوبيه (من يوميات امرأة كادحة) (Re: خليل عيسى خليل)
|
علي باب الدار كان ينتظرنا الرجل وعلامات الترقب والانتظار والتلهف مازالت عالقة على محياه. تدخل بهية الدار كأنها عروس تحملها الزفة في ثوب زفاف!! لا كامرأة خشنة مرهقة، شعثاء، غبراء، قطعت الساعات الطوال في هجير الرمال الحارقة!!..
أوجاع الجذور طرقات عنيفة على بابها الخشبي بطريقة لم تتعودها من قبل، اتجهت للباب الذي لم يكن مغلقاً وهي تحادث نفسها هؤلاء ليسوا ضيوفاً.. كان الضيوف وأبناء السبيل ينزلون المضيفة جوار المسجد ويرسل لها أهل الحي باعتبارها سدينة المضيفة فتقوم بواجباتها.. جاءها الخبر كما توقعت. دخلوا الدار دون إنتظار ترحيب أو إستئناس وطففوا يطوفون على الأسقف والجدار ويمشي خلفهم "إفندي" يسجل إملاءاتهم: سيقان نخيل.. قش.. جريد.. طين ورمل وجير محلى.. عندما فرغوا من الطواف إنتظروا حتى حضر عمدة القرية. - الراجل وين يا ولية؟.. - يعمل في قرية بلانة المصرية..
سألها: اسمو منو؟ ثم سرعان ما استدرك الأمر موجهاً السؤال للعمدة!! وبدأ العمدة يستجوبها: يسألك عن الأولاد وكم عددهم؟!!..
بدأت أعماقها تفور بالغيظ. لم تتعود أن تذكر إسم زوجها ولا تفكر في عدد أولادها. لم تشف غيظها إستدراكات العمدة.. ما شاء الله الصلاة على النبي!! ولم تتعود أن ترفع صوتها على الرجال وخاصة داخل حوشها ولكنها إمتلأت إحساساً بأن اقتحام هؤلاء منزلها نذير شؤم له ما بعده!!.. لم تنتظر طويلاً لتفهم وخاصة عندما انتشر على الشفاه اسم (إبراهيم عبود) النساء سعيدات به فهو أول حاكم يغزو وعيهن، فهو هناك رمز للحكم والسلطان، أما الرجال فقد كانوا ناقمين عليه باعتباره جالب الخراب لبلاد النوبة.. سيهجر النوبيون إلى أصقاع بعيدة لم يسمعوا عنها من قبل.. أكثرهم ثقافة كان يردد إسمه صحيحاً (خشم القربة).. بدأت تجمعات ليلية في مندرة العمدة حول جهاز راديو ضخم أهدته الحكومة للأهالي للإستماع إلى البيانات العسكرية والقرارات الحكومية.. تقطع بهية الكيلومترات لتستمع بهذا الصندوق الضخم الذي تخرج من جوفها أحيانا أغنيات الفنان النوبي صالح ولولي: عبود ريسنا يا سلي النبي فرص حدوددٍ كيل يا سلي النبي والمعنى: فرحتنا بحكم عبود للسودان كفرحة المتفائل بالنبي محمد!! وحدودنا إلى فرص
وتيرة الأحداث والتغيرات بدأت تشتد على مدى شهور معدودة. فلم يعد هناك فرح مطمئن ولا حزن مقيم. الساحات التي ظلت خالية على مدى الأزمان امتلأت بعربات الكوامر واللاندروفرات الحكومية التي تحمل موظفي التعداد والتعويضات وعمال الشحن. شيئاً فشيئا تبددت سحب الحيرة في وعي بهية، وخاصة عندما كانت تحضر المحاضرات التي كانت تعقد في الخفاء للمجموعات النسوية الصغيرة، فتاة متعلمة من بنات "أرقين" كانت تقول لها: ستتركين دارك التي بنيتها بشق الأنفس وستغادرين هذه الحواري والدروب التي كانت تقودك لشاطئ النيل بين ظلال النخيل. لن ترى طينة الجروف التي طالما ذقتم حلاوتها أثناء الحمل والولادة!!.. لن ترى هناك في "خشم القربة" نيلاً ولا نخيلاً سوى العُشر والسنط وهوام الأرض من عقارب وثعابين.
أثارت هذه الفتاة مخاوفها كما فعلت تلك التي جاءتهم من قبل من حلفا دغيم!! ولكنها أيضاً لا تنسى مقاطعة إمرأة مصرية للمتحدثة وكانت قد حضرت مؤخراً مع زوجها الذي جاء ليأخذ نصيبه من الميراث الذي ظهر مع أموال التعويضات: لا.. لا.. انتو غاوين فقر!! ستتغير أحوالكم .. ستركبون العربات والقطارات وستزرعون المساحات الواسعة بدلاً عن هذه الأشبار والقراريط!! ستخرجون بالفعل من ظلام التخلف والقرون إلى الكهرباء والتمدن والحضارة.. إنقطعت هذه المساجلات والحوارات التي كانت بالفعل جديدة على جوها الفكري، عندما تم طرد الفتاة المثقفة خارج القرية.. تعلمت من الفتاة التي كانت تعارض التهجير التفكير في المصير وإيقظت المصرية (البيضاء) تطلعات لم تكن ضمن طموحها.. أصبحت كتلة من المشاعر المتناقضة: خوف ورجاء .. تبلد ودهشة.. همة واكتئاب.. وبدأت تحادث نفسها بصوت مسموع: - من سكو وونور (ما الذي جرى لنا يا الله)..
فجأة هبط عليها زوجها ووجدته يتوقف بحماره الفاره الذي كان ينوء ظهره بخيرات مصر.. ولكن هذه المرة لا أهازيج ولا فرح ولا تجمعات استقبال.. استلم مكافأة سخية من الحكومة المصرية وترك العمل هناك ليستعد مع أهله للهجرة الى شرق السودان. لم تعد للأموال قيمة، فقد امتلأت الجيوب بالأوراق النقدية، وقد احتاروا أين ينفقونها وماذا يفعلوا بها!!..
آثرت بهية الإنزواء في دارها هاربة من الأحداث.. ظلت زهاء العام أو دونه بقليل تتابع الأخبار من ما يحملها لها زوجها.. ظلت كذلك حتي ذلك اليوم الذي جاء زوجها وهو يكمل النذير: - جل جدغوسن وو حجة!!! (أصبحت قضية التهجير فوق رؤوسنا يا حجة)!!
اشتد توترها وأصابها ما يشبه الاختناق. خرجت من دارها باحثة عن نسمة هواء ولكنها ياللهول وجدت نفسها في عتبة الباب أمام مجموعة من عمال صعايدة.. يجرجرون خلفهم بالات كبيرة من الشوالات يصحبهم "افندي" يحمل جرادل به أحبار ملونة وفرشاة!!
ثلاث بالات هنا: أربعة عناقريب جريد، صندوق خشبي أحمر، وآخر بني اللون، لحافين ومرتب، وعدد من البطاطين يمكن حملها في عربة المسافرين..
لم تستطع بهية أن تواصل الاستماع لأوامر "الإفندي" لأنها تراجعت إلى ركن معتم في المنزل كانت تلجأ اليه أثناء إجراء طحن الدقيق.. جلست فوق أحجار رحى وطفقت تجتر الصور التاريخية في ذاكرتها وهي تبحلق علي الصندوق الأحمر الذي أصبح الآن تقلبه سواعد العمال.. هذا الصندوق هو كل أمتعتها التي حملتها معها، عندما دخلت هذه الدار في أغسطس عام 1936 أهدته أمها لها ويبدو أنه قد ورثتها هي الأخرى، وعمر الصندوق في حدود التركية السابقة.. إنقطعت هواجسها وهي تقفز من مكانها إثر أصوات ارتطام صدرت من الغرف الداخلية لم يساورها شك بأنهم حطموا إحدي "القسييات"، و"القسي": أوعيه فخارية ضخمة تشبه الأزيار ولكنها مصنوعة من الطين والقش كانت تستعمل كأوعية حافظة أو للتخزين. كانت في أجوافها تمر النخيل الجاف وأطباق الخوص والأصباغ (التفتة) وفي قاعها كانت تحمل الرماد لطرد السوس !!.. وهي مهرولة إلى داخل الغرفة صادفها علي الباب سحابة مظلمة من الرماد تسببت في قطرات دموع ترقرقت، ولكنها عندما أحست بتلك القطرات الحارة من الدموع انفجرت باكية وهي تندب حظها وتاريخها ومصير قومها.. وعندما اجتمع حولها العمال ساخطين عليها، بدأ اطفالها يتصايحون معها !! استغرقت في نحيب ممتد كأنها لا ترجو منها إفاقة. حملوها إلى المضيفة وقد كانت خالية من الأساس والسكان ووضعوها مع أطفال الحي الذين كانت تحرسهم إمرأة طاعنة في السن.. ظلت ملقية هناك -فلا أحد يملك وقتا للانشغال بها- حتي ضحى اليوم التالي. أفاقت تبحث عن أطفالها فقيل لها أنهم سبقوها مع أطفال الحي إلى مشرع العمدة في حي "امبراي" في جنوب "سره غرب". أما أغنامها فقد تم تسفيرها أيضا في قطار الحيوانات!!.. والكوامر الحكومية تنقل أهل الحي بيتاً بيتا. دلفت بهية إلى منزلها للوداع الأخير ولكنها وجدت أشياءها مبعثرة وخاصة تلك القابلة للكسر كـ "الطاجين" و"السكي" و"الديو" وكثير من الصحون الصيني. دخلت الغرف الخالية فوجدت "القسيبات" قابعة في الأركان المظلمة كأنها تنظر إليها وتستنجدها لتفعل شيئاً .. لغة الاشياء لها القت في روعها رعباً لم تستطع أن تتحمله. خرجت مسرعة ولكنها تذكرت طيورها الداجنة، لا تملك الوقت لأخذ شئ ولا لإنقاذ الدجاج وصغار الفراخ ولا حيلة لها فستتركها حتما طعاماً للذئاب والكلاب الضالة.. كل الذي فعلته فتحت برج الحمام لتطير خارج صفائحها الصدئة التي ظلت فيها طوال عمرها.. وهي تنظر إليه بحسرة ركت فوق الجدران غير بعيد وظلت تنظر إليها كأنها غافلة من مصيرها!!.. سمعت أصواتاً خارج الدار تلح عليها لتخرج، الناس في الكومر الحكومي في انتظارها وقطارات المهجرين محكومة بزمن.
لم تستقيظ من هواجسها إلا عندما دخل عليها زوجها هائجاً ودفعها إلى الخارج حتي وقعت مصطدمة بعتبة الدار الداخلية.. رق لحالها وتركها وخرج.. قامت في الحال ونفضت الغبار عن جرجارها الأسود، وأصلحت حالها وكأن شيئاً لم يكن.. تقدمت إلى الزير وشربت ثم وضعت (الكوز) الصيني الأبيض فوق غطاء الزير، ثم عادت للـ "تُدي" وبحثت عن مفتاح الدار الخشبية الضخمة.. وعندما خرجت للناس وهي تغلق الباب كمن تتطلع للعودة انفجرت النساء باكيات، وتحولت نظرات السخط لدي الرجال إلى عطف واشفاق!! أما هي فلم تشاركهن البكاء فكأنما تصلبت أحاسيسها وجف دموعها ولكنها ألقت بنفسها داخل الشاحنة الحكومي، واستسلمت للمصير المجهول..
| |

|
|
|
|
|
|
Re: روايه نوبيه (من يوميات امرأة كادحة) (Re: خليل عيسى خليل)
|
في قطار التهجير القرية كلها بكامل نجوعها وأحيائها تم حشرها في عربات قطار طويلة ستتحرك ضحى اليوم إلى السودان.. وضعوا الناس طبقاً لترتيبهم السكني، ففي العربات الأولى بدأوا بالأحياء من الجنوب إلى الشمال: "اريان"، "بريسي"، "امبراي"، "أسي امبي"، "كرفه"، "اسكليقر"، "عدلان إركي"، "آرب إركي"، "هرماسن".... أجلسوها مع زوجها وأطفالها في عربة حي "كرفه" تكومت في ركن قصي وهي تحملق في الغادين والرائحين داخل وخارج العربة الحديدية وجوارها معطف تحمل في جوفها كل أطايب المعلبات وبسكويت الأطفال. هبطت عليها من إعانات ومنح الحكومة وصدقات التجار التي كانت تسمى (منح المنكوبين).. لم تتعود في حياتها قط أن جلست بمثل هذه الطريقة تتلقى الطعام والشراب. استيقظت بهية من هواجسها تلك على صوت توفيق الطباخ الذي كان يحمل جردلاً من الملاح ومغرفة كبيرة يلوح بها لتنبيه الجالسين لأخذ نصيبهم. - عفشك وين يا خالة بهية.. صحن أو حلة أو أي وعاء؟..
ارتبكت لأنها لا تحمل شيئاً مثلما فعلت الأخريات اللاتي ذبحن طيورهن المنزلية وحملن أشياءهن حتى تلك التي منعتها الحكومة!!.. كان الطباخ في عجلة من أمره، لهذا طلب من الأخريات مساعدتها، يا "حجة طه".. "هانم هيره".. "هجلة انسي"، "أشه همد".. إدونا صحن زيادة عشان بهية!!.. دوت صافرة القطار فجأة إنتبه الجميع واشرأبت الأعناق خارج النافذة ليستطلعوا الأمر.. والكل كأنه يتساءل: ماذا بعد؟.. لم يستمر الإنتظار طويلاً، بعد بضع دقائق بدأت القرية تهتز لأول مرة في التاريخ. عربات القطار بدأت في الزحف بين أمواج متلاطمة من البشر جاءوا كمودعين أو للفرجة من "سره شرق" والقرى التي تنتظر دورها كقرى "دبيره" و"اشكيت" و"أرقين" ومدينة وادي حلفا.. عادت المخاوف القديمة ولكنها الآن أضعف قليلاً من ذي قبل. هدأت توترات بهية وهي تلاحق الصور المتحركة حول القطار.. الأبنية الطينية والنجوع التي تعج بعربات الحكومة والعمال والتجمعات القلقة في "دبيره" و"اشكيت". عادت القاطرة تبطئ في سرعتها وهي تودع (نيل وادي حلفا) عند سلاسل "اشكيت" الجبلية التي نزلت النهر كأنها تلثمه. وذلك عند جبل الصحابه.. بعد اجتياز محطة وادي حلفا وسندة دغيم توغلت القاطرة في صحراء غبراء ممتدة، لا شيء خارج النوافذ سوى السموم والغبار والمناظر الرتيبة.. عقب فترات من النعاس والخدر والسأم بدأ أهل الحي ينتبهون إلى بعضهم البعض وبدأت الشفاه تتحرك. وكلما اهتزت العربات على الوسائد الحديدية تحتها تصرخ خميسة الكثرية: "هيبو هيبو".. "ادي بسمار".. "ادي قرقيد"!! كلها عبارات تعبر عن الخوف والفزع.. تجربة لم تمر بها من قبل. يضحك الجميع فقد عبرت عن مخاوف الكثيرات مثلها، وقد يريد آخر أن يروح عن نفسه بعد ساعات طويلة من الترقب والحيرة والوجوم!! على لسان "خديجه ايسى" وهي إمرأة طاعنة في السن جاءت تزورهم من عربة حي آخر، يأخذ الحديث منحى آخر. دخلت عليهم وهي تردد "جستورك" يا "صالح سماني ابو خطوة ويا احمد ابشور". أولياؤنا قالوا كلامهم من بدري ومضوا تنبأوا بطوفان عظيم سيجتاح بلادنا وقالوا سندفن في أراضي غريبة عليكم..
قاطعها أحد الأفندية من المارة تفاءلي خيراً يا ولية.. أنت إن شاء الله إلى "خشم الجنة"!! وهذا كلام أحد شيوخكم. نظرت إليه باحتقار وسارت في طريقها وهي تردد: "يا سكرات الشوم"!!.. وهذا من عمال "حسن فكّي". تقصد الحاكم العسكري ومعتمد الهجرة والفكي: هي بقايا الأقمشة القديمة المهترئة!!.. رغم حسراتها البليغة تلك لم تجد من يتعاطف معها بل وعلى العكس من ذاك عقب أحد الجالسين على كلامها بكثير من اليأس والقنوط (نحن ولاد اليوم يا حجة) هذا المتحدث كان يعمل سفرجياً في سرايا الحاكم العام في الخرطوم حضر مؤخراً لأسرته!!..
الفجر الكاذب إشتعلت الثريات داخل عربات القطار مع دخول الظلام.. - مصر أم الدنيا يا زمن!!.. هكذا انتفض أحدهم عندما داهمته ألق الأضواء.. الإشعاعات النافذة خارج عربات القطار المسرعة والمترسمة على الأشياء المتحركة في الخارج، أيقظت في أعماق المنكوبين دفقات من الفرح على أثرها تشكلت دواخلهم طبقاً لمتطلبات أدبيات الرحلة والبرامج المعدة سلفا من الحكومة!!.. المصير الذي كان مجهولاً ومحيراً من قبل أصبح الآن مقبولاً بل مطلوباً.. استيقظت بهية مع ساعات الفجر الأولى علي أثر أصوات وحركة غير عادية في العربات المجاورة. استبينت فوجدت أن الدعوات والزغاريد صدرت من عربة مستشفي الولادة. باستيقاظ الجميع إنطلقت التساؤلات: من هي صاحبة هذه الزغاريد؟ أخذن في استذكار أسماء النساء اللاتي كن في شهورهن الأخيرة أثناء التهجير: "شريفة صالح"، "طهره نسله"، "زينب جليله" وأخريات. تأكد الخبر "طهره نسله" وضعت طفلاً ذكراً .. وأحد الموظفين يسأل عن زوجها جمال صالح!!..
إذن هذه الولادة مدعاة للتفاؤل والناس تبحث عن الفرح وتفتقت في أعماق الخائفين دوافع سعادة جديدة بدأت تتفتح مع ظهور القرى الطينية في أحضان النخيل.. عادت القاطرة البخارية تمشي محاذية لضفاف النيل الخضراء بعد محطة أبو حمد. انتفضت بهية واقفة بهمه ونشاط، غاب عنها منذ أيام مضت.. وانضمت للمهنئات اللاتي عليهن إجتياز عربات كثيرة حتى يصلن لعربة المستشفي. تساءلت إحداهن: ولكن كيف نزور إمرأة (تو دسي) بأيادي خالية من هدايا. مثل: حفنات من القمح أو الذرة أو عصيدة حلبة أو "جوز حمام"؟.. ردت أخرى: مثل هذه الخيرات لم تعد لها فائدة الآن يا أختاه والحكومة وهي (تبلبص) في المهجرين وفرت لهم ما كان لا يخطر على بالهم.. وأضواء الفجر الكاشفة تغمر عربة القطار ذات الطلاء الأبيض، دخلن على "طهره" مهنئات.. عادت بهية لمجموعة من النسوة كن يرددن الدعوات أثناء المخاض الذي ظل متعسراً على الأم الوالدة شيء ما في دواخلها دفعها إلى الإنخراط معهن وهن يغنين هذه الإيقاعات الحزينة: "طهره منق فرقي نوردتون خلاصك فرقي".. المعنى: ماذا تريد "طهره" سوى أن يكتب الله لها الخلاص من آلام المخاض.. ورغم أن "طهره" كتب لها الخلاص بنزول طفل ذكر مازالت النسوة يرددنه. كأنما أردن بهذه الإيقاعات الحزينة طلب (الخلاص لأنفسهن)!!..
في اليوم الأخير من شهر شعبان في منتصف يناير 1964 بعد قضاء ليلتين في الطريق. هبطت قرية بهية بقضها وقضيضها أرض البطانة.. وصلوا الوطن الجديد والشمس في طريقها إلى كبد السماء بعد أن قطعوا ما يقارب الألف والستمائة من الكيلومترات منتقلين من خط عرض 22 درجة شمال إلى خط عرض 14 درجة شمال خط الإستواء. خمس درجات شرق خط الطول 30 درجة..
جموع حاشدة من قبائل البطانة وموظفي الحكومة وبعض من سبقهم من المهجرين. أجلسوهم في مقاعد مرصوصة في صيوانات ضخمة حولها مواقد ضخمة انضجوا عليها أطايب الطعام. وبدأت من هذه المقاعد عمليات تنظيم ترحيل الأسر بيتاً بيتاً.. هرولت بهية وهي تجرجر أطفالها الحيارى تجاه الكومر عندما سمعت إسم زوجها عند الرقم: (منزل رقم 8 بلك 24/ آل أبو القاسم القرية 2 خشم القربة).. انتابتها دفقة من فرح ممزوجة بخوف قديم وهي تدخل الدارالجديدة، ذات الطلاء الأبيض والبناء الهندسي. أربع غرف بأبواب حديدية مدعومة بغطاء من السلك الخفيف ليمرر الهواء ويمنع الذباب!!.. هذه الأسلاك لم ترها من قبل إلا في أعقاب "غرابيل الدقيق". تقدمت قليلاً لتجد في الحوش الخلفي، البالات الثلاث التي حشاها العمال الصعايدة بعفش منزلها في حلفا القديمة.. كم كانت سعادتها عندما دخلت إحدى الغرف ووجدت أغنامها بلحمها ودمها تشرئب بأعناقها مرحبة بها، وقد تدلت على أعناقها أوراق تحمل أرقاما. وهي مستغرقة في دهشتها تلك دخل عليها عمال يحملون حزمة من الحطب وزجاج جاز أبيض وعلبة كبريت، ثم فيما بعد دقيق وسكر وشاي!! وقالوا لها أنها على أعتاب شهر رمضان وهناك منحة من الخضروات الطازجة ستوزع، وعليها أن تبحث عن نصيبها...
هكذا ظلت المنح الحكومية تتوالى قبل أن تتوقف فجأة مع توزيع الحواشات. انخرطت بهية في خفة، كمن ولدت من جديد وهي تجلب المنح الحكومية لمنزلها من مكان التوزيع جوار مسجد القرية. ومع مذاقات العنب الجاف (الزبيب) والفواكه المعلبة واللبن المجفف المهداة من هيئة التغذية الدولية، استطاعت حكومة عبود أن تخرق مكاناً في وجدان المنكوبين!! لهذا عندما سقطت حكومة عبود في ثورة أكتوبر 1964 لم تعدم من يدافع عنها وسط المهجرين، وخاصة من بين صفوف النساء، وهناك من الرجال من بحث لعبود عذراً حينما ادعوا أنه ما كان لحالنا أن يسوء لو ظل عبود في الحكم. هذه المواقف (الغريبة) من عبود الذي على يديه انعقد الخراب في بلاد النوبة، كانت بالطبع محاطة بكم هائل من الكراهية والسباب. الفنان النوبي "ولولي" كان رائداً في هذا المجال بعد أن انقلب على عبود وزمرته عقب أكتوبر. هذا التوهان الفكري والسياسي لم يكن يهم بهية فلم تعد تهتم بهذه الترهات وأمامها الآن لجان توزيع الحواشات، لتبدأ مشواراً جديداً مع الأرض.. ولكن أي ارض! لم تجد معني لهذا السؤال إلا بعد عشرين عاماً. عندما أفاقت عقب انحسار سنوات الرخاء!!!..
| |

|
|
|
|
|
|
Re: روايه نوبيه (من يوميات امرأة كادحة) (Re: خليل عيسى خليل)
|
عاشقة الحواشة
رغم أنها كانت علي علاقة قصيرة العمر إلا أننا كنا نجد أنه بين بهية (صاحبة اليوميات) والحواشة عشقاً عميقاً.. لم تكن في وعيها مجرد أرض تدر عليها المحاصيل بل كانت رمزاً للتواصل بينها وبين زوجها وبين أبنائها، بل استطاعت أن تتغلغل في سنوات لم تتجاوز العشر في كيانها فقد كانت استحوذت علي دواعي عشقها، فلم تكن تتحدث عن شئ إلا عنها ..
كان هنالك نوع من التناغم والإنسجام بين أطراف (الحساب المشترك) في مشروع خشم القربة وهم في الأصل ثلاثة: مؤسسة حلفا الزراعية، وبهية عبد السيد، والحكومة! وهناك حواشات الفول والقمح كانت قد تركت للمزارع كحوافز يمتحن فيها قدرته في جلب المعاش !!..
كانت بهية أكثر الأطراف وفاء فهي لم تكن تعلم شيئاً عن الحساب المشترك، وأين يذهب الإنتاج وكيف يتم تسويقه.. كل الذي تعرفه أن تزرع، وتروي وتحش، وتجمع المحصول.. ربما لهذا رهنت نفسها تماما للحواشة وعندما قامت كل الأطراف بواجبها طفحت الرفاهية علي شكل جمعيات استهلاكية ضخمة لموظفي وعمال المؤسسة الزراعية .. مع دعاش الصباح تستقيظ وتشتعل الدار حركة.. كل مستلزمات الحواشة رقم 18 نمرة "الجبل" في التفتيش الاول القرية 2 تم إعدادها..
كنت أصحو ضجراً وأنا أقاوم أثقال النوم عن جفوني، وبخطى متثاقلة كنت أنا الذي يغلق باب الدار بعد ما يذهب الجميع.. أما هي فتكون دائماً قد سبقتنا إلى هناك بعد أن تركتنا وضمائرنا !!.. مع بزوغ الشمس نكون قد مررنا بحواشة "حجة كروسة" و"أدول" مع أشعة الشمس الذهبية التي تناثرت علي الخضرة اليانعة، ومع صوت "حجة كروسة" يغادر الفوج الأخير من (النوم) جفوننا. كانت دائماً في حوار مع ذاتها بالصوت العالي وما كان يهمنا محتوى الحديث ولكن الأهم شخصيتها المتميزة وتلك (الخصوصية) التي تركتها بقايا العز القديم!! .. ضفائرها الطويلة.. بشرتها الكاكاوية.. ثقتها بنفسها.. بقايا دماء تركية تتعارك مع السمرة النوبية. "حاجة كروسة" رغم كبر سنها كانت تحمل هذه (الخلطة الخلاقة) من الدماء.. ساخنة وما كانت تدري شيئاً عن مؤهلاتها سوى أنها كانت تحرس كبرياءها بلسانها الحاد. هذه هي الجرعة الصباحية التي كانت توقظ إحساسنا بالحياة لنقاوم الحياة الشقية في الحواشات، دائما ما كانت "حجة كروسة" تمنعنا من السير علي حافة الجدول، ولكن يا ويلنا من أحراش (العدار والتباس) إذا غيرنا طريقنا إلى حواشات الموظفين المهملة..
هذه الأحراش من النباتات الطفيلية كانت تحدث في جسومنا لسعات حادة وخاصة عندما تنسكب قطرات الندى الصباحية فوق الجروح، ولكنها كانت من جهة أخرى تهيئنا للجروح التي تنتظرنا من أخطاء ضربة (الكندكة) وهي آلة كانت تستعمل في إزالة الحشائش ..
هذا الجهد الشاق كان ينتهي بنا إلى نمرة "الجبل" لنجد هناك بهية قد سبقتنا وأنزلت كل مؤن الفطور من صرة الطعام التي أعددتها قبل أذان الفجر، وترامس الشاي، وشرائح من القرقوش الجاف أو "المنين" المحلى بالسكر لأننا لم نجد مذاقاً أشهى لهذا الطعام في غير هذا المكان. كنا لا نصبر حتى يحين ميعاد الفطور..
علي حافة الجدول "أبو عشرين" كانت بهية قد أعدت "راكوبة" من القش لتأوي إليها حين يشتد بنا حر الظهيرة، خلف هذا الكوخ كنا نلتهم خلسة بعض اللقيمات قبل ميعاد الفطور، ولكن عندما نجدها منهمكة علي "الحش" بين "السرابات" دون أن تنوي على شئ يدفعنا عذاب الضمير لنعود إليها ونعمل معها حتي تميل الشمس للغروب ..
كنت أسعد الناس بيوم (السلفية)، على عكس ما كان من أمر يوم الحواشة.. كنت أصحو مبكراً ومتفائلاً.. سأذهب اليوم (لسكشنِA ) في مكتب التفتيش الأول لصرف سلفية "الحش" .. كنت أصغر المزارعين عندما يأتي دور الحواشة رقم (18) نمرة "الجبل" كنت أتقدم للصراف حاملاً ختم صاحب الحواشة .. عتبة عالية من الرخام كان يجلس عليها الصراف.. لم أكن أستطيع الوقوف عليها إلا بمساعدة كبار السن (خمسة جنيهات) ويا لها من أموال كانت تجلب الخير الوفير !!.. ونحن نلقي بحبات الفول السوداني كانت تحلم.. وقد ذاقت سنوات الرخاء بإقامة حفل عرس في دارنا.. وهي مدفوعة بلذة هذا الحلم تمت الزراعة والري والحش وجمع المحصول.. وكلما اقترب الحصاد ازدادت بهية نشاطاً حتي أنزلت من محصول الفول ما يقارب المائة والخمسين شوالاً.. بعد الفحص والغربلة والإدخار سلمت زرائب المحصول في حلفا الجديدة ما يقارب المائة شوال.. ولكن عادوا إليها بأنباء الدفع المؤجل وبدأت الدهشة تعلوها: (كيف الحكومة ما عندها قروش)!.. لم يكن يهمها - وقد كانت محقة - من المسئول؟ (المالية، المؤسسية الزراعية، شركات الزيوت، السماسرة). انتظرت ستة أشهر وهي تنتظر صرف المبلغ وهو (375) جنيهاً وقد كان كافياً للصرف علي (العرس).. فقدت صبرها عندما كاد أن يتبدد الحلم تماماً، واضطرت لتستدين من التاجر برهان (وصل الاستلام) حققت حلمها ولكن بقيت في الحلق غصة!!..
بداية الأوجاع
في إحدى الجولات تركت كل ما كانت تحمله في الحواشة.. وسافرت بملابس الحواشة إلى مكتب التفتيش، ولم يكن معهوداً أن تقوم النساء بقطع كل تلك المسافة التي تبلغ العشرة كيلومترات.. راحت تشتكي إلى المفتش تقصير خفير الماء في توزيع الماء علي الحواشات .. وجدتها عائدة من هناك وهي تجرجر من ورائها زميلة لها.. بدا عليها الإنهاك، كانت سعيدة كأنها أنجزت ما تريد ولكنها في حقيقة أمرها كانت فقط قد تخلصت من حرقة علقت في قلبها.. ذهبت صباحا كعادتها إلى الحواشة ووجدتها مخنوقة بالماء، ولم تظهر حتي رؤوس شتول القطن .. تسلل أحد الزارعين ليلاً وعندما لم يجد ما يروي به ترك السدود مفتوحة وفجأة ظهر الماء وأغرق اليابس والمروي !!.. ماذا سيفعل الخفير إذا فقد سيطرته علي مناسيب الماء، وماذا سيفعل المفتش إذا فشلت المؤسسة في الإيفاء بديونها لمؤسسة الري والحفريات .. ومن أين ستأتي وزارة الري بالماء من خزان يئن بالاطماء؟!! من المسئول ؟! هل حكومة نميري التي سحبت الدعم من الخزان الملحق في "ستيت" أم حكومة عبود التي فشلت في تنفيذ المواصفات الفنية المطلوبة ؟!! أم المؤسسة الزراعية ووزارة المالية اللتان فشلتا في الإيفاء بالمطلوب؟ أم كان المسئول ذلك الذي تسلل ليلاً مترجماً الهلع الذي أصاب المزارع من كثرة الأزمات ؟..
سلسلة طويلة من الأسئلة والتساؤلات أخذت بعضها برقاب بعض.. لم تكن بهية مهتمة إلا بسؤال واحد بسيط: أين تذهب ضريبة الماء التي ظلت تدفعها في زيادة مطردة ؟ .. كانوا يدفعونها رغم أن عدد الريات المقدرة فيها اثنتي عشرة رية والمتاح في الواقع الحي ست او خمس!!..
لقلة عدد الريات المتاحة بدأت تصارع الرجال في الجدول وهناك غرباء تم استئجارهم وإشراكهم من أجل القيام بهذه المهمة!! كيف تصارع غريباً لا يعرف عنها شيئاً ولا يرع شيخوختها؟ كلما اشتدت الأزمات يكشفون ظهر المزارع لقانون السوق.. لم تكن تأبه لكل هذا لأنها كانت قادرة علي الإنتاج لو تركت لحالها.. ولكن ظهرت أيضا سياسات جديدة للتسويق كانت إبنة شرعية للترهل الإداري في المؤسسة الزراعية وآثار التضخم .. نتيجة لهذه السياسات حدث إختناق في الأسعار وهبوط حاد في سعر المحاصيل وكان من جيب المزارع الكادح ..
استطاعت الحكومة أن تستر عورتها علي حساب هؤلاء مؤقتاً، ولكن ثم ماذا اذا جف الضرع؟ بدأ مصير المزارع يتدحرج في الهاوية كلما سحبوا الدعم من العلم والتكنولوجيا, توقفت مشورة العلماء بغياب الأبحاث الزراعية وإكثار البذور.. وقاية النباتات.. وغيرها .. تصلبت الأرض لغياب الهندسة الزراعية وبدأت تطفو علي السطح (شواهد الفقر) من أرض بور وأشجار مسكيت وأمراض وأوبئة كالملاريا والبلهارسيا والفشل الكلوي وخلافها ..
هذه الأزمات دفعت المزارعين ليهجروا الحواشات ويهربون من همومها باشراك عمال أجانب من خارج النسيج الإجتماعي المتناغم!. إذن دخل آخرون في الصراعات القائمة حول الموارد الشحيحة وقد كانت هذه الاحتكاكات مقدور عليها في النسيج الإجتماعي الواحد، ولكن مع الأزمة الإقتصادية بدأت تظهر محظورات أخرى من جراء غياب قيم (العشم) في القرابة أو سلطة المجتمع (بقانون العيب)!!..
نتيجة لهذه الشراكات الجديدة اتسعت دائرة (الكنابي) والصراعات الدموية وظهرت شروخ في كيان السلام الإجتماعي .. في هذه الاثناء أعلن صراحة عن عدم وجود ماء في الخزان!! لهذا تقرر إشراك المزارعين أنفسهم في نصف العدد الكلي من الحواشات، وترك الباقي بوراً!!.. إذن تقلصت المساحة التي استلمتها عام 1964م وبدأت التسهيلات تتساقط مع الأيام.. يتبع/...
| |

|
|
|
|
|
|
Re: روايه نوبيه (من يوميات امرأة كادحة) (Re: خليل عيسى خليل)
|
أوجاع المدينة
كانت الحواشة قد أصبحت في حياتها كل شئ.. بها كانت تبر زوجها وترعي أبناءها ومن خلالها كانت تمر علاقتها الاجتماعية، وفوق هذا وذاك كانت تغذي هواها!!..
تعلقت بها حتى كانت تزورها في شهور الجفاف لم تكن في ذاك وحدها بل معها أطراف أخرى، كالمؤسسة الزراعية ووزاة المال والري. ظهرت هذه الشراكة الخلاقة في سنوات الرخاء التي بدأ بها مشروع حلفا الجديدة. طفحت الرفاهية علي حياة العمال والموظفين وبدا ذلك واضحاً على الأندية السياحية والمركبات الفارهة والجمعيات الاستهلاكية..
هذه العاطفة التي كانت موصولة بالحواشة جعلتها تتعايش مع الأزمات المتراكمة كشح المياه وويلات الشراكات الجديدة بين العمال والمزارعين. كانت هذه الأزمات أمامها كأنها مؤقتة لم تكن تدري أن الرفاهية في مشروع حلفا الجديدة الزراعي بدون جذور.. لأنها لم تكن تدري شيئاً عن الأسباب.. ولم يكن مطلوبا منها لأنها في الأصل كانت قد أدت حقها في الشراكة. الأزمة كانت كامنة في البذور لم يحسوا بوجودها إلا بعد أن تلاشت غيبوبة (النقلة).. السلسلة بدأت بمجرد قبول وكلاء النوبة فكرة التهجير في بداية الخمسينات وخرجت إلى التوثيق في إتفاقية مياه النيل عام 1959م .. مواصفات الخزان لا تقبل التعلية ولا التعديل إلا بخزان ملحق في نهر "ستيت" على بعد أربعين كيلومتراً.
وانطلقت مضاعفات الأزمة إلى الآفاق عندما سحبت حكومة نميري ميزانية الخزان الجديد.. وأفرخت الأزمة مزيداً من المضاعفات عندما تعطلت التوربينات وبرزت مع الفقر مشكلة صيانتها وامتدت آثار الفقر واتسعت عندما فشلت الحفريات والري في تنظيف القنوات بحجة فشل المؤسسة في الإيفاء بالمتأخرات.
سلسلة طويلة من مضاعفات الأزمة تحرك بعضها كأحجار لعبة الدومينو!!.. لم تنتبه بهية صاحبة الحواشة رقم (18) نمرة "الجبل" في التفتيش الأول، لخطورة الموقف إلا عندما صدر قرار بإشراك مؤقت للمزارعين في زراعة القمح، وهم بهذا القرار سحبوا منها الحوافز القديمة، التي كانت تتمثل في زراعة الفول والقمح!!.. في هذه الأثناء بدأت تظهر الأموال التي تكدست في البنوك بالتضخم وهي تبحث عن عمل. والتي تجمعت فيخا بعد فيما سمي بـ (محفظة البنوك).. أموال هبطت كقطرات العطر علي (الفطيس).. فرشت (بحر سراب) أمام العطاشى ليتساقطوا في سجون البنك الزراعي وغيره بعد أن أصابهم الإعياء!!.. للمرة الأولى انتشرت أخبار ملاحقة الشرطة للمزارعين، أفراد المجتمع أصبحوا أمام بهية أحد رجلين: إما فقير أصبح لا يملك حتى تلك الشوالات من القمح التي كان يستر بها عورته أو مطارد بالديون..
أما أعمق ضربات الأزمة عليها كانت في: إنتزاع الحواشة من أعماق وجدانها، وقتل إحساسها بالتملك. فقد تمزق ذلك النسيج القديم الذي كان يربط علاقتها بالحواشة وبدأت مرحلة المخاض المرة ومحاولة التكيف مع أحزان الحواشة!!..
اشتدت عليها وطأة المأساة عندما بدأت الأزمات المتلاحقة تنزع الحواشة من مكونات وجدانها..
تلك الحواشة (الولودة) أصبحت الآن عاقراً ولا تلد.. وإن أنجبت فهي كأم الصقور فرخات معدودة، أعداد قليلة من الشوالات لا تفي أحياناً حتى حق الضرائب والزكاة. الريات الفوضوية قتلت خصوبة الأرض، الوابورات الروسية العتيقة التي كانت تقاوم صلابة التربة غابت عن الأنظار.. ميزانية المؤسسة الزراعية أصبحت مقصورة على ستر عورة الإدارة ورفاهية الموظفين..
أصبحت بهية الآن لا تملك حق الشكوى لغياب الخبير والمفتش. تعود من الحواشة لتقضي بقية يومها في نزع أشواك أشجار المسكيت أو في زيارات مرضى الملاريا.. لم تكن تدري معنى الإصطلاحات التي كان يلوكها المتعلمون وغير المتعلمين مثل: بيع السلم، المرابحة، الشراكة، محفظة البنوك، والحساب الفردي!!.. كلمات ومفردات لم تكن تأبه بها كثيراً.. ربما لا أحد يملك لها تعريفاً محدداً.. وإن وجدت من يشرح لها لن تجد في معانيها ما يمس مصالحها.. كل الذي تفهمه من هذه المصطلحات إنها أوراق نقدية تحمل الويل والثبور لمن يقربها في نهاية العام!.. تمويل لا فائدة منه في غياب مقومات الإستثمار.. ما معنى أن تلقي في حجري حزمة من أوراق نقدية وأنا مكتف بالملاريا محاصر بالمسكيت ؟!!.. كانت هذه الأخبار وسط (المفلسين) كالأغنيات التي كانوا يسكتون بها الأطفال الجياع. ولكن ماذا فعلت بهية؟!.. قامت بالضربة الأخيرة، قطعت ترددها وأشركت أحد العمال الأجانب في حواشتها، ثم بدت تلهي نفسها بحوالات المغتربين والتي لم تكن تأبه بها عندما بدأت تنهال عليها في أول الأمر..
استغرقت في غيبوبة الإستهلاك بديلاً عن أوجاع الحواشة وبدأت تلهي نفسها بالسجاجيد والملايات والبطاطين المزركشة وتدير توزيع الهدايا على الأخريات.. ولكن هناك حققت حلماً رائعاً بزيارة بيت الله ..
عندما خيم الظلام على (الحواشة) وأصبحت تحمل في بطنها أحراشاً من أشجار المسكيت، ومستنقعاً تعربد فيه أسراب من البعوض في الأجواء المظلمة والرطبة، حاولت بهية (صاحبة اليوميات) أن تبقي علي نضالها بممارسة (لعبة) التمويل، مع الشريك الجديد، فقد كانت لديها من بواقي حوالات الإغتراب ما يدفعها لتجرب الزراعة بالمراسلة.. اتخذت هذا العامل الشريك كأنه أحد أبنائها.. ولكن سرعان ما انكشفت صعوبة الإستمرار في هذه اللعبة لأن الحواشات أصبحت عبئاً علي دخل الأسرة الذي كان يتغذى من موارد لا علاقة لها بالحواشة، ثم هناك أمراً آخر هو أن الشيخوخة بدأت تدب في أوصالها قبل أوانها من كثرة مغالبة حمى الملاريا وأدويتها المهلكة!.. لهذا اضطرت لتبحث عن ملاذ آمن يخفف من وطأة الشيخوخة.. وحينما ظهرت علامات نضوب (معين الاغتراب) الذي بأمواله جربت الإستهلاك والتمويل، تلفتت ووجدت أن الناس قد بدأوا يتسللون لواذاً هاربين إلى ضواحي الخرطوم هرباً من الفقر والأوبئة والملاريا.. وعندما وجدت نفسها وحيدة وقد داهمتها الشيخوخة تركت دارها وحواشتها وبدأت السفر إلى الخرطوم!!..
في الخرطوم بدأت تتأمل حالها. وقد كانت الأمور في سياقها الطبيعي إذ لمست شيئا من (السياسة)، وكالتي بدأت تصحو لأول مرة طفقت تسأل.. ثم تنتهي إلى نتيجة أن مصر هي صاحبة المسؤولية في كل الذي يحدث لها ولقومها!!..
ولكن يبدو أن المأزق (المصري) القابع في الوجدان النوبي يعود يفرض نفسه على تفكيرها.. لانها تعود وتردد أغنية قديمة كانت منتشرة في الخمسينات والأربعينات تمتدح مصر وتعدد جمائلها على الإنسان النوبي!!..
وهذه الأغنية إذا جاز لنا ترجمتها كانت كالآتي: (مصر أيتها الرائعة العتيقة.. كم عاد منك اليتيم غنياً.. ورأى الصابون أبناء الجداول)!!!!.. وعندما أداروا حولها حديث هروب الصادق المهدي خارج السودان، كانت تسمع كأن الامر لا يعنيها ولكن عندما ضاقت من كثرة العساكر في محطات التفتيش الكثيرة على طريق البص تساءلت : (كيف هرب، وأين كان هؤلاء الناس الذين ضيقوا علينا الخناق)؟!!!..
إعتبروها نكتة وظلوا يرددونها ولكنها كانت ملاحظة جامعة وضعت يدها علي الداء دون أن تعلم شيئاً عن سر الدواء تعلمت في تراثها الإجتماعي، أن تحب في الإنسان إنسانيته، لهذا ترسخت في وعيها قيمة (العشم): أن تطالب من الآخرين عواطفهم كأنها حق من حقوقها.. من حقها أن تقاضيك إذا قصرت في إبداء الولاء. وتأخرت في زيارتها!!..
الصدمة الأولي التي واجهتها في مجتمع الخرطوم، عندما هبطت لأول مرة أن لوم العشم لم تعد له قوة التأثير في تقريب العلاقات الأسرية بين الأقارب!!.. هذه القيمة الإنسانية التي تربت عليها أصبحت قابلة للنقاش!! لم يعد أياً من أقاربها يزورها كما كانت تتوقع.
صور الحياة الجديدة التي بدأت تظهر مع الإنفتاح فرضت على أهلها نوع من العزلة النفسية، وذلك من كثرة الإنشغال بالنفس والطموح. معايير المصلحة انداحت دوائرها على حساب موضوع "العشم " القديم.. وجدت نفسها معزولة في حواري الخرطوم الضيقة، الزيارات وإن حدثت تحمل معها عواطف باردة، من يأتيها لا يعود إليها مرة أخرى لأنها تواجههم بلوم العشم!!.. حتى في أقرانها وبنات جيلها وجدت عليهن علامات إنشغال بالنفس، رغم ذلك بحثت عليهن في بيوتهن حتى أصبحت عبئا على (الأسر الخرطومية) التي لم تتعود علي هذه العلاقات العريضة!!..
حاولت أن تتكيف مع الواقع الجديد بالتخلص من "الجرجار" وهو ثوب غريب في حواري الخرطوم - بثوب سوداني ملون ولكنها سرعان ما عادت وألقت به بعيداً.. سئمت البقاء دون عمل، وطلبت (صبغة وسعف) لتنسج أطباقا نوبية من الخوص، وقد كانت فكرة رائعة ولكن.. أنتجت أعدادا هائلة من الأطباق أحياناً من السعف، وأخرى من النايلون ولم تجد لهذا الإنتاج تصريفاً لأنها لم تعد ذات قيمة في الأسواق!!..
حاولنا أن نمنع عنها أخبار المجتمع والموبقات التي كانت ترتكب لأنها كانت في الأصل في شوق دائم إلى الموت، كانت تحلو لها المقارنات وكانت تتساءل عن أقرانها ومن تربّوا معها أين هم الآن؟!!..
توزع المهجرون في ضواحي الخرطوم طبقاً لحالات مستويات الدخل، وأصبحت العلاقات القديمة محكومة بضرورات (حياة الشتات).. العلاقات القديمة السهلة أصبحت في حاجة إلى الصرف عليها لهذا صار من السهل الحياة خارج النسيج الإجتماعي ونتيجة لهذه الحياة بدأت تتساقط مفاهيم العيب وتضعف سلطة المجتمع !!..
في مجتمع بهية القديم، كانت الفضيلة محروسة بسلطة إجتماعية قاسية، لم يكن ضرورياً أن تكون متديناً، ولكن كان لزاماً عليك أن تكون شريفاً!!..
في تلك العلاقات الإجتماعية كانت الموبقات مثل: جرائم الزنا والسرقة والقتل أحيانا تدفن في ملفات معلومة للجميع ولكنهم كانوا يعتبرونها سرية!!.. لا تظهر للعلن إلا عند السباب والشتائم كحل نهائى لتصفية الحساب!! .. رغم أن هذا النهج كان يحمل كثيراً من الثقوب والسوءات إلا أنه في المقابل كان يروج للنماذج الراقية بين الناس ..
هذا العقد الإجتماعي انفرطت نصوصه وأصبح الفرد ذو (قابلية) للتعايش مع القيم المتدنية، وكان قد ظهر شئ من هذا في مجتمع حلفا الجديدة ولكن لم يكن بمثل الكثافة التي ظهرت بها في الخرطوم..
الرفاهية والعزلة أضعفتا القيمة النوعية للإنسان.. لهذا، كان لا يملك الرجال سوى بعض المحاكمات في مجالس (القطيعة) لمواجهة هذه الموبقات!!..
وسط هذه الأجواء كان يلاحظ بعض (النزيف) النفسي في صاحبة هذه اليوميات، فقد كانت عبثاً تحاول التعايش مع هذه الويلات النفسية المتلاحقة التي كانت تطاردها...
| |

|
|
|
|
|
|
Re: روايه نوبيه (من يوميات امرأة كادحة) (Re: خليل عيسى خليل)
|
الجيرة والخرطوم
أغلب الجيران في الخرطوم كانوا من أسر تحمل إنتماءات قديمة لمجتمع الشمالية ذابوا في مجتمع "الحلة الجديدة" وشربوا في سلوكهم جرعات مركزة من العزلة وحب الذات!. لا يفتقدون أحداً إذ غاب عنهم ولا يسألون عن من حولهم من الجيران إذا حضروا..! عراك يومي بسبب النساء والغرف الضيقة الموروثة من قبل الآباء، لا راحة فيها إلا كما يستريح الديك على حبل الغسيل!!.. ربما لهذا كانت أعصابهم مشدودة تتوتر لأتفه الأسباب وأصواتهم عالية لا تحدها محاذير!.. إذا خرج أحدهم يسير مندفعاً كأنه في عجلة من أمره لا يلقي تحية ولا يرد سلاماً.. فإذا انتبه لا يرد على التحية إلا بهمهات تجعلك تسأم من مواصلتهم بالسلام مرة أخرى، ولابد أن تصيبك العدوى من طول التجربة فتصبح مثلهم!!.. أوسمهم وجهاً وأكثرهم زينة في المأكل والمسكن يظهر فجأة أمام الناس عندما تداهمه الشرطة لأنه يمارس اللصوصية في الخفاء !!..
أمام نعش والده الذي كان ينتظر الدفن ينتحي الإبن جانباً ويشعل سيجارة ثم يعود والأهل يمارسون خصوماتهم القديمة وهم وقوف حول النعش.. الخلفية التربوية وحياة المدينة وربما لون البشرة أيقظت في أعماقهم إحساسا بالتفوق علي الآخرين ولكن وسائلهم البائسة في التعبير تجعل صورهم مثيرة للشفقة!!.. لا يرحمون أحداً إن وجدوا فيه ضعفاً ولا يرحمهم الآخرون وهم يسعون بعيوبهم وما أكثرها !!.. إذا داهمتهم (الحاجة) يهرعون للناس ناسين تاريخهم معهم!!.. أحقاد الكبار وآرائهم السيئة في الآخرين تجدها على أفواه أطفالهم. هم الأسياد وغيرهم العبيد!.. يصبح الإنسان عبئاً على هؤلاء إن أكثر الوقوف على أبوابهم طلباً لمثوبة مواصلة الجيران وزيارتهم.. رغم إلحاح ذويها أصرت بهية لمواصلتهم دون أن يرد زيارتها أحد منهم..
كانت تكرر القول: "مالي ومالوم كل زول بي قبروا "!!..
لم يجدوا في زياراتها المتكررة سوى طرافة "الجرجار" الأسود واللغة العربية الهجينة والمطعمة أحياناً بمفردات نوبية. كأنما مخارجها الطريفة كانت تروي فيهم إحساسا بالتفوق مع أناس لم يكن هناك من سبيل إلا التعالي العرقي معهم ..
علي النقيض من هؤلاء كانت هناك مجموعات أسرية من غرب السودان كانوا يفهمون دوافعها فقد كانوا أنفسهم مدفوعين لها ولكن كانت هناك حواجز لغوية بينها وبينهم فلم تستطع الثقافة العربية أن تجمع هذه المجموعات الإفريقية.. وفوق ذلك كانوا منشغلين بضغوط فقر مدقع تدفع المرأة الجارة في سوق "الشاي" من شروق الشمس إلى ما بعد صلاة العشاء!!.. جميعهم كانوا أهل لغات غير عربية لهذا فشلت مواصفات النقاء الريفي في أن تفعل شيئاً لإثراء بيئة إجتماعية في مسيس الحاجة لهذه المواصفات !!..
رغم إشارات السأم التي كانت تبدو عليها رغماً عنها لم تكن تشكي. حياة المدينة التي لا تعرف التواصل العفوي دفعها بعيداً حتي عن قريناتها في السن كـ "حجه نصره" و"حجة حبيبة" و"حجة بخيتة"، لم يكن يجتمع الشمل إلا عند الحاجة الماسة: عقد القران، أو غسل الميت، وهناك فقط تجد الجار يجلس حائراً، وتراه وحده في مجلس المأذون، أو هو محتار يبحث عن من يغسل له جثماناً في داره .. هناك فقط تقرأ على حاله معاني الشفقة وعذابات العزلة !!..
حاولت التكيف مع العزلة القصرية داخل الدار ولكنها اصطدمت بجهاز التلفزيون. لم تجد علي الشاشة البلورية سلواها؛ مجالس كلام وكلام أو غناء فيه الكثير من الزعيق والصراخ !!.. أحيانا تحاول أن تحلل الأحداث بطريقتها الخاصة أو تطرح أسئلة دون أن تحدد الجهة المسئولة: كأن تسأل عن الأطفال الفلسطينيين وكانت تسميهم بالنوبية "كد كديقو" أي رماة الحجارة.. إلى متى سيظل هؤلاء يقذفون الحجارة؟.. وأحيانا كانت تقيس الهوان الذي يمارسه اليهود في فلسطين بالقول الفصل وهو أن المسئولية هي مسئولية مصر والرئيس عبود !!..
سئمت البقاء دون عمل طلبت "صبغة وسعف" لتنسج أطباقا نوبية من الخوص وقد كانت فكرة رائعة ولكن.. أنتجت أعداداً هائلة من الأطباق أحيانا من السعف وأخرى من النايلون ولم تجد لهذا الإنتاج تصريفا لأنها لم تعد ذات قيمة في الاسواق !..
هكذا كانت عذابات حياة المدينة تتسلل الي أعماقها. سأم كان ينتابها من وقت لآخر حتى كان ذلك اليوم !!.. استيقظت وقد أجتاحت دواخلها ثورة ضد الجرجار.. والجرجار جلباب نوبي تراثي يتميز بذيل تجره المرأة.. ولا ندري هل هو لإستجلاب زينة كما هو الأمر في جلباب الزفاف أم أن هذا الذيل لإزالة آثار المرأة حينما تمشي في الطرقات كما تقول بعض التأويلات، أم كان هذا الذيل لمزيد من ستر جسد المرأة!!.. الأهم من كل هذا أنه ثوب تراثي لنساء النوبة بين وادي حلفا وكرسكو في النوبة المصرية. لم تجرب بهية في حياتها ثوباً غيره ولكنها الآن أعلنت بطريقة مثيرة للدهشة أنها تريد أن تترك "الجرجار" وتلبس "الثوب" السوداني، وهذا الثوب لفافة تقليدية معروفة في المستوى القومي العام.. كان الثوب ذو اللون السماوي المنقط.. يجعل صورتها مضحكة لمن تعودها وهي تلبس الجرجار. عندما كانت تريد الخروج تبدأ حولها مراسيم لبس التوب بمساعدة الأخريات، وقد كانت تتم في جو من المرح والطرافة..
هل كانت هذه الثورة في وجه التراث بسبب الإستجابة لمتطلبات الحياة الجديدة وانهزامها أمامها، أم أنها كانت بالفعل قد إقتنعت بالزينة البديلة فتفتحت شهيتها للإنغماس في حياة المدينة؟ أم أن كل هذه الثورة لم تكن أكثر من مجرد نزوة أيقظتها العولمة ؟.. عاشت في جو هذه اللفائف مستمتعة بها واستمرت على ذلك اشهراً، بعد تلك الأشهر بدأت الثورة تهدأ وعاد "الجرجار" مرة أخرى، ولكنه كان قد فقد بعض مواقعه القديمة ..
وهج الأصيل ٍ
وعمليات التكيف مع حياة المدينة مستمرة بين المد والجذر، الرفض والقبول ظهرت لها في الجيرة البعيدة "بدرية الدنقلاوية" ووجدت عندها علاقات تواصل يمكن أن تغذي روحها!.. وجدت عندها دفئاً مفقوداً فيما حولها، فقد كانت بالفعل سمحة المعشر طيبة القلب، كأنما كانت وقد وجدت نفسها فيها.. وربما كانت تحمل لها صورة إحدي أمهاتها أو جداتها.. قدمت كل هذا الترحاب رغم أنها لم تكن تتعاطى لغة قومها من النوبيين ولكنها تميزت علي الأخريات بقدرتها على فهم لغتها وكانت تبادلها الزيارات ..
"بدرية الدنقلاوية" بطلعتها السمحة رغم صغر سنها أعادت لها الثقة في مجتمع الخرطوم، وهي سعيدة بـ "بدرية" هذه اكتشفت في أطراف الحي أثناء مرورها المتكرر "حجة صليحة". وجدتها تلبس "الجرجار" وتجلس على عتبة دارها في ظل الضحى وحيدة معزولة، واقتحمت عليها مجلسها دون مقدمات .. تلبس "الجرجار" وتجلس في ظل الضحى.. وهذا يكفي، هكذا عللت إقتحامها لمجلسها دون سابق إنذار..
- "انسي تود إرسدوتونا"؟ (من أين أنت يا أختاه).. - أنا من "أرقين".. "اون إرسدوتونا" (وأنت من أية قرية)؟.. - أنا من "سره غرب" ؟..
هكذا إنتهى التعارف إلى قبيلتين من قرى شمال وادي حلفا: "أرقين" و"سره غرب".. حجياب وكترجياب !!..
تلاقتا وكأنهن كن في إنتظار طويل. إنعقد مجلس "الجرجار" ولا شاغل لها سوى "صليحة الأرقنية" في شرق الحي و"بدرية الدنقلاوية" في جنوب الحي..
اجتمع السن بالمزاج والخلفية التراثية.. ويا له من ترياق يشفي عذابات العزلة في مجتمع الخرطوم !!..
"سره" و"أرقين" كانتا قرية واحدة في زمان دولة الفونج وعصر الكشاف وانقسمتا إلى قريتين بعد دخول محمد علي باشا السودان.. وازدادت المسافة بينهما بعد التهجير.. تفتت "أرقين" إلى وحدات جديدة، واحتفظت "سره غرب" بعزلتها وانقطعت حتى تلك الأواصر الواهية..
إذا تأخرت بهية في زياراتها البعيدة خارج الحي .. كانت تأتي "حجة صليحة" مستفسرة تطرق الباب وبصوت خفيض يكاد لايسمع تسأل: "إدينّو" "أين المرأة"؟.. كانت ترى كبيرة السن وربما كانت أكبر من بهية بسنوات قليلة، بيضاء البشرة بطريقة لم تكن معهودة، كانت ذات ملامح أوروبية من فئة "الانجلوساكسون" إذا أخرجت من إطار "الجرجار" واللسان النوبي، يمكن أن يعتبرها من لا يعرفها ألمانية أو فرنسية أو إنجليزية..
إذا التقتا كانتا تتجاذبن الحديث بنبرات هادئة كأنهن في جلسة مناجاة.. توسعت جلسات "الجرجار" وامتدت إلى إمرأة أخرى صغيرة السن ولكنها كانت مقعدة تتحرك في مقعد متحرك، يدفعها أبناؤها الذكور - لم ترزق بإناث- وجدت "سكينة" هذه في بهية وصليحة الحضن الدافئ والعاطفة الصادقة التي لم تكن موجودة في مثل هذه البيئة الموبوءة بالأنانية والعزلة!!..
بصحبة "صليحة" و"سكينة" و"بدرية" من قبل كأنها كانت قد تصالحت للمرة الأولى مع مجتمع الخرطوم!.. والآن طابت لها الحياة ولكن –ويا له من استدراك- هذه اللحظات المفعمات بمتعة الصحبة لم تكن إلا ثمرة أينعت متأخرة عن أوانها، وجدت الآن ضالتها ولكنها كأنما جاءت فقط لتخفف عليها وطأة الشيخوخة التي اشتدت على عظامها وأعصابها وذاكرتها. أحست بالمرض يدب في أوصالها فلحقت بإبنتها ولم تكن تدري أن عمر هذه الصحبة سينتهي بمثل هذه السرعة ..
وهي بعيدة هناك جاءها خبر وفاة "صليحة ".. لم أستطع أن أقرأ وقع الخبر عليها فقد ضاعت الكثير من المعاني بين غلالة كثيفة من الحسرة تجمعت على أطراف عينيها، ولم تنبث ببنت شفة، ولم أفهم هذه المعاني إلا بعد أشهر معدودة من وفاة "صليحة"، الذي عرفته أنها هي نفسها كانت مشغولة بحالها فقد كانت بدورها تتهيأ للرحيل!!..
الزفاف الأخير!!
وهي في حالتها تلك كنت أقرأ عليها علامات ألطاف الله!!.. موبقات مجتمع الخرطوم جاءتها كأنها لسعات من القدر دفعتها نحو الله ظهرت عليها إشارات عشق إلهي عرفاني !!..
كأنما أفرغ قلبها إلا من ذكر الله.. أفرطت في الحديث عن الموت بصيغة "وديعة الله" وعن اليوم الذي سيأخذ الله وديعته ..
كانت تتحدث عن الموت بتفاؤل غريب كأنه يوم زفافها إلى "حبيب".. ظلت تترقبه حتى أخذ الله بالفعل وديعته في فجر السابع من شعبان والثالث عشر من أكتوبر عام 2003م.. ولكن أين بدأت وكيف انتهت؟!!..
أخذ الله وديعته في "السامراب" -إحدى ضواحي الخرطوم بحري "حلفاية الملوك"، ويبدو أنها كانت شريطاً ضيقاً من الظل وسط الصحراء سكنها أفراد من قبيلة "السامراب"!!.. ومن أين انطلقت؟ من "جمارا" في حي "اسن امبي" في قرية "سره غرب" شمال غرب وادي حلفا.. حطت رحالها من الفقر إلى القفز - ولكن يا لها من قصة تحمل التاريخ والعبر والصبر والانتصار..
بالتفاؤل والرضا هزمت قساوة الحياة بين النيل والصحراء، والكدح والصبر تعايشت مع بيئة طاردة في مشروع حلفا الجديدة الزراعي، وأخيراً بالإيمان والثقة في الله واجهت الحياة في ضواحي الخرطوم !!..
أحداث ومواقف ذهبت بها تيارات الزمان، ولكنها تركت للخلود عبراً.. منها أن قيم الرضا التي هي مفتاح السعادة إن وجدت من يرعاها بحقها تهدي الإنسان بسر الوجود، وهو أن يرى الجمال فيما لا يراه الآخرون!! ويـــــا.. "أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه."
تمت. ------
وهنا لا يسعنا إلا أن نشكر الأستاذ فكري أبوالقاسم على أسلوبه الشيق في عرض هذه اليوميات والتي تم نشرها في صحيفة "أخبار اليوم" السودانية بمناسبة "يوم المرأة العالمي"، وتم ترجمتها إلى الإنجليزية، كما ذكر الأستاذ فكري، بواسطة الأستاذ قرشي عبدون ونُشرت بالإنجليزية في صحيفة "الخرطوم مونيتور".. ويرجى من الإخوة المتابعين لهذه اليوميات محاولة نشر النص الإنجليزي لها..
كنت قد جمعت تلك اليوميات ضمن أوراقي المتناثرة، ويا لكثرتها، وحاولت جمعها في هذا البوست.. وإن كان هناك أي نقص أو ضاعت حلقة، أثناء إعادة العرض، وسط أوراقي فليعذرني الأستاذ فكري أبوالقاسم والقراء!!.. وكان الأستاذ فكري أبوالقاسم يذكرنا في كل حلقة من اليوميات أن: - "تفاصيل هذه الحكايات منتزعة من أعماق المجتمع التراثي النوبي، بطلتها إمرأة من كادحات المجتمع السوداني الفقير، صارعت قساوة الحياة في صحراء النوبة، وحواشات حلفا الجديدة، ثم قاومت في أيامها الأخيرة أوجاع المدينة، وقد كان سلاحها خلفياتها التراثية التي تزرع الرضا والثقة بالله.. إمتدت قصتها من حوالي 1914م حتي 2002م حبكت هنا مفصلة علي مدي ثلاثة فصول: سنوات التكوين: غبش الصباح، سنوات الظهيرة: "1946-1964"، سنوات الغروب."- للتأكيد بأن القيمة الإنسانية الفلسفية التي ينشدها من هذه اليوميات، أن قيم الرضا والتي هي مفتاح السعادة إن وجدت من يرعاها في كل الظروف تستطيع أن تهدي الإنسان لسر الوجود وهذا السر هو: أن يرى الجمال في كل شيء.
انتقل الأستاذ فكري أبوالقاسم في هذه اليوميات بالذاكرة إلى نماذج لم يبق منها أحد!!.. وإلى زمن لم يبق منه إلا القليل النادر، ولكنه قام برش عبير الأحلام على ورود الذاكرة!!.. أراد باليوميات أن يحمينا من غبش الذين تراكم الغبار على مرايا ذواتهم!!.. إن مسألة الإرتباط بالأرض سواء عبر شخصية بطلة اليوميات "بهية" أو كل من عاصر البلاد القديمة في جهتي الحدود، ليست مسألة مساحة أو حواشات، ولكن النقطة الهامة أن أناسنا قديماً كانوا يمدون فراشهم أرضاً أي ينامون على "أبراشهم"، المصنوعة من خوص النخيل، البسيطة فيستمعون إلى دقات قلب الأرض فيظنوا أنها دقات قلوبهم!!!.. إن فكرة اليوميات فكرة طيبة من الأستاذ فكري أبوالقاسم.. والفكرة الطيبة إذا مرت تعطر بيت الروح وتغادر.. فإذا اقتطفت وكُتبت بحبر عبيرها يفتتح حقل من الورود على طريق الحكمة.. وهذا ما فعله كاتبنا.. "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي حظاً عظيما."، "ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً."
| |

|
|
|
|
|
|
Re: روايه نوبيه (من يوميات امرأة كادحة) (Re: خليل عيسى خليل)
|
شكرا أخي خليل علي نقل هذا العمل الرائع .. لقد أمتعني حد الثماله .. وكان المسك فيما ختمت به النص ..
Quote: انتقل الأستاذ فكري أبوالقاسم في هذه اليوميات بالذاكرة إلى نماذج لم يبق منها أحد!!.. وإلى زمن لم يبق منه إلا القليل النادر، ولكنه قام برش عبير الأحلام على ورود الذاكرة!!.. أراد باليوميات أن يحمينا من غبش الذين تراكم الغبار على مرايا ذواتهم!!.. |
اكرر شكري لك وله.
| |

|
|
|
|
|
|
|