(عثمان صمبين) البَحَّار الفقير أَبُ السينما الافريقية المستقلة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 07:24 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-05-2007, 01:48 AM

NAZIM IBRAHIM ALI
<aNAZIM IBRAHIM ALI
تاريخ التسجيل: 05-21-2004
مجموع المشاركات: 594

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
(عثمان صمبين) البَحَّار الفقير أَبُ السينما الافريقية المستقلة


    عبدالله حبيب


    إنني أسائل نفسي باستمرار. لا أبحث عن مدرسة ولا عن حل بل أوجه أسئلة وأجعل الآخرين يفكرون .
    عثمان صمبين
    لا شك أن جلل الخطب والقامة الباسقة والعالية للراحل الكبير يقتضيان ما هو أكثر وأعمق من هذه المادة، لكن اللجوء إلي أضعف الإيمان والحد الأدني حيث لا حول ولا قوة أمام الموت وعدم مواتاة الظرف الشخصي هو المتاح للمرء راهناً، خاصة في ظل تجاهل الخبر الحزين في الغالب المغلوب من صحافة بقعة كبيرة من الأرض كان الراحل، وهو بالمناسبة أحد الموقعين علي بيان قرطاج السينمائي، قد زار بعضاً منها وأودع فيها كلّها الكثير من أحلامه وطموحاته ومراهناته علي مستقبل إنساني أفضل، أعني الصحافة العربية السادر جُلُّها في تغطية وتبهير وتتبيل أخبار راقصات وفنانات الـ هشّك بشّك من فوق ومن تحت وما بينهما.
    إذاً فقد توفي عثمان صمبين، المخرج السينمائي الافريقي الأشهر باستحقاق شديد، بل وأول المخرجين الأفارقة الذين تمكنوا ضمن تحديات كانت تبدو مستحيلة لفرط صعوبتها من وضع صورة الافريقي علي الشاشة باعتبارها ذاتاً خلاقة فاعلة وليس موضوعاً غَيْرِيَّاً و إكزوتيكيَّاً . يتذكر المرء هنا ان المناضل والمثقف الإفريقي الأشهر فرانز فانون الذي دُفِنَ في الجزائر بناء علي رغبته كان قد كتب مرة انه كان يصاب بالرعب حين يري صورة الإفريقي علي الشاشة. توفي صمبين في منزله الصغير والمتواضع في دكَّار، عاصمة بلاده السنغال، بسبب تعقيدات صحية ناجمة عن إصابته الطويلة بمرض السرطان عن عمر بلغ أربعة وثمانين عاماً (وهذا عمرٌ، علي الرغم من مديده الظاهري، قصير للغاية بالنظر إلي ما كان صمبين مؤهلاً وناضجاً للقيام به لو أمهله العمر وتوفرت له الإمكانيات الإنتاجية أكثر). توفي عثمان صمبين، إذاً، في وقت متأخر من يوم السبت 9 حزيران (يونيو) 2007. وقد جاء خبر الوفاة (ربما بناء علي رغبة صمبين نفسه المعروف بنأيه المتطرف بذاته عن كل ما هو سُلطوي ورسمي) عبر نعي شخصي قصير صادر من عائلة الفقيد وليس من الحكومة السنغالية التي احترمته وأعجبت به دوماً (لكن من دون أن تستطيع مجرد احتوائه نسبيَّاً علي الأقل، هذا ناهيك عن شراء ذمته وتدجين نزعته النقدية أو تجييرها لصالحها) وغضبت عليه واستاءت منه (لكن من دون أن تتمكن من أن تنكر أهميته أو تحدَّ من شعبيته والتقدير الذي ناله في بلاده بل وفي بلاد الأرض قاطبة، بل انها كانت تزهو وتفاخر به العالم حتي في بعض اجتماعات منظمة الأمم المتحدة). بهذا المعني يقف عثمان صمبين بقــــامته المُتَرَفِعَّة الرفيعة مثالاً فريداً علي شروط الكبرياء والأنفة والنزاهة والمواقف السياســـــية والفكرية المبدئية والأخلاقية العالية في تعامل المثقف مع السُّلطة خاصة في بلدان العالم الثالث التي لا يحتفظ فيها كثير من المثقفين بسجل شريف نظيف في علاقتهم بالمؤسسة للأسف الشديد، بل انهم يساهمون بسخاء مقبوض الثَّمن نهاراً جهاراً في ستر عوراتها وتجميلها ومأسستها الديكورية الحداثيَّة الكاذبة أمام الرأي العام محليَّاً وخارجيَّاً. وقد دفن صمبين صباح يوم الإثنين 11 حزيران (يونيو) بحضور عدد كبير من رجالات السياسة والفكر والثقافة التاريخيين السنغاليين وغيرهم من أقرانهم الأفارقة الذين توافدوا إلي دكَّار في مدة قصيرة من مختلف بقاع القارة السمراء للمشاركة في تشييع صمبين الذي اكتسب احترامهم العميق وتقديرهم وإعجابهم بجدارة عالية طوال مسيرته الإنسانية والسياسية والإبداعية الاستثنائية والمذهلة.
    وفي مراسم الدفن صرَّح عبدو ضيوف، الرئيس السنغالي السابق قائلاً: لقد خسرت افريقيا واحداً من أعظم مخرجيها السينمائيين ، وأضاف ما يعرفه الجميع تقريباً وهو أن القارة الافريقية فقدت مُدَافِعاً متوهجاً عن الحرية والعدالة الاجتماعية . أما شيخ عمر سيسوكو، المخرج السينمائي الافريقي المعروف ووزير الثقافة في جمهورية مالي وصديق صمبين القديم الذي أصر علي حضور الجنازة، فقد قال ببساطة: لقد فقدت السينما الافريقية واحداً من فناراتها ، وأضاف مُلَخِّصَاً المشروع التاريخي والجمالي للراحل الكبير: لقد قاد صمبين افريقيا نحو فهم هويَّتها وبناء أفقها الثقافي . أما بابا هاما، الأمين العام لمهرجان أوغادوغو السينمائي في جمهورية بوركينا فاسو والذي أصرَّ بدوره علي السفر إلي دكَّار بسرعة وإلقاء النظرة الأخيرة علي صديقه القديم صمبين والمشاركة في تشييعه إلي مثواه الأخير، فقد أوجز مسيرة الراحل الكبير في كلمات قليلة وعميقة: لقد كان صمبين نموذجاً للنضال، والحب، والتواضع .

    سؤال الميلاد، قلق الهوية

    ولد عثمان صمبين في منطقة زيغوينشور من إقليم كاسامانسي النَّهري في شمال السنغال في الأول من كانون الثاني (يناير) عام 1923 لأب مسلم متديِّن يعمل صياد أسماك نهريَّاً، وكان عمُّه فقيهاً وعالم دين مسلماً كبيراً خابت مراهناته وطموحاته الكثيرة في أن يخلِفه صمبين الصغير والشقي والرافض والمتمرد والقَلِق. وقد تركت صدفة الميلاد لعائلة مسلمة ضمن هذه الحيثيات الخاصة بصماتها وقلقها المتأججين علي أوجه حياة صمبين الشخصية، والسياسية، والفكرية، والفنية اللاحقة مع انضوائه تحت راية الفكر الماركسي في وقت مبكر واعتناقه للأفكار العلمانيَّة والحداثيَّة في بلاد ذات تراث ديني جدلي متضارب، وتعاني- فوق ذلك- من توترات دينية وعرقية وطائفية كثيرة بين سكانها المسيحيين والمسلمين إن في مرحلتها الكولونيالية أو خلال فترة الدولة الوطنية المستقلة. وفي السياق هذا يقدم صمبين في فيلمه الملحمي تشيدو المنجز في 1977 (وتعني المفردة الأجانب بلغة الوولوف الافريقية وهي اللغة المحليَّة الأولي في السنغال) الذي يعتبره كثير من النقاد التحفة السينمائية الأهم في أعمال المخرج الراحل قراءة إشكاليَّة جريئة لأوجه التأثير الإسلامي والاستعمار الأوروبي علي التاريخ والثقافة الإفريقيين، ويسلط الضوء علي حقيقة ان تجارة الرقيق المرتبطة بمشروعات الهداية الدينيَّة إنما تشكلان عصب تاريخ افريقيا الحديث واصطدامها بالعالم الخارجي. وقد أثار هذا الفيلم الكثير من الجدل في السنغال، وتم منعه لسنوات طويلة خاصة وأن أحد الممثلين فيه يشبه تماماً ليوبولد سنغور، أول رئيس سنغالي.
    لقد كان صمبين يبحث بكَدّ ودأب وعناد جليل عن افريقيا الأولي التي هي، من وجهة نظر الكثيرين بمن فيهم شخصي المتواضع، ضَرْبٌ من الحنين النبيل الموجع والمستحيل، وصورة مرآويَّة مثاليَّة (وإن كانت المثاليَّة ليست كلمة سيئة بالضرورة). والحقيقة أن صمبين تراجع إلي حدود كبيرة عن فكرة النقاء في أواخر حياته حيث صرَّح في 2005، مثلاً، ان مقولات النقاء قد أصبحت شيئاً ماضويَّاً .
    لكن الحقيقة أيضاً هي أن صمبين، ومنذ فيلمه الروائي الطويل الأول بنت سوداء (1966) أخذ يلجأ إلي استعمال وتجذير الأيقونات والرموز الدينية المحلية والثقافية الشعبية الإفريقية في مرحلة ما قبل وصول الديانات التوحيدية الكبري (الإسلام والمسيحية واليهودية) إلي القارة السوداء وذلك في عودة واستدعاء أسطوريين للذات الإفريقية القديمة عبر منابعها الثقافية والروحية الأولي التي من المفروغ منه انها شكّلت الكثير من اللَّبِنَات الأولي للحضارة البشرية كما نعرفها اليوم.
    فلنتذكر، مثلاً، كتاب مارتن بيرنال الانقلابي القيِّم أثينا السوداء: الجذور الأفرو-آسيويَّة للحضارة الكلاسيكية . يتذكر المرء في هذا السياق علي سبيل المثال ذلك الإنشاد الترتيلي الجماعي الافريقي الجليل بينما الشاشة مغمورة بالسواد في مفتتح فيلمه بوروم ساريه (1963). لقد كان ذلك الإنشاد المهيب يتدفق عبر ما يمكن وصفه بأنه مُرَافََََقَََة للتكوين ومُلازَمَة له. ويتذكر المرء أيضاً صورة ايقونيَّة ميثولوجيَّة افريقية تَرِدُ بصريَّاً بصورة يبدو للمشاهد العابر انها عابرة، لكنها في الحقيقة في غاية الحذق علي الرغم من سرعتها، في فيلمه البديع خالا (1974). وتبرز كذلك أسئلة الدين والتباساتها وانعكاساتها العاتية علي كافة شؤون الحياة في واحد من أفلام صمبين المتأخرة هو غويلوار: أسطورة افريقية للقرن الواحد والعشرين (1992). و غويلوار هو اسم شخصية لقسٍّ كاثوليكي راديكالي سياسياً يبدأ الفيلم بموتها ودفنها بطريق الخطأ في مقبرة إسلامية، لتتابع بعد ذلك أحداث الفيلم معرِّية التوترات الدينية والتاريخية بين المسلمين والمسيحيين وإعاقتها لبناء الدولة ما بعد الكولونيالية الحديثة في السنغال، وكذلك معرِّية التوترات بين المسلمين والمسيحيين من جهة، ومنظمات الإغاثة الدولية العاملة في إفريقيا ما بعد الكولونيالية من جهة أخري. لقد هاجم صمبين في عدة مناسبات منظمات الإغاثة الدولية تلك قائلاً انه لا يستطيع أن يفهم كيف ان افريقيا، وهي سلَّة غذاء العالم، تتقبل معونات غذائية من الشرق والغرب في استكمال مرير للتعهير الذاتي في الحقبة ما بعد الكولونيالية ( إفريقيا عاهرة لكني أحبها كما قال في محاضرة له في معهد الفيلم البريطاني ألقاها وهو مرتد زياً افريقيَّاً شعبيَّاً بسيطاً).
    وبالنسبة إليَّ عليَّ الاعتراف هنا انه ظلَّ هناك دوماً ما يقلقني في هذا الفيلم (اي غويلوار )، حيث بدا لي ان صمبين قد وقع فيه في أفخاخ مفاضَلات اضطرارية من نوع ما، بل انها تكاد تكون مانويَّة في بعض المشاهد. وقد كنت أنوي إثارة قلقي مع صمبين مباشرة حيث حجزت لي موعداً معه حين كان يُزمَع حضوره للمشاركة في مهرجان كبير عن أعماله أقامته جامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس في 1997، غير انه للأسف ولسوء حظي تعرض الرجل لأزمة صحية مفاجئة اضطرته للاعتذار عن الحضور الذي أنابه فيه الفونس كاواويسي تيكبيتي، وهو ناقد سينمائي افريقي كان قد ألف كتاباً بعنوان الالتزام الاجتماعي والسياسي في أعمال عثمان صمبين . غير ان الأستاذ تيكبيتي لم يقتنع بوجهة نظري التي أثرتها ضمن مناقشات المهرجان، كما اني في المقابل لم أكن متحمساً لدفاعه البيداغوجي والمثالي أكثر مما ينبغي عن صمبين حسب اعتقادي. والحقيقة اني أزمع وقفة تفصيلية لدي هذه النقطة في مناسبة قادمة وأكثر تأنياً.

    خريج جامعة الحياة

    لم يكن صمبين عضواً في نادي النخبة المتعلمة في إفريقيا الذي تنتمي إليه رموز وطنية كبيرة ومهمة في العمل السياسي والثقافة الإفريقيين كالكاتب وأول رئيس سنغالي في فترة الاستقلال ليوبولد سنغور (الذي استقال من منصبه الرئاسي المُنْتَخَب لأجله كي يتفرغ لاهتماماته الأدبية في خطوة عالمثالثية غير مسبوقة خاصة بالنسبة لبعض الحكَّام العرب الذين فاجأونا مؤخراً، ضمن مفاجآتهم التي لا تنتهي، بإصدار مجموعات قصصية وروايات) والكاتب والسياسي المارتينيكي أيمي سيزير (الذي بالطبع لا يمكن الحديث عن افريقيا الحديثة من دون الحديث عنه)، إذ ان صمبين لم ينل إلا قسطاً ضئيلاً من التعليم الابتدائي الحديث بعد أن قرأ قليلاً في المدرسة الإسلامية، ذلك ان صمبين غادر المدرسة الفرنسية مفصولاً فصلاً نهائياً بعد أن قام بضرب ناظر المدرسة الفرنسي في علقة ساخنة أمام التلاميذ لأن هذا كان يتعمد إهانته (كانت المصارعة أحد اهتمامات صمبين المبكرة). وفي أية حال لم تكن ظروف صمبين المعيشية القاسية لتسمح له بمواصلة التعليم الابتدائي حتي ولو لم يحصل ذلك الشجار. ومن هنا فقد أكمل صمبين تعليم وتثقيف نفسه بنفسه بالطريقة العصاميَّة، متنقلاً خلال ذلك من العمل كصياد أسماك، وعامل بناء، ونجَّار، وسبَّاك، وميكانيكي، وعتَّال. وفي هذا الصدد يقول صمبين الشغوف بالقراءة النهمة منذ صغره انه تلقي تعليمه في جامعة الحياة .
    وخلال الحرب العالمية الثانية تم تجنيد صمبين إلزاميَّاً في القوات الفرنسية الحرة وقاتل في افريقيا وأوروبا ضمن وحدة خاصة للرُّماة المَهَرَة نظراً لمهاراته العالية في دقة التصويب الناري، ومعروف انه أبلي بلاء حسناً في العديد من العمليات، لكنه عاد إلي بلاده في 1946 من أجل المشاركة في التحضير لإضراب عمال السكك الحديدية الضخم الذي تم في 1947، وهو أكبر إضراب عمَّالي في تاريخ السنغال (استعاد صمبين أحداث هذا الإضراب لاحقاً في روايته الأشهر قِطَعُ خشب الإله الصغيرة ). وفي العام التالي ـ 1948 ـ أبحر صمبين إلي فرنسا متخفياً بين بحارة سفينة ومتظاهراً انه واحد منهم لأنه كان ملاحَقاً سياسياً ولأنه أيضاً لم يكن يملك قيمة التذكرة.
    ولمدة السنين العشر اللاحقة اشتغل صمبين عاملاً علي رصيف سفن في مرفأ مرسيليا، وهي المدة الأطول في حياته لثباته في مهنة واحدة. وبمجرد وصوله إلي فرنسا انخرط الرجل في نضالات نقابات واتحادات العمال ليصبح خلال فترة قصيرة قائداً عماليَّاً بارزاً، وهما انخراط وقيادة أدَّيا تلقائياً إلي انضمامه للحزب الشيوعي الفرنسي في 1950 الذي تركه في 1960 عندما نالت السنغال استقلالها خاصة لجهة وجود استياءات متراكمة لدي صمبين من قيادة الحزب في ما يخص نظرتها لافريقيا. وخلال فترة الخمسينيات، وإضافة إلي انهماكه في العمل البدني المضني علي رصيف السفن ومنحه بقية وقته للنشاط السياسي، وجد صمبين وقتاً مع ذلك للرسم وكتابة الشعر بالفرنسية. وفي 1956 نشر روايته الأولي العتَّال الأسود التي تدور حول معاناة عمال الموانيء الأفارقة في فرنسا بناء علي تجربة ذاتية مباشرة، وقد حققت الرواية نجاحاً فورياً جعلت اسم صمبين يقفز إلي الواجهة الأدبية.
    وفي غمرة هذا النشاط السياسي والإبداعي المذهل علي تلك الصُّعد كافة مُنِيَ صمبين بإصابة كبيرة في ظهره أثناء أدائه لوظيفته علي رصيف السفن، ما أدي إلي عدم تمكنه من مواصلة العمل اليدوي وتفرغه للكتابة. والحقيقة ان صمبين معروف في الوطن العربي عموماً بأنه المخرج السينمائي الافريقي البديل الأكثر شهرة، إلا انه معروف في إفريقيا والغرب كذلك باعتباره قاصاً وروائياً مهماً بالمقدار نفسه منذ بداية الستينيات، ومعظم أعماله السينمائية هي في الحقيقة اقتباسات لبعض أعماله الروائية (علي حد علمي، وأتمني أن أكون مخطئاً، لم يترجم أي من أعماله الشعرية والقصصية والروائية إلي العربية لغاية الآن). وعلي اثر إصابته البدنية البليغة وتفرغه للكتابة قام صمبين برحلات سياسية وثقافية كثيرة إلي بلدان منها الصين وفيتنام ضمن الآفاق الثورية المتوهجة خلال ذلك الوقت.
    لقد كان صمبين شغوفاً دوماً في سباق مع الزمن بإيصال رؤاه وأفكاره إلي الناس البسطاء والعاديين من بني قومه، مهموماً بالأسئلة الجوهرية الملحَّة علي افريقيا وعموم العالم الثالث، وذلك خاصة لجهة نزعاته السياسية الثورية الأصيلة والعميقة، وانتمائه لخلفية طبقية وحياتية كادحة، وازدرائه لأية توجهات نخبويَّة في الثقافة والسياسة، لكنه رأي ان نسبة الأميَّة العالية في افريقيا (80% خلال ذلك الوقت) تحول دون أن يوصل ما يريد قوله للناس عبر الأدب، ومن هنا فقد اقتنع ان السينما هي الأداة الأكثر ملاءمة لواقع افريقيا الثقافي والاجتماعي. والحقيقة انه يصعب تصور أي مخرج سينمائي آخر في أي مكان من العالم تتألف شريحة واسعة من جمهوره السينمائي في بلاده من الضَّريرين الأميِّين (وهؤلاء يحضرون بكثرة باعتبارهم شخصيات في أعماله السينمائية لا سيما في خالا ) الذين يحرصون علي مشاهدة أفلامه من أجل أن يتعلموا و يستمتعوا !. لقد كان صمبين مُحِقَّاً بالتأكيد عندما صرَّح في 2005: أستطيع أن أذهب إلي قرية وأعرض فيلمي هناك لأن كل شيء يمكن التعبير عنه سينمائياً ونقله إلي القرية الافريقية الأكثر نأياً .
    وهكذا فإنه بسبب من خلفياته الفكرية والنضالية اليسارية حصل صمبين في 1962 علي بعثة دراسية مكثَّفة من الاتحاد السوفييتي (سابقاً) لدراسة الإخراج والفنون السينمائية في معهد موسكو السينمائي حيث درس علي مارك دونوسكوي صاحب ثلاثية غوركي الشهيرة، ثم اكتسب خبرات عمليَّة بإشراف سيرجي جيراسيموف في استوديو غوركي السينمائي. وفي مرحلتي الدراسة واكتساب الخبرة العملية أثبت صمبين موهبة سينمائية عالية جعلته محط تقدير واحترام أساتذته ومراهناتهم.
    استغرقت دراسة صمبين وتَمَهُّنه السينمائيان وقتاً قياسي القِصَر هو عام واحد فقط شدَّ الرحال علي اثره عائداً علي الفور إلي إفريقيا حيث انخرط في انجاز فيلم وثائقي بعنوان إمبراطورية سونجهي (1963) عن هذه الإمبراطورية الافريقية الغابرة والذي أنجزه صمبين بتمويل من حكومة مالي التي كانت سبَّاقةً إفريقيَّاً بالوعي بدور السينما في المعترك السياسي والثقافي. وفي العام نفسه أنجز صمبين فيلمه بوروم ساريه الذي حظي باحتفاء خاص في الأوساط السينمائية بحيث انه فاز بالجائزة الأولي لمهرجان تور السينمائي. وهذا فيلم شبه وثائقي وشبه روائي متأثر إلي حد بعيد بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية بحيث ان بعض النقاد قد ذهب إلي أن الفيلم هو النسخة الافريقية من فيلم فيتوريو دي سيكا الشهير لص الدراجات الهوائية . وفي هذا الفيلم يتتبع صمبين حياة ومعاناة صاحب عربة خشبية ذات عجلتين من عجلات السيارات يجرُّها حمار ( جاري كما كنا نقول في عُمان) في صخب وقسوة مدينة دكَّار لمدة يوم كامل. إنه الإنسان اليومي البسيط المسحوق تحت عجلات الدولة الوطنية المستقلة الحديثة في افريقيا ما بعد الكولونيالية. وفي 1964 تجرأ صمبين في فيلمه القصير الثالث علي فضح واحدة من الممارسات غير النادرة في المجتمعات الافريقية التقليدية، ولكن يُعَدُّ الحديث عنها ومناقشتها علناً نوعاً من أنواع التابو ، ألا وهي ظاهرة زنا المحارم التي تصير فيها الضحيَّة ضحيَّةً مرتين أولاهما في التعرض للجريمة الشنيعة التي ستترك آثارها البغيضة حتي الموت وذلك من أقرب الناس وأكثرهم جدارة بالثقة والاطمئنان، والثانية، وهي لا تقل نكاية، تتمثل في ضرورة التكتم علي شخص المجرم المُغتصِب وإلصاق نتائجها بشخص آخر ظُلْمَاً من أجل إنقاذ ما يمكن انقاذه أمام المجتمع المُرائي، وذلك في فيلمه نايي (وهذا هو اسم الفتاة التي تحبل بجنين من صلب أبيها في الفيلم). وقد فاز هذا الفيلم بجائزة مهرجان لوكارنو السينمائي.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de