|
الحركة الشعبية وغلطة الشاطر.....د.على حمد ابراهيم
|
الحركة الشعبية وغلطة الشاطر د.على حمد ابراهيم [email protected] ه صدق المثل الشعبى القائل بأن "العثرة تصلّح المشية"؟ فقد صلّحت عثرة تعليق الحركةالشعبية لمشاركتها فى الحكم، صلّحت من سيرها السياسى مع شريكها، حزب المؤتمر، الذى يصّر دائما على اضافة صفة " الحاكم" الى اسمه ، ربما تمييزا لنفسه عن العديد من الاحزاب او الاشكال السياسية "الحاكمة" المتعددة التى شكلها الحكام العسكريون الذين تراصوا على دست الحكم فى السودان على مدى نصف قرن من الزمن تقريبا ، وكانت فى حقيقة امر اشكالا هلامية ليس بينها وبين الحكم أية صلة. خبر عودة الوئام بين طرفى الحكم فى السودان يعيد الاطمئنان الى افئدة المشفقين على مصير السودان الذى بات مهددا فى وحدته ومستقبله السياسى بصورة تبدو اكثر جدية من أى وقت مضى. لقد جثمت على صدر الشعب السودانى وعلى مدى نصف قرن من الزمن مشاكل متعددة لم يعد ممكنا التصدى لها الا بوحدة شعب السودان وعودة الصفاء بين كل مكوناته السياسية والاجتماعية والعرقية.
تعليق الحركة لمشاركتها فى الحكم ،كاد يطيح بكل الأمانى التى بناها شعب السودان على ماتم التوصل اليه من ترتيبات للسلام قوبلت بكثير من الترحيب والتوجس،من كثرة التعقيدات الموغلة فى التفاصيل بصورة اثارت شكوكا كثيرة حول مقدرة الشريكين على تنفيذ كل تلك المهام الصعبة بالدقة والشفافية المطلوبة.وكانت ابرز الشكوك والتساؤلات تدور حول شرعية الشريكين ، ومؤهلاتهما التى تبرر لهما الانفراد بالحكم دون غيرهما من الفعاليات السياسية السودانية التى تعج بها الساحة السياسية السودانية ، وهى الفعاليات الاكثر شعبية وألاقوى تأييدا فى الشارع السياسى.
الحركة الشعبية كقادم جديد على المجتمع السياسى السودانى كانت الاكثر حاجة للتعريف بنفسها وببرنامجها ، خصوصا أن الذهنية السياسية الشعبية فى السودان الشمالى كانت ذهنية معادية لها بحكم واقع الحرب الطويلة والقاسية التى ادارها الطرفان ضد بعضهما البعض عقودا من الزمن.فقر الذهنية الشعبية الشمالية للمعلومة الصحيحة و الكافية عن الحركة الشعبية تعكسه العديد من الاسئلة التى ظلت تطرح على قيادة الحركة منذ تأسيسها وحتى اليوم. وظلت الاجوبة المقدمة على تلك الاسئلة، ظلت ناقصة او غير كافية. خصوصا تلك الاسئلة المتعلقة بمنفستو الحركة وبعض شعاراتها.وظل السؤال الذى كان يطرح على الدكتور قرنق فى معظم اللقاءات الشعبية التى كان يحرص على عقدها من وقت لآخر ، ظل يدور حول مدلول اسم الحركة الشعبية ابتداء. وهو من من تريد الحركة الشعبية تحرير السودان؟بلغة السودانيين الدارجة كان السؤال هو : تحرير السودان من منو ؟ وواضح ان ذلك السؤال كان يحمل تشكيكا ضمنيا فى الاهداف البعيدة للحركة. و يقول بصورة غير مباشرة أن الحركة فى مبتغاها البعيد تريد تحرير السودان من بعض العناصر السودانية لصالح عناصر اخرى . وكان دكتور قرنق يرد على ذلك السؤال بشئ من التوتر،وكان يحاول تصحيح صيغته قبل الاجابة عليه ، ويقول بنفس لهجة السودانيين الدارجة ان السؤال الصحيح يجب أن يكون هو : تحرير السودان من شنو ، وليس من منو ؟ ثم يعمد الى سرد المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى يعانى منها السودان ثم يقدم رؤيته لعلاج تلك المشاكل.وكان هناك كثيرون يستسهلون طروحات دكتور قرنق تلك ويصفونها بالسطحية والساذجة وغير القابلة للتطبيق.
المتشككون فى اهداف الحركة ، والخائفون منها ، ظلوا يراهنون على قدرة الزمن ، وقدرة الوهن العام ، على اضعاف عزيمة الحركة و مقدرتها الى الدرجة التى تتخلى فيها عن طموحها السياسى ، و مثالياتها الغير قابلة للتحقيق ، الأمر الذى سيضطرها الى تقديم التنازلات الضرورية من أجل حلول تستجيب لبعض طروحات الحركة ، وليس لكل طروحاتها.
صحيح أن الكثيرين من المتعاطفين مع الحركة كانوا لا يخفون تخوفهم من أن يصدق رهان خصومهاعلى قدرة الوهن العام على اضعافها وكسر قرنها فى منعطف من المنعطفات. وكان اكثر ما يخيف المشفقين على الحركة هو كثرة التصدعات الداخلية فى صفوفها ،والتى وصلت فى مرحلة من المراحل الى الصدام المسلح العنيف الذى قدمت فيه الحركة من الضحايا والخسائر ما فاق احيانا خسائرها امام الجيش السودانى وهو عدوها التقليدى.
و لكن الحركة استطاعت بوسائل متعددة الصمود امام كل تلك العواصف بشكل فاق تقديرات خصومها ومؤيديها على حد سواء.
وكان اكبر معين للحركة على تخطى الصعاب التى واجهتها على كل الاصعدة هو وضوح رؤاها واخلاصها فى تمسكها بتلك الرؤى الواضحة ، والصمود عليها رغم كل التحديات.
ولقد جلبت الرؤى الواضحة والتمسك بها والزود عنها ، لقد جلبت للحركة قدرا من الاحترام والتقدير من كل الذين سئموا معايشة السلوكيات السرمدية التى لم تكن تتبدل الا من السئ الى الأسوأ . لقد تمسك اهل الجنوب بطبيعة الحال بالحركة ، و عاهدوها على الموت و الحياة معها فى كل الاحوال. وكان لسان حالهم يقول أنه ليس لديهم ما يفقدون فى كل الاحوال .
ولكن المثير حقا كان هو توافد بعض أهل الشمال على الحركة باعداد كبيرة اثارت انتباه المراقبين. لقد كانت افئدة اؤلئك الذين وفدوا على الحركة من أهل الشمال ، كانت افئدة ظامئة للجديد الشامل: الجديد فى الطرح ، وفى التوجه ، وفى نبل المقصد
ولوحظ بصورة خاصة أن مثقفين شماليين كبار كانوا من المحبطين مما يدور فى مجتمعهم السياسى الشمالى قد توافدوا على الحركة ينشدون لديها المصداقية السياسية والارادة الخلاقة. بعضهم كان لا يفتأ يذكر سيلا من الظلامات التاريخية المزمنة ويحملها كل التبعات السياسية التى تراصت فى طريق المسيرة الوطنية نحو المستقبل. هؤلاء جاءوا الى حوش الحركة ينظرون هل يجدون ذلك الجديد المنتظر. وجاءها كذلك منصور خالد ، المثقف الشمولى الذى يتمشدق بالديمقراطية كشعار، ولكنه يكرهها كممارسة لأنها لا تحقق له ذلك المغنم بالصورة السهلة السريعة كما هى الحال فى عهود الشموليات.من هنا كان البعض يغمز من جانب بعض المثقفين الشماليين الذين قدموا على الحركة من شاكلة منصور خالد. ويقولون انهم بعض ناتج جانبى لثقافات شمولية تكره الديمقراطية ووسائطها كراهية التحريم وليس لديهم ما يقدمونه للحركة اكثرمن التنظير الذى لا يقطع ارضا و لا يبقى ظهرا. غير ان الحركة استطاعت ان تصل الى كل القطاعات الشعبية فى الشمال اخيرا. وكان ذلك فى حد ذاته فتحا سياسيا كبيرا على نطاق الوطن الكبير ويرجى منه خير كبير فى مجال تنويع التلاقح السياسى والاجتماعى المفيد.
نعم ، لقد فاتت على الحركة فرص سهلة لم تستغلها الاستغلال الامثل فى السنوات القليلة الماضية. فقد كان من حسن حظ الحركة السياسى ان النظام الذى كانت تفاوضه فى السنوات التى سبقت التوصل الى اتفاقية سلام نيفاشاالتى كفلت للحركة اقتسام السلطة والثروة ، قد منح نفسه وقتا فى الحكم يعادل ضعفى الزمن الذى منحته الشمولية للأنظمة الديمقراطية الثلاثة مجتمعة فى الحكم.فى هذا الزمن الطويل مارس شركاء الحركة الجدد عددا من التجارب الحادة الفاشلة على ظهر الشعب السودانى ، وحفروا عليه نتوءات وندوبا عميقة.وكان نتيجة ذلك كله هو هذا الاستقطاب والاستقطاب المضاد ، والخصومة العضوية التى يخشى أن لا يستطيع الزمن محو بعض آثارها. فالذاكرة الشعبية الجمعية تتندر الآن وتتمنى أن تعود عقارب الساعة الى الوراء ، الى حيث سودان ذلك الزمن الوضئ ، سودان التعليم المجانى ، والعلاج المجانى ، والأكل المدعوم من الدولة. سودان الأمن الخالى من التكفير والذبح فى دور العبادة. السودان الخالى من عصبية القبيلة والجهوية. سودان الايدى النظيفة التى كانت ترى الفساد عملا من الاعمال المخلة بالشرف.وكان واضحا لكل ذى بصيرة أن الحركة يمكنها أن تفاوض من موقع قوة اكثر من النظام الذى كان ظهره ينؤ بكل تلك الاحمال.يضاف الى هذا ان الحركة السياسية الشمالية ممثلة فى التجمع الوطنى الديمقراطى الذى ضم كل الفعاليات السياسية من احزاب تاريخية كبرى ونقابات تاريخية وهيئات مجتمع مدنى كانت تقف خلف الحركة بعد أن ارتبطت الحركة معها بمواثيق مكتوبة عرفت بمقررات اسمرا المصيرية هندست مستقبل السودان سياسيا واقتصاديا وثقافيا ورسمت خريطة لسير سودان المستقبل كان يمكن ان تجنبه اية انحرافات مستقبلية
هذا الجو الملبد بالغيوم والشك والفشل والفساد و التململ ،كان من المامول أن يعين الحركة على التفاوض بحرص شديد ، ومن موقع قوى ، يشد من ازرها صفحة نظيفة ويد لم تتضرج حتى ذلك الوقت بمسالب السلطة المعهودة.لقد وجدت الحركة وهى على اعتاب السلطة،وجدت الملعب خاليا ، إلا من الآثار الدالة على شئ ما هنا وهناك. ووجدت بترولا ينتج دون أن يحس أحد بأثر من آثاره. ذلك الواقع اعطى الحركة مساحة اوسع للعب السياسى المريح ، واللعب بمزاج ، وتسديد الاهداف المضمونة .ولم تكن تحتاج لاكثرمن قوة العزيمة ووضوح الرؤيا. وهما ميزتان كانتا دائما حاضرتين فى وجدان الحركة منذ صرخة ميلادها الأولى. ولكن الحركة ارتكبت غلطة الشاطر التى يقول المثل الشعبى أنها تعدل ألف غلطة. فقد تخلت عن حلفاء الأمس فى المعارضة الشمالية الذين كانوا سندها ومصدر قوتها.وقبلت بأن تستجيب لضغوض الحلفاء والحكومة لابعاد حلفائها من طاولة المفاوضات. وكانت النتيجة انها تحصلت على اتفاق ثنائى بينها وبين الحكومة ، ولكنه اتفاق لا يملك الوسطاء ولا الحركة سلطة قاهرة لفرض تنفيذه على الحكومة. فوجئت الحركة بكثرة العراقيل امام تنفيذ بنود الاتفاقية حتى تلك التى كانت تبدو واضحة وسهلة التنفيذ. وتلفتت الحركة يمنة ويسرة فلم تجد لا حلفاء الامس ولا وسطاؤه .ولم تجد امامها غير الانسحاب بعد أن ضاق صدرها ،فانسحبت من الحكومة لتعطل مسيرة الوفاق الوطنى شهورا كان الشعب السودانى يحتاجها وهو يواجه مشاكل مع الاسرة الدولية ، وحروبا داخلية وخارجية. وتنتشر فوق سماواته سحب داكنة تنذر بعواصف لا يعلم غير الله مداها.
خبر تسوية الازمة الطارئة بين شريكى الحكم يفتح كوة من الأمل فى السودان ويسعد حتى الذين يعارضون مجموعة الانقاذ معارضة لا هوادة فيها. نعم لا احد يسعده أن تفشل عملية السلام ويعود الوطن القهقرى الى ازمنة الحرب . لا احد يسعده هذا ، ولا احد يتمناه لبلده. لأن الجميع يعارضون حكومة زمنية عارضة غير دائمة قد تختفى اليوم او غدا ، ولا يعارضون وطنا سيبقى.فالمحن تطول ولا تدوم.خاتمة القول مرحبا بالحركة فى موقعها الذى تحصلت عليه بالم والدموع ولم يكن منحة من احد.اننا حتى وان انتقدنا الحركة على بعض الهنات ، الا اننا نحترمها ونحترم فيها قوة الارادة ووضوح الرؤيا.
( نقلا عن صحيفة الوطن القطرية)
|
|
 
|
|
|
|