إيميل : يا حلبي يا بايخ
بقلم الشاعر السوداني/ حسن إبراهيم حسن الأفندي
http://hassanibrahimhassanelaffandi.maktoobblog.com/
فتحت كعادتى كل يوم صباحا ومساء الإنترنت لأقف على مجموعة الرسائل التى تصلنى من الشرق والغرب , فإذا بى أجد صباح يوم الخميس 6/11/2008م عنوان رسالة استوقفنى : يا حلبي يا بايخ , فتحت الرسالة وظننت أن أحد زملائي من أيام الدراسة أو معارفى يريد أن يمزح معي ولو أن المزاح بهذه الصورة قبيح منكر ولكنه أحيانا يكون بين الزملاء والأصدقاء ربما مقبولا إلى حدما , فقد انتهت منذ عهد بعيد على ما كنت أعتقد مثل هذه الألفاظ النابية والعنصرية من مجتمعنا المترابط الأخوي المتكامل , ولكن يبدو أن اعتقادي لم يكن فى محله وأن مظاهر التخلف والرجوع إلى الجذور القديمة ما زال متغلغلا حتى فى نفوس بعض من يفترض أنهم شباب يحملون لواء الثقافة والعلم والتقدم والفهم والتصحيح !
كان الإيميل محتواه بالضبط عن طريق نسخ ولصق وبعنوان يا حلبي يا بايخ : بالرغم من شعرك الجميل إلا أن مقالاتك بايخة خصوصا عبارة الشاعر السوداني دي. يا خي إنت قايل نفسك براك سوداني
تعجبت جدا مما قرأت وكتبت ردا متزنا فى تلكم اللحظة إلى المرسل شكرته فيه على إطرائه لشعري وعبرت له عن أسفي لما قرأت من سطوره من عنصرية بغيضة وعللت لماذا أكتب بقلم الشاعر السوداني / فلان الفلاني , كان ردي مقتضبا جدا وفى أسطر قليلة وعملت على توثيق رسالته من جانبي كما دعانى فضولي أن أعرف شيئا عن المرسل , وجدته فى الخامسة والعشرين من العمر , يعمل موظفا أو هكذا يزعم, له تعليق واحد من قبل على رسالة أحد الأخوة كاتب بالصحف السودانية الذى تناول بالتحليل الانتخابات الأمريكية وما لأوباما وما لماكيين , موضوعه جيد ولكن هذا الشاب لم يفتح الله عليه إلا بتعليق يقول للأخ كاتب التحليل : سخيف كالعادة وممل !
أسلوب استفزازي تماما مثل أساليب بعض النفر من فئة معينة تلجأ إليه أحيانا لتخرس بعض الأقلام أو بعض الألسنة , حماية لنفسها ولمن تمثله , ولكن ذلك كان أسلوبا فى عهود أو أزمنة غابرة أكل الدهر عليها وشرب ونام واسترخى فى ظل التقنية الحديثة والعولمة وقروية الكرة الأرضية , وكما قال مرة السيد فخامة الرئيس المصري وهو يخطب فى شعبه قبل أعوام وسمعته مصادفة : الآن لو ضربت واحد على قفاه , تجد ANB و BBC ومية محطة تتناول هذا الحدث وتفخمه , لم يعد العالم كما كان من ذى قبل . وفى هذا كان السيد فخامة الرئيس المصري حكيما وواقعيا إلى درجة كبيرة . وهذا لا ينفى وجود تجاوزات من البعض ممن لا يقدرون المسئولية ولا يحسبون حسابا للنتائج وما يترتب على تصرفاتهم , وقد نصحت مرة أن يتق الله الجميع فى أنفسهم وغيره وليعلموا أنهم إليه راجعون وأن كل نفس ستجزى بما كسبت من مثقال ذرة خيرا أو مثقال ذرة شرا . وأحمد الله أن المرسل لم يقل لى بعد : وإنت مالك ومال السودان , هو إنت سوداني أصلك ؟ وقبل أن يقولها أؤكد بأنى من مواليد شمال السودان , وجدت أمي وأبي بالسودان وزرت قبور جدى لأمي وجد أمي أيضا بمقبرة قديمة مهجورة شمال مدينة أرقو تسمى ( هاجنتو) , كما زرت قبر جدى لأبي بمقبرة قديمة بمدينة دنقلا , ولا أعلم أين دُفن والد جدي من أبي ؟ عموما دفن أبي ودفنت أمي بمدينة أرقو مثلما دفنت توأمتي , ويرقد أخي الأصغر منى سنا بمقابر أحمد شرفى بينما ترقد ثمان أخوات أخريات وبعض بناتهن وأولادهن بكل من مدينة ود مدني وبأحمد شرفي وبمدينة دنقلا وبمدينة أرقو , شهادة ميلادى تقول إننى مولود بمدينة أرقو بالسودان, ولعل البعض يستغرب لماذا أتحدث عن ذلك , ببساطة أقول أن مثل هذا الزعم : إنت مالك ومال السودان , إنت أصلك سوداني , قيلت من قبل لغيري .
لنعد لمناقشة رسالة الشاب التى تنضح حقدا وكراهية لا مبرر لهما , وإن زعم أنه منصف بقوله إن شعري جميل , نعم جميل وأنا أعرف ذلك وأتحدى به , وأجد استقبالا رائعا من كل من سمعه أو يسمعه , ولو لم أقل سوى قصيدتي (وطنى) أو ( سم الدسم) أو (أبا الزهراء) أو (جميل الشعر , رسالة إلى الوطن) أو ( مناجاة ) أو (استقبال عام ) أو ( تدور بنا بأقدار دوائرنا)..... إلخ لكفانى ذلك فخرا , وهو لا يختلف معي أن شعري جميل ولكنه يختلف حول مقالاتي , أن تكون مقبولة من سعادته أو جنابه العالى أو تكون بايخة , فذلك أمر يهمه , كتبت ثلاثة أجزاء من كتابي ( ليالى الاغتراب بالتراي ستار ) ونشرت معظم فصولها كما ألفت كتابا عن ( المراثى فى الشعر العربي قديمه وحديثه ) وكتبت عن ( حصيلة العمر ) وعـن ( كراهيتي للمتنبى ) وعن ( أي عيون هي .. ؟) وعن ( دنيا الخوف ) فقد أرعبتنى الطبيعة وحياة الفقر حتى ملأت نفسي خوفا وعن وعن وعن , وتناقلت المواقع ومنتديات الجامعات بالتحليل والنقد والبحث والتحقيق والاستشهاد بما أكتب وأمتلك من الأدلة ما يبرر قولى إن لزم الأمر , وما كنت أسعى لذلك ولا ظننت أنه سيحدث , وهل كان يدرى المتنبى مثلا أنه سيكسب خلودا قرونا ممتدة وهو يكتب ما يكتب ؟ لا أحد يكتب ويضمن ذوق ودرجة تقبل الآخرين له مهما كان كاتبا قديرا أو كبيرا أو مبتدئا , ثم جاءت مقالاتي الأخيرة لتظهر الوجه الشرق للسودان أحيانا ولتوجه وتعمل على الإصلاح وتدعو له دونما مس بأحد أو تجريح لأحد , إذ لم يكن هدفى ولا رائدي هو انتقاد أحد بعينه وإنما سعيت لعرض حال وتقديم نماذج وأمثلة متميزة يمكن التمسك بها والسعي لإصلاح ما أفسده الدهر والسنون وتوالى نظم الحكم المتعاقبة ولكل منها رؤيتها المصيبة أو الخاطئة , فلست أدرى أين وكيف ومتى كنت بايخا على حد تعبيره , لم يقدم لى نقدا محددا ولا توجيها ولا رؤية وإنما قدم تقريرا يراه هو من وجهة نظره القاصرة , ولا أقصد بالقاصرة الإساءة وإنما أقصد أنها لم تكن شاملة تفى بشروط النقد والإصلاح ومن هنا كانت قاصرة , أي لم تكن مكتملة الجوانب . كانت رسالته إساءة شخصية لا أقل ولا أكثر , اقتحم علي عالمى دونما استئذان للإساءة وليس كما يفعل الآخرون تعبيرا عن إعجاب أو إشادة أو نقد هادف بناء يفيدون ويستفيدون , وأنا من أكثر الناس إيمانا بالرأي والرأي الآخر , فليس كل ما أكتب منزه عن الخطأ ولا كتاب منزل , وإنما هو عبارة عن وجهة نظر قابلة للأخذ والمناقشة والإصلاح متى كان ذلك ضروريا ومقنعا .
كانت تربيتنا أن يحترم الصغير الكبير ويوقره , وأن يشفق الكبير على الصغير , وأن نفتخر ونعتز ونقدر العالم وأن يأخذ العالم بيد الجاهل فى رفق وحنان دون أن يمس كبرياء ولا غرورا , ألم أقل: إن كل شيء فى السودان أصبح (كُتر) ليس بالمعنى الذى ذهب إليه أخونا الحاردلو ( ونحن كتر و....) , ربما أثر الوضع الإقتصادى الطاحن على أخلاقيات وقيم المجتمع , وواحسرتاه واحسرتاه , أين من تضامننا وحبنا لبعضنا البعض وفخرنا واحتفال القرية كلها بالناجحين والنابهين والنابغين , فالكل للكل من الناشئة أب والكل للكل للكبار ابن , وأين من مكارم أخلاقنا ,أين وأين ؟
إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء .
فقط أريد مناقشة ما ورد برسالته المقتضبة , لماذا أكتب الشاعر السوداني؟ أكتبها لأن الكثيرين ربما لا يعرفون أني سوداني ولهذا فإني أقدم نفسى لهم ليعرفوا شيئا عن الكاتب , ولأني فعلا سوداني المنبت والمنشأ ( بضاعة سودانية ) والجذور والأب والجد, ولأني أعتز بسودانيتي ربما , رغم أني اكتسبت سمعة واسعة فى أوساط الشعراء والكتاب والأدباء من المغرب إلى المشرق ,فما فى ذلك ؟ أليس من حقي أن أعتز بسودانيتى أم أنها قصر على فئة دون أخرى ؟
ونأتى للقذف الشخصي فى حقي بقوله ياحلبي , فهل يا ترى يعرف الشاب معنى حلبي؟ أشك فى ذلك , فإن كان يعنيها نسبة لمن هو قادم من مدينة حلب , فأنا ما زرت حلب ولا سوريا فى يوم من الأيام , وإن كان يعنى حلبي بالمعنى الإنجليزى ( جِبْسي) وأكتبها بالعربية ليستطيع قراءتها ومعرفتها فأنا واثق أني لو كتبتها بالإنجليزية لما استطاع قراءتها , ألم أقل إن المخرجات الحالية للتعليم عندنا أصبحت هزيلة لا تخلق المتعلم ولا المثقف؟ فمفهوم حلبي الآخر بالعربية والإنجليزية , تلك الفئة من البشر من لا يمتلكون وطنا , يأتون المدن والقرى ويسكنون بالأطراف فى بيوت غير ثابتة , من العشب أو القش أو الصفيح أحيانا , يعيشون على التسول وضرب الربابة وتبييض الأواعى النحاسية , ويدينون دائما بدين من يحلون بأرضه . هذا هو الحلبي , وقد أثبت أني سوداني مائة بالمائة أما عن أب عن جد عن حبوبة , وأني مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم أغيرها طوال حياتي , بل لي ديوان كامل ( الصفا والوفا فى مديح الحبيب المصطفى ) واستضافتنى الفضائية السودانية لأقدم قراءات منه وناقشنى مذيع لامع قدير شاب أدار الحوار معى بكفاءة عالية هو الأستاذ معتصم وآسف لعدم معرفتي بكامل اسمه , وينشد لي قصيدتين دينيتين منشدان أحدهما عراقي والآخر عماني , وتعلمت أن أعمل وأن أكسب رزقي بساعدى وعرقى حتى وصلت إلى أقاصى الأرض طلبا للرزق , وعما قريب سأتقاعد بسبب السن وأتفرغ تماما لما يكره هذا الشاب من المقالات وإن لن أبخل عليه بشيء من أشعاري التى يراها جميلة , فإذن لست حلبيا , ولكن بكل أسف , كل من له بشرة بيضاء إلى حدما يراه مثل هذا الشاب حلبيا , فيا للعجب ويا للعجب ! أيكون اللون أو البشرة هي عنوان ومعيار تقييم للآدمي؟ وهل كان اللون فى يوم من الأيام يشكل عيبا لأحد ؟ فالرسول الأعظم محمد (ص) عربي , ونحن عرب حملنا دعوة الإسلام أو حملها جدودنا إلى أقصى المغرب العربي وإلى مصر وإلى السودان , والحمد لله الذى هدانا وشرفنا بالإسلام , وأنا فخور بعروبتي العظيمة التى كانت منارة علم وشعر وآداب فى وقت غط فيه العالم فى جهل عميق , وأي سوداني الآن ليس عربيا بغض الطرف عن لونه وجذوره ؟ لم تعد العروبة لونا , بل العروبة لسان وثقافة وتوجه حضاري عظيم , ومن هذا المنطلق فكل السودانيين عرب أحرار فى جنوبه وشماله وغربه وشرقه , والسودان قطر عربي لا شك فى ذلك , ولعل من نافلة القول أن نقول إن كل الأقطار العربية مزيج من تركيبة سكانية متجانسة برغم ألوانها المتباينة , ولعلى ذكرت فى أحد كتبي أن الجزيرة العربية كان بها أبيض اللون منذ القدم وبها الحنطي وبها الأسود , ومما يجدر ذكره أن السود كانوا يعرفون بأغاربة العرب , والأغاربة هنا لا تأتى من الغربة وإنما تشتق من سوادهم الذى يحاكى لون سواد طائر الغراب , ولكننا لم نسمع أن أحدا منهم كان لا فى الماضى ولا فى الحاضر مضطهدا للونه ولا أنه حلبي مثلا ! ويا للعجب ! ظلت مجتمعاتنا الشرقية فيها متسع للجميع دون تمييز لعرق أو لون .
واسم آدم عليه السلام , أبا البشرية , مشتق من السواد , فالأدم تعنى البشرة السوداء , وابنا نوح عليه السلام هما سام وكان أبيض اللون وحام وكان أسود اللون وكلاهما ابنا نبي كريم وهوأبو البشرية الثانى بعد آدم عليه السلام . لم يعب لون أبينا آدم عليه السلام ولم ينقص من قدره حاشا , وكذلك الحال لابني سيدنا نوح , فما رفع لون قدر أحد ولا حط لون آخر قدر أحد , وإنما العجز فى مقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي والفكرة بالفكرة , تدفع البعض إلى المهاترات المستهجنة , وتأتى مثل هذه المهاترات فى وقت يفوز فيه برئاسة أمريكا , أكبر دولة فى العالم , قيادة قوى الشر والتكبر والجبروت , أفريقي أسود ولد ونزح إليها من كينيا ! أين يا ترى يعيش هذا الشاب الذى بعث إلي بهذه الرسالة ؟ أتراه يعيش خارج دائرة الأحداث والتاريخ , بعيدا عن عالم التقنية الحديثة والتطور والتقدم العلمى المذهل والثورة المعلوماتية ليعود بنا القهقرى إلى عهود ما قبل التاريخ وما قبل كتشنر واستعادة السودان للحكم الثنائي؟ يتقدم البشر ونحن نجتر ذكريات قديمة بالية , فيا للعجب !
بعد كل هذا , اما آن لهذا الشاب أن يرعوى وأن يتأسف لما ذهب إليه من أذى للمشاعر؟ أتراه يجرؤ أن يقول لأبيه يا بايخ وأنا قالها لي رغم أني بلغت العقد السابع من العمر وربما أكون أكبر سنا من أبيه , وربما عشت عمر هذا الشاب أعالج نزلة برد أو زكام ؟
بالمناسبة كان يمكن أن أنال جنسية أخرى غير سودانية لو أردت وعملت لها ولكني :
لو خيّرونى غير أرضك جنة ومـنازلا و مباهجا ومفاتنا
لو أبدلونى حَرّ شمسك بالعليـــل من النسيم وعن حجارك سوسنا
ما اخترت إلا أن اكون شهــيد حبـــك قــيل عــــنى للشقاوة أدمنا
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة