أي عيون هي ...؟
للشاعر السوداني/ حسن إبراهيم حسن الأفندي
[email protected]
قلت مرة فى إحدى مقالاتى عرضا , كلما مات شاعر أو كاتب أيا كانت درجـته وقدراته , ظهر من ينعيه وينقل خبر وفاة ذلك القامة العالية الشاهقة , وينبئنا عن وفاة آخر المبدعين وآخر الأهرامات الأدبية أو الشعرية , ولعلهم ينسون ما كتبوه عن هذا المرحوم , فإذا بهم يكتبون بعد أسبوع واحد عن ميت جديد بنفس الأسلوب ونفس الطرح ونفس الصفات والنعوت ! فليت شعـرى أينا فعلا كان أو يكون القامة الكبرى أو الهرم الشامخ فى عالم الأدب أو الشعـر , ومن منا عملاق زمانه أو آخر العمالقة؟ ومما يؤسف له أن تلك النعوت والصفات تطلق على من يستحق ومن لا يستحق , وعلى من كان ملء الأسماع والأبصار وعلى من كان نكرة مبهمة غير معروف إلا لمن يشرف على صفحة أدبية ما لأسباب ربما تكون شخصية بحتة لا علاقة لها بالشعر أو الأدب أو الثقافة . فهل ترى إن مت ينوبنى من ذلك الحب جانب , على الأقل من المجلات ةالصحف والمواقع التى كتبت فيها شاعرا وساخرا وجادا ولمدة زمنية لا بأس بها ؟ لا يهم ما يقال عنى بعد موتى , فليقل من يقول بأنى كنت صفرا على شمال رقم , ولكنى فقط أعشم فى شهادة سبعة من المسلمين يشهدون بأنى كنت مسلما حقا , فيشفعهم الله في وينقذنى بشهادتهم من الحساب والعقاب .
بعث إلي صديق أديب ببعض أبيات من الشعر يقول مرة إنها من طرائف الشعر ومرة يزعم أنها من عجائبه ومرة أخرى يروى أنها من عيون الشعر , قرأتها واستوعبتها جيدا , ولكنى سألت نفسى مرة : أي عيون هي ؟ أعيون المها يا عيون كما تتغنى إحدى الأغنيات السودانية ؟ أم عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدرى كما يقول علي بن الجهم , أم العيون التى فى طرفها حور والتى قتلننا وما أحيت لموتانا كما ذهب إلى وصفها الفرزدق ؟ أيا كان الحال , فلم أر فيها عيونا ولا رموشا ولا حواجب !
فالشعر إذا لم يكن إلهاما حقيقيا , ما كان شعرا , بعيدا عن الصناعة والتعب والركض إلى صياغة المعانى واختيار الألفاظ وكأننا نحمل إزميل فدياس نحفر به صخرا لنرسم صورة أو نصنع تمثالا . ومسحة الصناعة لا تخفى على القارئ الفطن فى الشعر ولا يغلبه أن يكتشف التكلف والحشو بما يجب وبما لا يجب , فالسلاسة والانسيابية وعدم التكلف من ظواهر وقرائن الإلهام والشاعرية . الكثيرون يستطيعون أن يتمرنوا على نسج القوافى ودراسة علم العروض والبحور والتفعيلات وأن ينظموا ما طاب لهم وشاءوا , ولكن يبقى السؤال : هل كتبوا فعلا شعرا ؟ الشعر مشتق فى المقام الأول من الشعور , فإن فقد أولى مقوماته , فقد كافة صفاته وديمومته .
بعد هذه المقدمة المختصرة أدخل بالقارئ الكريم إلى ما وصلنى من شعر وأولـه هذه الأبيات :
ألوم صديقى وهذا محال
صديقى أحـبه كلام يقال
وهذا كلام بلــيغ الجمال
محال يقال الجمال خيال
وعذرا للقارئ , فالأبيات أقرب إلى كتابة السوقى والرجرجة والدهماء وسواد الناس, أجهد فيها الناظم نفسه فجاءت متنافرة الألفاظ لا جرس فيها ولا موسيقى ولا إغراء , وكل ذلك ليستطيع الشخص منا قراءتها أفقيا أو رأسيا , بمعنى أنك لو أخذت اللفظ الأول من كل بيت لوجدت أنك تقرأ البيت الأول , وأخذت اللفظ الثانى من كل بيت لوجدت أنه يكوّن لك البيت الثانى وهكذا .... فهل يا ترى هذا يعتبر شعرا يستدل به ويبتهج ؟
وخذ مثلا ثانيا :
حلموا فما ساءت لهم شيم ***** سمحوا فما شحت لهم منن
سلموا فلا زلت لهم قدم ***** رشدوا فما ضلت لهم سنن
وهي أبيات من القصيدة الرجبية فيها مدح وثناء , ولكن إذا قرأتها كلمة كلمة , أي من قافية الشطر الثانى من البيت الأول إلى أول كلمة بالشطر الأول من البيت الأول فإن المدح ينقلب هجاء , وسوف تكون الأبيات بعد قلبها كما يلى :
منن لهم شحت فما سمحوا ***** شيم لهم ساءت فما حلموا
سنن لهم ضلت فما رشدوا ***** قدم لهم زلـــت فلا سلموا
وأعطانى صديقى مثلا ثالثا من قصيدة فى مدح نوفل بن دارم , فإذا اكتفيت بقراءة الشطر الأول فقط من كل بيت مهملا الشطر الثانى , فإن القصيدة تنقلب رأسا على عقب , وتصبح ذما لا مدحا :
قصيدة المدح
إذا أتـيـت نـوفـــل بن دارم ***** أمـير مخزوم وسـيـف هاشم
وجدتـــه أظلـم كــل ظالــم ***** عـلى الدنانـيـر أو الـدراهـــم
وأبخل الأعراب والأعاجم ***** بـعـرضـه وســـره المـكاتــم
لا يستحى من لوم كل لائم ***** إذا قضى بالحـق فـى الجرائم
ولا يراعـى جانب المكارم ***** فى جانب الحق وعدل الحاكم
يقــرع من يأتيه سن النـادم ***** إذا لــم يكـــن من قـــدم بقادم
وقصيدة الذم
إذا أتـيـت نـوفـــل بن دارم ***** وجدتـــه أظلـم كــل ظالــم
وأبخل الأعراب والأعاجم ***** لا يستحى من لوم كل لائم
ولا يراعـى جانب المكارم ***** يقــرع من يأتيه سن النـادم
ورغم براعة النظم , إلا أن الشعر يظل شعرا ويبقى النظم نظما , ولعل أن هذه الأبيات وشبيهاتها كتب لها البقاء لما فيها من ألاعيب وما يشبه الألغاز Puzzles)) فى الغالب الأعم , ومن هذا الجانب تأخذ رونقها وزخرفها لا من جانب الإبداع الشعري الذى نعرفه فى معانيه وموسيقاه , وهالة مواكبه التى تزحم النفس وتملأها رضا وسعادة .
Our sweetest songs are those that tell of saddest thought. بمعنى أوضح ( الفكر الحزين ) وذلك كما يقول شيلى والفكر الحزين يعنى الألم والمعاناة.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة