صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
 
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


قراءة جديدة لقصيدة فيزي ويزي Fuzzy - Wuzzy)) للشاعر البريطاني روديارد كيبلينغ /د/ أوشيك آدم علي
Aug 11, 2007, 03:44

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

قراءة جديدة لقصيدة فيزي ويزي Fuzzy - Wuzzy))

للشاعر البريطاني روديارد كيبلينغ

د/ أوشيك آدم علي     [email protected]

توطئة

ربما أصبح البجا اليوم أكثر حاجة من أي وقت مضي لوقفة مع النفس وتأمل الماضي لاستخلاص العبر والدروس عسي أن يكوم ذلك زاد لهم لما هم فيه من وحل الفرقة والشتات وتباين الآراء والأقوال وتكالب المتربصين بهم للنيل من نضالهم والعبث الجائر بقضيتهم والانتقاص من انجازاتهم . نريد أن نستحضر الماضي لا  للركون إليه ولا لاجتراره ولكن من منطلق أن الحاضر هو امتداد للماضي وأنه في نفس الوقت جسر عبور للمستقبل المشرق. فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل .

لا يخفي علي الجميع أن إنجازات الماضي في شرق السودان كانت جزءا من القوالب التي شكلت جغرافية وتاريخ السودان الحديث , وأن البجا تقاعسوا عن هذا الدور لأسباب لاتخفي للجميع  والآن آن الأوان أن يستردوا هذا الدور لتكتمل استحقاقات المواطنة الحقة  , ولن يحدث ذلك إلاّ بعد توحيد الكلمة ولم الشمل آخذين في الاعتبار أن الإنجازات الهامة في مسيرة الشعوب لا تحدث من فراغ وإنما هي نتاج طبيعي لتلاحم القيادة مع القاعدة في تفاعل عضوي لا انفصام عنه.

لهذا  نود أن نستعرض وبقراءة جديدة قصيدة  فيزي ويزي للشاعر البريطاني الكبير روديارد كيبلينغ التي نظمت في فترة هامة من تاريخ السودان والشرق بصورة خاصة. البجا في تلك الفترة ضربوا أروع الأمثال للتضحية والاصطفاف الشعبي والانضباط العسكري خلف قيادة عسكرية وسياسية ذكية استطاعت أن تستثمر كل وقائع الميدان وتناقضاتها مما أهلها لتنجز نصرا غاليا , وإن لم يكن حاسما , علي جبهة هامة من جبهات حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني وهي البوابة الشرقية.  تمثل هذا النصر في كسر المربع البريطاني وفي إرباك وذعر للقوات  البريطانية وإحباط نفسي ومعنوي لهم. محاولتنا لقراءة جديدة للقصيدة المعنية تهدف إلي الإشارة إلي  أن من مستوجبات النصر العسكري والسياسي  وجود قيادة منضبطة متماسكة واعية تستطيع لمّ الشمل وتتنزل للقواعد أخذا وعطاءا لتحديد الأهدف ووضع آليات التنفيذ الممكنة لها. في قراءتنا لقصيدة فيزي ويزي علينا أن نتطرق لبعض الجوانب المرتبطة بها.

الشاعر

شاعر قصيدة فيزي ويزي هو البريطاني روديارد كيبلينغ الذي ولد في الهند عام  1836وأُلحق بمدارس بريطانيا وبعد تخرجه رجع إلي الهند مرة أخري ليعمل مراسلا حربيا  لصحيفة في لاهور( باكستان الآن). وفي الهند بدأت تظهر مقدراته الأدبية وعرف في تلك الفترة كواحد من أميز الأدباء والشعراء البريطانيين حيث نشرت أعماله الأدبية في كثير من الجرائد والمجلات وأخير طبعت في شكل كتب منفصلة. تعاطي كيبلينغ الشعر وكتابة القصة الصغيرة ولا سيما قصص الأطفال ولكن شهرته كانت في الثاني مما أهله لنيل جائزة نوبل للآداب عام 1907 وبذلك كان أول بريطاني ينال هذه الجائزة الرفيعة .

من الناحية السياسية صنف كيبلينغ كواحد من غلاة المحافظين ( بتعبير اليوم) حيث نصّب نفسه مدافعا مستميتا للتاج البريطاني ومبررا بكل ما تقوم به بريطانيا والغرب بصورة عامة  من غزو وحملات عسكرية في أرجاء العالم. وكان من الذين  يؤمنون  إيمانا جازما بأن لبريطانيا رسالة حضارية وأخلاقية في نشر مفاهيم المجتمعات الأوروبية. هذا كان الاتجاه السائد في تلك الأيام وسط كثير من السياسيين والعسكريين الأوروبيين وربما إلي يومنا هذا

القصيدة

استمدت قصيدة فيزي ويزي إسمها  من اسم الحيوانات المنزلية الأليفة ذات الشعر أو الفراء الكثيف. ربما اختار كيبلينغ هذه التسمية لغرضين. الأول لتشبيه المحارب البجاوي الذي جمعتهم بهم معارك شرق السودان والذي تغطي رأسه كتلة كثيفة من الشّعر بتلك الحيوانات. الغرض الثاني أراد كيبلينغ أن يستخف ويقلل من شأن هذا المحارب بتشبيهه بهذه الحيوانات المنزلية الوديعة التي يتلهي بها الأطفال , كما أراد أن يعطي انطباعا بأن هذا البجاوي شخص وديع ولا يمكن أن يكون مصدر خوف أو قلق في أي معركة  ومن ثم يمك سحقه. غير أنه كان صائبا في تشبيهه الأول ومخطئا في تقديره الثاني كما روت لاحقا مجريات المعارك والمواجهات الشرسة في شرق السودان , إذ أن هذا الشخص الوديع , كما افترض كيبلينغ , أصبح أشرس ما لاقاه البريطانيون في حروبهم المختلفة . لذلك يحكي احد البريطانيين علي لسان  جده الأكبر ممن شهدوا هذه المعارك  وأصيب بطعنة حربة في فخذه الأيمن " بأن محاربي هذه المناطق يمثلون بعض القبائل القليلة التي يخشي الإنجليز اللقاء بهم لشراستهم وبسالتهم  They were one of the few tribes the English feared to fight due to their aggressive nature.”
اطلعت شخصيا علي ترجمتين مختلفتين للقصيدة , واحدة للمؤرخ الكبير صالح ضرار والأخري للأستاذ إبراهيم أحمد شلية  ولكل منهما نكهتها الخاصة . عموما ظهرت قصيدة فيزي – ويزي أول ما ظهرت في 15 مارس عام90 18  مع قصيدتين اخريتين . كتبت القصيدة بلغة إنجليزية كلاسيكية يصعب فهمها في الوقت الحاضر وهي لغة أشبه بلغة المعلقات في العصر الجاهلي وتميزت  باسلوب خلط بين الجد والهزل. استقبل الوسط البريطاني القصيدة عند أول ظهورها  بشعور تفاوت بين السخط والرضي. البعض صنفها علي أنها انجاز أدبي رفيع من شاعر مقتدر ملك ناصية الكلمة وقوة البيان, في حين أن البعض الآخر ولا سيما العسكريون وبعض السياسيون نظروا إليها وكأنها عمل , وإن كان أدبيا بحتا , إلا أنه يعبر عن وجهة نظر سياسية وعسكرية من الدرجة الأولي  وأنه غير موفق من الناحية العملية لأنه يحتوى علي تمجيد الأعداء واعتراف لهم بمقدرات قتالية تنتقص من مكانة الجندي البريطاني
.
ومهما يكن رأي البريطانيين فيها إلا أنها , أي القصيدة , تمثل لنا نحن في السودان قلادة شرف في عنق المحارب السوداني ولا سيما البجاوي في شرق السودان تحت قيادة قائدهم الفذ عثمان دقنه الذي قال عنه أندرو بول" كان أذكي أمراء المهدية رغم أنه لم يحظ بالموقع الذي يليق به لأنه استطاع أن يصمد أمام جيوش اعتي منه قوة وعتادا.  (تاريخ قبائل البجا)". الاعتراف الذي سجله الشاعر كيبلينغ في قصيدته المشهورة لم يكن منّة منه ولا من غيره وإنما كان اعترافا انتزعه المحارب السوداني عن قوة واقتدار, فضلا علي أنه اعتراف لم يمنح لأحد من الجيوش التي حاربها  البريطانييون في تلك الحقبة إبتداءا من نابليون فرنسا في موقعة وترلو الفاصلة ومرورا بالبشتو في مرتفعات خيبر بآسيا الوسطي وكذلك البورميين وانتهاءا بقبائل الزولو الشرسة في الجنوب الإفريقي.
إضافة لذلك القصيدة كما قال أحد المعلقين والنقاد عنها إنها تمثل أول اعتراف بريطاني بهزيمتهم , حتي وإن لم تكن هزيمة عسكرية صرفة إلا أنها تمثل إقرارا بإفشال مخططاتهم العسكرية واختراقا لتحصيناتهم الدفاعية المنيعة المدججة بقوة ضاربة بشتي الأسلحة النارية الحديثة بما في ذلك  المدافع الميدانية الثقيلة التي دخلت الميدان الحربي حديثا. يصف كيبلينغ بسالة المقاتل البجاوي فيقول " ما لا قيناه من شراسة في حروبنا في خيبر وبورما وجنوب إفريقيا لم تكن الا شربة واحدة( يعني بقة واحدة بالدارجي السوداني) من مشروب المياه الغازية مقارنة بما تجرعناه من علقم في حروبنا في شرق السودان". هذا اعتراف غال من مواطن بريطاني رصد المعركة عن كثب ولكنه لم يتعود تمجيد الآخر , ولكن الحق أبلج ولا يمكن نكرانه حتي وإن كان من العدو. كيبلينغ ,الذي  لم يكن عسكريا محترفا , ولكنه كان مراسلا حربيا كلف بالتغطية الصحفية لمعارك بريطانيا في شبه القارة الهندية. يكون  رأيه , حتي وإن لم يمثل القيادة العسكرية , إلا أنه رأي مطابق للواقع ورأي  من عرك المعارك رصدا ونقدا. وفي المقابل جاء اعتراض بعض العسكريين للقصيدة أنها تحط من قدر جيش صاحبة الجلالة التي كانت جيوشها سيدة المعارك في ذلك الزمان .
الخلفية التاريخية للقصيدة
في نهاية العقد قبل الماضي واجهت بريطانيا مشاكل جمة في السودان حيث اندلعت الثورة المهدية هناك وأصبحت تدك معاقل خديوي مصر في السودان. انتصارات المهدي المتتالية في السودان أصبحت تهدد بقاء الاستعمار المصري الإنجليزي في السودان . بريطانيا في تلك الأثناء , تحت قيادة حزب الأحرار لم تكن متحمسة في التورط أكثر مما يجب في الشأن السوداني وكان ورئيس وزرائها قلادستون يتمني أن يترك السودان وشأنه للمصريين. غير أن  غوردون الذي كلف بإخلاء جميع الرعايا الأجانب في السودان تعنت ورفض مغادرة قصر الرئاسة في الخرطوم الذي حوصر فيه , فضلا علي شعبيته المتنامية في بريطانيا ( لدوره الهام في دحر الجيش الصيني) , كل ذلك أجبر بريطانيا أن ترسل حملة لإنقاذه سميت بـ " حملة إنقاذ غوردون" . أوكلت قيادة هذه الحملة للورد ويسللي الذي وصل إلي مشارف الخرطوم في 28 يناير1885 فقط بعد يومين من اغتيال غوردون باشا . أجمع المعلقون العسكريون أن من الأسباب المباشرة التي أدت إلي حصار الخرطوم ومقتل غوردون  الحصار الذي ضربه عثمان دقنه علي طريق الإمداد الحيوي بين سواكن وبربر والمعارك الدائرة بشرق السودان.  مقتل غوردون  خلّف موجة عارمة من السخط الشعبي في بريطانيا وانتقادا شديدا للحكومة والجيش لتقاعسهم عن نجدة غوردون في الوقت المناسب . زد علي ذلك عدم مقدرة الحكومة في تأمين موانئ البحر الأحمر . كل هذا شجع علي تورط بريطاني أكبر في السودان. لهذا سعت بريطانيا لتعزيز قبضتها علي السودان ولفك الحصار المضروب من قبل جيوش  المهدي للطريق  الرابط   بين بربر وسواكن.

 تتالت هزائم المصريين والإنجليز في المعارك الساحلية , بعد سقوط سنكات المخزي والمعارك الدامية في التيب وتوفريك واستسلام حامية طوكر لم يبق لبريطانيا  نفوذ في شرق السودان غير حامية سواكن التي تحميها سفن الأسطول الملكي البريطاني . كل هذه الهزائم المتكررة حطت من سمعة بريطانيا مما أغضب الملكة وألب الصحافة والرأي العام ضد الحكومة . استجابة لكل هذه الضغوط وافق رئيس الوزراء قلادستون  أن برسل قوات إضافية إلي سواكن ولكنها واجهت مقاومة شرسة من قوات عثمان دقنه في مواقع مختلفة علي الجبهة الشرقية  وقتل فيها أعداد كبيرة من الجانبين وبالذات الجانب السوداني. قصد بهذه الحملة تأمين الساحل البحري لضمان انسياب الإمدادات  للداخل السوداني , وكذلك لتأمين إي انسحاب محتمل عبر البحر الأحمر للرعايا والقوات الأجنبية إذا دعت الضرورة لذلك.

أظهرت وقائع الميدان أن  التجهيزات العسكرية بين الطرفين لم تكن متكافئة بكل المقاييس. الجيش البريطاني كان يتفوق علي جيش الأنصار تدريبا وتجهيزا وخبرة فضلا علي امتلاكهم  قوة  ضاربة من أسلحة نارية من بنادق ومدافع ثقيلة.  في الجانب الآخر جيش عثمان دقنه , كغيره من جيوش المهدي,  لم يمتلك من العتاد الحربي غير الأسلحة التقليدية من سيوف وحراب وعصي وقليل من البنادق التي غنموها من الأعداء , غير أنهم أبدوا كفاءة عالية في استعمالها كما وصف أحد البريطانيين واحدة من  تلك المعارك." إن المواجهة الحقيقية كانت من البجاويين المسلحين بالحراب حيث يوجهون رماحهم بدقة متناهية وفي الوقت المناسب نحو خيولنا فيصيبون منها مقتلا, كما كانوا يستعملون عصي معقوفة من السنط يصيبون بها ركبة الخيل مما يقود إلي سقوطها وشل حركتها. إضافة لذلك يعترف  كبلينغ عن مهارتهم في استعمال السيف " يجب أن نعترف بمقدراتك (البجاوي) العالية في استعمال السيف.  يوضح هذا أن السلاح , وإن كان بسيطا إلا أنه يكون فعالا عندما يكون في يد من يجيد استعماله . لا يمكن التقليل من أهمية السلاح في حسم المعارك غير أن العبرة بالروح القتالية للجندي التي لها أيضا  دور لا يقل أهمية من السلاح.
المربع البريطاني
قد لا يعلم الكثيرون ما هو المقصود بالمربع البريطاني , فكرة المربع تكتيك حربي بريطاني عريق يوفر الأمن والسلامة عندما يتحرك الجيش في أرض مكشوفة في مواجهة الفرسان والمشاة المسلحين بالأسلحة البيضاء وأثبت  جدواه  في معارك كثيرة وبالذات في حرب الكريميا مع الروس ومع الفرنسيين في معركة  وترلو الشهيرة . ولكن كفاءته القتالية أكثر جدوي في حال أن الخصم  لا يمتلك قوة نارية رادعة وهذا ما كان ينطبق علي جيش عثمان دقنه  في شرق السودان. من الناحية العملية يوزع الجيش في التشكيلة العسكرية للمربع إلي  مربع متساوي الأضلاع , كل ضلع فيه يتكون من صفين أو أكثر من الجنود , من المشاة والخيالة( الفرسان أو راكبي الخيل) . يتفاوت عدد الجنود في كل ضلع ما بين 1000-1500 جندي. داخل المربع يتحرك العتاد العسكري من مدافع وذخيرة كما توجد به المؤن وحيوانات النقل من جمال وبغال وحمير ومعها المشرفون عليها وكذلك بقية الجيش . بهذه التشكيلة يمكن تشبيه المربع بقلعة متحركة حيطانها من الجنود وتحمي أركانها مدافع جالينغ وجاردنر الرشاشة ومدافع الميدان زنة 7 رطل التي تشكل قوة نارية كافية لتمطر كل واجهة للمربع وتمزق أي هجوم للأنصار . يتميز الجنود في كل واجهة من المربع بمرونة في الحركة السريعة يستطيعون فيها الإستدارة السريعة عند الحاجة لتكوين صف  للرماية في حال ما وقع هجوم علي المربع.

حصاد المعارك

كما ذكرآنفا أن معارك السودانيين مع البريطانيين كانت تنتقص إلي التكافؤ والتعادل. تفوقت الجيوش البريطانية بالعتاد الحربي المتطور وبالخبرة والتجربة اللتان تراكمتا من خلال حروبهم في شتي بقاع العالم ,إضافة لذلك أن قواد الجيش البريطاني الذين أرسلوا إلي السودان كانوا من النخبة وأفضل ما أنجبتهم المؤسسة العسكرية البريطانية مثل إستوارت وغراهام وماكنيل وبيكر وويسللي وغردون وغيرهم كثيرون الذين خاضوا حروب بريطانيا العظمي في شتي بقاع العالم .  بسبب هذا الخلل في موازين القوي أصبحت المعارك الحربية مع البريطانيين في السودان مجازر أكثر من أنها مواجهات عسكرية, وأكبر دليل علي ذلك موقعة أمدرمان التي استمرت لفترة وجيزة وقتل وجرح فيها من الأنصار أكثر من 26 ألف سوداني مقابل 45 قتيلا و382 جريحا للبريطانيين. في هذه المعارك وغيرها من المعارك التي سبقتها والتي تلتها لم يقترب المحارب السوداني من البريطانيين أكثر من 400 متر قبل ان يردي قتيلا بسلاح ناري . ولكن بشهادة البريطانيين أنفسهم أن المقاتل السوداني أثبت كفاءة عالية عندما كان اللقاء وجها لوجه ,ورجلا لرجل. لذلك يقول كبلينغ عن البجاوي " إنك صرعتنا عندما كان اللقاء وجها لوجه:
But man for man the fuzzy knocked us ‘oller
إضافة أنه كان يقاتل حتي الرمق الأخير كما قال فيهم كيبلينغ في مكان آخر من قصيدته " إنه ممتلئ , أي المحارب البجاوي , بحرارة الصحراء وطعم الزنجبيل عندما يكون حيا ويكون أكثر خطورة عندما يحتضر". كيبلينغ كغيرة من عنصريي أوروبا يقحم تعابير الاستعلاء العرقي والديني في وصفه للبجا  بأنهم همجيون ووثنيون ولكنه في النهاية يُجبر علي الاعتراف بأن الجندي البجاوي محارب من الدرجة الأولي وأنه رغم فقده لكثير من رفاقه إلا أنه يكفيه فخرا أنه كسر المربع الإنجليزي
You’re a bore benighted ‘eathen but a first –class fightin’man
For If you’ave lost more than us, you crumplede up the squre!

 

من المعارك الهامة  في تاريخ المهدية وفي شرق السودان بصفة خاصة معركة تأماي ( ثمانية كيلومترات من الجنوب الشرقي لسواكن) في 13 مارس 1884 التي خلدها كيبلينغ بقصيدته الشهيرة " فيزي ويزي"  والتي كُسر  فيها المربع البريطاني. تقول المعارف البريطانية عن هذه المعركة أن الجيش الإنجليزي بقيادة سير غراهام حامل وسام  فكتوريا كروس, وهو أعلي وسام يمنح لقائد ميداني,  يتكون من 3500بريطاني بين ضابط وجندي في حين أن جيش عثمان دقنه كان قوامه  10ألف شخص. تأكد عثمان دقنه بحسه العسكري الثاقب وبتحليله للمعارك السابقة  بأن المواجهة المكشوفة  مع البريطانيين غير ذات جدوي لأنها تعرض جيشه لوابل من السلاح الناري , لهذا أمر جنوده أن يختبئوا بين الشجيرات وفي خور يجري بمحاذاة طريق سير المربع البريطاني والانقضاض علي  عليهم  في هجمة واحدة عندما يصبحون علي مقربة أقل من مأتي ياردة. كان الهجوم مفاجأ وضاريا لدرجة أن هذه المباغتة لم تمكن البريطانيين من تركيز أسلحتهم الرشاشة التي أخطأ كثير منها العدو. لنقرأ هنا وصف غراهام للمعركة " مجموعة ضخمة من الوطنيين جاءت كسيل متدفق وهجمت بعزيمة لا تلين علي كتيبة اليوركشيرز واللانكشيرز مما جعل المربع ينهار ويتخبط في فوضي تامة". روح المبادرة والمباغتة التي ابتدعها عثمان دقنه غيرت أسلوب المواجهة بين الجيشين بحيث أصبح  الرجال يتقاتلون فرادي أو في شكل مجموعات صغيرة ولم يكن هنالك مجال لممارسة أي تكتيكات حربية سابقة , فالقتال أصبح إلتحاميا بالأيدي وبالأسلحة النارية والبيضاء في أشرس صورة يتخيلها الشخص. بعد حوالي نصف ساعة من هذا القتال الضاري استطاع غراهام , بفضل القوة النارية الحاسمة , أن يسترد تشكيل قواته بعد أن انسحب جيش عثمان دقنه بطريقة منظمة ومشرفة ( كما قال أحد المعلقين) بعد كسرهم للمربع البريطاني , مهمة فشل فيها الروس والفرنسيون علي السواء. محصلة المعركة مقتل أكثر من 120ضابط وجندي بريطاني وأكثرمن 300جريح , مقابل 4000بين قتيل وجريح من جيش عثمان دقنه . هذه المحصلة من القتلي  والجرحي بين البريطانيين تعتبر أعلي خسارة للجيوش البريطانية في أي معركة من معاركهم  في السودان بما ذلك معركة أمدرمان الشهبرة التي قتل فيها فقط 45 بريطاني وجرح فيها   382ضابط وجندي.

 أكثر ما أحبط البريطانيين في هذه المعركة  انهيار مربعهم الذي كانت مقدراته الدفاعية  تراجع وتعدل بعد كل معركة يخوضها الجيش البريطاني في كل أرجاء المعمورة  وفشل اختراقة الروس والفرنسيون أعظم قوتين حربيتن في ذلك العصر,  لذلك لم يكن متوقعا أن يكسر هذا المربع في أي مجابهة عسكرية ناهيك أن المجابهة عندما تكون مع قبائل بدائية ( كما يصفونها ) لا يملكون من العتاد الحربي إلا أسلحتهم التقليدية . لذلك كان مخزيا ومحزنا للبريطانيين في آن واحد أن  يروا مربعهم الأسطوري ينهار ويُخترق بهذه البساطة . بهذا الخصوص علق مسؤول بريطاني قائلا  " إن بريطانيا شعبا وحكومة رأت في المربع البريطاني إنجازا عسكريا خارقا ونموذجا للتفوق العسكري , وكونه ينهار أمام هؤلاء  (الدراويش) يعتبر أمرا أشبه بالخيال -    British army and its public saw the square as and almost legendary symbol of its supremacy . That it might be broken was unthinkable" . هذه البسالة وهذه الشجاعة من المحارب البجاوي لم تترك في نفوس البريطانيين ضباطا وجنود غير الإشادة والتمجيد  كما  رفعت الحرج عن  كيبلينغ  ليخلدهم بقصيدته المشهورة فيزي ويزي  التي ختمها بالأبيات التاللية ( ترجمة محمد عبد الله شلية) :

 

          لم يحرك الغزاة فيه غير نفرة إحتقار

          لذا نزجي إليك مدحا في بلادك السودان

          فأنت في الحياة معدم وجاهل

ولكن في الحروب قمة الفخار

نهديك ها هنا تحية يا أشعث الإهاب

يا من حكي وعاء التبن رأسه الدهين بالغبار

وأنت الأسود الوثاب الساغب الحشا

لأنك اقتحمت صف الإنجليز في اقتدار

 


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات و تحليلات
  • تشارلز تيلور يكتب من لاهاي هاشم بانقا الريح*
  • تنامي ظاهرة اغتصاب الاطفال ...! بقلم / ايـليـــا أرومــي كــوكــو
  • مؤتمر تمويل التنمية/د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
  • بين مكي بلايل والعنصرية والحركة الشعبية /الطيب مصطفى
  • قالوا "تحت تحت" الميرغنى ماااااا "داير الوحدة"/عبد العزيز سليمان
  • الصراع الخفي بين إدارة السدود والمؤتمر الوطني (4-12) بقلم: محمد العامري
  • قواعد القانون الدولى المتعلق بحصانات رؤساء وقادة الدول/حماد وادى سند الكرتى
  • هل يصبح السيد مو ابراهيم حريرى السودان بقلم: المهندس /مطفى مكى
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • الجدوي من تعديل حدود اقليم دارفور لصالح الشمالية/محمد ادم فاشر
  • صلاح قوش , اختراقات سياسية ودبلوماسية !!؟؟/حـــــــــاج علي
  • أبكيك حسن ساتي وأبكيك/جمال عنقرة
  • نظامنا التعليمي: الإستثمار في العقول أم في رأس المال؟!/مجتبى عرمان
  • صندوق إعادة بناء وتنمية شرق السودان .. إنعدام للشفافية وغياب للمحاسبة /محمد عبد الله سيد أحمد
  • )3 مفكرة القاهرة (/مصطفى عبد العزيز البطل
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان: الصادق حمدين
  • جامعة الخرطوم على موعد مع التاريخ/سليمان الأمين
  • ما المطلوب لإنجاح المبادرة القطرية !؟/ آدم خاطر
  • الجزء الخامس: لرواية للماضي ضحايا/ الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • مبارك حسين والصادق الصديق الحلقة الأولى (1-3) /ثروت قاسم
  • ماذا كسبت دارفور من هذه الحرب اللعينة !!/آدم الهلباوى
  • الأجيال في السودان تصالح و وئام أم صراع و صدام؟؟؟ 1/2/الفاضل إحيمر/ أوتاوا
  • النمـرة غـلط !!/عبدالله علقم
  • العودة وحقها ومنظمة التحرير الفلسطينية بقلم نقولا ناصر*
  • المختصر الى الزواج المرتقب بين حركتى العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان /ادم على/هولندا
  • سوداني او امريكي؟ (1): واشنطن: محمد علي صالح
  • بحث في ظاهـرة الوقوقـة!/فيصل على سليمان الدابي/المحامي/الدوحة/قطر
  • سقوط المارد إلى الهاوية : الأزمة مستمرة : عزيز العرباوي-كاتب مغربي
  • قمة العشرين وترعة أبو عشرين ومقابر أخرى وسُخرية معاذ..!!/حـــــــــــاج علي
  • لهفي على جنوب السودان..!! مكي المغربي
  • تعليق على مقالات الدكتور امين حامد زين العابدين عن مشكلة ابيي/جبريل حسن احمد
  • طلاب دارفور... /خالد تارس
  • سوق المقل أ شهر أسواق الشايقية بقلم : محمدعثمان محمد.
  • الجزء الخامس لرواية: للماضي ضحايا الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان أموم/ الصادق حمدين
  • رحم الله أمناء الأمة/محجوب التجاني
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • وما أدراك ما الهرمجدون ؟! !/توفيق عبدا لرحيم منصور
  • الرائحة الكريهة للإستراتيجي بائتة وليست جديدة !!! /الأمين أوهاج – بورتسودان
  • المتسللون عبر الحدود والقادمون من الكهوف وتجار القوت ماشأنهم بطوكر /الامين أوهاج