... لو كنت سودانياً!
فتحي الضـّو
[email protected]
تلك من نوع المحاضرات التي يتمني المرء أن يحضرها، ولمّا عزّ الوصال عبر المحيطات، إكتفينا بتلخيصها الذي تناقلته وسائل الاعلام والمواقع الاسفيرية المختلفة، وقد فاتنا التعليق عليها في حينها بسبب (تدافع) قضايانا الذي يشبه تدافع الحجيج في المواقع المقدسة. المحاضرة تلك ألقاها السيد لي كوان يو على مسامع نحو ألف أمراة ورجل من النخب التي حضرت (منتدي التنافسية العالمي) والذي إلتأمت فعالياته في العاصمة السعودية الرياض مطلع العام الحالي، وقد إبتدر يو المحاضرة بتساؤل إفتراضي أثار جدلاً عميقاً في أوساط المُؤتمِرِين، قال فيه: ما الذي يمكن أن أفعله لو كنت سعودياً؟ وألحق السؤال بسؤال آخر حول ما يمكن أن يزيد من أهمية السعوديين بالنسبة لدول العالم؟ ورغم أنه أجاب إختصاراً بالبترول والذي قال عنه أنه منتوج نادر آيل للنضوب، إلا أنه راح على مدي ساعة من الزمن يجيب على السؤال بنصائح غالية إستمع لها السعوديون بكل رحابة صدر؟ وركّز حديثه أو قل نصائحه الثمينة إلى ضرورة الانفتاح على العالم «لن تجدوا صعوبة في تطوير التعليم الديني إلى التعليم العلمي الذي ينقلكم إلى مراتب متقدمة من التطور» وصوّب حديثه أيضاً بالتركيز على تنمية الانسان السعودي «امامكم خيارات عظيمة لتطوروا أسلوب حياتكم، وامامكم الفرصة المواتية لأن تتساءلوا عن كيفية تطوير حياتكم واقتصادكم لكى تعيشوا حياة ذات مستويات مرتفعة للغاية بعد حقبة البترول» وفي الحالين أسقط تجربة بلاده بفخر وإعتزاز، ومن باب الاعجاب الشديد بالرجل وتجربته الفريدة تخيلت أنه قدّم هذه المحاضرة في قلب الخرطوم، ولذا شطحنا في هذا المقال بتحوير عنوانها قليلاً ليتواءم مع المكان، وفي زمان يحلم به الكاتب، وليست هناك ثمة أدني علاقة للعصبة أولي البأس به، كذلك تجدر الاشارة إلى أننا إستعضنا بالسودانيين لفظاً مقابل كل كلمة خص المحاضر بها السعوديين. ولكن قبل هذا وذاك، من هو لي كوان يو؟
يُعرف يو على مستوي دول العالم بالعقل الجبار الذي يقف خلف معجزة سنغافورة، إحدى الدول التي يطلق عليها النمور الآسيوية، وأكثرها تقدماً تنموياً بل كثيراً ما توصف رحلة صعودها المذهلة بالنسبة لدول العالم الثالث بأنها واحدة من معجزات القرن العشرين الميلادي الماضي، وكان يو قد قاد مسيرتها منذ إستقلالها مطلع خمسينيات القرن الماضي، مترئساً حكومتها لأكثر من ثلاثة عقود زمنية (1959-1992) وقد غرس في نفوس مواطنيه قيم الاحساس بالواجب والالتزام بالجدية في العمل والتسامح الديني والعرقي (ورغم إبتعاده الآن عن الموقع التنفيذي، لكنه ما يزال يلعب دور المرشد للحكومة التي يرأسها إبنه السيد لي هسيان لونج، بدعم من حزب العمل الشعبي الذي ظلّ يهمن على الحياة السياسية والبرلمان في أغلب دوراته مقابل أقلية معارضة، وحالياً يقوم يو من حين إلى آخر بتلبية دعوات من منتديات وبلدان لتقديم تجربة بلاده (شمل ذلك من الدول العربية حتى الآن السعودية، الكويت، الأمارات) ويحاضر حول كيفية إنتقال سنغافورة من بلدٍ نامٍ، كانت عائدات القاعدة العسكرية البريطانية تمثل ثلاثة أرباع دخلها القومي، وبفرص تضاءلت حد اليأس في إمكانية نهوضها بمفردها، ثمّ إنتقالها في فترة وجيزة بمقاييس الدول من ذلك الوضع المتخلف إلى دولة تقف في مصاف دول العالم الأول المتحضرة.
في ظل قيادة يو لسنغافورة الجزيرة التي لا تتعد مساحتها السبعين ألف كيلومتراً مربعاً، وتقع في بقعة من أكثر المناطق تقلباً إقتصادياً وسياسياً في العالم، بعدد سكان لا يتجاوز الأربعة ملايين نسمة، إذ تحولت من مجرد ميناء مزدحم بالفقراء المعدمين، ومركز من مراكز ترويج تجارة المخدرات، إلى بلد صناعي يتمتع ببنية تحتية متكاملة، تضم الآن أنشط ميناء بحري في العالم، وشبكة طرق وسكك حديدية ممتازة، وثالث أكبر موقع لتكرير البترول في العالم، وأهم مركز عالمي رئيسي للصناعات التحويلية والخدمات، وقد ارتفع المتوسط السنوي لدخل الفرد الحقيقي فيها من 1000 دولار أمريكي إلى ما يناهز الـ 30000 ونسبة البطالة لا تتجاوز 5% وهي نسبة يعتبرها الاقتصاديون طبيعية، وتضم سنغافورة أكثر من 700 مصرفاً تجارياً، إضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الصعبة بحدود 60 مليار دولار أمريكي سنوياً، ولعل التجربة السنغافورية بكل الزخم الذي زحف بها من القاع إلى القمة، تطبق إلى حدٍ كبير المقولة التي جرت على لسان نابليون بونابرت يوماً وقال فيها أنه لا يوجد مستحيل تحت الشمس، ليس هذا فحسب بل تؤكد أيضاً من خلال نجاحاتها المتواصلة، أن الوصول إلى القمة والبقاء فيها ليس أمراً صعباً، وهذا بدوره يطرح تحدياً مستفزاً بالنسبة لبقية دول العالم التي ما تزال تقبع في أقبية التخلف، رغم أنها تمتلك إمكانات مادية وبشرية لا تقارن بما تملكه سنغافورة!
قلت أن الخيال قادني إلى تصور أن السيد يو قدّم محاضرته تلك في قلب الخرطوم، وتفرست في وجوه الحاضرين فرأيت فيهم الصالح والطالح شأنهم شأن كل خلق الله، غير أنني رأيت السياسيين كالعهد بهم في كل محفل مماثل يتدافعون بالمناكب لاحتلال المقاعد الأمامية، ومن بينهم ممن يوصفون بالناجحين السابقين، وكذا الفاشلين اللاحقين، وفي ركن آخر هناك حالمون منتظرون أيضاً، وإنتهازيون متربصون، ومتسلطون لا يراعون للوطن حقاً ولا للدين حرمة! ثم في مكان قصي رأيت ممن يوصفون برجال الأعمال فيهم المتجرد والقانع و النفعي والحرباء، ثم رأيت شباباً يُفع من تبدو على سيمائهم الجدية.. ومن برز التطلع من وهج عيونهم اللامعة.. ومن خالطته تلك اللوثه اللعينة، ثم طلاباً أيديهم مغلولة إلى أعناقهم يقفون محتارين أيان ترسو مراكبهم، وشابات مقهورات تستبين في وجوههم رغبة دفينة في الخروج من عباءة الحصار الذكوري، ونساء لا يعلمن كيف يكُن نصفاً لمجتمع وهن قابعات تلوح أمام ناظريهم شعارات الارهاب والتخويف والتسلط، كلهم جاءوا يومذاك بكل ألوان الطيف وشرائح المجتمع المتعدد، وبإختلاف ألوانهم السياسية والحزبية والفكرية، وبقاسم مشترك وحيد هو الهوية السودانية!
بعد أن ألقي بتساؤله الرهيب عنوان المقال: ما الذي يمكن أن أفعله لو كنت سودانياً؟ إبتدر السيد يو حديثه للحضور بحكمة صينية قال عنها أنها تقف وراء النجاح الذي حققوه في بلادهم، وكأنه يوميء بحديثه إلى اننا إن وضعناها نصب أعيننا، وتعاملنا معها بصدق وموضوعية، لربما كان فيها مخرجاً لنا من أزماتنا المستفحلة. قالت الحكمة «سنة واحدة ضرورية لكي تنمو بذرة قمح، وعشر سنوات ضرورة لكي تنمو شجرة، ومائة سنة ضرورية لكي ينمو الانسان» وعليه يقول لنا يو إن الانسان السوداني هو الجدير بالرعاية والعناية والاهتمام، وتساءل إن كان هدفنا تحقيق الكرامة الانسانية لمجتمعنا...هل نحن قوم متساوون في الحقوق والواجبات والمواطنة؟ هل حافظنا على الحريات العامة مثلما نص عليها الدستور والقوانين والأعراف؟ وقال إن كانت الاجابة بنعم فنحن مطالبون بأن نعمل مثلما خططوا هم لإقامة مجتمع آمن ومستقر، ركزوا فيه على إحياء الثقافة والفنون وغرس القيم الجميلة، وتمكنوا من رعاية أشخاص قادرين على اختيار مواقعهم ووظائفهم، يؤمنون بأن الحياة تستحق كل هذا العناء من اجلهم ومن أجل أبنائهم ومن أجل وطنهم!
قال لنا يو أنه يعلم أننا شعب خُلق في كبد، وذاق ألواناً من العنت والشقاء وشظف العيش، ولكنه أضاف أننا لا نعترف بأنها كوارث بشرية من صنع أيدينا، ونعزي تفسير كل ظاهرة إما للحظوظ العاثرة أو الغرق في إتون الغيببات، نظن أن الدنيا أظهرت لنا وجهها الكالح حتى رغبنا في الآخرة خلاصاً...ونعتقد أننا من فرط زهدنا تمنينا الموت عوضاً عن الحياة...وآثرنا الضعف في وقت القوة فيه ممكنة...ولجأنا للتقوقع في حين التطلع مشروعا..ً.وإنكفأنا نلعق من اليأس أطناناً ونضن على انفسنا بتضميد جراحاتها! من أجل هذا قال لنا يو أن مجتمعنا أفرط في المرارات ولم يذق طعم الأمن ولا الاستقرار برغم أنهما أهم دعامتين نهضت عليهما بلاده، لكنه قال كالمواسي أنه يعلم أن الديكتاتوريات التي تناوبت على حكمنا منذ الاستقلال، لم تلهب ظهورنا بسياطها اللعينة فحسب، وإنما عملت على كسر الشخصية السودانية، الأمر الذي عقد من التغيير وإن لم يكن مستحيلاً، ولربما ضاعف ذلك من الجهد والمسؤوليات ولا يحول دون تحقيقه، وكأن يو علم أن الذين وليناهم أمورنا منذاك الزمن وحتى الآن – على عكس ما ذكر عن بلاده - يؤمنون بحكمة تقول أن الحياة لا تستحق كل هذا العناء، فيمكن أن تحياها فئة قليلة نيابة عن أكثرية بزعمهم مجرد فائض كغثاء السيل، وعلى عكس ما إهتدوا إليه أيضاً، فهم يؤمنون أن ابنائهم إذا عاشوا برفاهية فهم يحققون بذلك رغبات قرنائهم دون عناء، وأن الوطنية أصبحت فريضة غائبة يمكن أن يتشدق بها البعض من فوق المنابر، ويمكن أن يرفعها بعض آخر على أسنة الرماح، ويمكن أن يلهث من ورائها آخرون يجيئون من خلف الحدود، ويمكن أن تتدثر بها فئة قليلة، وتلوذ بها من نوائب الدهر بحسبهم أن هذا أضعف الايمان!
في سرده الكيفية التي حققوا بها المعجزة في سنغافورة، حكي يو تجربته بتواضع، قال منذ 25 عاماً أحضر أحد زملائي العالم (سيدني بريمير) للقائي وكان عالماً متخصصاً في علم الميكروبات، وشرح لي أن دولة صغيرة كسنغافورة إذا كانت لديها عزيمة وتبنت تطوير هذا العلم فإنها ستصبح ذات شأن لان هذه العلوم أساسية للتقنية، فقلنا فلنحاول وبدأنا بتأسيس المعهد العلمي للجينات البيولوجية وإستقدمنا خبراء من بريطانيا والسويد واليابان ووسعنا عملنا معهم، ولأننا عملنا على مستوي دولي فقد كان الاتصال معهم سهلاً وأصبحت لنا صناعة طبية متطورة للعقاقير. وتابع يو عممت سنغافورة التعليم وتحديثه بإعتماد أفضل المناهج في العالم، كما عملت على تطوير التعليم العالي والبحث العلمي، وربطهما بإحتياجات الانسان السنغافوري وعملية التنمية، وحالياً تتصدر سنغافورة الألمبياد الدولي في المواد العلمية (لم تستطع دولة عربية واحدة أن تكون ضمن مجموع الـ 30 دولة الأولي في آخر النتائج المنشورة للتقييم الدولي في مادة الرياضيات مثلاً) لقد تم التركيز على مهارات الاتصال واللغة الانجليزية كلغة وسيطة تجمع كافة الشعوب السنغافورية (65% أصول صينية 24% أصل ماليزي 9% من الباكستانيين والهنود والاندنوسيين 2% أعراق أخري، ويدينون بديانات مختلفة مثل البوذية والاسلام والهندوسية والكاثوليكية، ويتحدثون الصينية والماليزية ولغة التاميل) وتخضع المناهج لعملية تطوير مستمر خاصة العلوم والرياضيات، وثمة رغبة عارمة لدي الشعوب السنغافورية تؤكد أن إستمراريتهم في عالم المعلومات يتطلب إتقان التنكلوجيا وإستخدامها بشكل مكثف في حياتهم العامة!
قال يو إن سنغافورة إعتمدت في تحقيق معجزتها على بناء الانسان، بالاعتماد على القيم الحضارية والتاريخ والتقاليد، ومن ثم الانطلاق إلى الأخذ بمقومات بناء دولة حديثة لا تعرف حدوداً للتطور، إضافة إلى إيمانهم الكامل بحقيقة إقتصادية واحدة لا يمكن أن يختلف عليها السنغافوريون، وأضاف أنهم إعتمدوا على بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية (قوامها 50 ألف موظف لا أكثر) وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة، وأضاف لقد حرصنا على أن يتم التعيين في الوظائف عبر مناظرات عامة ومفتوحة للجميع بحيث يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مع القطاع الخاص، إلى جانب الشفافية وإنخفاض نسبة الفساد الاداري والمالي، إلى حد أن سنغافورة تتصدر المراتب الأولي لمؤشر منظمة الشفافية الدولية.
أضاف يو ولكنني أعلم مأساتكم فشعبكم ضحايا حكوماتكم، التي شغلت نفسها بكيفية البقاء في السلطة حتى لو كان ذلك على جثث مواطنيها، ولأنها مسكونة بفوبيا الخوف فهي لا تعتبر الشعب شعباً إلى إذا والاها جميعه، وتجتهد في ضم من تسميهم أهل الولاء على حساب الاكفاء، فيختل ميزان العدالة، وتضيع المساواة، وينقسم الناس بين فئة مترفه وأخري تعيش الفقر المدقع، أنتم تخصصون الميزانات الضخمة للأمن، وتضنون بها على قطاعات الصحة والتعليم، تستهلكون أطناناً من الشعارات الجوفاء، والحكومات التى رُزءتم بها تلوي عنق التاريخ لتجب ما قبلها، فهي الأحسن وما قبلها الأسوأ، وهي النزيهة وما قبلها الفاسد، وهم الوطنيون وما قبلهم خونة، أنتم تستحون من عاداتكم وتقاليدكم..تنتخبون منها ما يروق لأمزجتكم، أنتم إنتقائيون تختارون من التاريخ ما يتوافق ورغباتكم، أنتم تزدرون أحلامكم وتنتظرون منها أن تتحقق!
ذكرت مجلة عالم الاقتصاد العدد 193 النص التالي «لقد كان من المذهل إقامة دولة كسنغافورة في فقر آسيا قبل أربعة عقود زمنية، غير أن لي كوان يو الذي جاء من أكسفورد إلى المستعمرة البريطانية السابقة كان يحلم بأن يبني وطناً للناس وليس له شخصياً، ولذلك بني المصانع لا الاذاعات، وأغلق السجون ليفتح المدارس، وأقام في آسيا نموذجاً مناقضاً لكتاب ما تسي تونغ وثورته الثقافية، ولم يسمح للمذابح لدي الجارة الاندونيسية بالتسرب إلى بلاده، وطبق حكم القانون ولكنه لم يحول بلاده إلى سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة كما لدي جارته بورما، كان لي كوان يو خليطاً سحرياً من آداب الماضي وآفاق المستقبل، وكان قبل كل شىء حريصاً على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ أمريكا، وجعل لكل مواطن بيتاً بدل أن يكون لكل ألف مواطن كوخ من الصفيح، وتعد بلاده الآن من أكثر البلدان نظافة، ومبانيها الأكثر حداثة، وتعد نموذجاً في الحفاظ على البئية ومثال في المحافظة على مستوي المعيشة ومن أكثر بلدان الأرض أمناً ومن أكثرها إطمئناناً، أنها تتقدم الآخرين في كل شىء»
فاعتبروا يا أولي الألباب... إن الشعارات لا تبني وطنا!ً
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة