ثقافة السلاح و العسكرية ما بين الثورة والديمقراطية – الجزء الثاني
بقلم: سعيد محمد عدنان – لندن – المملكة المتحدة
هل سيبقى على الأقل السودان الواحد الموحد، أو قل السودان الآمن المؤمّن؟ أم سيحترق ويتآكل هكذا ويصطلي في جحيم الصراعات العرقية والدينية التي تأهلت لحربٍ كتلك كونها جميعاً تحت علـَمِ واحد، لا تُطبق فيه القوانين الدولية بسهولة كما تطبق في عداءات الجماعات تحت أعلام متباينة، أي تعديات دولية، كما نرى صعوبة دخول اليد الدولية لوقف الإعتداءات والإحتراب كمايحدث الآن، فيكون لوردات الحروب مطلوقي اليد، تاركين البلاد أسيرة الإنعزال من المجتمع الدولي و من دورها في بناء وتطوير البشرية - تساؤل لازال "يداعب خيالي" و"يعذّب ضميري"، لغزٌ ضاعت معالمه في دخان السلاح واندثر مفتاحُ شفرته تحت بوت العسكر
والآن ونحن على أعتاب عامٍ جديد بدأ بصلحٍ بين شركاء نيفاشا مع رفع عصا البحث عن قتيل، فقيد الحركة والبلاد الدكتور جون قرنق، عن مؤامرة واردة وظاهرةٌ معطياتها وغائبةٌ فيها الشفافية من المتهم كما هو الواقع مع الحاكم الشمولي كالذي هو ممثل في حزب المؤتمر الوطني، ومنعدمةٌ فيه الثقة من ثوّارٍ طالت معاناتهم وخسائرهم كما هو الحال لدى الحركة الشعبية، يعطي طعماً لنوع الإحساس بواجب نجدة البلاد من وهد الضياع في صراع المصالح غير الصالحة، والذي هيمن على الساحة منذ زمن بعيد تحت رقابة دقيقة متلهفة من الطامعين والغاشمين، وتحت طبول الإنذار التي بدأت تقرع من جديد في تحذيرٍ من المحكمة الدولية والأمم المتحدة للإلتزام بما تقتضيه الشرعية الدولية والسقوف الأخلاقية بتسليم المتهمين في الجرائم الإنسانية المرتكبة في حق المواطنين بدارفور، وفرض الأمن والحماية بالقوة الدولية للمواطن بدارفور من طاحونة ذلك الصراع.
من مذاقات ذلك الطعم من صراع المصالح غير الصالحة، عندما خاطب النائب الأول لرئيس الدولة السودانية، السيد سيلفاكير ميريديت المواطنين في جوبا يحذرهم من المؤامرة التي تدبرها حكومته (حكومة البشير) بتوزيع أموالٍ طائلة لمواطنيه في الجنوب لإفشال فرصة الإنفصال عند الإستفتاء في تقرير المصير...! لماذا الحرص على سلامة الإنفصال؟ أم هو حرص على سلامة الممارسة الديمقراطية؟ فماذا كان يتوقع أن يجد في النظام الذي صافح وشاركه المسئولية؟ وما رأيه في فتواهم أن الديمقراطية نظامٌ علماني مرفوض دينيّاً؟
إن العداء الذي زكّته حروب الزهو بين العسكر ولوردات الحرب قد يكون أتى أٌكٌله لهؤلاء كما ذكرتُ في الجُزء الأول من هذا المقال حول زهو بعضهم بالبندقية وشعورهم بأن الثمار قد طابت لجنيِها، وما يهم لمصلحة الوطن الآن هو دور "معارضة الخمس نجوم" المذكورة، من المثقفين والمفكرين، حتى لا تُدفع البلاد إلى الهوّة، إلى المصالح غير الصالحة – معارضتي ومعارضتك أيها القارئ الكريم، ومعارضة كل من غُيِّب من الساحة.
الإنفصال يجب أن يُحسب على أنه يعني أن الإقليم الجنوبي سيكون مرهوناً لمن يربِطه بالعالم الخارجي براً وبحراً، فيكون أمامه خيار "رهن مصيره" لمن ليس بالضرورة شريك معه في المصلحة أو الرؤيا، غير مقيّد بأي مساءلة أخلاقية أو إلزام تأريخي خلاف المصالح والتبادل المنفعي، ولما يكون الإقتصاد معتمد كليةً على الربط البري للمواصلات، ذلك لكونه نفطاً أو ثروة حيوانية أو خشبية، وهو الإستراتيجية الأساسية أو تكاد تكون الوحيدة لمثل تلك الدولة، فإن استقلاليتها بذلك الخيار يضعفها أكثر من استقلالية مواطنيها في السودان الموحد، فذلك وطنهم مهما كان والوطن خيرٌ من الإستيطان.
أما أبيي الغنية بالنفط فبنفس الحكمة ليس النفط هو ثروتها الأولى مثلما هي تصالحها والنأي بها من الصراع.
إن النفط رغم ميزته في توفير عائد مالي كبير لأصحابه، إلا أنه أيضاً مبعثٌ لزعزعة الأمن لما يجره معه من طامعين، ونسبةً لهشاشة بنيته الأمنية وترهًّل أطرافه في تيار الفساد المصاحب له، و لتعقّد بنياته التحتية من عمالة وخطوط نقلٍ وأمنٍ، ولاستصحابه أيضاً أمراضاً طبية واجتماعية.
وذلك لا يستحق الزيادة على خسائره بأخرى لا مبرر لها.
إن النفط سيفيد السودان إذا قرر السودان استثمار عائده في التنمية لاستنباط ثروات أكبر وأفيد و أضمن: ثروات يذخر بها السودان من أراضي واسعة وصالحة للزراعة والرعي، ومياه الشرب التي يجلس السودان على أعظم مخزون منها في وقتٍ كشف العلم أن العالم سيكون معتمداً عليها، وله مناخه القارّي الذي يكتسح معظم خارطة المناخ العالمي، فيصلح للسياحة والتي لدى السودان رصيد عظيم من مقوماتها، بالإضافة للمعادن وخلافها من الثروات.
ولكن من أعظم الكنوز التي لدى السودان مقدرته على استيعاب عددٍ كبيرٍ من البشر، وموقعه الاستراتيجي بين الشرق الأوسط واسترتيجيته الإقتصادية والثقافية والسياسية، وبين القارة الإفريقية الحبلى بالثروات، وقارة آ سيا بثراء تجارتها وثقافاتها.
وأقيم مميزاته وأهمها هو تأهله بثروته في التعدد العرقي المتجانس المتكامل، وتكامله الديني والثقافي، مما يجعله مؤهلاً لاستنباط تلك الثروات التي يذخر بها بنسيجه العرقي والثقافي المؤسِّس لهويّةٍ مميّزةٍ مُعرّفةٍ وواضحة، هي الهوية السودانية، ومؤمّنة من كل جوانبها، قادرةً على الصمود في تيار التآمر والنزاع، وهو المكسب الحقيقي والكنز الكبير.
ويعني ذلك أن استثمار هذه الثروات الهائلة يحتاج إلى استقرارٍ تام، ولا يتأتي ذلك قبل وقف المغامرات والمقامرات من مقامري السياسة وخطبائها من خارج الممارسة الشرعية لتداول السلطة، واستعادة وتثبيت السيرة الحميدة للأمة السودانية، بالسير في النمط الأكثر استقراراً وعدالةً، والذي توصلت إليه أكثر الحضارات العالمية وأيدته كل المراجع الأخلاقية من دينية وغيرها، وهو طريق الحرية والديمقراطية وصيانة الحق. وهو الأقرب إلى الديانات السماوية، والتي جاءت أساساً لدرء الظلم ورد الحقوق والرحمة والرقي بالنفس والترفع بها من الإساءة للغير وإباحة حقوق الغير وكرامتهم ودمائهم، وعن الثأر والإنتقام والحقد، وللإلتزام الخلقي وأهمها عدم تبرير الوسيلة اللاأخلاقية للوصول للغاية (الماكيافيلية) مهما كانت سامية. والديانات السماوية يمكن لها أن تثريه أكثر بما لديها من رصيد هائل من الخلق السوي، خاصةً وهو الآن أشد الأوقات حاجة لما يمكن أن تضيفه بنبذ الإنتقام والثأر الذي مارسته إدارة بوش بما أتى بأذىً هائل لإدارته وللعالم عموماً، وبنبذ غياب الأخلاق في تبرير الغاية بالوسيلة التي يمارسها الجمهوريون الجدد بأمريكا، والصهاينة في إسرائيل، وروسيا الشيوعية والصين الشيوعية، واللتان تعتنقان ذلك المذهب الخطير.
وبمتابعتنا المعسكرات الماكيافيلية بالجزرة التي أغروا بها أولي الأمر منا من عسكريين، وهي السلاح، بواسطة روسيا قبلاً في عهد النميري (ولعبد الناصر مصر وعبد الكريم قاسم العراق وقذافي ليبيا ومنقستو أثيوبيا)، وبواسطة الجمهوريين الجدد في عهد صدام العراق الأول، وبن لادن أفغانستان الأول، وبواسطة الصين وإيران (وقبلها عراق صدام) في عهد البشير الآن، لم تكن الثمار سوى الخزي والندم والغطس أكثر وأكثر في وحل الأنظمة الفاسدة وغير الصالحة، والإرتهان لإراداتٍ لوحوشٍ لا نأمن شرّها ولانملك ترياقها.
وبانضمامنا للمعسكر الحر في العالم ومساهمتنا في إثرائه، سيغيب عنا الوهم بأنه عدونا وأنه لا يرغب في غير استغلالنا، ونعود للوعي بأن العالم كله يريد التعايش السلمي وأن فيه ما يكفي للجميع، لو فقط امتنع البشر عن الحقد .... وعن الوِصاية.
إن السودان هو ما أسسه أجدادنا، ليس بالغزو ولا بالإبادة، وليس بالحجر ولا بالوصاية، إنما السودان دارٌ إلتقى أهله متوافدين ومتعايشين، من شتّى البقاع في العالم، مع من فيه من نوبة ومن نازحين أُوَل، أغناهم عن الصراع حظه الوفير من الخيرات لكل الحاضرين، فأضحى لهم حاضنة كبيرة تم صهرهم فيها، وأمّن شملهم النظام العالمي الذي أسسته الإمبراطورية البريطانية ومعسكر العالم الحر برسم الحدود وتأمينها، والسودان من أعظم المنتفعين بذلك، فا تساع رقعته يجعل المحافظة عليها مستحيلاً، إضافةَ إلى ضم المنطقة الجنوبية إليه، رغم العزل السدودي الذي نفذوه لتسهيل إدارتهم له في منطوق الثقافة التي حملوها له معهم، ولا يجعل ذلك دورهم في تصنيفه بأنه خبث أو تآمر.
وهذا الترسيم للحدود ايضاً خدم السودان في الحفاظ على هويته القيّمة من التعددية والثراء الثقافي، وهذا كنزٌ كبير لأنه أهم أساس للدولة القوية والمعامل الأساسي لطموح الدولة الكبرى لما يوفره من أمن وحرية وتأمين تداول السلطة الديمقراطي والإستقرار، وهو كنزٌ لأنه من الصعب جداً خلقه على أرض الواقع والحفاظ عليه حتى يكتمل صهره، فهو يحمل في مكوناته الأولية نعراتٍ عنصرية وتعصباتٍ دينية وتضاربات في التجربة الثقافية و موروثات تنافر وأحقاد تأريخية، ولن تتواتى بسهولة فرصة جمعها و"طبخها" عن طريق من ليس له في تلك الموروثات من مصلحة تعثر تقبله من أي فريق، وهذا ما قدمه المستعمر الإنجليزي من خدمةٍ لا تقدّر بثمن للدولة السودانية، وحسبي أنهم لم يكونوا على إدراكٍ تام بما قدموه من تلك الخدمة، كما ولم يكُن السودانيون يدركون الإنجاز المبارك الذي ورثوه من المستعمر، فلم يحترصوا على الجدية في التكامل، وأهملوا المناطق الفقيرة فبذروا بذلك الحقد وضعف الثقة، فمثلاً، رغم ما يتوفر من الدخل القومي المركزي واختلاق الأعذار حقاً أو باطلاً للنكوص عن عدالة توجيه صرفه بما يعين الأطراف الفقيرة، فإن القائمين على الأمر لم يكتفوا بذلك فحسب، بل أباحوا التجارة غير السوية مع تلك الأطراف، وهي ليست سوى النهب، فاستنبطوا أخشاب التيك والعاج والأبنوس والجلود وخلافه من الجنوب، والثروات المعدنية من الشرق والصمغ العربي من الغرب والسياحة من جنوب النيل الأزرق وجبل مرة، ولم يخصصوا منه أتاواتٍ أو مخصصاتٍ ضريبية لصالح تلك الأقاليم المنتجة له، فأثرى التجار من الغنائم التي كانوا يحصدونها وحُرم الإقليم من بركتها، وهذا يندرج تحت تصنيف النهب.
وكان منظوراً من الوارثين لتلك الثروة التنوعية التي حوفِظ لهم عليها بالمستعمر، ليخلقّوها بالصورة التي تناسبهم والتي يؤهلون أنفسهم لها، بإثرائها وتأمينها بأسس العدالة الشفّافة، والتقارب مع المعسكر الليبرالي الحر الذي أسس تلك العدالة والنظام السوي الفعال، بدأً بترسيخ العلاقات مع الدولة الحاضنة (المستعمِرة ) وهي بريطانيا، عن طريق الإنضمام إلى دول ال "كومون ويلث"، أو لاحقاً بالبقاء على الأقل في الديمقراطية الليبرالية الشفافة التي كانت في مرحلة التأسيس، وبترسيخ مُعامِل التكامل العرقي والمواصلات والإتصال، وبالإبتعاد عن إشعال النعرة الدينية والعنصرية بالطموحات الساذجة، وبالإعتدال ومد الجسور مع دول الجوار والثقافات المحيطة بالبلاد، بدلاً من جر البلاد إلى التكتلات العرقية والدينية العالمية.
أما الآن، فعلى الأقل يتوجب الحد من التطرف العدائي لذلك المعسكر الليبرالي، فليس تشتت السودان إلى دويلات هو الشبح الوحيد الذي يمنّي السودان في مصيره به، إنما الفتنة والإحتراب والخراب هما الميراث الحقيقي لتلك الحماقة، والإقليم الجنوبي، وكما ويبدو بقية الأقاليم، يستطيعون رؤيا أكثر وضوحاً لجدوى الإلتحاق بالمعسكر الحر من صحيفة رصيده ونزاهة طريقه، ولن نرِث من الجاسمين على صدورنا الآن سوى الدمار والخذلان، ولن نلوم إلا أنفسنا أن فرّطنا في بلادنا واعتقدنا أننا بالبندقية سنحميها وبقواتنا المسلحة سنستغنى عن مواطنيها في بنائها وانتقاء خياراتها.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة