|
كلكم سيدخل الجنة "إن شاء الله".. إلا المارد المتمرد/مقال للاستاذ جمال البنا
|
كلكم سيدخل الجنة "إن شاء الله".. إلا المارد المتمرد جمال البنا
الفكرة التي لدى كل أصحاب دين من أصحاب الأديان الأخرى أنهم وحدهم على الصواب، ووحدهم سيدخلون الجنة، وأن الآخرين سيدخلون النار. يستوي في ذلك المسلمون والمسيحيون واليهود. وهذه الفكرة على تأصلها في نفوس أصحابها ليس لها أصل في الدين.
فعندما ظهرت اليهودية لم تكن المسيحية قد ظهرت حتى يمكن أن تقول اليهودية عن المسيحية إنها في النار، لسبب بسيط هو أن المسيحية لم تكن موجودة عندما نزل العهد القديم وكتب اليهودية المقدسة.
وبالمثل، فإن المسيحية ظهرت قبل أن يظهر الإسلام بستة قرون، فلا يعقل أن تتضمن الأناجيل استبعادًا للإسلام أو تكفيره.. بكل بساطة، لأن الإسلام لم يكن موجودًا وقت نزل الأناجيل.
وفضلاً عن هذه الوقائع التاريخية، فإن روح الدين ترفض استبعاد بعضها لأن روح الدين واحدة، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر، وكل الديانات تؤمن بذلك.
فإذا قيل إن هناك اختلافات في تكييف الألوهية، فيغلب أن تكون هذه قد جاءت نتيجة للاختلافات في الترجمة التي تعرضت لها الكتب المقدسة في اليهودية والمسيحية أو لاختلاف الكنائس.
أما الاختلافات في الشرائع، فهذا أمر لا يمس روح الدين الواحدة، ولكنه يتعلق "بالدنيويات" التي تلحق بالأديان وتتفاوت طبقاً لأزمنة وأمكنة الديانات.
وعند تقصي أسباب وجود فكرة "الاستبعاد" التي نلمسها في الأديان ــ رغم عدم قيامها على أساس أصولي فإننا نجد أن السبب هو "المؤسسة الدينية". فالمؤسسة الدينية تقوم بدور المحامي عن شخص ما، كل ما يهمه هو أن يظفر لموكله بالبراءة وأن يوقع على خصمه الإدانة بصرف النظر عن أي اعتبار آخر.
فالمؤسسة الدينية بحكم وجودها لابد أن تأخذ طبيعة الاستحواذ والاستبعاد فهي تستحوذ على المؤمنين بها وتستبعد من عداهم، ولابد أن تصف الأديان الأخرى بالدونية أو الهرطقة شأنها شأن المحامي بالنسبة لخصومه، وهذه الخاصية هي التي تبرر عمليًا وجودها، فلو آمنت أن روح الأديان واحدة، لما كان هناك مبرر لوجودها، وتميزها، وما تتمتع به من سلطان وأموال، وقداسة، والمؤسسة في هذا كالشركة التي تمد نشاطها حتى يستسلم كل التجار، أو الدولة التي تعمل لزيادة رقعتها على حساب الدول الأخرى، وهي تبرز وتضخم الفروق بين الأديان حتى لا يبهت دورها.
وقد كانت المؤسسة الدينية اليهودية ــ وليس الشعب اليهودي أو الكتب اليهودية المقدسة ــ هي التي اضطهدت السيد المسيح بمجرد أن ظهر وأرادت صلبه ورفضت عرض الوالي الروماني العفو عنه، وفضلت أن يعفو عن لص هو "بارباس".
وكانت المؤسسة الدينية المسيحية وليس عامة المسيحيين ــ والكتب المسيحية المقررة ــ هي التي قادت الجيوش في الحروب التي حملوها اسم "الصليبية"، وقال البابا أوربان الثاني وهو يحفز مستمعيه إنه ليس هو الذي يتكلم، ولكن السيد المسيح.
وهل يعقل أن يقيم المسيح ـ الذي قال "من ضربك علي خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر"، ودعا أتباعه "أحبوا أعداءكم" ــ محكمة تفتيش للمخالفين تمارس أسوأ صور التعذيب، وتخترع المعدات الشيطانية التي تحدث أقسى عذاب، ويتم هذا كله بحجة "خلاص الروح".
إن أقصى ما يمكن أن تقوله الأديان لأتباعها أنهم على حق دون أن يعني ذلك أن غيرهم على باطل، خاصة بالنسبة للأديان التي تأتي بعدها.. لأنها لا تملك أن تحكم على غائب، وهذا يعني أن اليهودية ليس من حقها أن تدين المسيحية، ولا من حق المسيحية أن تدين الإسلام، ولكن قد يجوز أن تتحدث المسيحية عن اليهودية، كما يجوز أن يتكلم الإسلام عن المسيحية واليهودية، وعندما يراد الإنصاف والموضوعية والبعد عن التحيزات، فلن يقضي هذا الكلام ببطلان ما سبق من الأديان. وهذه ما يؤدي بنا إلى الحديث عن الإسلام وموقفه في تلك القضية.
إن الإسلام جاء بعد اليهودية والمسيحية، وأعلن أنه الدين الخاتم، وصدقت 1400 سنة على ذلك فلم يظهر دين حقيقي بعد الإسلام، وإنما ظهرت نحل وملل وصور من التلفيق من الأديان.. الخ.
فلو تحدث عن المسيحية أو اليهودية لكان ذلك على أساس أنه جاء بعدهما، كما كان يمكن للمسيحية أن تتحدث عن اليهودية لأنها جاءت بعدها، ولكن هذه الصفة ــ أنه خاتم الأديان ــ لم تحوجه إلى هذا على وجه التعيين، كما أن طبيعته الخاصة لم تجعله يسلك هذا السبيل.
من هذه الطبيعة الخاصة أن الإسلام لا يعترف ولا يقر وجود كنيسة أو مؤسسة دينية، وهذا أمر مقرر في صلب الشريعة التي تفرد الله تعالى بالتحليل والتحريم، وترى أن أي مشاركة في هذا نوع من الشرك، وعندما قال القرآن "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ"، فإنه كان يعلم أنهم لم يعبدوهم بالمعنى الحرفي، ولكنهم تقبلوا أن يشرعوا لهم باسم الله ما لم يأذن به فأعطوا أنفسهم سلطة لا تـُعطي إلا لله، لهذا لم تقم في الإسلام مؤسسة، ولم يظهر فيه "بابا" له سلطة على المؤمنين.
ولم يكن هناك كهنة ولا رجال دين يعترف الناس أمامهم ويحلونهم من آثامهم ويباركونهم، وظلت العلاقة بين الناس والله دون واسطة، وعندما حكمت ضرورات التخصص بأن تتخصص مجموعة على الدراسة الفقهية الإسلامية، فإن هذا اقتصر على محاولات الفقه والشريعة دون أن يدخل العقيدة لأن الإسلام ليس فيه لاهوت.
كما كان نوعًا من الاجتهاد المفتوح لكل من يستطيعه، على أن ما ينتهي إليه هؤلاء لا يكون ملزمًا إلا لمن يقبله، وقد أراد فريق من هؤلاء أن يتفردوا بالدراسة وأن يحتكروا تمثيل الإسلام وأن يجعلوا من ذلك "مهنة" مقصورة عليهم، وفي مناخ الصدأ العقلي الذي أصاب المسلمين نتيجة لإغلاق باب الاجتهاد منذ ألف عام، ادعى "الأزهر" في مصر هذه الصفة، وناصرته الدولة جريًا على الحلف القديم ما بين السلطة والكهنة، وظهر أحد هؤلاء يدعي ما يدعيه كهنة الأديان الأخرى من أن دينه هو الوحيد الصحيح، أما الباقي فلا يعترف به، وهو ادعاء لم يدعه أحد حتى شيخ الأزهر، على أن شيخ الأزهر ليس إلا عالمًا وفقيهًا، وما أكثر الفقهاء والعلماء، وقد رُد عليه ليس من زملائه في مجلس البحوث، بل من عامة الناس وتعرض لهجوم شديد من الصحفيين، لا يمكن لمسيحي أن يوجه إلى البابا معشاره، فالبابا لو غضب عليه "لحرمه" ولفقد صفته المسيحية واصبح "محرومًا" في حكم الميت روحيًا. وبانتفاء الكنيسة، انتفى العامل الذي يصطنع العداء بالأديان الأخرى على ما قدمنا.
ولم يكن رفض الإسلام أن يكون له كنيسة إلا جزءاً من تكوينه، فقد جاء لينهي العداوة بين الأديان ويقرر التعايش معها، وهذا أمر تقرره الآيات القرآنية، كما يقرره حديث الرسول.
فهناك آيات عديدة تقرر أن ما اختلف فيه الناس من العقائد، فإن الله تعالى هو الذي سيفصل فيه يوم القيامة، وقد أحصينا في كتابنا "التعددية في الإسلام" أربع عشرة آية تقرر هذا المعنى. ونهي عن التفاضل بين الأديان فقال: "وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَي عَلَي شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَي لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَي شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (البقرة : 113).
ووجه المسلمين : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَي اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (المائدة : 105).
وقال بصريح العبارة : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَي وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة : 62). فلم يحرم هؤلاء جميعًا من أجرهم وأنه "لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ".
أما في السُـنة فانظر هذا الحديث المروي عن عبد الله بن عمر قال :كنا نسير مع النبي (في بعض غزواته فمر بقوم، فقال: "من القوم"؟، قالوا نحن المسلمون، وامرأة تحصب (أي توقد) بقدرها ومعها ابن لها فإذا ارتفع وهج تنحت به فأتت النبي (فقالت "أنت رسول الله ؟"، قال نعم قالت "بأبي أنت وأمي أليس الله أرحم الراحمين"، قال "بلي"، قالت "إن الأم لا تلقي ولدها في النار"، فأكب رسول الله (يبكي ثم رفع رأسه إليها فقال "إن الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي يتمرد على الله وأبي أن يقول لا إله إلا الله" رواه ابن ماجة.
واستئناسًا بهذا، رأي بعض الفقهاء أن من يجتهد في تعرف الحق وأداه هذا إلى الكفر الصريح، فإنه لا يحاسب لأن تكليفه عندهم بنقيض اجتهاده تكليف بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق ممتنع شرعًا وعقلاً، ومن الفقهاء المعاصرين ذهب الشيخ شلتوت إلى أن من لم يؤمن بالله ولا برسله ولا بنحو ذلك لا تجري عليه أحكام المسلمين فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم بعضهم بعضًا، وليس معنى هذا أن من لم يؤمن بشيء من ذلك يكون كافرًا عند الله يخلد في النار، وإنما معناه أنه لا تجري عليه في الدنيا أحكام الإسلام، فلا يطالب بما فرضه الله على المسلمين من العبادات ولا يمنع مما حرمه الإسلام كشرب الخمر وأكل الخنزير والاتجار بهما، ولا يغسله المسلمون إذا مات ولا يرثه قريبه المسلم في ماله، كما لا يرث هو قريبه المسلم إذا مات.
أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقف على أن يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشيء منها بعد أن بلغته الدعوة على وجهها الصحيح، واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يشهد بها عنادًا واستكبارًا، أو طمعًا في مال زائل أو جاه زائف أو خوفاً من لوم فاسد، فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفرة، أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفق إليها، وظل ينظر ويفكر طلبًا للحق حتى أدركه الموت أثناء نظره، فإنه لا يكون كافرًا يستحق الخلود في النار عند الله.
ثم قال: ومن هنا كانت الشعوب النائية التي لم تصل إليها عقيدة الإسلام، أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة، أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم في بحثها ــ بمنجاة من العقاب الأخروي للكافرين ــ ولا يطلق عليهم اسم الكفر، والشرك الذي جاء في القرآن أن الله لا يغفره هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار، الذي قال الله في أصحابه "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً" (النمل : 14) انتهى.
وهكذا فإن كل الشعوب التي لم تصلها دعوة الإسلام أو وصلتها بصورة مشوهة أو وصلتها بصورة حسنة، ولكنهم لم يستطيعوا الإسلام لأسباب مختلفة، هؤلاء جميعًا لا يدخلون النار لأنهم ليسوا مستكبرين متمردين، ومن ثم فإن رحمة الله التي تكون رحمة الأم بولدها جزء من مائة جزء هي رحمة الله تجعلهم يدخلون الجنة. مع هذا كله، فهناك هنات وشبهات سنعرض لها في مقال لاحق.
*نقلا عن صحيفة "المصري اليوم"
|
|
 
|
|
|
|