|
التواصل الحضاري
|
بقلم: د. جمال رجب سيدبي جامعة قناة السويس تؤكد حقائق التاريخ أن التفاعل بين الحضارات والشعوب قانون حضاري, ومن ثم فليس من المعقول أن تنشأ حضارة من العدم, وفي هذا السياق نشأت الحضارات والثقافات بين شعوب الأرض قاطبة. والدراسات الانثربولوجية تشير إلي مثل هذه الحقائق, أو أن هناك أوجه تشابه بين عادات وتقاليد الشعوب المختلفة. كانت هذه المقدمة ضرورية لطرح إشكالية التواصل الحضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخري سواء أكانت غربية أم غيرها. لقد كانت هناك عوامل عدة أدت إلي ظهور الحضارة الإسلامية, وعلي رأسها عقيدة التوحيد, بما تحوي من مفهوم ومدلول لحقيقة الألوهية, وعلاقتها بالإنسان الفاعل في الحضارة والتاريخ. فنظرة الإسلام إلي الإنسان, نظرة متوازنة فهو ليس مهمشا, وليس مؤلها في نفس الآن, وإنما هو الإنسان الخليفة, أو النائب عن الله في الأرض وفي إعمار الحياة في جميع أشكالها.
وعلي هذا استطاعت هذه العقيدة, عقيدة التنزيه للألوهية, أو الله الكامل بكل معاني الكمال وعلاقتها بالإنسان الخليفة, أن تقيم حضارة سامقة شهد لها التاريخ بالرسوخ والكمال. ولم تبدأ هذه الحضارة في احتفائها بالعلوم من فراغ, إنما تفاعلت مع الحضارات السابقة, ولو نظرنا إلي تاريخ الدولة العباسية لوجدنا أن أهم سماتها وجود حركة الترجمة النشيطة في عهد الخليفة المأمون. لقد كان الخليفة المسلم مهتما بترجمة علوم اليونان, مثل طب أبقراط وفلسفة أرسطو, وطب جالينوس وغيرها من الفنون والعلوم, وكان من أشهر المترجمين في ذلك الوقت حنين بن اسحق واسحق بن حنين, ولقد استوعبت أيضا هذه الحضارة العديد من العلماء من مختلف الملل والنحل من اليهودية والمسيحية والإسلام, وعاشوا في كنف هذه الحضارة, آمنين مطمئنين علي حياتهم ومستقبلهم, لأن هذه الحضارة عرفت التسامح بأوسع معانيه, ولم ترفض مبدأ التعايش مع الآخر, بل شارك الآخر بفاعلية وتواصل في اقامة صرح هذه الحضارة.
من جانب آخر, ان الحضارة الإسلامية, لم تقف عند حدود التواصل مع السابق وإنما تأثرت وأثرت, أقول تأثرت بالسابق, كما أشرنا آنفا وأثرت في اللاحق كما سنشير لاحقا. لقد كان لآراء علماء المسلمين في الغرب الدور الكبير في نقل الفكر العلمي والفكر الفلسفي, مثل فلسفة ابن رشد والتي أثرت تأثيرا كبيرا في أوروبا في العصر الوسيط, وكذلك الآراء العلمية لعلماء المسلمين.
لقد اعترف المنصفون من علماء الغرب بتأثرهم بعلماء المسلمين أمثال روجربيكون وغيره من العلماء. وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل علي أن الحضارة الإسلامية بعلمائها ومفكريها كانت هي المشعل والمقدمة الضرورية لعصر النهضة في أوروبا. ولعل الكتابات المنصفة من المؤرخين الغربيين لتؤكد مثل هذه الحقيقة, مثل كتابات زغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع علي الغرب, وجوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب وغيره من كتابات منصفة في هذا الخط. لقد آن لنا الأوان ـ نحن المثقفين ـ أن نعيد النظر في تاريخ الحضارة, وان نقول عنها: إن الحضارة الإسلامية, لم تعرف الانغلاق أو الانكفاء علي الذات, وإنما هي حضارة التواصل أو التفاعل مع الآخرين اعتقد أن ما قدمنا آنفا ليبرهن بالحجة والدليل أن حضارتنا حضارة تواصل لا انقطاع, تعايش لا انعزال, تنشد الخير للجميع, والسعادة للبشرية جمعاء.
|
|
|
|
|
|