غربا باتجاه الشرق
المهندسين 10 نوفمبر:
زارنى في دار إبن الباز فرمينا مكويت منار، ممثل حكومة جنوب السودان لدى كلٌ من جمهورية مصر العربية و جامعة الدول العربية. لاحظت أن إسمه فى كرت التعريف الذى يحمل صفته ووظائفه الرسمية باللغة الإنجليزية مكتوب بحرف الباء ( برمينا )، ولكن الأستاذة أسماء الحسينى نائبة رئيس القسم العربى فى صحيفة ( الأهرام ) قدمته لى على أنه ( فرمينا ). لطالما سألت الله أن يشفينى من داء التدقيق فى مثل هذه الأشياء الصغيرة و أن يُعيننى على تجاوزها، ولكن الله لم يستجب لدعائى. هل هو فرمينا أم برمينا؟ سألت مثنى و ثلاث و رباع، و كانت الإجابة الثابتة: فرمينا. حسنا، و لكن لماذا يقول الكرت ( برمينا )؟! مهما يكن من أمر فأن فرمينا إنسان لطيف ومهذب و جذاب، كما أنه متحدث لبق و ذو عقلية مرتبة و منظمة. تحدثنا فى موضوعات خفيفة و أخرى من العيار الثقيل. أثناء تجاذبنا أطراف الحديث جاءته مكالمات على هاتفه الجوال فإختصرها و تجاهلها تماما، و لكن مكالمة واحدة إستحوذت على اهتمامه و شغلته كليا، كان واضحا أن مصدرها شخصية ذات وزن مُقدّر. سمعته يقول للشخصية ذات الوزن المقدر انه سيعود اليه برقم موبايل الفريق سلفا كير فى ظرف دقائق. فتح دليل التلفونات داخل هاتفه و استخرج الرقم ثم أعاد الاتصال ليملى الرقم على الطرف الآخر و يختم المكالمة بعبارة: " تحياتنا لسيادة اللواء عمر". لم يكن أمام فارمينا، وقد لاحظ أننى كنت أصغى و أتابع مكالمته الهاتفية بدون خجل الا أن يشف بعض فضولى بتوضيح عابر، فقال لى بإقتضاب أن مدير مكتب اللواء عمر سليمان مدير المخابرات المصرية يطلب رقم الهاتف الجوال للفريق سلفا كير. سألته عما عساه يكون الداعى لهذا الطلب فنفى معرفته بأى شئ، و لكن إحساسى قال لى أن فارمينا كان عنده "رأس خيط" ما. ثم أن اليوم التالى مباشرة للقائى مع فارمينا جاء مصدقا للمثل المصرى الذائع ( يا خبر النهارده بفلوس بكرة يبقى ببلاش )، فقد طارت جميع وكالات الإنباء بخبر الزيارة المفاجئة للرئيس حسنى مبارك الى جوبا و لقائه بالفريق سلفا كير!
لاحقا تحدثت الى عدد من الشخصيات المصرية و السودانية التى ذكرت لى فارمينا بالخير، إذ إرتبط إسمه بعدد من الإنجازات الكبيرة على صعيد القضايا التى تهم أعدادا كبيرة من السودانيين المقيمين بمصر. ويقدر الكثيرون لفارمينا عمله بذكاء و صبر و تصميم على تحصين الجسم الجنوبى الذى كادت تعصف به في الكنانة سرطانات متعددة، فتمكن من محاصرة وتفكيك عدد من الظواهر السلبية كظاهرة العصابات الجنوبية التى كانت قد روعت القاهرة حينا من الدهر، و فى مقدمتها العصابتين المتنافستين: ( لوست بويز ) و ( آوتلوز ). كذلك عبرت جهات كثيرة مصرية و سودانية عن إمتنانها لدور فارمينا و معالجته الحكيمة لعقابيل و تداعيات حادث ميدان مصطفى محمود المؤسف، و ذلك من خلال شعاره الشهير: ( دعوا الأرواح تخلد للراحة و دعونا نحافظ على ما تبقى من أهلنا ).
غادرت دار إبن الباز بعد ذلك متوجها الى منطقة وسط البلد للقاء الدكتور عبد الله على إبراهيم، و كان قد وصل الى القاهرة لتوه بعد شهرين قضاهما في الخرطوم. وقد دعانى الى وجبة غداء محترمة فى واحد من أفخر مطاعم المدينة. و لكن دعوة الدكتور تعتبر من الوجهة الواقعية ( نصف عزومة ) و ليست عزومة كاملة. ذلك لأن الطبق الذى وضعه النادل أمامه على الطاولة لم يعجبه، رغم أنه هو الذى طلبه بنفسه بعد مطالعة متأنية فى قائمة الطعام، و لذلك فقد أضطررت الى أن أقاسمه نصف الطبق الذى طلبته لنفسى. ثم ركبنا معا سيارة أجرة واحدة فى طريق العودة الى حى المهندسين. تداولنا حول بعض أسماء الشوارع الرئيسية التى كنا نمر بها. لاحظ الدكتور أن المصريين لا يستخدمون كلمة ( شهيد ) مثلنا، بل يوظفون بدلا عنها كلمة ( البطل ). و هى في تقديرى ملاحظة ذكية. فالشوارع تحمل أسماء مثل: البطل عبد المنعم رياض، و البطل أحمد عبد العزيز. الشهيد هو من شهد الجنة، والحكومة لا تملك سلطة تقرر بموجبها أن عبد المنعم رياض أو أحمد عبد العزيز شهيدين. الله سبحانه و تعالى وحده هو الذى يقرر. و لذلك تؤثر السلطات المصرية النأى بنفسها عن هذا التنازع الإختصاصى و تكتفى بإطلاق صفة البطولة، دون الشهادة، على رموزها الوطنية. سألت سائق التاكسى عن البطل عبد المنعم رياض والبطل احمد عبد العزيز، من هما و ماهى الاعمال البطولية التى ارتبطت بإسميهما؟ أنطلق السائق في حماس منقطع النظير: ( دول من أبطال حرب أكتوبر 1973 يا بيه. دول عملوا في اليهود عمايل و بهدلوهم بهدلة.. يا سلام.. دول كانوا فعلا أبطال .. رفعوا رأس مصر كلها ). السائق المسكين يغنى على هواه. والحقيقة بطبيعة الحال غير ذلك تماما. فأحمد عبد العزيز لم يشهد حرب أكتوبر، و لم ( يبهدل) اليهود على النحو الذى تمناه صاحبنا، وذلك لسبب خارج عن إرادته و هو أنه كان قد مات و شبع موتا قبل ربع قرن من حرب أكتوبر. ولد القائمقام أحمد عبد العزيز في 29 يوليو 1907 بالخرطوم، حيث عمل والده ضابطا بالجيش المصرى، و قد شارك فى حرب فلسطين عام ١٩٤٨، و قتل أثنائها عن طريق الخطأ حين أطلق جنود مصريون الرصاص على سيارته داخل مقر القيادة المصرية فى مدينة غزة. أما اللواء عبد المنعم رياض فقد قتل فى 14مارس 1969 أثناء حرب الاستنزاف، حين سقطت قذيفة إسرائيلية على موقع كان يقوم بتفقده. وكانت حرب أكتوبر يومها جنينا فى رحم المجهول!
عن صحيفة ( الاحداث
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة