|
|
 رواية فى شأن الحق والجمال
|
قراءة نقدية في عرض "الذين عبروا النهر" للمخرج منصور عبيد
الجزيرة بمساحة وطن وقائدها بحكمة النهر وعطائه
روايةفي شأن الحق والجمال
رواية فى شأن الحق والجمال بقلم مصعب الصاوي
مهاد:
درجت أيام البقعة المسرحية على تنظيم مهرجان سنوي لعروض الشباب يتزامن واحتفالات العالم بالسابع والعشرين من مارس يوم المسرح العالمي. وقد جاءت هذه التظاهرة المسرحية لهذا الموسم مشتملة على بشارات واعدة في فن الكتابة للمسرح والإخراج كما قدمت تجارب مؤثرة في مجالي التمثيل والفنيات بشكل عام إلا أن موضوع هذه الدراسة هو عرض مسرحية "الذين عبروا النهر" تأليف عادل إبراهيم محمد خير إخراج منصور عبيد وستبحث الدراسة في المصادر الفكرية والفنية للنص ثم تتبعه بتطبيقات نظرية على أسلوب الإخراج والتمثيل مستخلصة عدداً من الملاحظات الضرورية لتطوير التجربة ودفعها إيجابياً.
المصادر الفكرية والتاريخية للنص العرض:
يحاول نص العرض استعادة لحظة متوهجة ومضيئة في تاريخ هذا الوطن وهي لحظة معاصرة مليئة بالرموز والدلالات وهي لحظة المواجهة بين معسكر الجبهة الوطنية وعساكر مايو معسكر الجبهة الوطنية يتألف من عناصر الحركة الإسلامية وجماهير حزب الأمة والاتحادي ومجتمع الجزيرة "أبا" لحظة المواجهة هذه أوقفها الإمام الهادي حتى لا تتسع دائرة العنف وحتى لا يتمدد الحريق من الجزيرة ليشمل الوطن كله وهي لحظة تجمع بين قوة الإرادة الروحية وضبط النفس وتجاوز الهم الضيق إلى آفاق الوطن كل ذلك تم لحظة عبور اتباع الإمام النهر.
المتأمل لهذه اللحظة يكتشف العمق الفلسفي والوجودي لمؤلفه الأستاذ عادل إبراهيم محمد خير الذي استطاع أن ينظر للصراع من هذه الزاوية المتسمة بالشمول كل الكتابات السياسية التي تناولت ما حدث في أبا 1970م حاولت أن تصور الصراع من وجهة نظر سياسية ولكن التناول الفني لعادل محمد خير سخر قدرة الدراما على تعرية الواقع وفضح المسكوت عنه في تاريخنا السياسي المعاصر كما حاول العرض أن يكثف الظلال الرمزية الكثيفة لشخصية الإمام الهادي وكيف استطاع هذا الرجل والمحيطون به أن يحتفظوا بتماسكهم وقوة ارداتهم في ذلك الظرف العصيب.
مصادر التاريخ المعاصر:
تكمن أهمية كتاب الدكتور نصر الدين شلقامي "كوستي القصة والتاريخ في:
1/توثيقه لتاريخ السودان المعاصر ما بعد 1956م ممثلاً في "أحداث عنبر جودة" و"أحداث الجزيرة أبا" والأهمية القصوى للكتاب تتجسد في رصده ومتابعته لأخبار الجنود السودانيين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيسهم لمجتمع جديد في مدينة كوستي عرف بحي "الرديف" ومن ثم ظهور قوالب فنية معاصرة في الفن السوداني عرفت بأغني التم تم ومن ثم يعتبر كتاب الدكتور نصر الدين شلقامي أهم مصادر التاريخ السوداني المعاصر. وهو المصدر الذي أعطى نص عادل إبراهيم محمد خير المرجعية التاريخية لرواية "الذين عبروا النهر" المسرحية وأعطى عبد الله علي إبراهيم المرجعية التاريخية والثقافية لنصه المسرحي "تصريح لمزارع من جودة" وقد استند الكاتب المسرحي والشاعر عمر العوض على كتابه في تدوين رواية مسرحية تحكي عن أحداث عنبر جودة أخرجها للمسرح ربيع يوسف الحسن ورغم أن النص المسرحي يعتبر وثيقة في حد ذاته تحمل مجموعة من الخبارت المجتمعية والثقافية إلا أن مهمة الناقد هي التعرف على المصادر السابقة للنص وتحليلها ويبدو لي أن عادل محمد خير في مؤلفه المسرحي لم يعتمد فقط مصادر التاريخ السياسي الرسمي بل زود نصه المسرحي بالعديد من الرويات الشفاهية خاصة ما يتعلق بسيرة الإمام الهادي الرجل والإنسان صاحب السطوة الروحية وفي تقديري أن ذكاء التناول الفني عند المخرج والمؤلف هو أن تلون شخصية الإمام الهادي شخصية "طيفية" Astral Character والشخوص الطيفية في جذور الفن الدرامي الكلاسيكي هي الأكثر تعبيراً عن أغوار النفس البشرية القلقة التواقة لليقين أو الشخصيات الفنية التي واجهت أقدار درامية هائلة وصداعاً مأساوياً كشخصية "دارا" ملك الفرس الذي أبرزه اسخيلوس روحاً هائلة الإرادة ترفض الهزيمة من اليونان وتخاطب ابنه المحارب الهش ليتماسك أكثر ويعيد الكرة على الأغريق ويهزمهم كما هزموه في حياته، أن طيوف الأبطال وأنصاف الآلهة والفرسان الشعراء في الدراماء الأغريقية الكلاسيكية عند سوفكل أو اسخيلوس أرواح تتمرد على منطق النصر والهزيمة أن طيف "اجاممنون" المحارب والشاعر الذي يحلم بالمدينة وبالمرأة التي يحب لم تجعله يقف منتصراً أو مهزوماً بل تجاوز هذا المنطق لسؤال أعمق هو لماذا نحارب بالأساس حتى نهزم أو ننهزم؟
الإطار الواقعي لنص العرض:
يستند نص عرض "الذين عبروا النهر" على خلفية الصراع بين النظام الأيدولوجي لمايو وما تعارف الناس على تسميته بالجبهة الوطنية حيث فكر الأنصار في الاتصال بالأخوان المسلمين في السعودية وكان يقيم فيها الأستاذ محمد صالح عمر وأحمد عبد الرحمن ومهدي إبراهيم الذين عارضوا نظام مايو منذ البداية أثر هذا التنسيق تكونت اللجنة الأولى للجبهة الوطنية وانتخبت مكتبها عام 1970م برئاسة الشريف الهندي ووكالة الدكتور عمر نور الدائم وأمانة الأستاذ عثمان خالد مضوي وعضوية أحمد عبد الرحمن ومهدي إبراهيم ومحمد صالح عمر وانضم إليهم آخرون. بذلك جسدت أحداث الجزيرة أبا أولىخطوات المجابهة بين هذه القوى السياسية ومايو في بداية اندفاعها وعنفها كما أن شخصية الإمام الهادي بما تملك من رمزية دينية جعلت الصراع يتخذ طابعاً مغايراً عن مجرد الصراع السياسي المرهون بخيارات دنيوية ومكاسب سلطوية مؤقتة إلى آفاق الصراع الفكري حول مفهوم الوطن والمواطنة وآلية الحكم ومشروعيته.
أسس الرؤية الفنية لنص العرض:
تأسست الرؤية الفنية لنص العرض على شخصية مفترضة هي الجندي الذي حارب في معسكرمايو وشهد كمحارب أحداث الجزيرة "أبا" وقد حوّلت تلك الأحداث الجندي لشخصية درامية فهو مصاب بنوع من الوسواس القهري الذي يجعله يستعيد باستمرار تلك الأحداث في مخيلته ويمارس تعذيب الذات Self Opssetion ويحاول الجندي إزاء هذا الوضع التراجيدي أن يبحث عن المبررات التي تمنحه صك البراءة ويحس المتأمل للعرض أن الجندي يعيش صراعاً نفسياً بين واجبه وبين مجموعة من القناعات الثاوية في أعماق اللاوعي والتي تجعله مصاباً بنوع ما من عقدة الضمير.
تشارك الجندي زوجته "جسدت الدور الفنانة سميرة مسعود" تشارك الجندي صراعاته وتجتهد في أن تخرج الجندي "الفنان برعي" من هذه الأزمة متوسلة بالعديد من الأسباب والوقائع التي تثبت براءته تأتي ذروة الصراع في تكثيف لحظة الصراع النفسي عندما يشاهد طيف "الإمام" ويحاوره بعبارة "الجندي الصغير" وهي عبارة مشحونة بالمؤثرات إذ أنها تؤشر لأنه مجرد جندي صغير يطيع الأوامر والتعليمات وليس له الحق في تنفيذ إرادته أو قناعاته الخاصة وإنما هو مجرد أداة محكومة بإرادة عليا هي رؤية نظام مايو للأحداث.
الإطار التعبيري للعرض:
يتخذ الإطار التعبيري للعرض موقعه من منزل الجندي بيته الذي يضيق ليصبح غرفة والغرف في مباحث دراسات علم النفس الاجتماعي خاصة عند قاشتوت باشلار هي فضاء رحمي "من الرحم" وهي تمثل العودة للطفولة لحميمية المهد وبالتالي فالجندي يلوذ بالرحم أي الغرفة ليستعيد براءته نقاءه من الفعل المأساوي الذي شارك فيه أحداث "أبا" 1970م وبالتالي فالشخصية مصابة بنوع من النكوص والارتداد لمنابع الطفولة بحثاً عن الخلاص الروحاني والنفسي وهي ما يعرف في علم النفس الإبداعي بالرغبة التطهرية Purification وهي رغبة يمليها ارتكاب أثم ترغب الذات في التخلص منه.
الزوجة أو الموازي الإنساني للجندي:
الفنانة سميرة مسعود التي جسدت دور الزوجة استطاعت أن تعكس عبر الأداء التمثيلي هواجس وتناقضات الزوج بأسلوب مرايا التمثيل Merror Acting وهي نقل أحداثيات الصراع الداخلي للجندي "برعي" إلى جسد وتعبير الزوجة وهذا النوع من الأداء التمثيلي يتطلب قدراً إبداعياً هائلاً من معايشة النص وقوة الاتصال الوجداني بين الشخوص الفنية كما أن الممثلة استطاعت أن تعكس عبر الأداء التمثيلي الانقسام الحادث بين دورها كزوجة وانفعالا كإنسان بمجموعة الأحداث التي خاضها الزوج ومدى تأثير هذه التجربة على استقرار وتماسك أسرتها ومحيطها الخاص لقد جسدت الفنانة سميرة مسعود شخصيات مماثلة لهذه الشخصية شخصية تتسم بتصاعد التعقيد النفسي فقد جسدت شخصية "سولارا" لمحمد مفتاح الفيتوري وشخصية "أوفليا" في هاملت.
وهي شخصيات كما يلحظ القارئ الكريم ملودرامية تتلاقى فيها الدراما مع اتجاهات علم النفس الحديث، والأداء التمثيلي لمسيرة مسعود في زوجة الجندي يشكل أحد المرايا التعبيرية المهمة لفحص مستويات الذات عند الجندي.
استغراق الزوجة في الطيف:
بحلول طيف الإمام في ثنايا العرض تعاملت الممثلة "الزوجة" مع كيان أثيري لامرئ هو لا وعي "الزوج" مجسداً في الطيف الذي يحاوره وصعوبة الأداء التمثيلي هنا تكمن في تعامل الممثلة مع جسد أثيري Astral Body وهو نوع من التمثيل يحتاج لطاقة معنوية وانفعالية عالية التكنيك وقد نجحت الزوجة في تجسيد رؤيا التعامل مع الطيف بشكل محسوس ومعنوي معاً.
شاعرية الجزيرة كعالم مطلق ومحدود:
تشكل الجزيرة أية جزيرة في دراسات جماليات المكان علماً مطلقاً ونسبياً في الوقت ذاته فهي علم مطلق لكونها تحيل لمساحات مطلقةمن الماء الذي يعد بالضرورة عالماً لا متناهياً يموج بالاحتمالات ويملك إمكانات واسعة وهي عالم محدود لكونها مساحة من اليابسة مؤطرة بالماء وبالتاي فالصراع حول الجزيرة في نص "الذين عبروا النهر" يحمل بعضاً من هذه الملامح الجدلية بين النسبي والمطلق بين رؤيا الإمام التي تتجاوز حدود الجزيرة إلى الوطن بكامله وبين الرؤيا الأيدولوجية لمايو التي تظن أنها بالقضاء على المقاومة في الجزيرة تكون قد سيطرت على الوطن. كما أن شاعرية الرؤيا عند الإمام تكمن في أن وقف العنف والصراع على الجزيرة يوقف امتداد الحريق لإرجاء الوطن كافة من أجل ذلك يمكن التضحية بالجزيرة من أجل الوطن بالنسبي من أجل المطلق الكوني الذي تمثله فكرة الوطن كفكرة جوهرية مطلقة وعبر هذا التحليل يمكننا أن نكتشف عبر نص العرض عدة دلالات وجماليات شكلها المخرج عبر رؤيته الفنية وهي:
*استخدام السايكودراما لعكس عبور المجاهدين النهر واستخدام نفس المكان أثاث للمنزل.
*استخدام الديكور المجرد المجلس لسراي الإمام الهادي وذلك عبر القوس والارابيسك ليعكس المكان وظلاله الروحية.
*تطوير الدلالات التراثية وذلك من خلال أبراز أدبيات الفن الجهادي لطائفة الأنصار بانشودة إلى الأمام إلى الأمام ياشباب الأمام واستخدامها كمؤثر صوتي وقاسم مشترك للعرض.
*استخدام تقنية التمثيل المتقدمة "للطيب أبو لماع" في شخصية الإمام الهادي بدلالات الزي والإضاءة.
*تم أفضل استخدام لخيال الظل في تجسيد المعركة عبر المجاميع البشرية وكان التنفيذ عالياً.
ملاحظات نقدية:
لم يهتم المخرج بإبراز الفضائل الأخرى التي شاركت في المواجهة والدفاع عن الجزيرة أبا أعني بقية عناصر الجبهة الوطنية منهم اتباع الشريف حسين الهندي ومجموعة الأخوان المسلمين الذين شاركوا في صناعة تلك الأحداث وتم التركيز فقط على أنصار الإمام الهادي وكان يمكن الإشارة لهذه الجماعات عن طريق دلالات الزي والأكسسوار.
تكررت بعض ثيمات العرض خاصة الفواصل الخاصة بإطلاق النار وهي من العيوب المخلة بتماسك العرض.
وفي الختام تجدر الإشارة بجرأة المخرج في تناول التاريخ المعاصر وإلى الأمام إلى الأمام.
نقلا عن الصحافة
|
|
 
|
|
|
|
wadazza
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست