بسم الله الرحمن الرحيم
من أبواب متفرقة
محمد ماهر كبارة
شجرة سودانية احترقت في جنيف
2/2
موسم الحداد:
في مقالنا السابق قلنا أن صبيحة يوم وفاة محمد 19 أكتوبر 2007، كان كل شيء رمادي اللون، ضوء الشمس، والجدران، والحيطان والأنفس والأشجار. حتى جسد محمد المسجي بداخل جهاز التبريد بمركز الطب الشرعي بجنيف، اكتسى باللون الرمادي لاحتراق بعضه. وبشارة الرحمة المهداة تقول: "من مات حريقاً مات شهيداً وطوبى للشهداء". ولوفاة محمد شهيداً معالم واشارات، ولفرط ثقتي بالله وحسن ظني فيه أحسبها بشارات. فعندما جلست بعيداً وحيداً منفرداً متأملاً وجدت في تشيعه مهرجان زفاف إلى جنة الرضوان برحمة الله. واليكم بعض الأسباب التي دفعتني لتبني مثل هذا الرأي.
§ تكررت زياراتي لموقع الحادث، وفي كل مرة أزور الموقع أجد خلقاً كثير، ربما يكون ذلك لغرابة الحادث وتفرده، لهذا أصبح قبلة للزوار. أو ربما لأن محمداً اصبح شخصية مشهورة بسبب الإعلام الذي سلط لما تعرض له تجن ظالم فاضح في العام الماضي. زرت الموقع مع الوالدين، علَّ الزيارة تعين الأم في استيعاب حقيقة استشهاد ابنها. فلم تصدق المكلومة ما حدث، فقد كان ابنها يتحدث معهم قبل ربع ساعة من وقوع الحادث ويؤكد بأنه في طريقه إلى المنزل. عند الموقع وجدنا سيارات تصطف على حافة الطريق (في مكان ممنوع التوقف فيه) وجمهور من المشاهدين وكلهم من الفرنجة قاطني جنيف أو القرى الفرنسية الواقعة على الحدود. سألني أحدهم: "هل هذا والد محمد؟ وهو يشير إلى هشام" فأجبته متسائلاً ومستغرباً "وكيف عرفته؟" فقال: "لقد شاهدته في التلفزيون". فأجبت بنعم والتي برفقته هي أم محمد. لحظتها كانت هناك نسوة يتابعن الحديث. فهرولن نحوها ياعنقنها ويبكين بكاءً مراً. لحظتها حسبت أنني بين نساء آل الجندي أو كبارة أو آل مدني بالسودان. وأيقنت بأن الإنسان بفطرته رحيم، وهذه أول بشارات واشارات محمد فقد كانت فاجعته مفتاحاً لكشف ما هو مغمور من مشاعر إنسانية صادقة انطلقت من محبسها، هذه الأولى.
§ أما الثانية، ففي يوم وفاته أرسل محمد إشارات وداع لأفراد أسرته الواحد بعد الأخر، ولكن لم تستوعب دلالاتها إلا بعد رحيله. فقد كان يكثر من ترديد كلمة بحبكم، بحبكم. قالها لأمه، فلم تستغربها منه، لأنه كثيراً ما يكررها على مسامعها. قالها لأخته الكبرى سحر، ثم اسمعها سمر، فابتسمتا، وقالها لأخوية، أحمد وإبراهيم. عندما جاء دور هشام (كفيله أو قل والده بالتبني)، قال له دعني أخذك بالأحضان كما يفعل أهل السودان. وتعانقا لبرهة من الزمن. كرر ذلك بعد حين، ثانية وثالثة ورابعة. عندها عاتبته أمه وطلبت منه أن يكف عن تلك (عوارة) توقف الولد، واعتذر عن فضح مشاعره تجاه أسرته. بعد وجبة العشاء مباشرة، طلب من أخته (شقيقته الكبرى سحر) أن تخرج معه ليتجولا في الحديقة الواقعة على مرمى العين من سكنهما، فاستجابت، وسرها بحديث.
§ في عصر ذلك اليوم، اخذ هاتف أمه، وبدأ يقلب فيه لوقت طويل، تضايقت الأم من تصرفه، وطلبت منه أن يترك جهازها وحاله حتى لا يصيبه الخراب. ضحك متعجباً من حديثها، وقال: "يا أمي يا حبيبتي أنا بسجل ليك قرآن في جهازك، بس عليك أن تستمعي له كثيراً". وعندما أستمت للقرآن صباح يوم وفاته، كانت مطلع سورة النحل حيث تقول الآية: (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) والثانية سورة الفاتحة.
§ ومن الغرائب أن صلاة الجنازة تمت عقب صلاة الجمعة مباشرة، وكان جثمانه يرقد بغرفة على مقربة من إمام الجمعة. ففي الركعة الأولى استهل الأمام صلاته بسورة الفاتحة، ثم أعقبها بالآية (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، والأمام ليس له علم بما دار بين محمد وأمه.
§ وقع الحادث بسبب السرعة الفائقة في حوالي الساعة الحادية عشر والنصف مساءً وعلي بعد كيلو مترين من سكنه، كان برفقته ثلاث من أصدقائه، استجابوا لطلبه في جولة قصيرة، لأنه كان قليل التحرك ومازال تحت المراقبة الطبية. ففي قنطرة عبور ترتفع عشرات الأمتار فوق الطريق السريع الذي يربط بين مطار جنيف وفرنسا، خرجت السيارة من مسارها وتخطت الحاجز الحديدي لتقفز لمسافة تصل إلى 50 متراً في الهواء (طائرة بدون أجنحة) وتهبط على حافة الطريق السريع على أربعتها، فقذفت بأحد ركابها على الطريق السريع لينجو من موت محقق، ثم تشتعل النيران في من بقى.
§ تأتي فرق الإنقاذ وتطفئ الحريق ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن أحترق كل شئ، إلا الهيكل الحديدي من السيارة. ولكن ما تقشعر له الأبدان أن جثمان محمد أصابته النيران والحروق، لكنه بقى في كامل هيئته، فقد سقط مقعده الأمامي إلى الوراء (السيد نام)، فَحُمل في نعش. أما من كانا معه لم يبق من جسدهما شئ كثير، فَحُملت بقاياهما في أكياس بلاستيك.
§ موكب تشيع محمد (أحسبه زفافاً لنعيم الأخرة)، فقد خرج عن كل مألوف، مثلما خرجت الطبيعة عن طورها صبيحة يوم استشهاده. فقد جرت مراسيم الصلاة عقب صلاة الجمعة بمسجد جنيف الذي أنشأه المغفور له بإذن الله، الملك فيصل آل سعود في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي. يومها ضاق المسجد على سعته بالمصلين، (سعة ألفى مصلي). وبقى أهل الديانات الأخرى خارج المسجد (مسيحيون ويهود) ينتظرون خروج الجثمان. فقد رأيت عجباً. رأيت عدد من الصبية والشباب (بنات وأولاد) لم يذهبوا لمدارسهم ذلك اليوم، وتمترسوا بمسجد جنيف، وشاركوا في تشيع الجثمان حتى قبروه. "في الغرب الناس لا تحب أن ترى الموت أو تتحدث عنه، ولكن وفاة محمد اخرجتهم ليمارسوا ما حرموه".
§ عندما قُضِيت الصلاة كان من المفترض أن يحمل الجثمان في سيارة الموتى تمشياً مع قانون البلد. ولكن لا ادري حتى الساعة، كيف سمحت الشركة التي تولت الدفن لنا بتجاوز القانون، وسمحت لنا بحمل النعش على أكتافنا مشياً على الأقدام في موكب مهيب، حتى مقابر المسلمين التي لا تبعد كثيراً من المسجد -علماً بأن المواكب ممنوعة إلا بأذن- حتى أن مجلة لستري التي أشرنا لها في مقالنا السابق، خصصت صفحتين لوداع محمد، وقالت بالحرف (في جنيف يشيع الموتى كما في السودان)، مع صورة النعش محمولاً على أعناق وأكتاف وقلوب أصحاب البشرة السمراء أهل السودانن اهل محمد.
§ في مراسم الدفن، كم كنت سعيداً بانتمائي لأهل السودان، وكم كنت فخوراً بأن أكون واحداً من بينهم. ففي نعش محمد ظهر نبل أخلاقهم، وكريم مروءتهم. فلو علمنا أن الوالد الكفيل هشام مدني، أتي لهذه البلد كلاجئ سياسي بعد أن تعرض لظلم فاضح صريح من الدولة السودانية. فستقشعر أبدان من لا يعرف أهل السودان، ويصيبه العجب عندما يعلم أن كل أعضاء وفد السفارة السودانية بجنيف كانوا على رأس حملة النعش، فلم يتخلف منهم إلا من كان خارج سويسرا. فوفاة محمد جمعت قلوب أبناء السودان على قلب رجل واحد.
§ جاء للعزاء الأخ رأفت ميلاد المسيحي القبطي السوداني من مدينة بازل التي تبعد أربعمائة كيلو متر من جنيف، كما شاركت أسرة تيمان اليهودية السودانية (البرت وأبنه أيلي). ومن أبناء الجنوب جاء العديدون وعلى رأسهم توماس باكا وزوجته ميري. ولم يتخلف أبناء دارفور فقد كانوا هناك وفي مقدمتهم عبدالباقي جبريل مدير مركز دارفور للعون والتوثيق، كما جاء أبناء كردفان منهم آدم عمر آدم الذي يحسبه من يجهله أنه من أسرة الشهيد. جاءت لتشيع محمد كل ولايات السودان، أبناء جبال النوبة منهم مصطفى كنز وحرمه الدكتورة رجاء، كلهم جاءوا للعزاء في محمد كبارة الذي ينتمي أبيه لمحس الشمال، أما أمه فقد جمعت في دمها ثلاث دول: إيطاليا وإريتريا والسودان. أما عند الدفن فقد دعونا الله (ببراق السيد الختم محمد عثمان المرغني) بصوت محمد عثمان الفاضلابي.
§ بهر هذا الجمع مجلة لستري التي رافقت الجثمان بجهاز تصويرها حتى المقبرة، فاندهشت لهذا التلاحم الإنساني الفطري. حتى أن رئيس الجالية السودانية بسويسرا، الأخ علي حسن، كان يسأل كثيراً لماذا لا يتوافق واقعنا السياسي مع واقعنا الاجتماعي؟ ولماذا نعجز أن ننقل واقعنا الاجتماعي إلى واقع سياسي؟
§ في المقابر ترحم إمام مسجد جنيف في خطبته التي ألقيت على القبر باللغة العربية والفرنسية على محمد وعلى صديقيه من أهل الكتاب، مستشهداً بقول نبي الله الكريم عيسى بن مريم الآية (118) من سورة المائدة (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فاظهر سماحة ديننا دين الرحمة، مما دفع بمجلة لستري أن تنبه قرائها لهذه الصلوات التي تعكس التسامح الدين الإسلامي والمحبة الإنسانية فيه.
§ لحقيقة الجدث يدفعك للإسهاب، ولكن قبل أن أختم، فليعذرني أخي هشام، فقد عاتبني أحد أصدقائه لما جاء في المقال الأول لقولي "أن أسرة المرحوم مجردة من كل أسلحة الدفاع، (بيئة، لغة، عمل)". البيئة لا اختلاف عليها، أما اللغة، فهشام لا شك أنه يحسن الإنجليزية والفرنسية، ولكن رميت للغة المحاكم الجنائية. أما العمل، فقد عمل هشام في عدة مواقع وما زال يعمل بكبرياء. ولكن إلى يومنا هذا لم يعط العمل الذي يتناسب وكفأته وقدراته وخبراته. هذا حال اغلب القادمين من العالم الثالث إلى الغرب. ولصديقه مني العتبى حتى يرضى، ولهشام وأسرته أدعو الله أن يخفف عنهم المصيبة، وأن يرحم محمد ومن كان معه.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة