«إلى روح سمير جرجس.. فقد جاهد الجهاد الحسن، أكمل السعى، حفظ الإيمان، وأخيرا.. وضع له أكليل البر»!
هزتنى كلمة شفيفة للكاتب الصحفى تاج السر مكى (الأيام ، 19/2/04) ، ينوِّه فيها بالنشاط الوطنىِّ والاجتماعىِّ البديع الذى ظلَّ يمارسه ، منذ حين ، المهاجرون السودانيون الأقباط بمدينة سدنى الاستراليَّة ، وعددهم ستة آلاف ، حيث شيَّدوا منتدى مفتوحاً لكل الجالية السودانيَّة هناك ، بكلِّ مِللها ونِحَلها وانتماءاتها الاثنيَّة والدينيَّة ، وأصدروا صحيفة أسبوعيَّة تعنى بأخبار السودان ، وتعرِّف بثقافاته المتنوِّعة ، وتطرح المشكل السودانى لحوار ديموقراطى واسع ، وتنشر ذكريات الكثيرين منهم فى الوطن عموماً ، وفى بعض مدنه كأم درمان وعطبرة بوجه مخصوص ، كما أسَّسوا إذاعة تبث برامجها السودانيَّة لمدة ساعة كل يوم.
ذكرتنى هذه الكلمة المنتبهة بما كان قال لى جوزيف لطيف صباغ ، عضو المكتب السياسى لحزب الأمَّة القومى ، عندما لقيته ، بالمصادفة ، واقفاً يضاحك ثلة من قدامى أصدقائه فى بهو الفندق الكبير بالخرطوم ، وقد عاد ، لتوِّه ، من مهجر بعيد كان لاذ به منذ خواتيم ثمانينات القرن المنصرم ، ضمن ظاهرة الأمواج المتلاطمة من هجرة السودانيين ، وقتها ، والأقباط منهم بالأخص ، فى عقابيل انقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م ، وسألته ، غير عامد بالطبع ، وإنما تحت وطأة حالة من الضجر السياسى تنتاب المرء أحياناً على غير إرادته: ما الذى أرجعك يا رجل؟! فإذا بعينيه تشعَّان ، وكل عضلة فى وجهه تختلج ، وهو يجيبنى بحماس ، وبحنجرة تغصُّ بحنين صادق: أقسم يا أخى أن يوماً واحداً فى السودان يعدل كلَّ تلك السنوات الضائعة!
إن أكثر ما يفرِّقنا ، حقاً ، هو الذى لا نجرؤ على الحديث عنه صراحة ، على قول سديد لفرانسيس دينج! وأكثر هذا الذى لا نجرؤ على الحديث عنه صراحة هو واقع الاستعلاء الجهير فى حمولة الوعى الاجتماعى العام فى بلادنا. فصورة (القبطي) فى الذهنيَّة (السالبة) للمستعرب المسلم المتوسط reasonable person فى السودان هى صورة (اللامنتمى)! ولهذا فقد يستغرب هذا المستعرب المسلم كلمة مكى وقول صبَّاغ ، بل وقد لا يُصدِّقهما أصلاً! ذلك أن أكثر ما تحتقن به ذهنيَّته السائدة هذه ، برغم مقت الاسلام للاستعلاء العِرقى ، هى أوهامه الفادحة perceptions عن (ذاته) ، باعتبار أنه هو وحده (ود البلد) ، وعن (الآخر) ، باعتبار أنه إما (حلبى) وإما (عبد) ، وكلاهما ، فى النهاية ، محض مُساكن عرَضىٍّ لا يؤبَّه به فى شأن الوطن ، ولا يُعوَّل عليه فى الملمَّات! لا مرية ، بالطبع ، فى كون المسئوليَّة التاريخيَّة عن تغذية هذه النزعة العِرقيَّة والثقافيَّة المهمِّشة marginalizing ( للآخر) فى الأوساط الشعبيَّة ، والتى يُصطلح عليها فى علم الأنثروبولوجيا (بالمركزويَّة الاثنيَّة) ، إنما تقع ، بالأساس ، على عاتق التيار (السلطوى/ التفكيكى) وسط نخب الجماعة المستعربة المسلمة السائدة ، لما تمتاز به هذه النخب من زاد معرفىٍّ يكرِّسه هذا التيار فى خدمة الطبقات الاجتماعية التى أفرزت هذه النزعة ، وأرادت لها أن تتخذ طابعاً شعبياً ، فتولى هذا التيار أدلجتها. على أنه لا يمكن ، بالمقابل ، تبرئة التيار (العقلانى/التوحيدى) من مسئوليَّته التاريخيَّة فى عدم التصدِّى للظاهرة ، بما يكفى لنزع الأقنعة عن هذه الأيديولوجيَّة الزائفة ، وتعرية المسكوت عنه فى علاقاتنا الاثنيَّة ، من جهة ، ولتغليب ثقافة التسامح ، من الجهة الأخرى ، لا كمِنة يتفضل بها الأسمى على الأدنى toleration ، بل كقاعدة احترام تلقائىٍّ للآخر المختلف tolerance ، باعتبار أن ذلك هو الأساس الذى يجب أن تنبنى عليه الوحدة ، وطريق الخلاص الوحيد المتاح للأجيال القادمة من مأزقنا الوطنىِّ الراهن.
ولعلَّ ألزم ما يلزمنا ، فى هذا السياق ، هو أن ندرك ، ابتداءً ، وبعمق ، أننا ما نزال أمَّة تحت التكوين in the making. وأن الاستخدامات المجازيَّة لبعض المصطلحات الشائعة فى توصيفنا ، (كالشعب السودانى) و(الثقافة السودانيَّة) وما إليهما ، إنما تصادم ، فى الواقع ، حقيقة كوننا شعوباً متعدِّدة ، وثقافات متنوِّعة. فبقدر ما يشكل كل شعب وثقافة (ذاتاً) منسجمة فى منظور وعيه الهويوىِّ بنفسه ، يشكل أيضاً (آخر) فى منظور (الغير) المختلف ، مِمَّا يضع (التعارف) على رأس الشروط الأوليَّة اللازمة لجعل (اختلاف) هذه (الذوات) المتعدِّدة المتنوِّعة نعمة ، لا نقمة!
لكن عقدة (المركزويَّة الاثنيَّة) ، وغشاوة (الاستعلاء) التاريخى ، مع انعكاساتهما السالبة فى ذهنيَّة ووجدان (الآخر) ، أضرَّت كثيراً ، وما تزال ، بسلاسة هذا (التعارف) ، إلى درجة أن أحداً لا يستطيع ، إلا بالكثير من حُمرة العين ، أن يزعم ، اليوم ، وبعد كلِّ هذه القرون الطوال من التساكن المتوتر ، أننا (نعرف) بعضنا البعض ، بمستوى يجعل من اقرارنا بحقيقة (تعدُّدنا وتنوُّعنا) واقعاً حياتياً متعيِّناً ، دَعْ احترامنا لهما فى الممارسة التلقائيَّة ، لا مجرَّد الاكتفاء بوضعهما ، حلية زينة ، فى النصوص الدستوريَّة والقانونيَّة المُرائية ، على ضرورتها! مع ذلك ، وعلى أهمية استبصار السوالب لأغراض حسن الاعتبار ، فإن القدر من التراكم الايجابى الذى وقع لنا حتى الآن ، بشق الأنفس ، فى هذا الاتجاه ، على نقصه وقصوره البائنين ، هو الذى يستوجب الدَّعم والتأكيد ، حقاً ، عن طريق تعهُّده بمقاربة حثيثة تسلط حزماً كثيفة من الضوء عليه ، وترُدُّ الاعتبار لحقائقه فى الثقافة والاجتماع والتاريخ ، وتجلى، بدأب وحدب ، ما قد يكون انطمر أو انطمس من هذه الحقائق فى الذاكرة الجمعيَّة بفعل خراقة السياسات التربويَّة والتعليميَّة والاعلاميَّة.
هذا الجانب الايجابىُّ ، ورغم ضجَّة الراهن المعلول بالسوالب ، هو الذى ينبغى أن نكِدَّ فى سبيل بقائه فى المدى القريب ، ورسوخه فى المدى المتوسِّط ، ثم الارتقاء به فى المدى البعيد، كى يصبح الأكثر وثوقاً فى تشكيل بنية الوعى الاجتماعى مستقبلاً ، والأكبر تأثيراً ، من ثمَّ ، على نسيج (السلام) المستدام و(الوحدة الوطنية) المأمولة.
وليس ثمَّة شكٌّ ، بادئ ذى بدء ، فى وشائج القيم الروحيَّة والأخلاقيَّة التى تشدُّ الاسلام والمسيحيَّة إلى بعضهما البعض ، بما يجعلهما متقاربين إلى حدِّ التطابق أحياناً. ففى منظومة قيم (السلام) ، مثلاً ، نجد المعنى المشترك بين تسمية الحق عز وجل لنفسه ، فى القرآن الكريم، "بالسلام" (23 ؛ الحشر) ، وبين تأكيد الكتاب المقدس بأن "الله هو إله السلام .. منه السلام وإليه السلام وبه السلام". كما نجد ، ولا بُدَّ ، نسباً روحياً وثيقاً بين اقتران هذه الدلالة السامية (للسلام) بقيم (العدالة الاجتماعية) فى قوله تعالى: "ونريد أن نمُنَّ على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمَّة ونجعلهم الوارثين" (5 ؛ القصص) ، وبين بشارة الكتاب المقدس: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض". وإلى ذلك أيضاً قول النبىِّ (ص) فى الحديث الشريف: "ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائع" ، وقول عمر بن الخطاب (رض): "ولانا الله على الأمة لنسد لهم جوعتهم ، ونوفر لهم حرفتهم ، فإن أعجزنا ذلك اعتزلناهم" ، من جهة ، والمواعظ الكنسية التى تحضُّ حضاً ، من الجهة الأخرى ، على فضيلة "ألا يجوع واحد فينا بينما الآخر يتخم من الشبع .. ولا ينام أحدنا وهو جائع أو مظلوم". ولئن شدَّدت التعاليم الكنسيَّة عموماً على أن السلام يمنح (السعادة الكاملة) فى (العدالة) و(الرضا) ، فإن (العدالة الاجتماعيَّة) تشكل أيضاً أحد أهمِّ المقاصد الكليَّة للتعاليم القرآنيَّة ، حيث جعل الله (الانفاق) ، كوسيلة لإعادة توزيع الثروة ، من مطلوبات (التقوى) ، بل وساوى بين هذا (الانفاق) وبين (الإيمان) و(الصلاة): "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" (2 ـ 3 ؛ البقرة) ، كما وجعل (الانفاق) من أهم وجوه فعل (الخير) التى يجزى عنها بقوله: "يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلون من خير فإن الله به عليم" (215 ؛ البقرة). وطابق سبحانه وتعالى بين المفهومين القرآنيَّين (للخير) و(العمل الصالح): "والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً" (46 ؛ الكهف). وفى تفسير القرطبى عن ابن عباس أن (الباقيات الصالحات) هى كل (عمل صالح) من قول أو فعل.
وفى مستوى آخر ، ومع التسليم بإعلاء الاسلام لفضيلة العفو والصفح ، وحضِّ المسيحيَّة على "إدارة الخد الأيسر" ، إلا أن هذه القيم ذات الصلة الوثيقة (بالسلام) لا تتحقق بغير استيفاء أشراطها واستحقاقاتها الموضوعية. (فالعفو) لا يكون فضيلة فى الاسلام إلا بعد توفر شرط (القدرة) على نقيضه ، وتلك هى دلالة "العفو عند المقدرة". ومن الجهة الأخرى اجترح القس الجنوب افريقى ديزموند توتو فهماً عصرياً (للصفح) المسيحى فى ما أسهم به من معالجة لآثار التعانف التاريخىِّ المتطاول فى ذلك البلد بأسلوب (الحقيقة والمصالحة) ، استلهاماً لروح الكتاب المقدس ، بحيث لا يكون المطلوب (نسيان) الجراح ، بل (مداواتها). فالشرط الأساسى لتطبيق هذا الأسلوب هو حصول الضحايا على اعتراف صريح ، مستقيم وكامل ، مقروناً باعتذار علنى من جلاديهم ، فى ما يشبه طقس (التطهُّر الكنسى) ، أو ما يستوفى ، فى الاسلام ، شرط تعديل المواقف ، بحيث يصبح الضحايا فى موقف (القدرة) على أخذ جلاديهم باعترافاتهم ، فتنفتح الابواب ، بعد ذلك وليس قبله ، لاحتمالات العفو ، حين تطيب النفوس المكدودة ، ويسكن الألم الشخصى ، ولا تتبقى سوى الموعظة التاريخيَّة كضمانة معنويَّة قويَّة لعدم تكرار مثل تلك الممارسات مستقبلاً. ومن نافلة القول أن من يرفض ذلك لا يعود أمامه سوى المثول أمام المحكمة ، فى دولة يفترض فيها احترام القضاء المستقل ، كى ينهض حكم القسط على ساقيه وتأخذ العدالة مجراها.
وإذن فإن (السلام) لا يكون حقيقياً ولا مستداماً بغير توفر هذه الأشراط والاستحقاقات فى الاسلام والمسيحيَّة ، وهى أشراط واستحقاقات أبعد ما تكون عن مجرد (التسليم) المجانىِّ بالأمر الواقع.
وهناك أيضاً القاسم المشترك فى بعض وجوه التطبيق النموذجى السودانى بين العقيدتين ، حيث شكل حسن المعاملة ، بأكثر من جفاء التلقين ، مداخل المسيحيَّة إلى المجتمعات المحليَّة فى تاريخ السودان الحديث ، مثلما كان قد عبَّد نهجاً مرموقاً أيضاً للمتصوِّفة الأوائل فى نشر الاسلام فى البلاد ، بل وما زال يعبِّد ، حتى الآن ، طرقاً سالكة للمعاصرين منهم إلى قلوب الناس. ونسأل الله أن يسبغ رحمته ورضوانه على الشيخين الصالحين عبد الرحيم البرعى وعبد العال الادريسى اللذين روِّعت بلادنا بفقدهما مؤخراً ، كما نسأله ، جلَّ وعلا ، أن يردَّ غربة الشيخ الجليل حسن الفاتح قريب الله ، ليعود يرفل فى ثياب العافية بين أبنائه ومريديه الكثر ، فلطالما جعل الله أفئدة من الناس تهوى إلى رقائقهم ، أجمعين ، وحسن معاملتهم. وفى الحديث الشريف: "الدين المعاملة"، كما وفى الكتاب المقدس: "إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة فأنا وسطهم" ، بمعنى عدم الاحتياج ، فى كل مرة ، لبناء كنيسة. والأمثلة كثيرة.
لكن (السلام) ، بطبيعته ، ليس محض قيمة معلقة فى مطلق فضائها العقيدى ، بقدر ما هو ساحة علاقات اجتماعيَّة ملموسة. والنصوص الدينيَّة لا تشتغل ، عملياً ، إلا عبر التركيبة الذهنية والنفسية التى تفرز تصوُّرات المؤمنين عن (الذات) و(الآخر) ، من خلال معاملاتهم تحت الظرف الاقتصادى السياسى والاجتماعى الثقافى المحدَّد. فلا يكفى ، إذن ، لأجل أيَّة مقاربة جادة لموقف هذه المجموعة الإثنيَّة/الطائفية أو تلك من قضية (السلام) ، محض الاقتصار على استذكار حمولة النصوص المقدَّسة من منظومات القيم ، فلا مناص ، بالتالى ، من مداخل أوثق صلة بالتصوُّرات التى تتمظهر فى السلوك العملى للمجموعات المختلفة من خلال ممارستها لعلاقاتها الاجتماعيَّة. وهى ، بالضرورة ، مداخل سوسيو ـ ثقافيَّة.
إن باب (التديُّن) السودانىِّ (بالمعاملة) يذخر ، قديماً وحديثاً ، بالكثير من النماذج المضيئة التى تستحق أن ترفع فى وجه (الاستعلاء) ، وأن يُهيأ لها الذيوع والانتشار ، لا فى بطون الكتب أو ذاكرة الحكائين ، فحسب ، بل وفى مناهج التربية والتعليم وأجهزة الاعلام ووسائط الاتصال الجماهيرى كافة.
من ذلك ، مثلاً ، أن الشيخ ادريس ود الأرباب ، عندما اعتزم ملك سنار مصادرة أراضى المسيحيين بعد تدمير سوبا ، أفتى بحرمة ذلك كون تلك الأراضى قد غصبت من المسيحيين ، رغم أنه كان موعوداً بنصيب فيها ، مما اعتبره ود ضيف الله فى (كتاب الطبقات) دليلاً على ورعه ، فكتب يقول: ".. ومن ورع الشيخ أن الملك بادى بن رباط .. جمع كبار الفونج مثل شوال ولد أنفله ونقى شيخ حوش داره وقال لهم شيخ ادريس شيخى وأبوى دارى من العسل إلى البصل باقسمها له النص فامتنع الشيخ وقال لهم هذه الدار دار النوبة وأنتم غصبتوها منهم أنا ما بقبلها الرسول قال من سرق شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة به من سبع أرضين". وما تزال الذاكرة الامدرمانية تختزن مأثرة (خلوة بولس) كملمح بليغ للتسامح الدينى ، وأثر شديد الافصاح عن عبقرية المكان. فقد نزح القبطىُّ الأرثوذكسىُّ بولس مع أسرته من صعيد مصر ليستقر على تخوم ود اب روف وبيت المال بأم درمان ، ولينشئ تلك (الخلوة) ذات المساقين: تعليم المسيحيَّة لأبناء المسيحيين ، وتعليم الاسلام لأبناء المسلمين ، علاوة على تقديم وجبة مجانية للجميع. وهكذا لم تحُل قبطيَّة بولس دون إلحاق الكثير من المسلمين أطفالهم بخلوته ، طوعاً ، وعن محبة وتقدير. وفى سلالتها نفر من مشاهير الشخصيات السودانية التى لعبت أدواراً مهمة فى شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى البلاد ، كالدكتور وديع حبشى ، الخبير الزراعى العالمى والوزير السابق ومدير مشروع الجزيرة الأسبق وأول رئيس للنادى القبطى عند تأسيسه فى 1978م ، والسيد نجيب يسا ، مدير مصنع سك العملة الأسبق وسكرتير نادى المريخ الأسبق.
ويروى حسن نجيلة ، فى (ملامح من المجتمع السودانى) ، واقعة أخرى ، من الحقبة الاستعماريَّة ، عن الشاعر القبطى صالح بطرس الذى استفز وطنيَّته تطاول العهد بمسجد أم درمان الكبير وهو ناقص البناء ، منعدم المئذنة ، والتبرعات ما تنفكُّ تجبى له فى كثير من البطء ، فأنشأ قصيدته الشهيرة: "يامسجداً مطلت بنوه بعهده" ، والتى كان لها أثر كبير فى إشعال الحماس للاكتتاب حتى اكتمل البناء. وهكذا أيضاً لم تحُل قبطيَّة بطرس دون أن يرى ، بعين بصيرته ، فى الانشاد لأجل إكمال بناء مسجد أم درمان الكبير عملاً (وطنيَّاً) يحبه الله. والنص الكامل للقصيدة منشور ضمن كتاب سعد ميخائيل ، القبطىِّ هو الآخر ، والذى أصدره عام 1925م ، للتعريف بالحركة الشعريَّة فى البلاد ، أوان ذاك ، تحت عنوان: (شعراء السودان) ، مسلمين ومسيحيين على السواء.
كمال الجزولي مساء الخميس 24/2/05 شهدنا القدَّاس على روح الفقيد سمير جرجس بكنيسة العذراء بالخرطوم ، حيث وصفه أبونا فيلوثاوس بأنه زعيم قبيلة الأقباط السودانيين. ومن هناك شيعناه إلى مثواه الأخير ، وكنا خلقاً كثيرين من شتى ملل ونحل البلاد ، فعلق محمد على المحسى بأن ذلك يشـبه سميراً تماماً. وكان هزنى ، قبل يومين من ذلك ، ما أورد تاج السر مكى (الأيام ، 19/2/04) عن إنشاء المهاجرين الأقباط السودانيين بسدنى الاستراليَّة منتدى مفتوحاً لكل الجالية السودانيَّة ، وإصدارهم صحيفة أسبوعيَّة تعنى بأخبار الوطن وثقافاته ، وتأسيسهم، إلى ذلك ، إذاعة تبث ساعة كل يوم ، فتذكرت ما كان قال لى لطيف جوزيف صبَّاغ ، حين عاد من هجرة قسريَّة طويلة: "أقسم يا أخى أن يوماً واحداً فى السودان يعدل كلَّ تلك السنوات الضائعة"! وفى الحلقة الماضية أشرنا إلى أن أخطر ما يفرِّق بيننا هو الاستعلاء المسكوت عنه فى حمولة الوعى الاجتماعى ، ومن تجلياته الفادحة لدى الذهنيَّة (السالبة) للمستعرب المسلم المتوسِّط مماهاته الفظة بين صورة (القبطى) وصورة (اللامنتمى)! ولهذا رجَّحنا أن يستغرب كلمة مكى وقول صبَّاغ معاً ، بل وألا يُصدِّقهما أصلاً! فما يزال يركن ، رغم مقت الاسلام للاستعلاء العِرقى ، إلى وهمه الفاره perception عن (ذاته) ، بأنه هو وحده (ود البلد) ، أما (الآخر) فإما (حلبى) وإما (عبد) ، وكلاهما مُساكن عرَضىٌّ لا يؤبَّه به ولا يُعوَّل عليه! وقلنا إنه ، وبقدر ما يتحمَّل التيار (السلطوى/التفكيكى) المسئوليَّة التاريخيَّة عن تغذية هذه النزعة المهمِّشة (للآخر) marginalizing ، يتوجَّب تحميل التيار (العقلانى/التوحيدى) ، بالمقابل ، مسئوليَّته عن عدم التصدِّى للظاهرة بما يكفى لنزع أقنعتها الأيديولوجيَّة الزائفة. بغير ذلك يضحى شأننا كمن يحشو الجراح بالتبغ ، ليتراجع حتى الأمل فى تغليب ثقافة التسامح كقاعدة احترام تلقائىٍّ للآخر tolerance ، لا كمِنة يتفضل بها الأسمى على الأدنى toleration. وشدَّدنا ، فى هذا السياق ، على أن ألزم ما يلزمنا الاقرار به ، ابتداءً ، هو افتقار مكوِّناتنا الاثنيَّة (للتعارف) الذى يشكل أهم الشروط الأوليَّة لجعل (اختلافنا) نعمة لا نقمة! مع ذلك ، ورغم ضجَّة الراهن المعلول بالسوالب ، فإن القدر من التراكم الايجابى الذى وقع لنا ، بشق الأنفس ، هو ما يستوجب التأكيد عليه ، وإجلاء حقائقه المطموسة فى الذاكرة الجمعيَّة بفعل خراقة السياسات المعتمدة منذ الاستقلال. وقد عرضنا ، فى هذا الاتجاه ، لمنظومتى القيم المتقاربة فى الاسلام والمسيحيَّة بشأن (السلام) خصوصاً. لكننا استدركنا على أن (السلام) ليس محض قيمة عقيديَّة ، بل وساحة علاقات اجتماعيَّة. فالنصوص لا تتمظهر ، عملياً ، إلا عبر (معاملة) المؤمنين (للذات) و(للآخر) تحت الظرف الاقتصادى السياسى والاجتماعى الثقافى المحدَّد. ولهذا رأينا ضرورة إبراز بعض النماذج التاريخيَّة المضيئة فى باب (التديُّن) السودانىِّ (بالمعاملة) ، نصفع بها وجه (الاستعلاء) ، ونهئ لها الذيوع فى مستوى الوعى الاجتماعى العام.
من ذلك ، مثلاً ، تحريم الشيخ ود الأرباب مصادرة الملك بادى لأراضى المسيحيين النوبة بعد تدمير سوبا ، مِمَّا عدَّه ود ضيف الله دليلاً على ورعه ، ومأثرة (بولس) القبطىِّ الماجد الذى أنشأ بأم درمان (خلوة) تعلم المسيحيَّة لأبناء المسيحيين ، والاسلام لأبناء المسلمين ، وتقدِّم وجبة مجانيَّة للجميع. وذكرنا من سلالته وديع حبشى ونجيب يسا وغيرهما مِمَّن لعبوا أدواراً مرموقة فى تاريخنا الاجتماعى. كما نوَّهنا بفضل الشاعر القبطىِّ صالح بطرس فى الحث على الاكتتاب لإكمال مسجد أم درمان ، أيام الاستعمار ، بقصيدته الشهيرة (يا مسجداً مطلت بنوه بعهده) ، وبالقبطىِّ الآخر سعد ميخائيل الذى أصدر ، عام 1925م ، مختاراته الباكرة (شعراء السودان) ، مسلميهم ومسيحييهم على السواء. وفى ما يلى نواصل: والواقع أن للمسيحيَّة ، عموماً ، أثرها العميق الماثل فى الكثير من الثقافات السودانيَّة ، والذى ظلَّ يتحدِّر إليها من العصور القديمة ، حتى يوم الناس هذا ، مِمَّا تعهَّده الأب الدكتور جيوفانى فانتينى بالرصد والتقصِّى فى مؤلفه القيِّم (تاريخ المسيحية فى الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث). من ذلك ، على سبيل المثال ، حرص الأهالى من المستعربين المسلمين فى أغلب المناطق النيليَّة بين وادى حلفا والخرطوم على ممارسة طقس أربعين المولود الجديد ، حيث تحمله الأم إلى النهر ، ترافقها زفة من النساء يغنين ويزغردن ويلوِّحن بأغصان النخيل ، فتغسل وجهها ويديها ورجليها ثم تفعل الشئ نفسه للوليد. ولهذه الممارسة أصل فى ما يعرف عند المسيحيين بعماد الطفل بالغطاس ، وفى تقليد أربعين الولادة كما رسمه (سفر اللاويِّين) ، وما يزال متبعاً فى بعض الكنائس الشرقيَّة بمصر وأثيوبيا ، وربما أدمجت فيه طقوس مسيحيَّة أخرى كطقس (دخول الوالدة إلى الكنيسة).
وشبيه بهذا طقس (ماريا) ، بعد الولادة بيومين أو ثلاثة ، حيث تحمل القابلة الوليد فى زفة مماثلة ، فى بعض قرى النوبيين (الحلفاويين والسكوت والمحس والدناقلة) ، وتحمل امرأة أخرى طبقاً مصنوعاً من الأعشاب توضع فيه أدوات التوليد ، ونفايات البيت ، وقرص من الخبز ، فيرمى هذا الطبق بمحتوياته فى النهر. ثم بعد الفراغ من عملية غسل وجه ويدى ورجلى الوليد ، أو تغطيسه فى الماء مع ترديد عبارة "أغطسك غطاس حنا" ، تبركاً بيوحنا المعمدان ، تعود الزفة بشئ من ماء النهر ليحفظ فى البيت بضعة أيام قبل دلقه. وأصل هذا التقليد موجود فى طقس رتبة المعموديَّة ، وفى نقل المسيحيين بعض الماء المبارك لحفظه فى البيوت.
ويُضحَّى فى مثل هذه المناسبة بذبيح لا يكسر منه عظم. كما يُطبع على جدار البيت رسم كفٍّ مغموسة فى دم الضحية. ويرى الأب فانتينى فى ذلك أثراً من ذبح الحمل الفصحى عشيَّة الفصح المجيد كما ورد فى العهد القديم. ونرى فيه أثر الذبح عقب صلاة عيد الأضحى المبارك عند المسلمين ، مع بعض التحوير. ونضيف ، أياً كان الأمر ، أن (كفَّ الدَّم) هذه ما تزال تطبع طلباً للبركة ، وأكثر ذلك على أبواب العقارت والسيارات المشتراة حديثاً.
وفى بعض قرى الشمال يستدعون طفلاً حسن الأخلاق ، ويجعلونه يمضغ بعض التمر قبل أن يطلبوا إليه مس شفتى الوليد بلسانه ، أملاً فى أن تنتقل إليه الأخلاق الحميدة مع حلاوة البلح. وفى هذا أيضاً أثر من التقليد الكنسى الذى يُطلب بموجبه عرَّاب (أشبين) لمعموديَّة الوليد يضمن له تربية مسيحيَّة حال وفاة والديه أو غيابهما. وفى حال تعسُّر الولادة فى بعض قرى النوبيين تستغيث النساء ابتهالاً ، باللغة النوبيَّة ، لماريا (السيدة العذراء) لتيسير الأمر على الأم.
وقد لفت السيد ابراهيم احمد الانتباه ، ضمن إصدارة (السودان فى رسائل ومدونات Sudan Notes and Records) ، عام 1938م ، إلى أن الأطباق التى يزيِّن بها النوبيون واجهات منازلهم لإبعاد (العين الشريرة) تشكل ، فى حقيقتها ، إشارة الصليب.
كذلك يرسم أهل المصاب بمرض خطير ، فى بعض مناطق جبال النوبا ودارفور ، إشارة الصليب بزبل البقر على صدره. وإذا ذهبت أم بطفلها إلى مكان لم يزره من قبل ، ترسم على جبينها وعلى جبين الطفل إشارة الصليب ، ويسمونه (برشام) فى بعض لغات الفور (السودان فى رسائل ومدونات ، 1928م). ويشمل احتفال الزفاف عند بعض الفور ذبح ضحية ، وقيام شيخ القرية برسم إشارة الصليب بدمها ، أو ببعض الدهن ، على جبينى العروسين ، فى طقس أشبه (بحفلة الاكليل) عند المسيحيين. ويعاد هذا الطقس على العروسين عندما يرزقان بطفل. وفى اليوم السابع للولادة ، عند بعض الفور أيضاً ، ترسم إشارة الصليب بالكحل على جبين الوليد. وتمارس بعض قبائل جنوب النيل الأزرق طقس رسم إشارة الصليب بفحم الحطب على جبين الوليد ، وبالتراب على صدور الفتيان المرضى أو المصابين بالاعياء.
واستطراداً فإن مستعربين مسلمين كثر اعتادوا ، دون أن يستشعروا أدنى تعارض بين معتقداتهم الدينيَّة وبين هذه الترميزات الثقافيَّة ، أن يعلقوا تميمة (المشاهرة) على الحائط مباشرة فوق رأس الأم النفساء طوال مدة رقادها ، والصليب مكون أساسى فى هذه التميمة.
أما فى العصر الحديث فإن للجماعة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة ، تحديداً ، فى بلادنا ، مثلما للطائفتين المسيحيَّتين الأخريين: الكاثوليكية ، صاحبة الكنيسة الأقدم ، والبروتستانتيَّة (الانجيليكانيَّة) ، وجود لا تنكره العين إلا من رمد فى الشمال والوسط وبعض المناطق فى الغرب ، كجبال النوبة وغيرها.
ويعود تاريخ بروز الأقباط الأرثوذكس ضمن التركيبة الاثنيَّة فى السودان إلى ما قبل الحقبة الاستعماريَّة بعقود طوال. غير أن الفترة الممتدَّة من بواكير القرن الماضى شهدت تزايداً ملحوظاً فى تعدادهم ، وكثافة غير مسبوقة فى وجودهم كجماعة متميِّزة. فعلى الرغم من أن الادارة الاستعماريَّة كانت قد حظرت تبشير الكنيسة الأرثوذكسيَّة فى الجنوب ، لأسباب سياسية متجذرة ، بالأساس ، فى عدم رغبتها فى تمدُّد النفوذ المصرى إلى تلك البقاع ، وقصرها السماح بالنشاط التبشيرى على الكنيستين الأخريين ، إلا أن احتياجها للكوادر المصريَّة المدرَّبة أجبرها على استقدام أعداد كبيرة منهم ، وجلهم من الأقباط الأرثوذكس ، من صعيد مصر بالذات ، للاستقرار والعمل فى سلك الادارة ، والحسابات ، والتجارة ، وورش ومحطات السكة حديد ، فى الخرطوم ، وعطبرة ، وبورتسودان ، والأبيض ، والنهود ، وشندى ، وغيرها من مناطق الانتاج الحديث.
ما لبث هؤلاء أن جعلوا من نقل شتى المعارف إلى الأهالى ، فى مختلف ضروب الصنائع وسبل كسب العيش ، مدخلهم إلى المجتمعات المحليَّة ، حيثما استقرُّوا. فعكفوا على تعليم الناس فى قاع المجتمع شتى المهارات فى الميكانيكا ، والبناء ، والنجارة ، والحدادة ، والأعمال الكتابيَّة والمحاسبيَّة. وكان طبيعياً أن يشكلوا ، مع الزمن ، تياراً متميِّزاً فى نهر الثقافات السودانيَّة العريض. فتعاطوا ، بشكل إيجابىٍّ ، مع البيئات المختلفة ، يسترفدونها ثقافة الأزياء ، والزينة ، والأطعمة ، والجوار ، وتقاليد الأفراح والأتراح ، وطقوس رمضان ، والمولد النبوىِّ الشريف ، وعيدى الفطر والأضحى ، ويرفدونها ، بالمقابل ، بما فى أيديهم من ثقافة الأزياء ، والزينة ، والحلى ، والاحتفاليات العائليَّة ، والمعاملات التجاريَّة ، والمطبخ الشرقى ، وشمِّ النسيم ، وعيد الميلاد المجيد ، وما إلى ذلك.
هكذا ظلت (القبيلة القبطيَّة) تواصل أداء دور مهمٍّ لا غنى عنه ، بل وريادىٍّ فى كثير من الأحيان ، منذ مطالع القرن الماضى ، على صعيد الترسيخ العملى لقيم (السلام) و(التسامح) و(الوحدة). كما ظلت لها مساهماتها الواضحة فى شتى حقول النشاط المدنى. فالمكتبة القبطيَّة التى تأسَّست عام 1908م تعتبر أقدم مؤسسات المجتمع المدنى فى البلاد ، وتحتوى على نحو من عشرة ألف كتاب فى مختلف حقول المعرفة ، علاوة على ثروة من الوثائق النادرة ، وعضويَّتها مفتوحة لكل السودانيين. ومِمَّا يجدر ذكره أن لائحتها قد عُدِّلت ، مرَّة ، لإهداء ستة مجلدات من مخزونها القيِّم لدار الوثائق القوميَّة. وقد عثر المؤرخ يونان لبيب رزق بين هذه المجموعة ، بمساعدة العالم الراحل أبو سليم ، على الوثيقة الأساسيَّة التى أمكن بموجبها حسم التحكيم الدولى حول (طابا) لصالح مصر ضد إسرائيل. كما وأن وزارة الثقافة المصريَّة تزوَّدت من أرفف هذه المكتبة ، بعد ثورة 23 يوليو 1952م ، بنسخ نادرة أعادت طبعها من (أصل الأنواع) لشبلى شميل ، و(حرب النهر) لونستون تشيرشل ، و(عشر سنوات فى أسر المهديَّة) للأب جوزيف أوهلدر ، بعد نفاد طبعاتها الأولى التى كانت قد صدرت من مطبعة بولاق بالقاهرة فى أوائل القرن الماضى.
ومنذ فجر الحركة الوطنيَّة ظلت دوائر الأحزاب السياسيَّة ، كجزء من مؤسَّسات المجتمع المدنى ، تضمُّ ، عبر مختلف الفترات ، رموزاً قبطيَّة ناشطة بين قياداتها وقواعدها ، كتادرس عبد المسيح (عضو مجلس الشيوخ سابقاً) وجوزيف صبَّاغ وإبنه لطيف فى حزب الأمة ، ووديع جيِّد وعبد الله النجيب وحنا يسَّا البيباض فى الاتحادى الديموقراطى ، وموريس سدرة وسمير جرجس وميشيل اسطفانوس وجرجس نصيف فى الحزب الشيوعى ، على سبيل المثال لا الحصر.
ضف إلى ذلك كله كيانات ومؤسسات النشاط الاجتماعى للأقباط الأرثوذكس ، كالنادى القبطى وجمعيات أصدقاء الكتاب المقدس وما إلى ذلك.
فى خلفيَّة هذه الحقائق وغيرها تتجلى المفارقة المأساويَّة بوضوح حين ننظر اليوم فى ما انتهى إليه هذا الحضور الريادى ، فلا نجد ، إلا فى ما ندر ، غير ضعف مشاركة المجموعات المسيحيَّة فى الحياة العامة ، بل غيابها شبه التام عن أنشطة المجتمع المدنى ، وانزوائها الكامل كما الجاليات المعزولة! وقد لا يحتاج الباحث إلى كبير عناء ليعود بتاريخ هذه الظاهرة إلى أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضى. وهى الفترة التى شهدت بداية الارهاص الجدى بتدشين مشروع الدولة الدينيَّة الذى أنجز أولى حلقات تمظهره الكيفى بإصدار وتطبيق قوانين سبتمبر 1983م باسم الشريعة الاسلاميَّة ، ثم عاد لاحقاً إلى مراكمة عناصر حركته بذات الاتجاه فى ظل الظروف التى تمخضت عنها الانتفاضة الشعبيَّة بين أبريل 1985م ويونيو 1989م ، حيث استكمل خطوته التحويليَّة نحو حل قضيَّة السلطة عن طريق الانقضاض المسلح على الديموقراطيَّة الثالثة.
صحيح أن الأقباط شهدوا ، خلال تلك الفترة ، من عنت المعاش والثقافة والاجتماع ، ما لم يشهدوا طوال قرن بأكمله ، بما فى ذلك التشريد الذى طال أندر كفاءاتهم فى سلك الادارة والمصارف وخلافه. ولكن الصحيح أيضاً أن المسلمين أنفسهم أضيروا ، ربما بأكثر من المسيحيين ، من مشروع التيار (السلطوى الاستعلائى). وليس سوى مكابر من ينكر أن هذا المشروع لم يعدم مساندة مسيحيين بين الجنوبيين الكاثوليك والأقباط الأرثوذكس. كما وليس سوى مكابر من لم يلمح ، فى ملابسات الحرب التى جرى تصويرها على أساس دينى ، كيف أن المسلم قد قتل بيد المسلم ، والمسيحى بيد المسيحى. لذلك ينبغى الكف عن الترويج للمشكلة كما لو كانت قائمة بين المسيحيين ، بمن فيهم الأقباط ، ككتلة متجانسة ، وبين المسلمين ككتلة متجانسة مضادة.
إن فضل (اتفاق السلام) لا يعدو حتى الآن فضيلة إسكات البنادق ، أما كل ما عدا ذلك ، كتعميق الديموقراطية ، وعدالة التنمية ، ونبذ الاستعلاء بالدين أو الثقافة أو اللغة أو العرق أو خلافه ، فهو من مهام المجتمع المدنى ، بما فى ذلك الضغط على الدولة لتنفيذ ما يليها من واجبات. وغافل من يكِل عمل المجتمع المدنى إلى الدولة ، حتى بمشاركة الحركة الشعبيَّة!
إن أهم مهام المجتمع المدنى ، فى هذا الاتجاه ، هو ترميم اطمئنان المجموعات المسيحيَّة بالوطن ، بمن فيهم الأقباط الأرثوذكس ، واستعادة دورهم فى ساحات النشاط العام. ولولا ميراث (الاستعلاء) البغيض ، لما أضحى فضل الثقافة العربيَّة الاسلاميَّة فى السودان مجحوداً إلى هذا الحدِّ من التعانف حولها ، وبنفس القدر ، لما احتاج الأثر المسيحى ، وتحديداً القبطى الأرثوذكسى ، فى الحياة السودانيَّة لمن يؤكده ، لا بكلمة تاج السر مكى ولا بمقالتى هذه.
الصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية فقد كانت الوصية التى اعطاها الله لابينا ادم، هي ان يمتنع عن الاكل من صنف معين بالذات من شجرة معينة (تك 2:16-17) بينما يمكن ان يأكل من باقي الاصناف وبهذا وضع الله حدودا للجسد لايتعداها.
وهو ليس مطلق الحرية يأخذ من كل مايراه ومن كل مايهواه.. بل هناك مايجب ان يمتنع عنه، اي ان يضبط ارادته من جهة وهكذا كان على الانسان منذ البدء ان يضبط جسده، فقد تكون الشجرة جيدة للاكل وبهجة للعين وشهية للنظر (تكوين3:6) ومع ذلك يجب الامتناع عنها، وبالامتناع عن الاكل يرتفع الانسان فوق مستوي الجسد ويرتفع ايضا فوق مستوي المادة وهذه هي حكمة الصوم.
ولو نجح الانسان الاول فى هذا الاختبار، وانتصر على رغبة جسده فى الاكل لانتصر على حواس جسده التى رأت الشجرة فاذا هي شهية النظر..ولو نجح فى تلك التجربة، لكان ذلك برهانا على ان روحه قد غلبت شهوات الجسد وحينئذ كان يستحق ان يأكل من شجرة الحياة، لكنه انهزم امام الجسد فاخذ الجسد سلطانا عليه.
وظل الانسان يقع فى خطايا عديدة من خطايا الجسد واحدة تلو الاخري حتي اضحت دينونة له ان يسلك حسب الجسد وليس حسب الروح (رو8:1) وجاء السيد ليرم الانسان الى رتبه الاولي.
ولما كان الانسان الاول قد سقط فى خطية الاكل من ثمرة محرمة خاضعا لجسده، لذلك بدا المسيح تجاربه بالانتصار من هذه النقطة بالذات، بالانتصار على الاكل عموما حتي المحلل منه.
بدأ المسيح خدمته بالصوم، ورفض اغراء الشيطان بالاكل لحياة الجسد بل اظهر له ان الانسان ليس مجرد جسد، انما فى عنصر آخر هو الروح وطعام الروح هو كل كلمة تخرج من الله فقال (ليس بالخبز وحده يحيا الانسان) ولم تكن هذه قاعدة روحية جديدة، اتي بها العهد الجديد، انما هي وحية قديمة اعطت للانسان اول شريعة مكتوبة.
ولعل ذلك ما تؤكده الاية (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تهتدون). الصوم يسبق كل نعمة وخدمة فكل بركه يقدمها لنا الله نستقبلها بالصوم لكي نكون فى حالة روحية تليقق بفلك البركة، فنجد ان الاعياد تسبقها صيامات وكل من يشترك فى الصلوات يكون صائما وكذلك المرشح للكهنوت يكون ايضا صائما.. كما ان المسيح قبل ان يبدأ خدمته الجهارية صام اربعين يوما في فترة خلوة قضاها مع الله على الجبل وعلى ذلك فان كل كاهن تتم سياحته يعطي فترة اربعين يوماً يقضيها في صوم وفي خلوة كما أن الرسل الأقدمون جميعهم بدأوا خدمتهم بالصوم والخادم يصوم ليكون فى حالة روحية ولكي ينال معونة الله، وقد عاش يوحنا المعمدان حياته بالصوم والخلوة من البرية قبل ان يبدأ خدمته داعيا الناس للتوبة.
ان للصوم احتياجات تتمثل فى: ____________________________________
1- التوبة القلبية وتجديد العهود والبكاء على الزمان الردي الذي مضي.
2- الهدوء والصمت عند الصائم ببعده عن ايقاع الحياة الصاخب وعنف متطلباتها الشئ الذي يجعله فى تشتت مرعب يبدد قوي الجسم والعقل والنفس فالصوم يبعد الانسان عن تاثيرات المشتتات الخارجية وتعتبر فترة الصوم رحلة لضبط الاتجاهات واختزال لكل ماهو غير ضروري فى برنامجنا اليومي كالحديث بالباطل والثرثرة وبذلك نجد فى الصوم التمتع بالهدوء والصمت والخشوع والعبادة والتأمل.
3- العطاء.. هو فعل الخير والرحمة ومساعدة الضعفاء والمعوذين فالصدقة هي طريق الكمال فالصوم هو فرصة للتعبير العملي عن الايمان الحقيقي وقد اوصي السيد المسيح ان يكون الصوم خفيا لايهدف للتباهي او التظاهر (من6:217،18).
ومما تقدم يؤكد الكتاب المقدس ان للصوم اهمية وضرورة فهو فترة روحية مقدسة يهدف فيها الصائم الى سموه الروحي وهو يحتاج لبعض التدريبات الروحية التى تختلف من شخص لآخر يمارسها بارشاد ابو الاعتراف.
وبمناسبة شهر رمضان الكريم قامت بعض اليوميات بعمل سياحة حول الصوم عند بعض الشعوب حيث اوضحت معلومة تفيد ان صيام السيدة العذراء عند الاقباط الارثوذكس هو تخليد لذكري ظهور او تجلي العذراء بكنيسة الزيتون بجمهورية مصر العربية، الا ان هذه المعلومة قد جانبها التوفيق حيث ان صيام السيدة العذراء عرف منذ بداية الديانة المسيحية الا ان ذلك الظهور او التجلي حدث فى زماننا القريب.. فصيام السيدة العذراء تمجيدا لوالدة المسيح وقد درج الاقباط على صومه مرة واحدة خلال العام حسب التقويم.
ولكي تعم الفائدة والمعرفة اود ان ابين لقارئي الكريم المنظومة المتبعة فى الصيامات والاعياد عند الاقباط التى يحتفي بها وفقاً لتقويم المحبة.
-صيام نينوي.
-الصوم الكبير.
- صوم الميلاد.. ميلاد السيد المسيح.
وخلال فترة الصيامات يتناول الصائم البقوليات والخضروات بديلا عن اللحوم والالبان ومشتقاتها كالجبن والزبد وخلافه وقد يسمح باكل الاسماك فى بعض الصيامات ومن هذه الصيامات ما يستوجب عدم الاكل والشرب معا لفترات محددة وهو مايسمي بالصوم الانقطاعي حتي مغيب الشمس الا انه وللتخفيف رؤي ان يتبع هذا الانقطاع يوما بعد يوم كأن يفطر الصائم منتصف اليوم الاول ثم تزداد ساعات الصوم تدريجيا حتي تصل فى مداها الى مغيب الشمس.
وهنالك صوم نينوي الذي يسمي صيام يونان وهو الانقطاع عن المأكل والمشرب لمدة ثلاثة ايام متصلة ولعل هذا يشير الى الايام التى قضاها النبي يونان فى بطن الحوت..
وعن الاعياد عند الاقباط اذكر لكم عيد الميلاد المجيد وعيد الختان وعيد الغطاس والذي من مظاهره تناول قصب السكر والجذر والبرتقال وتجدني لا اعلم تفسيرا لذلك وعيد دخول المسيح للهيكل ثم عيد القيامة المجيد الذي يعقبه شم النسيم وهو ليس بعيد ديني وعيد تجلي السيدة العذراء وغيرها من الاعياد كما ان هنالك العديد من الاحتفالات بالتذكارات التي يحتفي بها خلال العام.
في ضؤ الاحتفالية الثانية والخمسين لاستقلال السودان المجيد تاتي مذكرات يوسف ميخائيل لانارة قيمة تعكس البعد الانساني والتوثيقي لكاتب من اقباط السودان جره قدرالمحتوم لان يكون واحدا من العارفين لكاتب من اقباط السودان جرة قدرة المحتوم لان يكون واحدا من العارفين ببواطن الاحداث السياسية، الاقتصادية والاجتماعية والتي كانت تحكم دفة الحركة السياسية لمجتمع المهدية، بوصفة احد المقربين الموثوقين للخليفة عبد الله التعايشي والامير يعقوب وشاهدا بالدرجة الأولي علي كل المشاهدات والتجارب والحكايات التاريخية لا سيما مذكراتة للأحداث التي شاهدها، فرواها، لذلك شهادتة موسومة بكل الصدق في توثيق بعض القضايا التي كانت قد كُتبت في ظل الحكم الثنائي بتشجيع من احد الاداريين البريطانين الذين كانوا يهتمون بجمع أدبيات التراث السوداني ووتوثيقها بعيدا عن روح الإستعلاء والضبابية.
تعد صناعة المذكرات ضربا من ضروب السيرة الذاتية التي تتعرض لحياة مؤلفها في نطاق ذلك المجتمع الذي عاش فية مؤثرا ومتأثرا بطبيعة الاحداث التي عاشها وتجرد في توثيقها وفقا لقراءة وصفية لطبيعة العلائق الحقيقية التي كانت تربط بينة وبين افراد المجتمع الذي عاش فية من جانب، وبين ذلك المجتمع وطبيعة الحقائق الكونية والدولية التي أحاطت بة من جانب اخر. هذا ومن حيث المرمي والتكوين العام ينقسم هذا الفن التاريخي الي ثلاثة اقسام رئيسية:
أولا الجانب الاخباري الصحفي :والذي يوثق لمجموعة من التجارب والاخبار التي عاصرها المؤلف واشترك في صياغتها مثل الجاحظ في كتابة "الحيوان" وابوحيان التوحيدي في كتابة "غربة الذات.
ويأتي القسم الثاني في شكل تفسير للواقع الذي يكتنفة الشك والغموض أو لتفسير مواقف حافلة لضروب شتي من الصراعات إلا ان الرأي العام يتجاهلها ويذهل عنها أو يدركها ويرفض حيثياتها، كما جاء في ترجمة بن خلدون في "التعريف بابن خلدون في رحلتة شرقا وغربا".
أما القسم الثالث والأخير فهو بمثابة توثيق للصراع الروحي الذي يمكن ان يعتري النفس البشرية فينقلها من الشك والضلال الي عالم اليقين العقدي والتثبت المعرفي، كما فعل ابو حامد الغزالي في رسالتة المشهورة ب "المنقذ من الضلال" او كما حدث للدكتور مصطفي محمود خلال رحلتة من الشك للإيمان ويعد هذا الفن الادب التاريخي باقسامة المختلفة حديث النشأة والتطور في السودان لأن تاريخة يرجع الي الربع الاخير من القرن التاسع عشر الميلادي حيث كان معظم الذين دونوا مذكراتهم في تلك الفترة ليست بسودانيين بل كانوا صفوة من سجناء المهدية الذين لاذوا بالفرار الي أوطانهم أفرج عنهم بعد سقوط دولة المهدية ومن ثم جاءت مذكراتهم متحاملة عليها كارهة لتسلط حكومتها وجبروتها مبررة للغزو الانجليزي المصري ومنها علي سبيل المثال لا الحصر مذكرات القسيس النمساوي الاب جوزيف أهرولدر"عشر سنوات أسر في معسكر المهدي ثم كتاب"السيف والنار في السودان" لسلاطين باشا والتي دونت بعد ان هرب سلاطين من أسر المهدية ثم مذكرات "سجين الخليفة" شارلي نيوفيل الذي تم اعتقالة بوادي القصب بشمال السودان بواسطة قوات القائد عبد الرحمن النجومي ثم مذكرات ابراهيم فوزي باشا سكرتير غردون تحت عنوان (السودان بين يدي غردون وكتشنر واخيرا مذكرات يوسف ميخائيل والتي تمت بصددها الآن حيث وثقت هذة المذكرات لألوان طيف شتي من القضايا السياسية والاجتماعية والقتصادية المثيرة للجدل ويمكن ان اجملها في المحاور التالية:
المحور الاول : و يسلط الضؤ علي الواقع السياسي الاجتماعي الاقتصادي بكردفان قبل الثورة المهدية حيث يعكس السمات العامة لذلك المجتمع الذي ولد فية يوسف ميخائيل، وعاش فية ايام صباة الاولي، ثم يتناول طبيعة العلاقة السياسية الروحية التي نشأت بين الراعي الصوفي محمد احمد بن عبد اللة (المهدي لاحقا)ونفر من اعيان الابيض المحور الثاني) الاصواء علي المشاهد الحية لاحداث الثورة المهدية في كردفان إبتداءا بهجرة المهدي الي جبل قدير ، وانتهاءا بحصار الابيض وتحريرها علي ايدي الانصار، ثم بعد ذاك يفصل لمجاهدات الانصار وتحركاتهم السياسية العسكرية صوب الخرطوم والتي حررت في يناير 1885 م ويتحريرها قضي الانصار علي رمز السيادة التركية في السودان، وشيدوا علي انقاضة القواعد الاساسية لدولة المهدية، وعاصمتها أم درمان
المحور الثالث ويناقش فترة حكم الخليفة عبد اللة التعايشي والتي كانت تمتلئ بالصراعات الداخلية بين الخليفة وخصومة السياسيين، ويتطرف ايضا للسياسة الخارجية آنذاك والتحديات التي كانت تواجهها المرحلة علي الصعيدين الدولي والاقليمي، ويبين كيف تجسد هذة التحديات في دفر القوات المهدية في بواقعة كرري عام 1889;، ثم القضاء علي الخليفة عبد اللة وجملة من اعوان المخلصين في واقعة أم دبيكرات.
المحور الرابع والآخير فهو يعطي لمحة خاطفة عن حالة الفوضي التي شهدتها حاضرة أم درمان عاصمة الدولة المهدية بعد هزيمة كرري، ثم يفصل يوسف ميخائيل بعد ذلك لرحلة الي مصر ثم عودتة الي السودان وطبيعة المهام الادارية والتجارية التي تقلدها الي ان استقر ثانيتا بمدينة الابيض حيث أضحي مسؤلا عن عدد من مطاحن الغلال التي يمتلكها أخوة اسحق ميخائيل في شراكة مع الخواجة الياس تفاية.
من هو يوسف ميخائيل؟!! ------------------------ ينتمي كاتبنا الي اسرة قبطية تمتد جذورها الي مصر. حيث قدم والده ميخائيل مليكة الي السودان ضمن موظفين بُعثوا من مصر لترقية الاداء الاداري في مديريات السودان المختلفة عام .....بدا والده حياتة العملية بالابيض رئاسة مديرية كردفان آنذاك ومن ثم بدا الصبي يوسف حياتة الباكرة تلميذاً في كُتّاب مدينة الابيض فتعلم القراءة والكتابة والحساب وحفظ المزامير غيباً، ثم نُقل الي رئاسة المديرية بعد ان اكمل ليتدرب علي العمل الكتابي والحسابي. وقبل ان يحصل علي وظيفة ثابتة في المديرية اندلعت الثورة المهدية في الجزيرة ابا وامتد اثرها الي مديرية كردفان. وكان يوسف آنذاك من ضمن شباب المدينة الذين شغلوا انفسهم بتحصين الابيض وتامين خطوطها الدفاعية غي وهة الثورة المهدية وانصارهم من غرب كردفان.
في مثل هذة الظروف الحرجة كان هو العائل الوحيد لاسرتة لان اخوية جورجيوس ومليكة كانا في مامورية لمدينة بارا التي حوصرت من قبل الثورة والانصار. وبعد تحرير بارا وقع جورجيوس ومليكة في اسر المهدية وحفاظا علي نفسيهما اعلنا ولاءهما للثورة المهدية، فبايعا الامام المهدي في ديم الجنزارة خارج مدينة الابيض. وفي ضؤ هذا التحول العقدي السياسي الجديد عدّل اسم جورجيوس الي اسماعيل ومليكة الي اسحاق ومنحهما الامان لهما ولافراد اسرتهما الذين كانوا يقيمون جاخل مدينة الابيض المحاصرة آنذاك.
وعبر المذكرات يصف يوسف ميخائيل واقع الحال داخل المدينة فيقول واما نحن اهل القيقر من عبد ما كنا نقيم حصرنا في جحيم بخصوص العيش من مدة اربعة شهور خُلّعي من شدة الحصار والربع من بعد ما كان بعشرة ريال صار بثلاثين، وتاني يصبح بخمسين ريال، وعلي هذا الحال في الشهر الخامس حصّل مائتين ريال، وفي السادس مائتين وخمسين لغاية ما بلغ تلتمائة وخمسة وعشرين ريال بمبلغ جنية ذهب. والناس تاكل في الهجليج والشجر وقش الرجلة الناشفة والصمغ واولاد القرض يقلوة في الدوكة. والصمغ البعض منة يعملة كِسرة والبعض يقلوة في الدوكة. ولحم الحمير الاقة خمسين ريال والحصان سبعين ريال الاقة. وجلود العناقريب اكلوها جميعها )وقبل تحرير الابيض بثلالة ايام فقط خرج يوسف بمعاونة اخوته من رحم معاناة الحصار الي رحاب المهدية والتي كانت تمثل لة تجربة ثرة مليئة بالمخاطر والمفاجآت. وفي بادئ عهدة بالمهدية صحِب يوسف أخاه ;سماعيل الذي عُيّن كاتباً لقبيلة الغديات في وسط كردفان، وبعد ذلك رافقت الاسرة جيوش المهدية المتوجهة نحو الخرطوم، وفي هذا الاثناء عُيّن يوسف ملازماً للامام المهدي ثم كاتباً في الراية الزرقاء والتي تعد من اقوي الوية جيش المهدية من حيث العُدة والعتاد. هذا وبعد تاسيس مدينة ام درمان ظل يوسف كاتباً للراية الزرقاء وبيت المال العمومي. ثم اُنتخب اميراً ومقدماً للجالية القبطية بالسودان وذلك بعد ان قام الخليفة عبد اللة بتقسيم الرعايا الاجانب الذين يسكنون ام درمان الي وحدات سبة عسكرية ليفرض عليهم رقابة امنية صارمة. وقد شمل هذا التقسيم الاقباط والمقاربة والمسالمة والكسلمانية وقد تم ذلك التقسيم بعد واقعة توشكي في يوم 3 أغسطس عام 1889م وبعد ان يوسف ميخائيل كان مُلماً بخيوط اللعبة السياسية لدولة المهدية الامر الذي اهّلة لكسب ود الامير يعقوب الرجل الثاني في الدولة، واضحي في نفس الوقت من المقربين للخليفة عبد اللة التعايشي الذي اصطفاة كاتما لاسرارة بعد ان امتحنة جيدا _ حيث استدعاة في جلسة خاصة فقال لة افهم يا ولدنا يوسف انا ما طلبتك الا لاجل ان اعلمك انا بحثت في طريقك وفي كل مجلس انت تكون فية. وسالت مخصوص السيد المكي وخلافة عنك ولم اجد انسان قال ليّ في حقك كلمة ولا تفوهت لاي انسان بكلام يكون خاص باي مصلحة في امر الدين. ولذلك صرت مسرور منك وجعلتك كاتم اسراري واتخذتك كمثل شيخ الدين ابني _ فيرد يوسف علي هذة التزكية الرفيعة يقول:
اللة يطول لنا في عمرك يا سيدي،انت نورنا في الدنيا ووسيلتنا في الآخرة انشاء اللة تعالي وبنفس خدمتنا للامام المهدي علية السلام نخدم سيادتكم بكل الصداقة والامانة.
ولكن خلعة لجبة الانصار التي كان يريدها بعد هذيمتهم في واقعة كرري تؤكد قدرتة الفائقة علي اظهار ولائة الزائف لقيادة المهدية ومن ثم عاد الي ترتيب امورة الحياتية في ظل نظام الحكم الانجليزي المصري الجديد.
وفي هذا الاثناء كان قد استلم خطابا من بطريك الكنيسة القبطية في مصر،يستفسر فية عن احوال الجالية بالسودان، فرد علية يوسف مطمئنا اياة بخطاب آخر. ثم شد رحالة الي مصر حيث قضي بها فترة من الزمن اعاد فيها ولائة للكنيسة القبطية وزار عددا من معارفة واصدقائة بالقاهرة وغيرها من المدن المصرية، ثم قفل راجعا الي السودان وبعد ان حط رحالة بام درمان اسس محلا تجاريا الا انة لم يدُم فية طويلا حيث انتقل للعمل وكيلا في منطقة النيل الازرق مع المتاجر عمر الصافي ( السمسم، الذرة، الصمغ العربي وسن الفيل ).ثم انتقل للعمل وكيلا لشركة استعمار السودان والتي كانت تتاجر في الذرة والصمغ العربي، الا انة اختلف مع ادارة الشركة وعاد الي الابيض حيث اسس محلا تجاريا ثم انتقل بعد ذلك لادارة عدد من مطاحن الغلال التي كان يمتلكها اخوة اسحاق شركة مع الخواجة الياس تفاية وهذة هي الفترة التي تعرّف فيها يوسف علي نائب مفتش مركز وسط كردفان السيد إف إقلن وتجازف معة اطراف الكلام. الحديث حول تاريخ مدينة الابيض قبل الغزو الانجليزي المصري، وكان السيد إقلن قد فوجئ بوجود يوسف ميخائيل وزوجتة ;كتوريا في احدي حراسات سجن الابيض يتهمة صناعة الخمور البلدية. وكان دفاع زوجتة ;كتوريا في انها صنعتها كعلاج لزوجها يوسف الذي كان عاني من داء الربو الا ان هذا الدفاع لم يدفع عنها او يشقع لها ولزوجها الذي قرر مرافقتها في الحبس، ومن ثم حُكم عليها بالسجن لمدة شهر كامل. واستثمارا لهذا الحادث المحزن فلقد مد السيد اقلن يوسف بقلم رصاص ومجموعة من القراطيس ليوثق تاريخ حياتة الزاخر بالصبر والتجارب. وفي ظل هذة الظروف دوّن يوسف ميخائيل مليكة مذكراتة التي اصبحت فيما بعد مصدرا ملهما هاما من مصادر تاريخ السودان الحديث.
ان القراءة الغامضة لهذة المذكرات تقودنا الي الخروج من دوامة التفسير الاحادي للتاريخ والذي يعزي مثلا نجاح الثورة المهدية في كردفان الي الدور الكارزمي الذي لعبة محمد احمد المهدي ونحن لا ننكر هذا الدور الرائد وغير المسبوق في تاريخ السودان الحديث للمهدي لكننا نرجح ان الراي الاعتقادي باحاديتة فيه تجاهل واضح لدقائق البيئة المحليةالتي كانت تحكم حركة مجتمع كردفان والذي كان يمثل اكثر المجتمعات ملائمة لاستقبال الثورة المهدية وتفصيل آلياتها. فقد كشفت هذة المذكرات كيف ان المجتمع الكردفاني كان منقسما الي معسكرين متلازمين قبل الثورة المهدية _ معسكر الافلية ويمثلة انصار الحكومة والمستفيدون منها ومعسكر الاغلبية والذي كان يتكون من الفئات المعارضة للحكم التركي والمتشوقة فعلا للمدي المنتظرالذي سيخرجهم من غياهب الظلم والجور الي انوار العدالة والحرية التي يتوقعون انهم سيتنبؤون ظلالها الوارفة بعد قيام الثورة والدولة المهدية. كما تقدم لنا هذة المذكرات عرضا توثيقيا لطبيعة الصراع الجهوي/القبلي ودورة في اضعاف الانتماء الوطني لدولة المهدية الامر الذي حول سيادتها الي سيادة قبيلة ترمي الي تطلعاتها السياسية الخاصة بها ( الخليفة عبد اللة/ اخوة الامير يعقوب/ ابنه سيف الدين ) وتعكس كذلك الحضور الغيبي المكثف المرتبط بفعالية الحضرات النبوية والرؤي المنامية والخرافة عند القرار السياسي بام درمان وتوضح ايضا كيف ولد الاستبداء بالراي الواحد ونفي راي الاخرنوعا من النفاق السياسي الذي يرمي الي درجة الخيانة الوطنية عندما واجهت الدولة شراسة العدو الخارجي فلا عجب اذن في ان تلك المشاهد الحية قد اسهمت في تكوين العقلية السياسية السودانية في القرن الثامن عشر..
يوسف ميخائيل القبطي السوداني قراءة نقدية مقرونة بقراءة الادبيات المعاصرة لها مثل كتابات اسماعيل عبد القادر الكردفاني واوراق السيد علي المهدي ومذكرات الشيخ بابكر بدري وادبيات سجناء المهدية وفوق كل هذا وذاك يجب ان تُُعطي الاولوية لوثائق المهدية للدكتور محمد ابراهيم ابو سليم _ دار الوثائق القومية بالخرطوم. كُتب المحظور بلهجة عربية عامية تغلب عليها سمات اللسان الكردفاني الذي يؤكد امتزاج العناصر العربية الوافدة يالسكان الاصليين في النوبة والفور والقبائل النيلية هذا بالاضافة الي المفردات الادارية التي جاءت مصاحبة لنظام الحكم التركي المصري وتدريجيا تشكلت بنسيج اللهجة العامية الكردفانية ( باشا، باشكاتب، اغا، سنجك افندي ) وبعض المفردات السودانية مثل راكوبة، عنقريب، شرموط، ام بايا، دميرة، بتاب، قربة، برمة وبعض المفردات اللاتينية المعربة مثل كنزاتو، مكنة وورش واسبثالية.....الخ
كان أغلب الاقباط قد تركوا السودان أثناء حكم المهدى ، غير أن فئة قليلة استقرت فيه. وهذه الفئة لاقت ما لاقت من ضغوط ، وفرض على كثيرين الزواج من السرارى، هؤلاء بعضهم عاد الى المسيحية وبعضهم لم يعد .. ومن هنا كانت لفظة المسالمة، وحى المسالمة بأم درمان، وبعد فتح السودان 1899م – عاد الأقباط إلى السودان وذلك لمباشرة أعمال متعدده فيه ...
ويحكى التاريخ بأنه وعندما أستعيد السودان سنة 1899م أبى الأنجليز إلا أن ينفردوا بشئونه، ولكن الأقباط عرفوا كيف يفوتون عليهم غرضهم، إذ لم تمضى سنتان على الاستعادة حتى إختار الأقباط رقعة كبيرة من الأرض شمالى أم درمان وابتنوا فيها مساكنهم، فحملت اسمهم التقليدى "حارة النصارى" وعملوا فى جميع الميادين، وبالأخص ميدان التجارة، ففى الوقت الذى ضيق فيه البريطانيين بأموالهم تصرف هناك، بادر الاقباط بطرح أموالهم فى السوق، فلم يمضى على وجودهم عشر سنوات حتى بلغ عددهم مبلغا" بعد أن كانت لهم ست كنائس بنيت كلها بأموال من استقروا هناك. ودعى البطريرك كيرلس الخامس لافتتاح كنيسة هناك ، حيث استقبل استقبالا" رائعا من الشعب والحكومة.. واذا كانت تجارة السودان فى عام 1914 قد انتعشت ، فإن من سكن السودان من الأقباط سواء فى الخرطوم أو أم درمان أو عواصم الاقاليم كانوا من ورائها الأقباط، يدفعونها بالجهد والعرق والدم .. وإذا ذكروا البريطانيون بأنهم هم الذين حملوا الحضارة الى السودان، عارضهم الأقباط فى ذلك، إذ لم يفتح البريطانيون بأموالهم أو أموال غيرهم غير مدرسة واحدة، بينما أنشأ الأقباط أربع عشرة مدرسة بين ابتدائية وثانوية للبنين والبنات، كما عاش الاقباط مختلطين بالسودانيين يعلمونهم ، بينما ترفع أنصاف الالهة من البريطانيين عن هذا الاختلاط .. ولهذا كان لابد أن يرسل أسقفا" لرعاية شئون الأقباط الروحية بالسودان .. وعندما وصل الأنبا صرابامون بدأ فى تأسيس كنيسة بالسودان، وكان عدد قليل من الاقباط قد وصل الى الخرطوم بالاضافة الى المسالمة الذين لم يتركوا السودان، وانما عاشوا فيه وتزوجوا بالسرارى، أولئك بدأ يعمل الأنبا صرابامون فى وسطهم، فقام بتعميد كثيرين منهم، وكون كنيسة قبطية بالخرطوم.. وهى أول كنيسة بالسودان، وفى عام 1898 وبجوار الكنيسة وفى حجرة واحدة ، إفتتح نيافة الأنبا صرابامون أول مدرسة روضه واستمرت المدرسة وقد كان ناظرها المرحوم " حبيب سلامه " – وفى عام 1904 أختير المكان الحالى لكنيسة العذراء لكى تبنى بالمستوى المناسب الذى يلائم الاقباط الذين كانوا يحتلون أعظم المناصب فى الحكومة، وكانوا يحملون العبء الاكبر فى تنظيم التجارة فى السودان. وقد اعطت الحكومة للأنبا صرابامون قطعة أرض مساحتها ثلاثه أفدنه لتقام عليها الكنيسه والمدارس فيها فيما بعد – وإهتم البابا كيرلس الخامس ببناء كاتدرائية العذراء تحت إشراف مهندس البطريركية ، وفى عهد المرحوم " إبراهيم بك خليل" الذى قام بتغطية تكاليف مبانى الكنيسة وأشرف على البناء، وقد تم تدشين الكنيسة 1909، ورقى الأنبا صرابامون مطرانا" فى الاحتفال بتكريس كنيسة السيدة العذراء ، بعد هذا توالى بناء الكنائس ، حيث بنيت كنيسة السيدة العذراء بأم درمان 1912 وكنيسة الشهيد العظيم مارجرجس بالخرطوم بحرى فى نفس العام وكنيسة السيدة العذراء بعطبره فى عام 1914، ثم بعد هذا بنيت كنائس فى الأبيض عام 1915 والدامر وبورتسودان وباقى اقاليم السودان المختلفة، وكان الأنبا صرابامون عنده رغبة جازمة فى تعميم التعليم، وقد بدأ اول مدرسة روضة وقام نيافته برحلة الى مصر ، جاه فيها ربوع مصر من اسوان إلى الاسكندربة لجمع التبرعات ولتمويل المدارس، وعندما نستعرض تاريخ الأقباط فى السودان، نرى إهتماما" كبيرا منهم بقضية التعليم، فقد دخلوا الى هذا الميدان منذ أمد طويل، وهناك جهود كثيرة بذلت فى هذا المضمار وحبات عرق من رجال كبار سكبت لتروى ظمأ الإنسان الى العلم والمعرفة. كثيرون تعبوا بعضهم نعرفه، والبعض لا نعرفه، لأنه اختار خدمه الجندى المجهول ولكن النتيجة هى واحدة خدمه ناجحه وسعى رؤوف من أجل محو أميه الإنسان وتعميم التعليم العام، خداما" لا يكتفون بالسطحية والدعاية الفضفاضه ، خداما" لا يأبهون بالمظاهر الشكليه، وليست فى حياتهم غضاضة، خداما" كالملح يذوبون ليبهجو الآخرين ، خداما" ثابتين على أساس النعمه راسخين ، خداما" عرفوا انهم مدعوون لخدمة الله، لا ينحرفون عن الحق ولا يخضعون للباطل، يتمتعون بصراحة القول ونزاهة العمل. وكان رئيس الجمعيه فى ذلك الحين، هو المرحوم " سابا بولس " والد أديب بولس ، وكان أول ناظر للمدرسة هو " نسيم سمعان " وفى عام 1924 قام الأنبا صرابامون بتشييد الكلية القبطيه بنات، فى موضعها الحالى الآن، وكانت أول ناظرة للكلية القبطية بنات هى " الست نور " وقد سجل مؤرخو هذه الحقبه، إن مستوى المدارس كان رفيعا" واساتذتها من العلماء ، وكانت النتيجة سنويا 100% وقد فتحت هذه المدارس أبوابها للمسيحيين والمسلمين وخدمت السودان خدمة عظيمة، وتخرج منها شخصيات سودانيه لها مكانتها وظلت صرحا" عملاقا" ، وهى حتى الآن خير شاهد على عطاء الأقباط فى السودان.
الأستاذ: بابكر النور (القضارف الرجال والمدن التوائم).
تقديم: (هذه كتابات توثيقية لتاريخ مدينة ومنطقة القضارف، بقلم الأستاذ بابكر محمد النور، نشرت مسلسلة في حلقات بصحيفة السوداني خلال شهر يوليو 2006م، بها حقائق وأحداث لم تجد نصيباً من النشر قبلاً- علاوةً على أنها تمثل إضافة ثرة لتاريخ المنطقة. رأينا نشرها حتى تعم الفائدة).
إثيوبيا الشقيقة كانت ومازالت تعرف ببلاد الحبشة نسبة لقبيلة معروفة في اليمن (إحبشت) وهي تنسب إلي حبشي بن مروان بن قارن الحيمري وأخري تنسب إلي حُبيش بن ناتج القضاعى هاجرتا من شبه الجزيرة العربية إلي منطقة القرن الإفريقي قبل أكثر من ألف عام قبل الميلاد (الإكليل للهمداني ص : 353) .
(لقد ظل اسم الحبشة حتى ما بعد الخمسينات من القرن الماضي سجلت به عضويتها في عصبة الأمم وفي منظمة الأمم المتحدة ووراءه جلس ممثلوها بما فيهم الإمبراطور هيلاسلاسي . فإثيوبيا القديمة (من جهة) في أغلب المراجع التاريخية ليست الحبشة بل السودان النيلي كما أن السودان هو المرادف العربي الحرفي لكلمة (إثيوبيا) لقد قرر هيلاسلاسي في ساعة إلهام تغيير الحبشة إلي إثيوبيا) ولم يقرر بتسميتها أكسوم التي قال عنها جمال محمد أحمد في مقدمة ترجمته لكتاب(بازل دافيد سن) إفريقيا تحت أضواء جديدة (كان بينها =يقصد مروي= وبين أكسوم من الصراع للسيطرة علي تجارة المحيط الهندي نفست أكسوم علي مروي تجارتها الزاهرة وثقافتها المزيج البديع) أكيد أن هناك حاجة في نفس هيلاسلاسي ليس هنا مكانها .
يعيدني اسم الحبشة إلي التراث الحبشي القديم إلي الملكة (ميكيديا) التي قيل أنها أنجبت ابناً من الملك سليمان سمي (بمنليك الأول) قبل الميلاد ليؤسس أول أسرة ملكية حبشية أمهرية وإلي الكهنة اليهود (الذين قدموا مع الملكة) إلي مدينة (أكسوم) الباقية حتى الآن والطقوس اليهودية والرقصات السامية التي تعلموها من بلاط الملك سليمان واتصال الحبشة المبكر بالمسيحية الوليدة وما قامت به الملكة الكنداكة في تسهيل وصول القساوسة إلي الحبشة قبل زمن طويل من لجوء القساوسة التوحيديين الأربعة فراراً من العسف إلي أكسوم وهو أول اتصال مرصود بين الحبشة والمسيحية .
وإنتشار الديانة المسيحية في أوائل القرن الرابع الميلادي جعل المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الحبشية ، لقد ورد في كتاب (النيل الأزرق) لألن مورهيد عن صموائيل بيكر وزوجته إنهما عبرا نهر عطبرة واتجها نحو القلابات حيث كانت جمالهما محملة بجلود ورؤوس ما أصطاده بيكر من حيوانات من بينها رؤوس الكركدن (الخرتيت) وعند وصولهما القلابات التقيا بمبشريين (ألمانيين) كانا في طريقهما إلي إثيوبيا وكان بيكر عديم الثقة بالمبشرين إلا إن هذين المبشرين قد أثارا سخريته بنوع خاص فقد كان غرضهما من زيارة إثيوبيا أن يدخلا يهودها في الدين المسيحي فتزودوا بعدد من كتب الإنجيل بإحدي اللهجات الإثيوبية لا يفهمانها لينصرا يهوداً لا يعرفون حتى القراءة بأي لغة من اللغات .
لقد شاهدت العديد من الاحتفالات والطقوس الدينية الإثيوبية منذ طفولتي الباكرة فلقد كان منزلنا بكسلا (حي حلة الجديد /الشهيد حرآن الآن) يجاور شيخة إثيوبية إسمها (زينب طفار) كانت تحرص كل الحرص بإقامة هذه الاحتفالات التي عرفت دواعيها فيما بعد . مثل:- احتفالات (كادام سوارير)الذي يجمع بين التعاليم المسيحية والطقوس الإثيوبية واليهودية والغرض من هذا الاحتفال هو التخلي عن السبت اليهودي وإحلال الأحد المسيحي محله واحتفال (ماسكال) في نهاية موسم الأمطار وماسكال هي الزهرة الصفراء البراقة التي تزهر مع بداية فصل الربيع إنه احتفال أشبه باحتفال عادة جدع النار عند قبائل الأنقسنا جنوب النيل الأزرق حيث يحزمون نباتاً خاصاً علي أعواد القنا ويشعلونها مع الرقص والغناء وهو تفسير مسيحي لأسطورة قديمة تقول بأن ملكة حبشية تدعي (هيلبنا) أو (هالين) كما وردت في منظومة الإمبراطور (عيزانا) (إنا عيزانا بن (إلا) عميداً سليل هالين) ذهبت مع نفر من المسيحيين للبحث عن الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح وعندما وجدوا الصليب أمرت الملكة بإقامة عمود عال تشعل فيه النار حتى يستطيع المسيحيون في القسطنطينية أن يروه ويعرفوا هذه الأخبار السارة .
كما كنت من المحظوظين الذين تعرفوا علي مسرحية الكاتب المسرحي (جرمانشو تاكلا) الشعرية والتي كتبها عن الإمبراطور ثيودور (تيدروس الاسم المتعارف به في الحبشة) الذي قاوم الغزو الإنجليزي للحبشة عام 1867م وانتحر بعد أن خسر المعركة في (مجدلا) في عيد الفصح وهناك اسمان شهيران في عالم المسرح لكاتبتين مسرحيتين هما (سينيدو قابرو) و(رومانا كاسا هون) وقد أهداني واحد من زملاء الدراسة من الطلاب الإثيوبيين أعمالاً لكاتب من إثيوبيا (برهانو ربيكة) الذي كتب مسرحية استمد موضوعها من زيارة ملكة سبا للملك سليمان و(ماكونين اندكاشيو) الذي كان رئيساً للوزراء في إثيوبيا سابقاً و(كابدا ميكائيل) الذي كان وزيراً للتربية والتعليم .
لقد أشرنا في حلقة سابقة لدوافع الهجرات الإثيوبية إلي السودان عبر التاريخ ومن القامات السودانية من أصول إثيوبية في مدينة القضارف التي أعرفها شخصياً مثل أل بيتو (الراحل كمال ، أمان وملاكو ) والعم (عبد الرحمن زقي) وصهره (يعقوب كداني) و(أنقدا تفنجا) وبفضل الأخ عادل عوض زودي الموظف ببنك السودان فرع القضارف تعرفت علي عدد كبير من الإثيوبيين الذين عملوا بقوة دفاع السودان (فرقة العرب الشرقية )والشرطة أذكر علي سبيل المثال (أبرها قزها صعدو) من قبيلة التقراي وهو سوداني بالميلاد انخرط في سلك الجندية في عام 1910م حتى تقاعد للمعاش في نوفمبر 1929م و(منقستو دستا) الذي تجند بقرقة العرب الشرقية عام 1917م وابنه (فسها منقستو دستا) الذي تقاعد عام 1979م بعد (24) عاماً من الخدمة في اللواء الرابع مشاة وتقول شهادة التقاعد : (ضابط صف ممتاز علي درجة عالية من الضبط والربط . حسن المظهر ، مخلص يؤدي واجباته دون رقيب ، أمين يعتمد عليه كثيراً ، موسيقار ممتاز ومعلم موسيقي الدرجة الأولي) .
أما الراحل عوض زودي قبرو فقد درس المرحلة الابتدائية بالمدرسة الأميرية بالقضارف ثم الإرسالية الأمريكية بأمدرمان وعمل بسلاح الإشارة بقوة دفاع السودان وقد شارك في الحرب العالمية الثانية في منطقة العلمين بليبيا بعد الحرب أختير ضابطاً مسئولاً عن كلية الشرطة وكان من دفعته السيد/(صموائيل أروب) ومن تلاميذه :- 1/ الفريق إبراهيم أحمد عبد الكريم . 2/الفريق فيصل خليل . 3/خليفة كرار مدير جهاز الأمن العام . 4/ اللواء أحمد ورثما غالب (سوداني من أصول صومالية ومن أبنا القضارف ) . 5/اللواء سيد أحمد الحسين .
عمل الراحل عوض زودي بعدد من مراكز الشرطة (شندي ، بورتسودان ، جوبا والخرطوم بحري) ومنحه الزعيم إسماعيل الأزهري عندما كان رئيساً لمجلس السيادة تقديراً لكفاءته وغيرته في العمل وجليل خدماته ، نيشان الخدمة الطويلة الممتازة في بوليس السودان كان ذلك بتاريخ 31/ديسمبر 1968م ومع بداية النظام المايوي شمله ( الصالح العام!!!) وتم تعيينه ضابطاً إدارياً بالحكومات المحلية حيث تنقل ما بين مجالس القضارف الثلاثة(مدينة القضارف ،ريفي شمال القضارف وريفي جنوب القضارف).
كان من أشهر لاعبي فريق الأهلي عند إنشائه عام 1948م وكان من زملائه في الفريق (أحمد الماحي ، الحاج مبروك ، صالح حسن ، مصطفي إلياس ، عوض حماد، إبراهيم خليل والملازم آنذاك أحمد حسين طاهر) .
كتب الراحل حسن إلياس في مذكراته عن مباراة كانت بين فريقي الأهلي والأعمال الحرة علي كأس الدكتور أحمد علي زكي (وقد كانت هناك إشاعة بأن كابتن فريق الأعمال الحرة قد ذهب إلي ديم بكر لأحد أصحاب العروق وأن الكابتن سوف يقوم بمسح يده اليمني التي سوف يصافح بها كابتن فريق الأهلي قبل بداية المباراة كتقليد متبع حيث يؤدي المسحوق دوره لأحقاً بعد المصافحة وينتصر فريق الأعمال الحرة ).
وقد اجتمعت لجنة نادي الأهلي لتجد مخرجاً قبيل بداية المباراة وقد طمأن كابتن الأهلي عوض زودي اللجنة بأنه سوف يتجنب ذلك . وعندما طلب الحكم من كابتني الفريقين أن يتصافحا (وكنا نراقب الموقف وأيدينا في قلوبنا) لم يصافح كابتن عوض كابتن الأعمال الحرة عبد الرحمن النور بل وضع كفه اليمني علي صدره وانحني انحناءة بسيطة إلي الأمام وقد حكي كابتن عوض بعد الانتصار في تلك المباراة أنه قال للحكم (أنا حبشي وطريقة المصافحة في تقاليدنا وأعرافنا ليست بالأيدي إنما انحني إلي الأمام وأقول (إشي) ولم يكن أمام الحكم إلا الرضوخ ) .
هاجر الراحل عوض زودي إلي كندا وتوفي عام 2005م .
*سعد القبطي :- ________________ علاقة الأقباط بالسودان ذات امتداد تاريخي امتد عبر الحضارات المتعاقبة منذ العهد الفرعوني والممالك السودانية والعهد المسيحي وتوثقت أكثر بعد السلطنة الزرقاء هذا كان مفتاح الحديث في ذلك الحوار الذي أجراه الإذاعي عبد الماجد محمد السيد مع الأستاذ /المزارع سعد رياض ميخائيل الإذاعي بإذاعة أم درمان في السبعينات والذي نشر عام1997م علي صفحات صحيفة (الديار) القضارفية .
تناول الحديث المعلم سعد الذي ارتبط اسمه بالقضارف (قضروف سعد) ويقولون والقول علي ذمة الرواة هناك أكثر من سعد (سعد الشكري ) (وسعد البوادري ) (وسعد الضبايني ) والشيء المهم كما يقول الأستاذ / سعد رياض (أن يرتبط السعد بالقضارف) .
يقول الأستاذ /سعد رياض – (المعلم سعد القبطي كان أميناً للخزينة من العهد التركي بمركز عصار التي كانت في ذلك الوقت حكمدارية مركز دوكة ومن أكبر المدن بالمنطقة ، لقد طاب المقام للمعلم سعد في مدينة عصار وأصبح من أصحاب الأملاك فيها ، وكان له بستان (جنينة) لوقت قريب يتبع لورثته إلي أن تم بيعه) .
عندما كانت مدينة عصار تواصل ازدهارها لم يكن لمدينة القضارف الحالية وجود لقد كانت عبارة عن غابات وأحراش وأراضي شاسعة يعبرها الرحل في رحلاتهم شتاء وصيفاً . وبرؤية الخبير الاقتصادي فكر المعلم سعد أن يستثمر عبور العرب الرحل في فتح تجاري يسهم في زيادة دخله من البستان الذي كان يمتلكه، فكان إن إنشاء متجراً يبيع فيه احتياجات الرحل من مواد استهلاكية مختلفة . ذاع صيت سعد عند أهل البطانة حيث وجدوا أن كل ما يحتاجونه في مكان لا يكلفهم عناء السفر الطويل ويقال (والعهد علي الرواة) أنهم كانوا يتسوقون ويصبح بعضهم لبعض القضا- يرف القضا- يرف أي الذي قضي من بيع وشراء ما يحتاجه يعود من حيث أتي.
كان المعلم سعد بعد رحيله من عصار إلي مكان عمله الجديد في متجره بالقضارف هو النواة للمجموعة القبطية بالقضارف والتي وجدت من المعلم سعد الصهر والقريب والكفيل فكان النزوح والانصهار وإيجاد فرص العمل للعديد من الأسر القبطية التي هاجرت من الخرطوم وخاصة أبان الحكم الثنائي .
وفي الوقت الذي إزداد فيه الوجود القبطي كانت القضارف تشهد هجرات مختلفة من مناطق عديدة من السودان .
الأقباط أهل زراعة بحكم أصولهم الفرعونية ،طوروا الزراعة الآلية وأثروا التجربة الزراعية وكان في مقدمتهم جريس غبريال وحنا روفائيل ومن ثم ميخائيل رياض ولا يخفي علي أحد دورهم في الحركة التجارية والاقتصادية بشكل عام .
ونذكر علي سبيل المثال لا الحصر دانيال روفائيل الذي ولد في 1904م وتلقي تعليمه بمدرسة القضارف الأميرية وكان من زملائه عوض بشير ، محمود محمد عبد الله ، حسن حاج علي الكردي ،علي عبد القادر النور وكان من الشخصيات المشهورة في مجال تطوير الزراعة الآلية ومن كبار موردي الخيش وتاجر من تجار المحاصيل وبصفة خاصة الصمغ والسمسم . واستشهد في ذلك بما قاله شاعر القضارف وإبنها (خليل عجب الدور) في قصيدته (جارة الصفار) . إن القضارف وهي أخصب بقعة محصولها ضربت به الأمثال ولئن سألت يجبك عن محصولها السـوق والميزان والغربال ومزارعون وتاجران بها هما (حنا) بـن رؤفائل و (دانيال)
وكان له كأساً تتباري عليها الأندية الرياضية بالقضارف ضمن مجموعة من الكأسات جاءت بعد أول كأس باسم التعليم الأهلي لصاحبه المرحوم أحمد علي زكي حيث كان هناك كأس لكل من: كيكوس جوانيدس ، الشركة الحبشية ، دانيال رفائيل ، الشيخ أمان وإتحاد الطلبة .وتحفظ القضارف لدنيال روفائيل تشييده لبنك الدم بمستشفي القضارف .
أسس الأقباط مدرسة الإتحاد المتوسطة المختلطة (الفنية الثانوية بنات حالياً) في بداية 1948م وكان يطلق عليها آنذاك اسم المدرسة الحبشية ، تبنتها في مرحلة من مراحلها الإرسالية الأمريكية ثم تُبعت للبعثة التعليمية المصرية قبل أن تؤول لوزارة التربية السودانية . كان معظم تلاميذها من الأقباط والإثيوبيين والصومال والهنود ونسبة قليلة من السودانيين . وقد كان من ضمن أساتذة مدرسة الإتحاد :-
المرحوم قلادة شنودة ، المرحوم كمال كامل ، المرحوم أندريس فاسيلي ، المرحوم جميل جندي ، المرحوم رحمة كوري ،المرحوم عطا رزق ، زكريا رزق الله ، شكري ناشد ، الفونس حزقيال ، يوهنس أبرها ، يعقوب النور ، يوسف كرشو وسامي تكلا.
ومن تلاميذ مدرسة الإتحاد الذين نخرج بعضاً منهم في جامعة الخرطوم:- زكريا رياض – إقتصاد ، ملاكو بيتو – حقوق ، عبد المنعم بشير وبيتر اندريس ووفاء سامي – طب وسميرة مسداري - صيدلة . ومن جامعة القاهرة أبناء لويس : يوسف وسمير – طب : صفوت - هندسة وفؤاد صيدلة . ونستعرض السيرة الذاتية لمعلمين من معلميها الأساتذة / جميل جندي الذي كان جميلاً في سلوكه وفي أخلاقه كما كان جندياً من جنود التربية أولاً والتعليم ثانياً والأستاذ / أندريس فاسيلي متعدد المواهب .
جميل جندي من مواليد جمهورية مصرفي 7/11/1934م بأسيوط تعلم بها حتى حصل علي الثانوية العليا وبعدها أُختير ليعمل معلماً بمدرسة الإتحاد المتوسطة المختلطة بمدينة القضارف في 15/11/1952م نال تدريباً بمعهد بخت الرضا ضمن الفرقة السابعة من معلمي المدارس المتوسطة وكان من زملائه في الفترة التدريبية الأساتذة / محمد حسن الشيخ ، القاضي ، والقاص والكاتب المسرحي مبارك حسن أزرق .
عمل مساعداً للمشرف للتربوي للمنطقة الجنوبية ، ثم مشرفاً تربوياً في أبريل 1978م وتقاعد للمعاش وعمل في مجال الأعمال الحرة حتى وفاته في 4/10/2001م بمدينة القضارف .
أما الأستاذ/ أندريس فاسيلي من مواليد جزيرة قبرص ويصنف كعصامي بدأ حياته صبي بقال بمدينة القضارف ثم معلماً للفنون الجميلة بمدرسة الإتحاد ، كان يجيد الرسم والنحت كما عمل معيداً بجامعة الخرطوم ومنها أبتعث للملكة المتحدة لنيل درجة الماجستير في اللغة الإنجليزية في مجال العلوم وماجستير في النطق . عمل أستاذاً بجامعة الخرطوم كلية الطب ما يقارب الربع قرن تقاعد للمعاش وعاد إلي قبرص لتأسيس جامعة بها بعد سنوات حافلة بالعطاء بالسودان .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة