صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
 
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


أبلغوها مأمنها/سالم أحمد سالم -باريس
Dec 3, 2007, 09:38

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

 

أبلغوها مأمنها

 

سالم أحمد سالم

باريس

 

في التربية والأخلاق:

أما وقد قضت محكمة الحكومة السودانية بإدانة جوليان جيبونز المعلمة البريطانية بتهم بسب العقيدة الدينية و الازدراء بالمعتقدات الدينية وإثارة الكراهية، فسوف أدخل مباشرة إلى عمق القضية بشقيها التربوي والعدلي. فالقصة المعروفة أن تلاميذ الفصل الذي كانت تشرف عليه المعلمة جوليان أطلقوا اسم محمد على دمية الفصل. لجهة النواحي التربوية فإن دمية الفصل هي إحدى الوسائل العلمية التي لا غنى. إذ لا يخلو فصل دراسي في أوروبا والولايات المتحدة الأميريكية وغالبية مدارس أقطار الخليج من هذه الدمية التي تكتسب شخصية اعتبارية تتمحور حولها حركة ونشاطات صغار التلاميذ. دمية الفصل من أهم محرضات الخيال العلمي لدى الأطفال حتى أنها تصبح تلميذا أو تلميذة في فصول الصغار تشاركهم نشاطاتهم وألعابهم وتعلمهم الكثير من المهارات طبعا من خلال معلم أو معلمة الفصل.

 

ولتقريب هذه الصورة فإن دمية الفصل عبارة عن شخصية مثلها مثل بقية شخصيات أفلام الكارتون مثل ميكي ماوس ودينغو وتوم آند جيري وعلاء الدين وشخصيات كتاب الأدغال وغيرها من الشخصيات الكارتونية الخيالية التي يعشقها الأطفال.. وأيضا الآباء والأمهات !. على أن دمية الفصل تكتسب حيوية خاصة وتتميز بدور تربوي تعليمي بالغ الأهمية لأنها مجسدة وجودا في فصل الصغار. ولعلني أفاجئكم بأن دمية الفصل موجودة ومجسدة في المجتمعات السودانية منذ مئات إن لم أقل آلاف السنوات. فالحكايات التي تحكيها الحبوبات للأطفال في السودان منذ قديم الأزل تؤدي نفس الدور التربوي الذي تؤديه دمية الفصل قي تعليم المهارات وغرس السلوك الحميد في نفوس الأطفال.

بل إن حكايات الحبوبات كانت مليئة بأفلام الرعب التي تتفوق في تقنية التخويف عن أفلام دراكولا وبيتل جوس وغيرها من الشخصيات الخيالية المرعبة. أفلام رعب الحبوبات لم تكن اعتباطية في حينها، بل كانت لها أيضا أهدف تربوية لأنها تنتهي إلى مفاصلة واضحة بين الطفل الذي يتمتع بمناعة طبيعية عالية عن الذي تقل عنده المناعة من الخوف. كان ذلك ضروريا نسبة لحياة الحروب المستمرة التي كانت تخوضها تلك المجتمعات السودانية. لذلك كانت أفلام الخيال العلمي المرعبة التي تحكيها الحبوبات تثبت شجاعة الطفل الشجاع وتعمل على تحييد مشاعر الخوف الغريزي لدى بقية الأطفال، بمساندة ضغوط الأسرة التي لا تقبل أن يوصم أحد أبنائها بالخوف، فتنتهي المحاصصة القاسية إلى طفل واحد أو طفلين لم يتخلصا من عقدة الخوف فيقبلهما المجتمع قبولا تاما لقاء مزاياهما الأخرى. ونرى انعكاس حياة الحرب في كل الأغاني السودانية التي لا تعدو كونها أهازيج حرب سواء ضد العوازل أو الصبر على أذى المحبوب وجور أهله!. ونجد ذات الصورة ماثلة لدى مجتمعات إسبرطة القديمة المحاربة التي قيل أنها كانت تجبر صبيانها على السير فوق قمم وحواف الجبال، فيصمد الطفل الشجاع ويدور رأس الخواف فيسقط قتيلا. أما البنت في المجتمعات السودانية القديمة فمن عجيب حظوظها أنها اقتنت الدمية قبل الولد، حيث كانت دميتها أنثى مثلها مصنوعة من القماش والقطن (بنت أم لعاّب). وطبعا كان الهدف دفع خيال الطفلة نحو تمثل دورها المنتظر من أمومة وعناية بشؤون الأسرة وإنجاب الأطفال وتنشئتهم. أما الصبي فهو ممنوع من اللعب بهذه الدمية، ومسموح له باللعب بسيوف الخشب والأقواس والسهام الصغيرة المصنوعة للعب.

 

لكن التبدلات الجذرية التي طرأت على المجتمعات في العالم، وأهمها تقدم التقنية، قلبت العديد من الموازين. فبرغم أن قيمة الشجاعة أصيلة ومتفاوتة في النفس البشرية، لكن معايير شجاعة المجابهة الفردية في حروب الطعان والمبارزة فد تبدلت بدورها بتبدل وسائل الحرب. فالحرب لم تعد مهمة الشجاع بل مهمة الذكي الذي يتمكن من اختراع آلة قتل عن بعد منذ أن اخترع الإنسان القوس والنبال والمنجنيق، وصولا إلى الرصاصة ثم الصاروخ الموجه عن بعد فلا يخطئ. وأصبح استخدام الوسائل القديمة يأتي بنتائج معكوسة لأنها تتم في عصر غير عصرها. فالذي يخوض اليوم حربا بالسيف لا نستطيع وصفه بالشجاعة بل بالغباء، ومن يسلق الأطفال بحكايات التخويف لا يحصل إلا على أطفال رعاديد. وتبعا لهذه التحولات البشرية تطورت وسائل تعليم الأطفال حتى انتهينا إلى أفلام الرسوم المتحركة (الكارتون) والدمية الفصل والكتاب الذي تقرؤه الأسرة للطفل قبل النوم، ثم توظيف تقنيات الحاسوب في العمليات التربوية وشحذ خيال الأطفال.

 

لم نشطح عن المعلمة البريطانية جوليان، فحالة التصحر من لعب الأطفال التي يعاني منها الطفل السوداني تحد كثيرا من تطور خياله العلمي رصيد المستقبل وقوام الشخصية النافعة في المجتمع. إن آلاف الحكايات الخيالية التي ينتجها عقل طفل واحد أثناء لعبه مع دمية أو لعبة صغيرة يعجز ملايين الكبار عن إنتاجها. وبسبب هذا التصحر يلجأ الطفل السوداني إلى تأليف الحكايات الخيالية التي يرويها للأسرة فتتهمه الأسرة بالكذب ويصفعه الأب ويقمعه المدرس الجاهل. والأطفال المصفوعون المقموعون تتدمر عندهم ملكات الخيال العلمي فيتحولون إلى دمى فيقعون عند بلوغهم طور الشباب فرائس سهلة في أيدي الجماعات التطرف السياسي والهوس الديني التي تشكلهم كما تريد وتدفعهم إلى محارق التعصب ومعاداة المجتمع وقتل الأبرياء. والخطر الأعظم أن اختفاء اللعبة البسيطة من أيادي الأطفال يعطل حركة التطور والاختراع والنمو التقني لدى كل المجتمع والبلاد. ومن يناكف في هذه الحقيقة فليقارن بين وتيرة التطور التقني في أوروبا وأميريكا واليابان وبين وتيرتها في السودان.. وكفى.

 

وعليه فإن غياب دمية الفصل عن مدارس الأطفال في السودان يفضح نقصا مريعا في وسائل التربية، وبالتالي يعكس جهل القائمين على أمر التعليم الذين لا يعرفون أن اللعب هو الوسيلة الوحيدة لتعليم الأطفال ولم يسمعوا بأهمية اللعبة والدمية في العملية التربوية وبناء الأمة، وإن سمعوا بها فهي في نظرهم مجرد (تبخة) أو وثن يجب تحطيمه، وفوق ذلك يقمعون الطفولة وخيالها الغض بجرعات زائدة من النصوص غير المتناسبة مع العمر ولا تتسق مع المعايير العلمية لدرجات الاستيعاب والحفظ لدى الأطفال. القائمون اليوم على أمر تعليم الأطفال في السودان قد قدوا من قلب ذلك الإعرابي الذي استغرب واستنكر عندما رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقبل أحفاده. ارجعوا للحديث الشريف يا هؤلاء لتعرفوا كم كان كبد سيد الأنباء رطبا مع الأطفال والطفولة وهو يمخط أنوفهم بيده الشريفة. ولأنه الرسول العالم فقد كان يدرك أهمية اللعب في تنشئة الأطفال، لذلك كان يلاعبهم ولم يأمر أبدا ببلشفتهم وحشو أدمغتهم المتفتحة بمثل هذا الكم من النصوص، بل روي عنه أنه بشّر مفرّح الأطفال أو ملاعب الأطفال بما لم يبشر به غيره، مثلما نهى عن ضرب الأطفال قبل أن يبلغوا السابعة. ذلكم هو الدين الحق فمن شاء أن يتبع سواقيه إلى منابعه بدلا عن صرامة الذعر التي ترتسم على وجوه ملايين الآباء في السودان عندما يتعاملون مع أطفالهم.

 

بالتأكيد وصلنا إلى أن الخلل ليس في وجود دمية الفصل، لكن الخلل المعيب هو غيابها عن وسائل تعليم الأطفال في السودان. وعليه نصل إلى أن دمية الفصل واجب تربوي يجب تعميمه على كل مدارس ورياض الأطفال في السودان. فلعل الله أراد ينزل رحمته على أطفال السودان من حادثة المعلمة جوليان، فلا تغلقوا منافذ السماء. على أن دمية الفصل ليست مجرد لعبة تشتريها وزارة التربية والتعليم وتلقيها في فصول الأطفال.. أو أنها فرصة ذهبية لصفقة يربح من ورائها أحد تجار الحكومة. دمية الفصل وإن تم شراؤها من السوق على هيئة دمية مصنوعة أو حيوان حقيقي كالأرنب أو السلحفاة، ينبغي أن يخترعها ويجسدها خيال الأطفال داخل الفصل. فهم الذين يتفقون على اسمها وملابسها وموقعها في الفصل حتى يرونها بخيالهم فردا ضمن مجموعتهم الصغيرة، وعند عطلة نهاية الأسبوع يأخذها أحد الأطفال ليستضيفها مع أسرته، فهي صديق الجميع الذي يربط ويؤلف بينهم في مودة وينشط دورة خيالهم ويعلمهم الكثير. وعليه نخلص من السياق إلى نقطتين ارتكازيتين

أولا: أن ما قامت به المعلمة حوليان لجهة توظيف دمية للفصل، وترك خيال الأطفال يرسم معالم شخصية الدمية لم يخرجا عن المطلوب بإلحاح في العملية التربوية والتعليمية. بل كان ينبغي أن نلومها إن لم تفعل ذلك. وحق علينا هنا أن نلوم الجهات المسؤولة عن التعليم وجميع المدرسين والمدارس في السودان لتغييبهم دمية الفصل.

ثانيا: الخلل ليس في وجود دمية الفصل، لكن الخلل المعيب هو غيابها عن وسائل تعليم الأطفال في السودان ضمن الوسائل التعليمية العديدة المغيبة بسبب الجهل بأهميتها. والخلل الثاني هو أن الجهات التربوية للحكومة قد استعاضت عن هذه الوسائل التعليمية الحديثة بحشو أدمغة الأطفال حشوا قاسيا بنصوص غير متوافقة مع عمر الطفل، الأمر الذي يحدث تهتكا وتخريبا في ملكات الخيال العلمي عن الأطفال ويدمرها تدميرا.

 

في الأسماء والجوانب العدلية:

الآن وقد أصدرت محكمة الحكومة حكمها بسجن المدرسة البريطانية جوليان وطردها من البلاد، نأتي على الركن الوحيد الذي استند إليه قاضي محكمة الحكومة في حكمه وهو إطلاق التلاميذ اسم محمد على دمية الفصل. وفي هذا نقول: بما أن الأسرة على مجرى التاريخ هي التي تختار اسم المولود وتطلقه عليه وهو طفل في المهد، فإن اسم أي إنسان يكون سابقا لفعله. بمعنى أن أي إنسان لا يفعل فعلا حميدا كان أو ذميما إلا بعد أن يكبر. وعليه فإن الفعل أو الدور الذي يقوم به المرء هو الذي يضفي القيمة الحسنة على الاسم مثلما تضفي الأعمال السيئة صفات السوء على الاسم. رجلان كلاهما اسمه جمعة، أحدهما يقوم بأعمال جيدة والآخر يقوم بأعمال سيئة، فيقول الناس عن أحدهما جمعة الجيد وعن الآخر جمعة السيئ. ونلاحظ بداهة أن الاسم عديم الفائدة في حد ذاته، وأن أفعال حامل الاسم هي التي تسقط القيمة على الاسم. وحتى في المواصفات الجسدية والصفات الأخرى يظل الاسم خال من المحتوى، فقد تطلق العائلة اسم "جميلة" على المولودة لكنها قد لا تكون كذلك عندما تشب، وقد يسمى الطفل "هزبر" فيكون في الحروب نعامة عندما يكبر. وهكذا لا يكتسب الاسم قيمته المعنوية أو الروحية إلا بعد قيام حامل الاسم بأفعال تكسب اسمه القيمة الإيجابية أو تلك المقبوحة عند الناس.

 

إذن أفعال الناس هي التي ترسم الحدود الفاصلة بين كل إنسان وآخر، وهي التي تجعل كل إنسان قائم بذاته. لذلك أحكمت التشريعات السماوية والوضعية قاعدة التمايز بين الناس بموجب أفعالهم وقطعت بمسؤولية كل امرئ عن فعله وإن تطابقت الأسماء، فمن الظلم أخذ عمرو بجريرة عمرو آخر، ومن الظلم أيضا مكافأة زيد على خير فعله زيد آخر (ولا تزر وازرة وزر أخرى) الآية. لكن على مدار التاريخ نجد أن بعض الرجال والنساء في التاريخ الإنساني قد أسبغت أفعالهم على أسمائهم قيما معنوية وروحية وبطولية سواء بفضل الأعمال الجليلة التي قاموا بها أو الرسالات السماوية التي أدوها. وبما أن كل أسرة تتمنى لمولودها مستقبلا من النجاح، فقد نشأ ما يعرف بالتّيمن، أي أن تطلق الأسرة على المولود اسم رجل أو أمرأة من هؤلاء العظماء مثل أسماء الأنبياء والرسل، وأيضا الزعماء مثل غاندي في الهند أو أزهري في السودان أو جان دارك في فرنسا. في المقابل يتطير الناس ويتحاشون إطلاق أسماء قام حملتها بأعمال منبوذة في نظر الناس مثل اسم أدولف هتلر أو موسوليني التي لا أعتقد أنها أطلقت على طفل أوروبي منذ سقوط النازية والفاشية.

 

وبفضل التيمن كان من الطبيعي أن تحظى أسماء مثل أسماء محمد وعيسى وإبراهيم وموسى وإسماعيل بمكانة رفيعة لدى المؤمنين، لا لمجرد أن رجالا قد حملوا هذه الأسماء لكن لأن أنبياء حملوا هذه الأسماء، ولأن النبوة هي التي وضعت هذه الأسماء في مكانة سامقة. وإذا كان غالبية الذين أطلقت عليهم أسرهم أسماء زعماء سياسيين لم يصلوا إلى مقام الزعيم حامل الاسم، يكون من نافل القول أن كل المواليد الذين أطلقت عليهم أسرهم أسماء أنبياء ورسل لن تبلغ بهم أسماؤهم ذات يوم مصاف الأنبياء والرسل. فاسم محمد أو عيسى أو موسى لن يجعل من حامله نبيا أو نصف نبي، ولن يحجبه اسمه عن فعل الموبقات إن أرادت نفسه ذلك، ولن يشفع له اسمه يوم الحشر والنشور إذا رمته أعماله في نار جهنم (كل نفس بما كسبت رهينة) الآية الكريمة.

وعليه فإن الشخص الذي يحمل اسم عيسى أو محمد أو إبراهيم هو شخص قائم بذاته بحسب أفعاله حسنة كانت أم منبوذة. هذا الفرق بين الأنبياء وبين حملة أسمائهم واضح عند المجتمعات السودانية، ودليلنا على ذلك أن كثيرا من الآباء والأمهات في السودان والعالم الإسلامي يلعنون أبناءهم وبناتهم ساعة الغضب من إيقاع الأسماء (يا إبراهيم يبربر راسك ! ويا إسماعيل يسمم لحمك! ويا محمد عليك الحمّى...) إلى غير ذلك من الشتم والذم التي أتمنى أن تكف عنه الأسر السودانية. في كل الأحوال فإن الأم أو الأب أو العم لا يضمر مطلقا شتم الأنبياء المكرمين، لكنه يقصد سب الابن أو البنت لذاته وفي ذاته بسبب ما فعله أو فعلته. وبالتأكيد لا يتمنى الأب أو الأم أن يلحق الأذى فعلا بالأبناء بقدرما هي عادة ذميمة جرت عليها الألسن لترويح الغضب عوضا عن ضرب الأبناء. وفي ظني أن القاضي ووكيل النيابة قد نالا في صباهما حصتيهما من مثل هذا الشتم الأسري البريء الذي يقصد منه صاحبه شتم الابن أو البنت وليس تجاوزهما إلى سب الأنبياء والرسل. أما إذا أخذنا قاضي الحكومة بحجته التي أدان بها المدرسة البريطانية، لتوجب عليه أن يرسل ثلاثة أرباع المجتمعات السودانية إلى السجون ثم نفيهم من الأرض بجريمة سب العقيدة الدينية والازدراء بالمعتقدات الدينية وإثارة الكراهية. وقبل القاضي يتوجب على وكيل نيابة الحكومة أن يفتح بلاغا (شموليا) ضد كل الشعب السوداني بنفس التوصيف الذي قدمه لمحكمة الحكومة ضد المعلمة البريطانية، فالشتم عند المجتمعات السودانية واضح وعلى رؤوس الأشهاد محضور بالشهود العدول!!. فإن رأى قاضي الحكومة ووكيل نيابتها ببراءة المجتمعات السودانية من تهمة سب العقيدة، فمن باب أولى أن ينطقا ببراءة المعلمة البريطانية، وإن جوزا لنفسيهما إدانة المجتمعات السودانية فليدينا المعلمة البريطانية، وليختارا لنفسيهما أحد الخيارين هذين، فإما إدانة مقابل إدانة أو براءة مقابل براءة، والعاقل يبدأ ببيته يا عمر.

 

والحكم ببراءة المجتمعات السودانية من تهمة سب العقيدة الدينية يعود في الأساس إلى أهم أركان الإثبات في التشريعات الإسلامية ألا وهو (الظاهر). فأحكام الشريعة الإسلامية تستند على بينات ظاهر الأمور وليس بواطنها فلا تحكم على الناس بما هو في ضمائرهم. وظاهر البينة هنا أن شتم الآباء والأمهات موجه فقط للابن أو البنت، وما غير ذلك يكون افتراضا منكولا لا يصلح بينة. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين، لكنه لم يحاكمهم بالكفر الذي في ضمائرهم. ونعيد قاضي محكمة الحكومة ووكيل نيابتها إلى غضبة الرسول الكريم من أحد الصحابة عندما قتل ذلك الصحابي شخصا في الحرب بعد أن نطق المقتول بالشهادة. فقال الصحابي للرسول الكريم أن الرجل نطق بالشهادة خوفا من القتل. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي: (أشققت عن قلبه ؟). ذلك هو الإسلام السمح المتسامح الذي يدرأ بالشبهة. وهنا لابد أن يقوم السؤال: بأي شرع أو قانون أو بينة قضت محكمة الحكومة حكمها على المعلمة البريطانية؟. لا مجال للشك بعدئذ أن الحكم تم بموجب افتراض تأويلي في غيب الباطن. ذلك أن محكمة الحكومة افترضت من عندها أن المعلمة وافقت التلاميذ على إطلاقهم اسم محمد على دمية الفصل لأن اسم محمد هو اسم محمد رسول الله وليس محمد الطفل التلميذ معها بالفصل أو أي محمد آخر. والمشكل هنا أن المحكمة ووكيل نيابة الحكومة قد افترضا أن اقتراضهما موجود في غيب باطن المعلمة، أي أنهما أدخلا نفسيهما إلى منطقة غيبية في النفس البشرية لا يعلم ما فيها إلا الله وحده سبحانه وتعالى وحده علام الغيوب ووحده هو الذي يعلم ما تخفي النفوس ووحده يعلم ما كنتم تكتمون... أشققتم عن قلبها ؟!. يا لعجبي وعجبكم وعجب القوانين كافة إزاء هذا التأويل البعيد الذي لا تربطه كل حبال الدنيا بقرينة أو بينة أو حتى مجرد شبهة. نسأل هنا سؤلا زائدا لا داعي له: ماذا لو أن الأطفال كانوا قد اختاروا اسما غير اسم محمد ؟!. قرائن الحال تقول أن الحكومة السودانية كانت سوف تحاكم المعلمة البريطانية على أمر لم يكن ولم تكن له صيرورة... وقد صدقت حكمة المجتمعات التي لخصت مثل هذه الحالة في حكاية (لو طارت غنماية..!!) والذي لا يعرف أصل الحكاية فليسأل عنها..

 

ها نحن قد أسقطنا في هذه المرافعة البسيطة الشفاهية الحجج الهشة لمحكمة ووكيل نيابة الحكومة. هنا نقيم قضية منطقية أخرى حول الدوافع الفعلية لهذه القضية المفتعلة افتعالا يفتقر إلى الحنكة ويعوزه إتقان الحبكة. لا دافع آخر عدا الدوافع السياسية. فالحكومة الشمولية الراهنة تمر بضغوط داخلية ودولية وضعتها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تتخلى عن شموليتها القابضة وتفتح الأوضاع السياسية نحو أفق الحريات الاجتماعية والسياسية وفق اتفاقات نيفاشا، أو أن تظل على شموليتها الممعنة والإبقاء على الأحكام المقيدة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. ومهما حاولت الحكومة إخفاء وضعها الداخلي، فإن كل القرائن تؤكد وجود تيارين يقف كل منهما خلف أحد هذين الخيارين." تيار الشمولية" والآخر "تيار الاتفاقية". وبديهي أن أنصار تيار الشمولية قد حاولوا أن يجعلوا من حكاية المعلمة قطعة عظم يلقونها للجماهير والغوغاء بغية تصعيد المد الديني في البلاد من أجل تكريس الحالة الشمولية (ونحشو الجماهير تبنا وقشّا ونتركهم يعلقون الهواء) على حد قول نزار قباني. وواضح أيضا أن تيار الاتفاقية أدرك مدى الورطة التي سوف تقع فيها كل أجنحة وتيارات الحكومة بسبب هشاشة الحكاية وما سوف تفرزه من سلبيات داخلية ودولية. من هنا بدأ المسعى المتأخر نوعا للملمة الموضوع، يفسر ذلك انعقاد المحكمة في عجلة لا سابق لها في تاريخ القضاء السوداني، ويفسر ذلك أيضا أن الحكم جاء بين بين فهو لم يبرئ المعلمة البريطانية عدلا، لكنه أدانها بالسجن 15 يوما، وهي عقوبة وإن تنافت مع أسس العدل، إلا أنها لا تتناسب مع التوصيف المهول للتهمة الذي ورد في صحيفة الاتهام التي اعتمدتها محكمة الحكومة بحذافيرها. وهكذا أرادت الحكومة إرضاء أطرافها وأجنحتها، فأملت صيغة الحكم الذي نطق به قاضي محكمة الحكومة.

 

وعليه نتثبت أن نص الحكم كان سياسيا وليست له أدنى علاقة بالجوانب العدلية وإجراءات التقاضي. كان من المفترض جدلا أن تسارع الحكومة إلى شطب البلاغ قبل الخوض في آسنه ومحاولة الخروج بحكم فشل أن يكون توفيقيا. لكن يبدو أن الصراخ المتسرع الذي أطلقه النائب العام والذي أدان فيه المعلمة البريطانية إدانة مسبقة قد شكل عقبة أمام احتمال شطب البلاغ. نلاحظ أن النائب العام أطلق إدانته الاستباقية وهو خارج البلاد بما يعني أنه لم يطالع ملف البلاغ، الأمر الذي يعكس عدم النضج السياسي وتجاوز "المدخل إلى دراسة القانون" ومسؤوليات المنصب. وحتى إذا تجاوزنا مواقف الحكومة، كان الأجدر بالقاضي أن يتوخى النواحي العدلية حتى لو وضعته الحكومة بين النطع والسيف. هنا لابد أن نذكر في إجلال القاضي صلاح حسن الذي حكم ببطلان حل البرلمان للحزب الشيوعي السوداني وإن كان ثمن العدل التنحي عن منصة القضاء. وهنا لابد أن نذكر أيضا أصحاب رسول الله والأئمة الذين كانت تشحب وجوههم عندما يطلب منهم تولي أمانة القضاء والحكم بين الناس، وإنها لثقيلة على من اتقى برغم عدلهم الذي لا يتطرق إليه الشك. وهنا لابد أن نذكر حديث الرسول الكريم الذي جاء في معناه أن القاضي ثلاثة، قاض عرف الحق وحكم بغيره فهو في النار، وقاض لم يعرف الحق وحكم فهو في النار، وقاض عرف الحق وحكم به فهو في الجنة.

 

وبصرف النظر عن شمولية الحكومة، فمن المؤسف حقا أن تقع المساومة بين العدل وصفاته الربانية وبين إرضاء الرغبات السياسية في زمن حكومة نائب رئيسها قاض ورجل قانون مرموق هو الأستاذ علي عثمان طه، وفي زمن حكومة لا نجد لرئيسها ميلا للظلم البائن أو التشفي كالذي وصم سلوك رئيس الحكومة العسكرية الثانية. ومن المؤسف حقا وقوع المساومة بين العدل وبين الرغبات في زمن حكومة اتخذت من الإسلام لبوسا وزعمت للناس أنها فرضت نفسها لاحقاق عدل الله في الأرض.

 

وحتى لو افترضنا جدلا أن المعلمة البريطانية قد ارتكبت جرما مشهودا، فقد أمركم الله أن تبلغوها مأمنها. ذلك أمر الله وليس مقترحا من عندي. فإذا كان الله قد أمر تبليغ الكافر مأمنه، فإن المعلمة البريطانية كتابية أهلها أقرب إلى أهل الإسلام بنص القرآن الكريم، فهي بالتالي أولى ببلوغ المأمن من الكافر الذي أمر الله تبليغه مأمنه. وإذا اجتهدنا في توخي الحكمة في هذا الأمر الرباني نجدها بائنة في الإيجابيات الداخلية والدولية التي سوف تحصدها الحكومة بالمجان في حال تحكيم العدل وإطلاق سراحها مبرأة من أي إدانة. فعلى المستوى الداخلي سوف يظن الناس خيرا في حكومة تطبق العدل، وسوف لن تجر القضية في أذيالها تبعات أخرى مثل محاكمة الناس على الهوية الدينية في بلد ربع سكانه من المسيحيين. أما على المستوى الدولي ففي تبليغها مأمنها معززة مكرمة رسالة للعالم أن حقيقة الإسلام هي التسامح، وفي ذلك خدمة للإسلام الذي يواجه هجمة لا سابق لها كادت أن تجعل الإسلام صنوا للإرهاب. أوليس في ذلك ما يخدم هذا الدين الحنيف السمح خدمة تتقاصر دونها مثل هذه الإدانة الظالمة التي لا تجر على الإسلام والباد إلا وبالا ؟. إن كانت الإجابة نعم، فنعمّى للإسلام والسودان بها. وقبل الختمة لابد أن نتساءل عن الزعامات الطائفية السياسية التي خبأت ألسنتها وختمت بأيديها على أفواهها أن تقول كلمة حق. قلد أصابتهم المنفعة الدنيوية بخرس عن قول الحق. وأختم بالسّر في موقع الجهر إلى رئيس الحكومة أن يأخذ بناصية العدل ويقرر شطب الموضوع قبل نفاذ الوقت، فهو المسؤول.. اعدلوا فذلك أقرب للتقوى، اللهم فاشهد.

 

سالم أحمد سالم

باريس ـ أول ديسمبر 2007


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات و تحليلات
  • تشارلز تيلور يكتب من لاهاي هاشم بانقا الريح*
  • تنامي ظاهرة اغتصاب الاطفال ...! بقلم / ايـليـــا أرومــي كــوكــو
  • مؤتمر تمويل التنمية/د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
  • بين مكي بلايل والعنصرية والحركة الشعبية /الطيب مصطفى
  • قالوا "تحت تحت" الميرغنى ماااااا "داير الوحدة"/عبد العزيز سليمان
  • الصراع الخفي بين إدارة السدود والمؤتمر الوطني (4-12) بقلم: محمد العامري
  • قواعد القانون الدولى المتعلق بحصانات رؤساء وقادة الدول/حماد وادى سند الكرتى
  • هل يصبح السيد مو ابراهيم حريرى السودان بقلم: المهندس /مطفى مكى
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • الجدوي من تعديل حدود اقليم دارفور لصالح الشمالية/محمد ادم فاشر
  • صلاح قوش , اختراقات سياسية ودبلوماسية !!؟؟/حـــــــــاج علي
  • أبكيك حسن ساتي وأبكيك/جمال عنقرة
  • نظامنا التعليمي: الإستثمار في العقول أم في رأس المال؟!/مجتبى عرمان
  • صندوق إعادة بناء وتنمية شرق السودان .. إنعدام للشفافية وغياب للمحاسبة /محمد عبد الله سيد أحمد
  • )3 مفكرة القاهرة (/مصطفى عبد العزيز البطل
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان: الصادق حمدين
  • جامعة الخرطوم على موعد مع التاريخ/سليمان الأمين
  • ما المطلوب لإنجاح المبادرة القطرية !؟/ آدم خاطر
  • الجزء الخامس: لرواية للماضي ضحايا/ الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • مبارك حسين والصادق الصديق الحلقة الأولى (1-3) /ثروت قاسم
  • ماذا كسبت دارفور من هذه الحرب اللعينة !!/آدم الهلباوى
  • الأجيال في السودان تصالح و وئام أم صراع و صدام؟؟؟ 1/2/الفاضل إحيمر/ أوتاوا
  • النمـرة غـلط !!/عبدالله علقم
  • العودة وحقها ومنظمة التحرير الفلسطينية بقلم نقولا ناصر*
  • المختصر الى الزواج المرتقب بين حركتى العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان /ادم على/هولندا
  • سوداني او امريكي؟ (1): واشنطن: محمد علي صالح
  • بحث في ظاهـرة الوقوقـة!/فيصل على سليمان الدابي/المحامي/الدوحة/قطر
  • سقوط المارد إلى الهاوية : الأزمة مستمرة : عزيز العرباوي-كاتب مغربي
  • قمة العشرين وترعة أبو عشرين ومقابر أخرى وسُخرية معاذ..!!/حـــــــــــاج علي
  • لهفي على جنوب السودان..!! مكي المغربي
  • تعليق على مقالات الدكتور امين حامد زين العابدين عن مشكلة ابيي/جبريل حسن احمد
  • طلاب دارفور... /خالد تارس
  • سوق المقل أ شهر أسواق الشايقية بقلم : محمدعثمان محمد.
  • الجزء الخامس لرواية: للماضي ضحايا الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان أموم/ الصادق حمدين
  • رحم الله أمناء الأمة/محجوب التجاني
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • وما أدراك ما الهرمجدون ؟! !/توفيق عبدا لرحيم منصور
  • الرائحة الكريهة للإستراتيجي بائتة وليست جديدة !!! /الأمين أوهاج – بورتسودان
  • المتسللون عبر الحدود والقادمون من الكهوف وتجار القوت ماشأنهم بطوكر /الامين أوهاج