حزب البعث العربي الاشتراكي أمة عربية واحدة
قيادة قطر السودان ذات رسالة خالدة
دخول اتفاقات نيروبي حيز التنفيذ
والمهام التي تطرحها المرحلة
وسط محاذير متزايدة ، أبرزها اعتبارها محصلة للتدخل الأمريكي في السودان ، والذي بدأ مع ما عرف بمهمة دانفورث ، والتي وضعت البلاد طوع متطلبات المصالح الأمريكية ، وفق الرؤى التي انتهى إليها مركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن ، دخلت اتفاقية نيروبي لإيقاف الحرب حيز التنفيذ ، منذ التاسع من يوليو 2005 بسريان الدستور الانتقالي الذي غيّب عنه الشعب . ومن أهم تلك المحاذير ، التي لم تأبه بها أطراف الاتفاقية ، ما رافقت عملية التفاوض منذ بداياته في مشاكوس ، وما تبعها من جولات للتفاوض ، انتهت بالبروتوكولات الست التي تشكل تلك الاتفاقية ( بروتوكول مشاكوس الإطاري ، اتفاقية قسمة الثروة ، اتفاقية قسمة السلطة ، اتفاقية المناطق الثلاث ، اتفاقية الترتيبات الأمنية ووقف إطلاق النار .. ) . وقد تمثلت في الآتي :
أولاً : الطابع الثنائي للتفاوض بين طرفين لا يمثلان كل شعب السودان في الجنوب وفي الشمال ، مع استبعاد وإقصاء القوى السياسية الأخرى ، وبالنتيجة التي أفضى لها كشراكة بين طرفين .
ثانياً : إن عملية التفاوض لم تغطي كل قضايا السودان ، وإنما محصورة بأجندة الطرفين المتفاوضين ورضى الراعي الأجنبي ، الأمر الذي أنتج اتفاقاً جزئياً ، أبعد ما يكون عن السلام الشامل ، الذي تتطلع إليه جماهير شعبنا ، بدليل استمرار الحرب في غرب السودان والاحتقان والتوتر في شرقه .
ثالثاً : الدور المحوري للقوى الخارجية ، خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية في الإشراف على عملية التفاوض ، ودفعها إلى مآلاتها النهائية ، أفضى إلى تزايد الطابع التدويلي للمسألة السودانية برمتها ، وأفسح المجال واسعاً للتدخل الأجنبي في شئون السودان الداخلية .
حزب البعث العربي الاشتراكي ، من منطلق التزامه المبدئي بضرورة تحقيق السلام العادل والدائم والشامل في السودان ، عبر تسوية ديمقراطية لقضية جنوب السودان ، يرى أن توجه طرفي الحرب نحو وقف الاقتتال ، والجلوس إلى مائدة التفاوض ، هو تطور أملته معطيات الميدان إلى جانب الظروف الدولية المحيطة وهو ما سيعكس نفسه لاحقاً في مدى وجدية تعامل الطرفين مع مقتضيات ومستلزمات تعزيز وقف الحرب ، عبر التحول الديمقراطي ، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية ، وخلق تنمية متوازنة حقيقية ، وصيانة وحدة السودان وسلامة أرضه واستعادة سيادته المنقوصة بالاتفاقات . فاستنزاف قدرات طرفي الحرب عبر 15 عاماً من الاقتتال إلى جانب قدرات الأطراف الخارجية الداعمة لاستمرار الحرب ، كان هو العامل الرئيسي لوقف الحرب ، وليس إرادة السلام ، ولتحول أبطال الحرب إلى أدعياء للسلام !! لذلك تبقى ديمومة وقف الحرب واستمراريتها مرهون بإرادة السلام المتوفرة لدى جماهير الشعب السوداني ، التي عانت من ويلات الحرب ، وليست بإرادة أطراف الحرب التي فرض عليها إيقاف الحرب فرضاً من الخارج . ويتحمل حزب البعث العربي الاشتراكي ضمن غيره من القوى الوطنية والديمقراطية ، مسؤولية تعزيز وقف الحرب وفتح كوة حقيقية للسلام ، بالتحول الديمقراطي ، وبالدفاع عن الوحدة الوطنية ، وعن السيادة الوطنية في مواجهة الوصاية الأجنبية ، وفي إعطاء السلام مضمونه الملموس المتمثل في إشراك الشعب لإقرار الوقائع على الأرض ، وترقية الحياة الاجتماعية والاقتصادية لمجموع أبناء شعبنا في الجنوب والشمال . وفي التنبيه المستمر والدائم لمخاطر وسلبيات اتفاق نيروبي وجوانب القصور فيه ، والتأكيد على موقفه الثابت من الدعوة لمؤتمر دستوري جامع ، لتأكيد إرادة ورؤية شعب السودان في السلام العادل والدائم والشامل .
إن استمرار النهج الإقصائي ، غير الديمقراطي ، الذي وسم مفاوضات مشاكوس / نيفاشا ، عبّر عن نفسه مرة أخرى ، في الدستور الانتقالي ، الذي يضع اتفاقات نيفاشا / مشاكوس موضع التنفيذ . فعلى الرغم من الدعوات المتصاعدة للوفاق والإجماع الوطني حول الثوابت الوطنية والوحدة الوطنية ، إلا أن أطراف اتفاقية نيروبي ، تمسكت بموقفها الثابت بإبعاد القوى الوطنية من المشاركة في صياغة الدستور الانتقالي وبما يجعله معبراً عن روح الإجماع الوطني ، مثلما فعلت من قبل بإعطاء الاتفاق منزلة تعلو ولا يطالها الدستور . ويؤشر هذا الموقف ، واحداً من أهم المحاذير التي تكتنف عملية السلام الأمريكي المفروضة على السودان ، وتتمثل في الموقف المعادي للديمقراطية والتعددية السياسية . ويتجذر هذا الموقف في أن طرفي الاتفاق ، الحكومة والحركة ، لا يستندان إلى تفويض شعبي أو مشروعية شعبية ، بقدر استنادهما على القوة العسكرية ، إلى جانب افتقار الطرفين إلى أي التزام ديمقراطي أصلاً ، وهو ما يمكن أن يرهص بإمكانية تحول الحكم في المرحلة الانتقالية إلى نوع من الدكتاتورية برأسين .
وإذا كانت لا تتوفر حتى الآن ، أي مؤشرات لتحول نظام الإنقاذ إلى نظام ديمقراطي بفعل اتفاقية نيروبي ، كما لا يوفر الدستور الانتقالي أي ضمانات لمثل ذلك التحول ، فإن هناك ما يؤشر لإمكانية قيام نظام استبدادي من الحكم في جنوب السودان ( نظام الحزب الواحد ) يتحالف مع الإنقاذ في الشمال ، لتكريس الدكتاتورية المشار إليها . فالقرارات الأولى التي أصدرها رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد تسلمه لموقعه كنائب أول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب ، إنفاذاً للدستور الانتقالي ، أثارت ردود فعل واسعة ، خاصة في أوساط الجنوبيين لجهة تنكبها طريق الشورى والديمقراطية . بل إن قرار رئيس الحركة بحل قيادة الحركة ، والذي يماثل قرار الترابي بعد انقلاب 30 يونيو 89 ، يكرس تركز السلطات في يد فرد واحد رئيس للحركة ونائب أول لرئيس الجمهورية ورئيس لحكومة الجنوب وقائد عام لجيش الحركة .
وكما تملصت قيادة الإنقاذ من أي التزامات فعلية لتحقيق الإجماع الوطني ، كما تجسد ذلك في تفاوضها مع التجمع الوطني وغيره من القوى السياسية ، فقد سار قادة الحركة الشعبية على ذات النهج فيما يتصل بالعلاقة مع القوى الجنوبية الأخرى ، السياسية والعسكرية . وتثير مسألة الفصائل العسكرية الجنوبية ، التساؤل والشكوك حول جدية المؤتمر الوطني في التقيد بالتنفيذ الحرفي لاتفاقية نيروبي ، إذ أن اتفاقية الترتيبات الأمنية لا تترك أي مجال للمناورة حول تصفية المليشيات والفصائل العسكرية الجنوبية ، غير إمكانية انضمام أفرادها لأحد جيشي الطرفين . ويدعم المؤتمر الوطني ، هذه المناورة التكتيكية تحت مظلة ما يسمى بالحوار الجنوبي / الجنوبي ، والذي يفترض أن يتم بين قوى سياسية وليس فصائل مسلحة . ويمكن ملاحظة العديد من التكتيكات التي يتبعها المؤتمر الوطني في هذا السياق ، والتي تخلو من حسن النية إزاء عملية السلام الأمريكي المفروضة على الطرفين ، وهي تكتيكات تدخل في إطار ترتيب الوضع تحسباً لصراعات لاحقة تحت عنوان الشراكة مع الحركة ، أهمها تحويل عدد كبير من الشركات الحكومية والموارد المالية المملوكة للدولة إلى أفراد على علاقة بالنظام وبحزبه ، وليس من المستبعد في المقابل أن تتخذ الحركة إجراءات وترتيبات مماثلة ، بضوء ما توفر من خبرة في مجال تعامل المؤتمر الوطني مع أطراف اتفاقية الخرطوم / فشودة للسلام ، ومع أطراف الحركة السياسية الشمالية ، التجمع ، حزب الأمة ، المؤتمر الشعبي .. الخ .
إن وجود خلافات داخل أطراف الاتفاق ( الحكومة والحركة ) حول التفاوض ومجرياته ونتائجه ، هي حقيقة واقعة ، ويمثل تيار منبر السلام العادل ، التيار السلطوي الرئيسي المناوئ لاتفاقية نيروبي داخل الإنقاذ ، فيما يتوقع ، أن تعزز قرارات رئيس الحركة المشار إليها بلورة تيار معارض داخل الحركة عبّر عن وجوده في مؤتمر رمبيك الذي عقدته الحركة قبيل التوقيع على اتفاقية نيروبي ، وذلك إلى جانب المعارضة الجنوبية للحركة والتي تنطلق من منطلقات قبلية وجهوية وسياسية . ويتوقع ، بحسب الخبرات السابقة المشار إليها ، أن يعمل المؤتمر الوطني على استثمار كل تلك التناقضات في الساحة الجنوبية لإضعاف الحركة الشعبية رغم الشراكة بينهما . وفي غياب أي تقاليد ديمقراطية أو التزام ديمقراطي ، فإن الحركة لا غنى لها عن القمع لضمان السيطرة على الأوضاع في الجنوب وفي سياق من الصراع الداخلي مع حلفائه في الشراكة . لا تقتصر ضرورة القمع في المرحلة الانتقالية ، على تنظيم البيت الداخلي ، جنوبياً كان أم غير جنوبي ، فالقضايا غير المحسومة في الاتفاقية مثل قضية أبيي ، وغيرها من القضايا المعلقة والمستجدة ، خصوصاً الحركة المطلبية والشعبية ، التي تسعى لإعطاء
السلام مضمونه الحقيقي الملموس ، ستجعل من اللجوء للقمع والإرهاب أمراً لا مفر منه ، بالنسبة لقوى مفلسة تاريخياً ، ولا تهمها سوى مصالحها الضيقة .
أما بالنسبة لبقايا التجمع الوطني الديمقراطي فستجد نفسها في موقف لا تحسد عليه ، فإذا كان الهروب إلى أمام منذ عام 1990 بسبب العجز عن مواجهة واجبات المعارضة قد رمى قوى التجمع في أحضان الرهان على العامل الخارجي عبر الاستقواء بالحركة الشعبية ، فإن تجربة تفاوض واتفاقات الحركة / الإنقاذ قد أكدت أن التزامات الحركة بمطلوبات الأجنبي ومصالحها كحركة أقوى من تمسكها بالمواثيق التي عقدتها مع حلفائها في التجمع ، وهو ما عبر عن نفسه في الاتفاق الثنائي مع الإنقاذ ونسب الشراكة التي تعطيهما معاً 80% من قسمة السلطة ، الأمر الذي سيضع قوى التجمع أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما فض الشراكة مع الحليف السابق والرجوع إلى أحضان المعارضة الجماهيرية وبرنامجها المغيّب بكل ما تحمله هذه العودة من تبعات ، أو القبول بالقسمة الضيزى التي طرحتها اتفاقات الحركة / الإنقاذ ، حتى ولو كان ببعض التعديلات التي تحفظ لها بعض ماء الوجه . وكما لاحظ عدد من أقطاب تجمع الخارج أن الوسيط الأجنبي الذي ألقى بثقله لتحقيق اتفاق نيروبي ، لم يبد لا بالأصالة ولا بالوكالة نفس الحرص في لقاءات القاهرة بل وتحــول شريك وحليف التجمع ( قائد الحركـة) إلى ( وسيط ) في اجتماعات القاهرة . ويعتبر اتفاق القاهرة أحد عناوين اتفاق جدة الإطاري بل مولوداً طبيعياً لذلك الاتفاق التي حاولت في حينها أطراف التجمع الإدعاء بأنه لا يعبر عن موقفها – وهو ما ينفيه الإذعان والتوقيع على اتفاق القاهرة والذي وصفه أكثر من مشارك من التجمع بأنه ( ضعيف ) !!
إن تقديرات التحول الديمقراطي التي بنت عليها بعض قوى المعارضة موقفها المؤيد للاتفاقية أو المتفائل بها على هذا الصعيد ، أو محاولات ترقيعها دون تعديل تنفيها اتجاهات طرفاها لتقرير مصير السودان بصورة ثنائية استبدادية إقصائية ، رغم محاولات زر الرماد على العيون بحديث فضفاض عن المشاركة في السلطة الانتقالية والمفوضيات وفق النسب التي تضمن الأغلبية المطلقة لطرفي الاتفاق لتقرير مآلات السياسات والمفوضيات ، وبما يؤشر مطلوبات المشاركة الديكورية التي تجمّل الوضع الجديد ولا تتقاطع مع مطلوبات الراعي الأجنبي .
إن الرهان على التحول الديمقراطي الذي يمكن الشعب من الحفاظ على وحدته وسيادته واستقلاليته يتطلب التوافق مع :
1. استعادة الديمقراطية تقوم أولاً بالاعتماد على الشعب باعتباره وسيلة التحول الديمقراطي وغايته ، بتنظيم صفوفه وتصعيد نضاله .
2. استعادة الديمقراطية لن تتم إلا بالإرادة الشعبية السودانية وليس باستقطاب الضغوط الخارجية ومن ثم التدخل الخارجي في الشأن السوداني .
3. استعادة الديمقراطية تتطلب فرزاً واضحاً للخنادق بين قوى الديمقراطية وأعداء الديمقراطية .
4. استدامة الديمقراطية تتطلب الوفاء بالحقوق الاقتصادية والمعيشية والخدمية للمواطنين جنباً إلى جنب الوفاء الكامل لحقوقهم السياسية .
5. استدامة الديمقراطية تقتضي القناعة بأن معضلات التحول الديمقراطي لن تحل إلا بالمزيد من الديمقراطية .
6. استدامة الديمقراطية توجب التعاهد على قانون انتخابات ديمقراطي قائم على التمثيل النسبي وموفراً مساحة مناسبة لمشاركة الحركة النقابية في المؤسسات التشريعية والإنتاجية والخدمية تعادل دورها التاريخي ووزنها المؤثر في التنمية وزيادة الإنتاجية ، ويحقق التوازن العادل لتمثيل أجزاء القطر وفقاً لتعداد السكان فيها .
7. توطين الديمقراطية يرتبط بالالتزام بخطة للتنمية المستقلة والشاملة والمتوازنة جهوياً واجتماعياً .
قيادة قطر السودان
الخرطوم – 17 يوليو 2005