بسم الله الرحمن الرحيم
من أبواب متفرقة
علي يس الكنزي
[email protected]
محمد ماهر كبارة
شجرة سودانية احترقت في جنيف
1/2
موسم الحداد:
عندما يحل موسم الخريف هنا تحترق الأشجار ويذهب لونها الأخضر الزاهي المتدرج من الداكن حتى الأخضر المائل للصفرة، وتكتسي جذوعها بلون رمادي، كأنها تعلن الحزن والحداد لانقضاء الصيف وذهاب الربيع. وتُشْرِع الطيور أجنحتها لشد الرحال نحو الجنوب هرباً من حلول الشتاء هنا. حتى البنايات الشاهقة في الخريف تكتسي حيطانها بذلك اللون الرمادي. فسُحُبُ الخريفِ تحجب نور الشمس، وتظلل القيوم ضوء النهار، فينقلب إلى ظلام رمادي باهت تحسبه سرمدي. ثم ينعكس ذلك اللون الرمادي على الجدران والحيطان وعلى الإنسان، فتصيب النفس كآبة وحزن. فرؤية الشمس تصبح حلم لا تدركه الأبصار. فعلى الناس أن تنتظر طويلاً حتى الربيع القادم لننعم بضوئها ودفئها.
فجر يوم السبت 19 أكتوبر من خريف هذا العام، كانت الرياح تهب بعنف، وتصدر أصواتاً وهزيزاً ورزيزاً بشبه صوت نساء القرى عند موت حبيب. ساعتها، كان البردُ قارساً، وقارصاً، وقاسياً، يصك الأسنان والجسد، فتصيب النفس رعشة وخوف وكآبة وحزن. في ذلك الصباح من يوم السبت 19 أكتوبر من خريف هذا العام، تعجل الشتاء طالباً من الخريف أن ينزوي ويترك له المكان والزمان. فهاجت الرياح حتى علت أمواج بحيرة الليمان القابعة وسط جسد مدينة جنيف لتضخ فيها الحياة، فاوعدت وأرعدت كأنها سماء، وأزبدت كأنها محيط، وزمجرت مياهها، وهاج موجها من كل مكان، وأصدرت أصواتاً غريبة، هي لأنين والبكاء اقرب منه للغضب، كأنها تعاتب موجها لعجزه عن الوصول لإطفاء النيران المشتعلة في سيارة محمد، حتى تحول إلى جسد مسجي في ثلاجات المشرحة بمركز الطب الشرعي بجنيف، القابع على شارع مشيل سيرفي رقم 1. فإذا الموج يرد عليها بصوته المزمجر الحزين، عَجِزتُ أن أصل، عَجِزتُ أن أصل، وما لي من سبيل!
في ذلك اليوم لم تكن الطبيعة كعادتها في كل المواسم، فكل شئ خرج عن طوره وطبيعته، ومداره ومساره. حتى فروع الأشجار تعانقت وانحنى بعضها فوق بعض، حتى تكسرت وتهشمت، كأنها في مناحة على ذلك الجسد المسجي في ثلاجات المشرحة بمركز الطب الشرعي بجنيف، القابع على شارع مشيل سيرفي رقم 1. فكانت الأشجار ترقص رقصة الوداع، كعصفور ذبحوه لتوه، فتراها تتجرد من أوراقها وأغصانها بسرعة غير مألوفة، لتعري جسدها لحبات المطر علها تَتَطهرُها من الرجس والدنس، ولتشارك ذلك الجسد المسجي في ثلاجات المشرحة بمركز الطب الشرعي، بجنيف القابع على شارع مشيل سيرفي رقم 1، غُسله الأخير في الحياة الدنيا، غسلٌ ستعقبه صلاة بلا إقامة، ولا ركوع، ولا سجود. لتبدأ الحياة من جديد، لمبعث جديد، عند رب مجيد، في ربيع الآخرة.
في ذلك الصباح، وقبل حلول الفجر، رن هاتفي الجوال، وكنت بعيداً عنه، وعندما اقتربت، صمت الهاتف مثلما صمت الجسد المسجي هناك بداخل جهاز التبريد في المشرحة بمركز الطب الشرعي بجنيف، القابع على شارع مشيل سيرفي رقم 1، صمتاً لا حراك فيه. روعني من قبل هاتف الفجر هذا، حينما هاتفني ابن خالتي فخرالدين (عليه رحمة الله)، مرة قبل صلاة الفجر بقليل في 17 نوفمبر من قبل ثمانية أعوام مضت من السودان. رفعت الهاتف وقبل أن يحدثني عاجلته قائلاً: أمي (رحمها الله)!؟. فأجابني لا حول ولا قوة إلا بالله من أخبرك بهذا ولم يمض على الموت حتى ساعة من الزمان؟ منذ ذلك اليوم صار قلبي يرتعش ويرتجف ويكاد أن يذوب من رنة الهاتف فجراً. ثم عاود هاتفي الرنين والأنين والضجيج والنويح، بعد الفجر مباشرةً، ونظرت للشاشة لأعرف من الطارق، وكان هشام.
- نعم هشام، خير إن شاء الله؟
- محمد مات يا علي!
- محمد مات كيف؟
- وخرج الصوت من أحشاء هشام، مرتعشاً، متقطعاً، متحشرجاً، مخنوقاً وناعياً وباكياً.
- في حادث حركة!
- وعاد الصمت في الهاتف وفي البيت، إلا من أصوات الرياح التي تدفع الأشجار لتعانق بعضها بعضاً وكأنها في مناحة على ذلك الجسد المسجي في ثلاجات المشرحة بمركز الطب الشرعي بجنيف، القابع على شارع مشيل سيرفي رقم 1، فتسقط الأغصان والأوراق منها والثمار، وتنهض الطيور من أوكارها تغادر الزمان والمكان إلى الجنوب، لأن الحياة هنا تُعلن الحداد، عندما يحل موسم الخريف. وكان يوم 19 أكتوبر كله حداد، كله رماد. حتى الجسد المسجي في ثلاجات المشرحة بمركز الطب الشرعي بجنيف، القابع على شارع مشيل سيرفي رقم 1، تحول بعضه إلى رماد.
فواجع محمد:
تراجعت ذاكرتي وعقلي وقلبي إلى الوراء، نعم إلى للوراء، عام قبل هذا اليوم، وبالتحديد منتصف أكتوبر 2006، رن هاتفي الجوال:
- (آلي)، هكذا قالها بلهجته الغربية، ويعني أن يقول (يا عليٌ).
- نعم السيد سامبوك ( Sambuc )،
- هل قرأت صحف اليوم؟
- "ظننت أن هناك مستجدات بالوطن، فقد صارت صحف الغرب تعطيه اهتمامها"، ماذا في صحف اليوم؟
- هناك شاب سوداني اسمه (مهمد) تعرض ليلة أمس لضرب حاد من مجموعة من الشباب، كادوا أن يذهبوا بحياته، وهو الآن في غرفة الإنعاش بالمستشفى الجامعي بين الحياة والموت، هل تعرفه؟
- أي محمد تعني، كل بيت سوداني له ابن يدعى محمد؟!
- وسرح عقلي طويلاً، أترى هو محمد بن فلان، أم هو ابن فلان، أم هو ابن …
وأنا على تلكم الحالة فإذا هشام يهاتفني ليحدثني بما وقع لابنه، وأجبته سآتيك فوراً. ورجعت للمحامي السويسري الصديق، الذي له معي من المواقف الإنسانية ما يظل محفوراً في الذاكرة كالآثار الفرعونية لا تمحي عبر الزمان. فقد يأتي يوم فضها، وكشفها، ونثرها، ونشرها إن شاء الله. أعلمته أنني عرفت أسرة محمد وسأذهب إلى المستشفى حالاً. ولدهشتي أجاب: أنا ذاهب معك، لنلتقي هناك؟ ولكن هل ستقبلني الأسرة؟ أجبته: ولم لا.
دخلنا غرفة الإنعاش، ووجدنا محمداً في حالة دفعتني أن أترحم على روحه وشبابه، فما ظننته سيكون من الأحياء أبداً. فقد تعرض لضرب مبرح من مجموعة من الشباب في ليلة عيد ميلاده الثامن عشر، وفي شارع عام بمدينة جنيف. هشموا الرأس منه والوجه، والجسد، ولم يكفوا عن ضربه وركله إلا بعد أن تيقنوا بأنه فارق الحياة، لا لشيء جناه ربما لاسمه، أو لونه، أو سبب آخر، سَيُظْهِرَهُ القضاء. كانت نجاة محمد علي يد سائق تاكسي قام بإخطار الشرطة. حملوه على عجل للمستشفى الجامعي. ومكث في غرفة الإنعاش لمدة يصير فيها الهلال قمر منيراً. كان الموت والحياة يتقاذفانه ككرة المضرب، كل يناديه لحضنه، وكل يدفعه لحضن الآخر. إلى أن كتب الله له النجاة بأعجوبة ومعجزة. وشفي الرأس المهشم ، ولكن خلف من ورائه ذاكرة نست الماضي القريب فما بالك بالبعيد، وعقل عجز عن التفكير، والتركيز. فَصُنِفَ طبياً كإنسان معاق لسنين ستأتي.
الإنسان رحيم بفطرته:
في هذا الجو المشحون بالكراهية والظلم الذي وقع على محمد، تفتحت زهرة في القلوب فاح عبيرها وعبقها على النفوس المتعبة المنهكة لما تعرضت له من مهانة وهوان وظلم في بلاد الغربة. فقد استيقظ ضمير المحامي هنري فليب سامبوك ( Henri-Philippe Sambuc )، وتصدى لقضية محمد والدفاع عنه بدون أعباء أو رسوم، ووقف مع أسرته المجردة من كل أسلحة الدفاع، (بيئة، لغة، عمل)، في خندق واحد. وأول خطوة خطاها أن قدم ترافعاً للمدعي العام، تم بموجبه تحويل القضية من شجار بسيط، إلى قضية جنائية (الشروع في القتل). وتتحول التهمة من الحكم بأشهر قلائل، وربما مع وقف التنفيذ، لتهمة يصل الحكم فيها لعشرات السنين في الحبس. ثم يدفع بها إلى الرأي العام، فتهتم بها قناة التلفزيون الرئيسية الناطقة بالفرنسية ( Television Suisse Romande TSR )، وتجري حواراً يتم بثه قبل أسبوع من وفاة محمداً، وكأنها تريد أن توثق لحياته القصيرة، وتودعه مع المشاهدين في اساً وحزن. وفي اليوم التالي للحادث، يأتي محمد في صدر النشرتين الإخباريتين الرئيسيتين (الواحدة ظهراً والسابعة والنصف مساء) لهذه القناة، رغم انشغالها ووسائل الإعلام بالانتخابات الفدرالية التي جرت في تلك الأيام. وكذا الحال بالنسبة للإعلام المقروء فقد اهتمت به الصحف اليومية، ووثقت له مجلة (لستري L’illustré) الأولى بعد حادث الضرب، والثانية في عددها الصادر يوم 3 أكتوبر 2007، بصفحتين ملونتين مع الصور بمناسبة مرور عام على التعدي عليه، أي قبل وفاته بأسبوع. ثم تعقبها بثالثة، في عددها الصادر بعد أسبوعين لتنعي محمداً إلى قرائها في ثلاث صفحات مع صور بالألوان وصورة الغلاف، وتمنح قصته الأولوية على قصة انفصال ساركوزي رئيس الجمهورية الفرنسي عن زوجته سيسيليا ( Sécilia )، وتحكي المجلة لقرائها قصة استشهاد محمد المحزنة.
أما قناة الجزيرة الإنجليزية فقد أذاعت تحقيقها معه في صباح يوم وفاته دون علم أنها ترثي ميتاً. ومن الطرائف المحزنة المبكية، أن المحامي سامبوك، زار العائلة في منتصف نهار يوم السبت حسب ما هو متفق عليه، ليشاهدوا معاً البرنامج الذي ستبثه قناة الجزيرة. ولكن عند دخوله فوجئ بخلق كثير في بيت محمد، ليكتشف أنه في بيت عزاء، وكانت الصدمة عليه مفزعة وموجعة، وغير مقنعة، فلم يصدق ما بدأ له. ساعتها كان جسد محمد صامت مسجي هناك في جهاز التبريد في المشرحة بمركز الطب الشرعي بجنيف، القابع على شارع مشيل سيرفي رقم 1.
وإلى الحلقة الثانية في الأسبوع القادم إن شاء الله، لنخوض في المأساة التي أدمت كل قلب، وأدمعت كل عين. مأساة محمد ماهر كبارة، الذي راح ضحية حادث حركة مشؤوم وهو في ريعان شبابه. رحمة الله عليه، وعلى من كان معه.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة