الــدوام للّــه
كان عدد من الموظفين يعملون في أحد المكاتب التجارية في إحدى الدول الخليجية، كان جوُّ الجدية يخيم على ساعات الدوامين الصباحي والمسائي في ذلك المكتب المترامي الأطراف، فلا تُسمع إلا طقطقة طابعات الكمبيوتر وخشخشة ماكينات الطباعة ولا تُشاهد إلا التعابير الجادة المرتسمة على وجوه تغضنت جباهها من فرط التركيز، لكن من وقتٍ لآخر، كان يتسلل إلى المكتب جوٌّ من المرح عندما تنجح طرفة ما في إطلاق بعض الضحكات الصاخبة، بيد أن ذلك الجوّ الوافد كان يصمد للحظات قليلة ثم ينسحب بسرعة مفسحاً المجال أمام جوّ الجدية ليعود ويبسط سيطرته من جديد بشكل أقوى وأبلغ أثراً!
ذات صباح، أخذ بعض الموظفين يتحدثون بهدوء حول بعض قضايا العمل المعتادة ثم علت أصواتهم بصورة مفاجئة حينما نشب بينهم نقاش عاصف حول نظام الدوام!
قال أحدهم باستياءٍ بالغ: لا أعرف الحكمة من اتباع نظام الدوامين، فالمرء يقبع كل صباح أربع ساعات في مكتبه ثم يغادره عند منتصف النهار ليصل إلى منزله عند الواحدة ظهراً، يتناول على عجل ما تيسر من غداء ثم يغادر منزله دون أن ينعم بأي قسط من الراحة ليصل إلى مكتبه عند الساعة الرابعة عصراً لمواصلة الدوام المسائي، وحينما تنتهي دوامة الدوام اليومي، يعود المرء إلى منزله خائر القوى بحيث يعجز في أغلب الأحوال عن ملاطفة زوجته أو مداعبة أطفاله أو تفقد جيرانه! وهكذا يتكرر هذا المسلسل اليومي دون رحمـة، والنتيجة هي أنه مقابل إشباع بعض الحاجات المادية يفقد المرء الكثير من المشاعر الإنسانية الدافئة، فيعاني من تفكك عاطفي وعدم تواصل إجتماعي، فلماذا لا تؤخذ الاحتياجات الإنسانية الأساسية في الاعتبار ويتم العمل بنظام الدوام الواحد؟!
عقّب موظف آخر بقوله: يا سيدي، يجب أن تحمد الله على نظام الدوامين، فقد أكدت الأبحاث الطبية المعاصرة أن العمل بنظام الدوام الواحد، الذي يتطلب عادةً الجلوس في مكان واحد لساعات طويلة، يتسبب في الكثير من الأمراض المزمنة أخفها وطأة آلام الظهر الحادة التي عجز الطب الحديث عن اكتشاف أي علاج لها!
تدخل موظف ثالث في الحديث ثم علّق قائلاً: أنا شخصياً أعتقد أنه لا خير في هذا ولا ذاك، فنظام الدوام الواحد ونظام الدوامين يتساويان في الشر إلى درجة أنه لا يُمكن المفاضلة بينهما على أساس نظرية أهون الشرين، والسبب واضح وبسيط، فالعمل في حد ذاته، أياً كانت طبيعته، شيء روتيني وممل إلى أبعد الحدود، بل هو مجرد إقامة جبرية يومية في مكان واحد تُشاهد فيه نفس الوجوه، تُؤدى فيه ذات الأعمال وتتحقق من خلاله عين النتائج، ولولا الحاجات الماسة لأضرب الجميع عن العمل دون إبداء أي أسباب، وهذا بالضبط ما عبر عنه أحد المقيمين عندما قال: (قاتل الله الدوامات لقد أفسدت علينا الإغتراب!) وعندها تفجرت قهقهة جماعية مدوية تسللت عبر الأبواب المواربة ومن أسفل الأبواب المغلقة إلى مكتب المدير وجعلت حاجبيه الكثيفين يرتفعان بشدة من فرط الدهشة!
استطرد الموظف قائلاً: دعوني اتحفكم بهذه الطرفة التي رواها لي أحد المنتمين إلى قبيلة الموظفين حيث قال: يحكى أن خيّاطاً من إحدى الدول الأفروعربية قد حقق حلم حياته واغترب في إحدى الدول التي تُغلق فيها جميع المحلات التجارية في ساعات الصلاة ويتعرض فيها المخالفين إلى عقوبات صارمة، بعد شهر واحد فقط من الاغتراب، عاد الخيّاط إلى بلاده وسط دهشـة الجميع، وعند وصوله إلى المطار استقبله عدد من أقرباءه وأصدقاءه، تم تبادل التحايا والأشواق الحارة ثم سأله أحد زملاء المهنة وهو في غاية الاستغراب: لماذا عدت سريعاً هكذا من ديار الغربة هل اغتنيت في شهر واحد أم ماذا؟!
رد الخيّاط قائلاً: صدق أو لا تصدق، إنني لم أتمكن من خياطة جلباب واحد طيلة مدة اغترابي فقد كنت أعمل بنظام الستة دوامات في اليوم الواحد فما إن أشرع في العمل حتى يؤذن الأذان فاٌقوم بإغلاق المحل على الفور وأركض إلى المسجد خوفاً من الوقوع في قبضة المطوعين، لقد احتجت إلى أسبوع كامل لأخذ مقاس الجلباب، وأسبوع آخر للتفصيل، خمسة أيام لخياطة الياقـة، خمسة أيام لخياطة الكُمّ الأيمن وخمسة أيام أخرى لخياطة الكُمّ الأيسر ولم أتمكن قطّ من خياطة خطوط الطول، خطوط العرض والخطوط الكنتورية ولولا تمكني من الافلات بشكل نهائي من تلك الكماشة السداسية، لظللت معلقاً في الخيوط الأخطبوطية إلى يوم يبعثون، دوام أيه يا جماعة، الدوام لله!
فيصل الدابي المحامي
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة