صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات : قصة و شعر English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


أفراح مايـو الأغـر/بقلم الشاعر السوداني/ حسن إبراهيم حسن الأفندي
May 25, 2007, 21:31

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

أفراح مايـو الأغـر

بقلم الشاعر السوداني/ حسن إبراهيم حسن الأفندي

[email protected]

http://hasanalafandi.blogunited.org

 

   ليس هذا خروجا على الإجماع الشعبي السوداني وتحديا لإرادته , حاشا , فأنا شاعره الذى غنى به ولـه , وهل كان مايو أغر  فى يوم من الأيام وهو الذى حول السودان سجنا مشاعا ودولة أمن وعسكر وقتل من قتل من الرجال وبالآلاف منهم من دفنوا فى مقابر جماعية فى الجزيرة أبا وهدم المسجد الجامع على جثث الآلاف بحي ود نوباوى المعروف شمال أمدرمان وقتل الضباط الأحرار الشباب الأقوياء وشرد العلماء وانتهى بقتله مفكرا إسلاميا سودانيا معروفا , فأي مايو الأغر هذا الذى أذكره وأحتفل به ما حييت ؟

 حكم نظام مايو بانقلاب عسكري آثم السودان منذ الخامس والعشرين من مايو 1969م وحتى السادس من أبريل  1985 , كمم فيها الأفواه وقتل كل ما هو جميل فى حياة السودانيين من قيم وأخلاقيات وانضباط إدارى ووظيفى كان مضرب المثل لكل العالم , أذل كبراءنا ورفع صغارنا ورجرجتنا ودهماءنا , وجمع حوله المطبلين والأقلام المأجورة لتجعل منه الخلاص والأغر واحتفاءً للقصاص ! وعجبى !!! وزور مايو كل شيء حتى وصف مقاومة السودانيين الشرفاء عام 1976 بغزو المرتزقة الجائر للسودان , . سجن من سجن وحاكم من حاكم وقتل من قتل وما زال رأس النظام موجودا بقلب الخرطوم يتمتع بحياة كريمة رغم أن العالم يطالب بمحاكمة بنوشيه من أمريكا الجنوبية لقتله حفنة أفراد خلال فترة حكمه وما زالت أمريكا والمغرضون السياسيون العراقيون والدول التى تؤازر محور الشر الأمريكى البوشى وصقوره تضخم وتشنع بأسير كسير كصدام حسين وتطالب بمحاكمته بتهمة المقابر الجماعية , بينما هم يعلمون تماما أسباب تلك المقابر الجماعية التى يبرأ منها أو من كثير منها الأسير الكسير ويتورط فيها غيره وعلى رأسهم من غضوا الطرف عنها منذ سنوات طويلة ماضية , مثلما غضوا الطرف عن إبادة مايو لعشرات الآلاف من السودانيين لأنه كان حليفا مخلصا لماما أمريكا , ولكن ربك يمهل ولا يهمل , قتل النميري إمام الأنصار السيد الهادى المهدى ولم يتورع من الإساءة إليه حتى بعد قتله , فى خطاب له عبر الإذاعة واصفا لـه بأنه جبان يدعى القيادة , وقـتل الأستاذ العالم المفكـر السودانى محمود محمد طه بأسباب مختلقة تخـيّر لها من قضاة السلطة حيـنها من ينفـذون ما يريـد , تماما مثلما حدث للحجاج حينما قتل آخر من قتل من العلماء الصالحين  , كان عمر الرجل العجوز ستا وسبعين سنة عندما أعدم فى 19/1/1985 , فلم يدم حكم النميري بعد ذلك أكثر من ستة وسبعين يوما فقط حيث رمى به التاريخ فى مزبلته, ولعل فى ذلك برهانا ربانيا على أخذ الظالمين , أقول ذلك لا دفاعـا عن المرحـوم الأستاذ محمود محمد طه ولا إلماما محيطا بآرائه وتفكيره , فلم أكن أقرأ لـه كتبه ولم أهتــم بها يوما من الأيام , ولكن الحجر على الفكر بهذه الطريقة مرفوض ومن يستطيع أن يجزم بتكفير هذا أو ذاك ؟ وإن كنت على ثقة من أن المحاكمة التى جرت لـه كانت سياسية ظالمة لموقفٍ ظالم لرجل مظلوم أراد النظام التخلص منه بحجة ارتداده بما كان يتبنى من أفكار وتكفيره , ولعل صدق حديثى يرتكز على أن محكمة من قضاة الاستئناف المحترفين المحايدين نظروا فى الدعوى التى رفعتها أسرته عقـب انتفاضة أبريل للمطالـبة بإعادة النظر فى القضية والحكم عليه ميتا , ردا لاعتباره , فأصدرت المحكمة حكمها ببراءة المـرحوم .

  إذن لـم تكن هناك ثمـة أفـراح لمايـو ولا حقبته , ولم يكن مايو أغـر أبـدا , وإنما هـي ( أفراح ) سخرية من شعبنا تجاه الوضع لها مبرراتها كما سنذكـر لاحقا , أما أن يكون مايو الأغر على قلم رجل مثلى لم يصفق قط لمايو ولم يؤازره فى يوم من الأيام ولم يهتف باسم نميرى , بل وهجا الوضع هجاء مرّا داخل نفسه وبكل أشكال شعره , وكـــيف يؤيد وضعا قام على أكتاف من كان هــتافهم فى أول يوم للانقلاب المشــــئوم ( جعفر جعفر يا إسماعيل ) وسبحان الله يستبدلون الذى هو خير بالذى هو أدنى , بل أين هذا من ذاك الرجل المناضل النظيف الديمقراطى السلوك والمظهر والجوهر والحكم , إسماعيل مؤتمر الخرطوم عاصمة الصمـود إثـر النكـسة , زميل عبد الناصر الكرامة والشموخ وزميل فيصل العرب الحكيم الشجاع الشهيد , وإذا كان يؤخذ على إسماعيل الأزهري من شيء فهو إيمانه المطلق بالديمقراطية وكفالة حق التصرف والتعبير الحر لكل مواطن يؤيده أو يعارضه . كان لى الأب والرمز والمثال والقدوة , فلا يمكن أن أوافق من يعارضه أو يسيء إليه من قريب أو بعيد , ولقد هجرت السياسة والسياسيين بعد موته وما عاد للسياسة وزن فى نفسى ولا حياتى . وتقلب النميرى مع الشيوعيين حينا ومع القوميين حينا , حتى أصبح إسلاميا وقيل إنه ألف كتاباً أسماه : النهج الإسلامى لماذا ! ثم انقلب على الإسلاميين ووضع قياداتهم بالسجون حتى ذهب إلى غير رجعة منفيا فى الأرض لعشر سنوات .  

   ورغم ذلك يبقى مايو الأغر خالدا فى نفسى , أحتفى به كل عام , فقد ولد ابنى الأكبر الدكتور إبراهيم صباح الخامس والعشرين من مايو الأغر 1973. تاريخ ميلاد أسأل الله أن تدوم ذكراه طويلا طويلا وتعود كثيرا كثيرا .

   بدأ الانهيار الاقتصادى والتضخم والفقر والتخطيط العشوائى بوصول مايو إلى الحكم , وبـدأ شح الموارد وأساسيات الحياة وبدأ تدهـور الخدمات وتدنى مسـتوى الحيـاة , والانقطاع المتواصل للكهرباء وماء الشرب عن الأحياء السكنية فى بلاد نهـر النيل والنيلين الأبيض والأزرق , حتى أضطر إلى أن يتولى بنفسه وزارة الكهرباء أو الوزارة التى تُعنى بها ولا أدرى ما اسمها , فقد كانت تُغيّر مسميات الوزارات وتنشأ وزارات جديدة وتدمج أخرى بين حين وآخر ليشغلوا الجماهير بتغييرات لا تضر ولا تنفع ولا تغيّر من واقعهم شيئا , ولعله اعتقد أن الثورة المضادة وراء انقطاع التيار الكهربائى وهو الساحر حلال المشاكل , كان الفرد المطلق بلا أدنى منازع , يكسو العريان ويطبب المريض ويشفيه ويسقى العطشان ...كما يكتب شعرا المنافقون والعياذ بالله , وبتوليه مرفق الكهرباء , انقطعت الكهرباء لأكثر من أسبوع دفعة واحدة  , حتى قال شعبنا ( اللى يمسـك الكهـرباء تقتله , ولكن نميرى مسك الكهرباء فقتلها ) !

  وجثم مايو على صدرنا كثور فى مستودع خزف ,خلق لنا وضعا صعبا , ومن ضمن معاناتنا كانت المواد البترولية وعلى رأسها البنزين , وقود سياراتنا , كانت شحيحة جدا ولا يملك السودان رغم إمكاناته الضخمة من توفير العملة الصعبة لشراء البترول ومشتقاته , كانت محطات الخدمة خالية تماما من أي بترول , وصفوف السيارات بالآلاف فى صفـوف متراصـة طويلة جدا نمكث فيها أياما بليلاتها , فربما وصلت شاحنة بنزين ( تانكر ) إلى محطة خدمة مرة واحدة أسبوعيا , ونذهب إلى المجالس البلدية وندفع رسوما لأخذ دفاتر عن حصص محددة بأربعة جالونات بنزين أو ثلاثة أو اثنين عن الأسبوع بكامله , وما نلبث أن نسمع بأن الحصة ونظام الدفتر الذى يحوى عددا من التذاكر عن حصة الأسبوع قد غُير بدفتر آخر وعلينا الذهاب ثانية لدفع رسوم وشراء تذاكر أخرى , وكلما حصلنا على حصتنا من البترول نقطع التذكرة ونسلمها لعامل محطة خدمة البترول لتكون ورقة ثبوتية يقدمها لمن يأتون للتأكد تفتيشا عن انضباط محطات خدمة البترول , هـذا بجانب رجال الأمـن الاقتصادى الـذين يحضرون تـوزيع البترول من البـدايـة حتى النهايـة وحتى يفرغ مخزون بترول محطة الخدمة تماما .

   وكنا كلما حصلنا على حصتنا من البنزين أسبوعيا , نخرج من محطة الخدمة فرحين جدا ومبسوطين , ونرفل بسياراتنا على الطريق أو الشوارع ذات الحفر الكبيرة , فى حرص وبخل ولا نفعل ذلك إلا لضرورة لا إشباعا لرغبة النفس فى الفسحة والتجول , ومن هنا فقد سخر شعبنا وأطلق على حصول الأفراد لحصصهم المحدودة جدا من البترول أسبوعيا بأفراح مايو ! كنا فعلا نفرح , فالكثيرون لا يرافقهم الحظ لينالوا حصصهم الأسبوعية فى هذه المحطة ويذهبون ليعسكروا مرة أخرى لأيام فى محطة أخرى وربما لا يحصلون أيضا على نصيب من المحطة الأخرى وربما لا يجدون بترولا ربما لشهر كامل , وهكذا كان الحال بالنسبة للخبز والسكر , وكلما حصلنا على شيء منها فرحنا وعشنا أفراح مايو , وتكون أفراحنا أكبر وأكثر إذا تيسر حصولنا أكثر على حصتنا من البترول , كانت تلمسنا الفرحة حتى ولو بعد معاناة أيام ! إنها إذن أفراح خلقتها مايو بظروف بائسة ومضنية , تطل من خلالها الفرحة , تطل الفرحة على الرغم منا ! وبالمناسبة استمر الحال كذلك حتى بعد ذهاب حكم النميرى لما ورثته الأحزاب الحاكمة من إرث مثقل بالديون الخارجية وخزينة داخلية مفلسة .

   ونحن فى صفوف البترول كانت تحدث قصص ونوادر ومواقف صعبة ومآكل , وذلك ما أكتب عنه اليوم . 

   كنا فى صفوف طويلة بإحدى محطات مدينة الثورة شمال أمدرمان قرب مقابر الشيخ أحمد شرفى , وكان أمام سيارتى مطرب سودانى معروف بسيارته المارسيدس , استأذن منى للخروج لقضاء أمر له يبدو أنه كان ملحا ثم يعود إلى حيث كان , كنت فى آخر الصف  وعندما عاد المطرب المغنى كان قد اصطف خلفى مئات السيارات , جاء الرجل فأفسحت لـه المجال ليكون ضمن الصف , ثار وهاج وماج من كانوا خلفى وتحمس البعض ووصلنى يلومنى ويوبخنى ويتهمنى بمحاباة الرجل ويصف الحالة ملصقا بها المحسوبية , لم تكن تربطنى علاقة خاصة أو معرفة شخصية بالمطرب ولـم أجامله حقيقة , أردت أن أشرح ذلك للجماهير الغاضبة الثائرة فلم أُصدق , وآثرت السلامة و السكوت حتى لا يتحمس أحدهم أكثر من اللازم وربما يصفعنى أو يضربنى ضربة لا أستفيق بعدها .

   وعلمت أن أحد أقاربى كان يقود حافلة وهو شاعر رقيق , ووجد محطة خدمة تصب بترولا للسيارات , فكر فى حيلة وقدّر , طلب من الكمسارى أو محصل النقود من الركاب أن يرقد ويتمدد وغطاه بثوب أبيض , ثم ذهب إلى المحطة وأخبرهم بأنه يحمل ميتا وليس عندهم بترول ويريد أن تصل الجنازة إلى ضاحية من ضواحى الخرطوم فى أسرع فرصة , صدقه شعبنا الطيب وأفسحوا لـه المجال ليصل إلى البترول بسهولة ويسر ويأخذ ضعف الحصة المقررة من البترول فالأفضلية للميت وسـتر الجنازة واجب , وقاد الحافلة يملؤه الزهـو والسرور والفرح ونهض الكمسارى حيا من جديد ضاحكا من الموقف الذى مرّ ببساطة على الصفوف المتراصة , لا ضاحكا من تزاحم الأضداد بلحد كما يقول صديق عمرى أبو العلاء المعرى .

  وكانت أحـيانا عـلى ما يبدو تعـقد صفقات بين عامل المحطة ورجل الأمـن الذى يراقبه , يغض رجل الأمن الطرف عن المخالفات التى يقوم بها عامل المحطة مقابل مبلغ نقدى من المشترى لا يزيد عن الجنيه أو نصف أو ربع الجنيه , ليزيد المشترى جالونا أو جالونين وربما يضاعف لـه الحصة أو يتغاضى عن طلب كوبون الحصة ليستفيد به المشترى فى محطة خدمة أخرى , وفى النهاية يتقاسم المجرمان المبلغ المتحصل عليه من الرشاوى , ومصائب قوم عند قوم فوائد !

   ولما كانت القصة لا تزيد عن ذكريات ومعايشات يومية , أذكر أنى أضطررت للعودة ظهرا لمنزلى منهكا من طابور البترول وبعد ذهابى إلى أحد المخابز لأخذ مائة رغيف تجهز لى يوميا بوساطة أحد تلاميذى الذى يملك والده المخبز , فقد كنت لا أجد أن أشترى خبزا لشهر كامل ربما وأعيش على ما يجود به علي من حولى من المقربين من الأهل , وردا لجميلهم لما وجدت وسيلة للحصول على الخبز بيسر ودون وقوف فى صف أو انتظار وإنما يأتينى الخبز جاهزا يحمله أحد العمال من الباب الخلفى للمخبز إلى سيارتى مباشرة , فقد بدأت اشترى لهم حصتهم مع حصتى لأريحهم من القيام فجرا والذهاب لصفوف المخابز , وبمجرد وصولى المنزل أخبرنى ابنى الوحيد يومها وكان صغيرا أن زوج خالته مريض بالمستشفى , كنا نسكن سويا فى منزل واحد عدة سنوات , ولم يكن أمامى بد من ألا أدخل المنزل وأن أتوجه فورا للمستشفى , كان يشكو من ربو حاد شفاه الله وعافاه منه , وجدت حالته متأخرة , أسرعت بسيارتى وأحضرت أحد الأطباء من معارفى للإشراف على علاجه والعناية به , لم يكن يظهر تحسنا يذكر وإنما العكس صحيح , اقترحت أخذه إلى مستشفى الخرطوم التعليمى حيث كان يعمل قبل التقاعد الاختيارى به وله زملاء ومعارف ربما أفادوا , وفى الطريق كانت زوجته تبكى بحرقة , وذهبت عدة سيارات تحمل الأهل والأقارب  , الحالة خطيرة , فى الطريق علـمت من الأخ الذى كان يحمـل المريض أن حالته تتأخر بسرعة , قررنا فى الطريق بدلا من الذهاب إلى الخرطوم النزول به إلى مستشفى أمدرمان , حملته رغم نحافة جسدى وكان ثقيل وزن علي وأخذته من السيارة إلى الطابق الأول حيث الحجرة المفـترض أن يرقـد بها , تعبت جدا , وتشاورت مع أخ لنا آخر ( عديل ) مات فجأة فى أبريل الماضى بذبحة قلبية , أن نذهب سويا لاختصاصى عيون كبير ويعمل مديرا لمستشفى النهر التخصصى للعيون والمشهور على مستوى لا بأس به عالميا , وذلك الاختصاصى ابن عم شقيق للمريض لنقترح عليه أن يحضر لنا اختصاصيا كبيرا ممن يستقبلون عشرة مرضى كل مساء مقابل عشرة جنيهات عن كل مريض , مبديا استعدادى لأن أدفع لـه من حر مالى مبلغ المائة جنيه كاملة مقابل تركه زبائنه المرضى وعلاج مريضنا , وخرجنا من مستشفى أمدرمان لتنفيذ المقترح ولكنى فوجئت بلافتة كبيرة مقابل المستشفى تحمل اسم ابن أختى اختصاصى أمراض النساء والولادة , وعيادته مازالت فى نفس المكان وإن تغير مسـماه من اختصاصى إلى كــبير استشاري أمراض النساء والولادة , دخلنا فورا إلى العيادة وطلبت من سكرتيرته أن أقابله فلم تستجب على الفور , لم أتردد وذهبت إلى حجرة الطبيب فأراد منعى عامل يقف قريبا من بابه , أذكر أنى انتهرته وأمسكت بقفل الباب لأفتحه وأقول له : هذا هو الطبيب وعليه أن يقرر استقبالى من عدمه , سمعنى الطبيب فى الداخل فقال : أهلا يا خال , ما الأمر ؟ أخبرته بأن أخانا فلان على سرير الموت وعليه أن يفعل شيئا , إما أن يأتى لنا بطبيب اختصاصى ـ وذكرت لـه اسمين شهيرين هما الدكتور النور عبد المجيد أو الدكتور السر عبد الماجد ـ وأبديت استعدادى لدفع حصيلتهم المالية عن ذلك المساء , كنت متحمسا متألما , أجابنى بأن الموضوع يتصل بأخلاقيات المهنة والالتزام تجاه مرضاهم والمال ليس بذى موضوع , وأضاف أنه سيذهب بنفسه للوقوف على الحالة , استأذن مرضاه من النساء طبعا لدقائق وخرج معى مهرولا للمستشفى , وسبحان الله فقد وجدنا المريض الساجد قد جلس متربعا على سريره فى غير وعي يهذى , أسر إلي الطبيب بأن الحالة إما التهاب سحايا شتوى أو ملاريا , أجرى كشفا مبدئيا بصعوبة على المريض العنيف الهاذى فقرر أن التوقع الأول غير محتمل , طلب قطعة زجاج وأخذ عينة من الدم لفحص الملاريا بمختبر عيادته , وكانت النتيجة أن الملاريا فاعلة إيجابية , كتب لى الوصفة الطبية العاجلة للطبيب العمومى المناوب لتنفيذها فورا قبل أن تصل الملاريا إلى المخ فتكون الفائدة من العلاج بنسبة الصفر , وأمسكنا بالمريض وأخذت السقاية وبها الدواء تسرى فى جسده , هدأ ثم نام . يبدو أن المعالجة للربو وتهيج الربو نفسه أضعف جسد الرجل ومقاومته فظهرت أعراض الملاريا , ومن ذلك اليوم بدأ الأطباء يجنحون إلى الكشف عن الملاريا منذ البدايات المبكرة مهما كانت الحالة المرضية مستفيدين من ذلك الموقف . الطريف فى الأمر أن من بين المرافقين للمريض من الأهل لحضور وفاته , حاجتان طاعنتان فى السن , تنام إحداهن فتعلق عليها الأخرى : أهي جاءت هنا لتنام ؟ ثم تنقلب الآية تصحو الأولى وتنام الثانية ويتكرر التعليق من الأولى على الثانية النائمة , ونام المريض أيضا نوما عميقا , صحا من النوم حوالي الساعة الواحدة صباحا وسأل عن مكان تواجده فأخبرناه بمعاناته وما حصل وأن الدكتور فلان حضر واكتشف مرضه ثم عاده ثانية بعد العيادة فى الحادية عشرة مساء واطمأن عليه وذهب . فى الصباح الباكر قامت الحاجتان لصلاة الصبح وسألت إحداهن : محمد صالح بقى كيف ؟ أجبنا أنه أصبح بخير منذ منتصف الليل وهو الآن بخير تماما وزالت الخطورة , وبدون أن تشـعـر وبتلقائية قالـت : يا خسارة تعبنا ونومنا بدون فائدة ! وكأنها كانت تريد لـه الموت بينما الأمر غير ذلك , كانت تعتقد أنه ميت لا محالة ولذلك قررت وزميلتها النوم بالمستشفى , ولكنه لم يمت وخانها التعبير الذى أصبح حكاية وسالفة تروى حينا إثر حين ربما للتسلية والضحك , تأريخ ما أهمله التاريخ وتخطاه . رحم الله الحاجتين .

   والحديث يدور عن السيارات ومعاناتها وبترولها وخدماتها ونجدتها , ولكن لها مواقف تجعل الولدان شيبا !

   كنت أقود سيارتى الفلكسواجن الألمانية التى صممت على شكل قبعة هتلر , كنت مسرعا على شارع الزعيم الأزهرى وعبرت جسر نهر النيل متجها من أمدرمان إلى الخرطوم بحرى فى طريقى إلى وزارة التربية والتعليم بالخرطوم , وبقيت على مقربة من دوار ( الملتقى ) المزدحم جدا بالسيارات والشاحنات والمارة إذ يربط بين شارعين هامين , الزعيم الأزهري وشارع المعونة , فأردت أن أخفف السرعة لأتوقف عند الدوار خلف السيارة التى أمامى لنفسح المجال للسيارات القادمة من اليسار حسب قوانين الحركة , وإذا بكابح الفرامل ينكسر ويقع تحت قدمى على أرضية السيارة , كانت تجربة مريرة , كيف يتسنى لى أن أُوقف السيارة , لم تكن هناك وسيلة , بدأت استعمل الهـورن أو آلـة التنبيه وعجلة القيادة وأدور كالثعبان فى شكل خط سـير متعـرج ( زقزاقى ) , وأصـيح لهذا أو ذاك أن يبتعد عن طريقى , استطعــت بصعوبة أن أدور يمـينا من الدوار وأدخل شـارع المعـونــة ثم أعـرج يمينا خارجا من شارع الــقـار ( الأسفلت ) , أوقفت دوران المحرك بعد أن جعلت عصا الجير بوكس على الرقم الأول لتخفيض السرعة إلى أدنى مستوى لها , بدأت السيارة تتدحرج ببطء وفى مواجهة شاحنة كانت تفرغ حمولة طوب محروق أو طوب أحمر كما يقولون ,تأكدت أن لا محالة من الاصطدام بتلك الشاحنة ولكن إرادة الله شاءت أن تمر سيارتى بمنخفض من الأرض غير عميق وتتوقف تماما , تنفست الصعداء وحمدت الله , نزلت من السيارة وجسدى كله يرتجف , تدبرت الأمر ووجدت ضمن ما أحمل بعض أدوات النجدة بسيارتى , حابسة يمكن استخدامها لإعادة الكابح إلى مكانه والإبقاء عليه على الأقل لحين وصولى إلى الجراج , أصابتنى حمى فى جسدى أحسست بها , ووصلت الجراج وأنا أقود السيارة بحذر شديد وحرص بالغ وخوف لا حدود لـه , وأذهلنى أن الميكانيكى أخطرنى بأن الحابس الذى استخدمته مصنوع خصيصا لهذا الغرض وهو أصلي الصنع ولا داعى لإعادة  السلك اللولبي SPRING))الذى كان يمسك الكابح وانكسر من طرفه القابض .

   ذلك يذكرنى بموقف آخر مماثل , كنت مسرعا بسيارة يابانية لم تكن جديدة , فقد اشتريتها مستعملة , وأنا أتخطى إحـدى السيارات علق على سرعـتى ركاب تلك السيارة , يبدو أنهم لم يصلوا على الرسول وهم يبدون إعجابهم بسرعتها , أصابت عين أحدهم والله أعلم الســـــيارة , ولا غـــرابة فى ذلك وحتى الإنجلـيز يعتقدون فى ذلك بدليل (an evil eye) , المهم وجدت مصاص الصدمات الأمامى الأيمن والذى يرتبط به العجل الأيمن الأمامى (shock absorber) ويُربط بجسد السيارة بصحن بلاستيكى قوى , كل ذلك خارج صندوق السيار , حاولت استخدام الكوابح فلم أجد أنها تعمل ولامست السيارة من الأمام الأرض وكنت على قمة صعدة عير مرتفعة كثيرا عن مستوى الأرض , ملأنى الخوف ووصلتنى السيارة التى تخطيتها وأخذتنى إلى المدينة وتركت سيارتى ريثما يصل الميكانيكى ويشترى قطع الغيار الضرورية, وفى صباح اليوم التالى أخبر أحد زملاء ابنى بالمدرسة , ممن علقوا على سرعة سيارتى , بأنهم ربما سحروا سيارة أبيه !

   المهم الآن أصبحت تلك السيارة فى ذمة الله بعد أن صدمها شاب لا يعرف القيادة ناهيك عن حذقها وكاد يقتلنى وأنا أقودها , واضطررت مكرها لإرسالها لمزبلة البلدية لتحرق ضمن ما تحرق من مخلفات , ولسان حالى يقول :

خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا        لفارقت شيبى موجع القلب باكيا

كلام شعراء , فلعمرى لو رجع إلي الصبا لاستقبلته بالأحضان فرحا أهديه أجمل شعرى , فلا فرح ولا غبطة بالشيب , هو حزن ونذير موت وقِدم لا أكثر ولا أقل , ويبدو أننى تعرضت فى موقف سابق إلى أقوال شعراء يذمون الشيب وكيف أنه حرمهم من متعتهم وجعل الحسناوات يبتعدن عنهم .

   رضينا أم أبينا نرحل وتبقى آثارنا وذكرياتنا .


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

قصة و شعر
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • عصفور يا وطن د.امال حسان فضل الله
  • حيرة/أحمد الخميسي
  • لغة العيون/ هاشم عوض الكريم
  • أحلام يقظه/هاشم عوض الكريم – بورتسودان
  • صديقي المصاب بمرض الايدز سيظل صديقي بقلم / ايليا أرومي كوكو
  • مشتاق/محمد حسن إبراهيم كابيلا
  • شكل الحياة/ ياسر ادم( أبو عمار )
  • قصة قصيرة " شجرة اللبخ تحاكى النحل " بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • المفلسون بقلم الشاعر السوداني/ حسن إبراهيم حسن الأفندي
  • بدرويش توفي ألف شاعر/كمال طيب الأسماء
  • انهض بقلم الشاعر السوداني / حسن إبراهيم حسن الأفندي
  • لو بتحب بلادك جد!/الفاضل إحيمر/ أوتاو
  • قراءةُ اللّون إلى:- أحمد عبد العال/شعر:- عبد المنعم عوض
  • عايز أقول أنو الكلام القلتو دا/د. شهاب فتح الرحمن محمد طه
  • قصة قصيرة " الجــمـــــــــل " بقلم: بقادي الحاج أحمد
  • غــانــدى/أشرف بشيرحامد
  • ما أظنو ../محمد حسن إبرهيم كابيلا 30
  • دموع طفلة بريئة- أنوريوسف عربي