تحليلات اخبارية من السودان
أراء و مقالات
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

فكري الحائر (3)حوش ود العالم في حي برمبل بقلم د.عبدالباسط ميرغني

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
13/12/2005 11:13 م


د.عبدالباسط ميرغني

بدأ الأستاذ فكري الحائر جلسته الأسبوعية هذه معي هادئاً مطواعاً؛ هذا حوش ود العالم بحي برمبل بمدينة أمدرمان، حي الداخل إليه مولود والخارج منه مفقود. وهذا بستان الجندول وهذه حديقة الموردة وهذا منتجع الريفيرا وهذا هو نهر النيل القادم من الجنوب إلى الشمال، ينساب في طوله وعرضه كأنه حوش ود العالم. رياض الصبا ومرتع الهفوات وملذات الشباب الآمنة ما أنكرت خالقاً وما أهدرت دم مخلوق أبداً. بدأت حرارة كلماته في الارتفاع، وبذكر حي برمبل مهدت له الطريق لدخول حوش ود العالم الذي هو بطول نهر النيل رحابة، ذلك حتى لا أفسد جهد الحاجة آمنه الذي أدى للتحسن الذي طرأ على حالته بالأمس وقلّل من حرارة الكلمات ببهجة المنظر. ودخل حوش ود العالم بحي برمبل وهجع في متاهات الأنس الجميل وعبق التاريخ، وسمعته ينشد مع المنشدين:

يا حليل أمدرمان وحليل رباها
في جنح الليل فاح طيب شذاها
عيني فاضت والنوم أباها.

تركته في الداخل حيث الشعراء والحزانى والحيارى والفقراء والأساتذة المعلمون يتجادلون ويستأنسون؛ وسارقته النظر إلى صاحبه الضو السناري.
كان الضو السناري فارع الطول، أسمر اللون، داكن، يميل إلي السواد، أخضر اللون كما يقول عامة الناس في الحي مجازاً، متماسك البنية والهندام. يمتاز بالصمت والتواضع والكياسة وحب المعرفة. لم تتح له زيارة المدارس، قبل حضوره لحي برمبل ومعرفة حوش ود العالم، بالكاد كان يكتب أسمه. اكتشفت الحاجة آمنة بت الأمين في الضو السناري خصاله السمحة منذ وقت باكر وهو صبي يافع في الحي، فجعلته غفيراً لمتجر لها بسوق المدينة. الحاجة آمنة تبيع وتشري ما تيسر لها من سمن ولبن وأغراض أخري تحتاجها النسوة. وكانت دائماً ما تذكر بأن القرِش يذهب ويأتي ولكن قيمة الزول في الحركة.

في تلك الليلة التي حضر الضو السناري في معية الأستاذ فكري الحائر لحوش ود العالم بحي برمبل، كانت ليلة لها ما بعدها في حياة السناري وفكري الحائر ولاحقاً في حياة الحي بمجمله. غضبت الحاجة آمنة قليلاً ولكنها كظمت غيظها لأنها جبلت على التسامح بطبعها والأهم لأن فكري الحائر هو الحبيب ود الحبيبة. وتنبأت بأن تغييراً كبيراً سوف يزلزل حياة الضو السناري الهادئة القنوعة، كما زلزلت حياة فكري الحائر من قبل. وقد حصل.

قالت زهرة بنت الحاجة آمنة وهي سادرة في مداعبة أمها: البتريدو تبلع ليه الظلط والبتكره تفتش ليه الغلط.

أرتفع صوت المسبحة بين يدي الحاجة آمنة وهي تنظر لأفق بعيد يعانق بصرها في نهاياته ضوء قبة الشيخ دفع الله االغرقان حارس الحي، ولسان حالها يردد أمنيات السعد لأبنتها زهرة.


ارتعدت فرائص فكري الحائر وهو يواصل جلسته ناظراً لفضاء واسع ممتد أمام ناظريه، رأيته باسطاً كلتا يديه وهو في حالة استرخاء كامل متجاوز بوابة اللاشعور: وتدلى غصن وردة اللبلاب على الجدار بانياً تعريشة فوق رأس الحرس. ودانت ثمار كلمات الشيخ وسط باحة السجن. ثمرتان معلقتان مابين الأرض والسماء؛ ثمرة للحرية وثمرة للطمأنينة، قالت الزوجة: هذه زهرة فكري الحائر، زهرة فقراء الناس، تنبت وتنمو وتذبلُ حيثما أتفق، كالغرس الطيب، ثمرة للفقراء فى البرية وثمرة للحزانى فى الفلاة. وتعالى صوتُ هتاف من قبل الحراسات الشرقية في السجن الكبير. وازداد ارتعاد جسم فكري. ومشى الشيخُ خطوات سديدة، رأيته يرتقى مدارج الضوء ويضع ثمرة يانعة فى فم الأستاذ فكرى الحائر قائلاً: فلتكن هذه يابنى لحظات جلي النفس من صدأ القلق وغسل تراكمات الباطن بالماء والثلج والبرد. ارتعدت أوصال الأستاذ فكرى الحائر كأن تيار جوهر التنبؤ بالحياة ونثرياتها قد تمكن منه، بل هو حدس الألفاء النفسي الصوفي قد غمره ذلك الذي يرقى إلى حالة من الشعور الجمعي بالرعب والفزع. لم يكن في فمه غير جميل الهتاف وما مسكت يداه سوى حجر. سمع صوتا كضجيج المقصلة، تشبث بالجدار حيث تعريشة زرعة اللبلاب لم ير سوى جزء من حبل المشنقة. فانطلقت زغرودة تشق عنان الفضاء. كان الجمعان على وشك الهجوم وتهادى وهج من الهتاف في الطرقات متسلحاً بالعصي وقنابل الملتوف. وتضمخت بالغاز المسيل للدموع باحة الفرح كأرقى ما أنتج من عطور باريسية، ذاك عطرُ يفوق المسك عطرا مفخما، كعطر ليلة الحناء متضمخ برائحة ضوء الشموع المحترقة ومعطون بأهازيج الطرب تماماً، يفوح العطر ويمشي في دروب وليالي أفراح حي برمبل المقمرة، ويأتي إلى أنفك طائعاً ويكتسح خلايا الشهوة عندك عنوة ويقصمك إلى نصفين كاملين. كانت الزوجة تنظر إليه وكأنه طفل وديع. وكانت عيناها تضجان بالدمع والفخار وهى تردد: نعم رغم الإحن فالحياة معه جديرة بأن تعاش، والذكريات يجب أن تصان.
سمعته يهمس وكأنه يرتقي مدرج عالم آخر من اللاوعي: تداخلت صور الذكريات القديمة، والآمال القديمة، والقناعات القديمة، فطاف ألق زهرة مرة أخرى فوق المكان فتمسكت به، وفزعت به أن لا يتركني وان لا يغيب، من كوة قضبان النافذة سرعان ما شممتُ رائحة الطين والزرع، رأيت وجه أبي وظهره منحنياً منكباً على نظافة زرع الحقل، وسمعتُ قصيدة النهر يتهادى حسنا وطرباًًً، عرباً ونوبة؛ فقلتُ أين النبأ اليقين، وأين البلدات التي شيدنا، وأين الفولاذ الذي زرعنا وسقينا ورعينا، وأين الصيد وكلاب الصيد، فأحسست بالحسرة وقلة الحيلة والخذلان.

نزل الضو السناري ضيفاً معززاً مكرماً في حوش ود العالم بحي برمبل. أمواج من الطلاسم والأساطير تموج وتطن في مخيلته. تموج أفكاره صانعة صور بصرية غاية في الغرابة، عالم متداخل غير متماسك يضج بالشتات والأسماء واللغة المبهمة. في الأيام الأولى كان السناري يرتاب من وجود تلك البئر المهجورة التي تتوسط الدار، كأنه يرى أحزان الماضي والظنون تطل برؤؤسها الصغيرة من فوهة البئر. توالت جلسات الخميس وبدأت بوادر شك تساوره بأن هنالك دنيا أخرى خلف أسوار السوق ومتجر الحاجة آمنه. دنيا طالما داعبته وراودته منذ فارق الديار والأهل، و دائما ما كان يهرب بظنونه للكذب. مرت الأيام، ودارت الأيام، وتلاشت بعض من الظنون والأوهام وبدأ العالم متماسكا وأكثر ألفة. ريثما أن وطد السناري خيمة رواق السنارية في محفل الأنس والطرب الجميل بحوش ود العالم، حتى أبرقت وأرعدت السماء فوق حي برمبل.
استيقظت الحاجة آمنة مفزوعة من شدة تتابع البرق والرعد. بسملت وحوقلت، وأدركت بفطنتها الذكية أن مخاوفها قد صدقت، سائلة الله سلامة الأنفس قبل دمار البيوت قائلة: اللهم لا نسألك رد القضاء وإنما نسألك اللطف فيه، ورجعت لنومها.

في الصباح لملم أهل الحي أحزانهم وما فعلته الأمطار والسيول. ولملم الضو السناري الجراح مرتين، لم ينم طوال ليلة المطر والأنس ، كان مرابطاً يصد المياه ويلبي لهفة المستغيث وظل طوال الليل يصارع الهواجس والأمواج وبقايا آثار اللغة المبهمة. ثم فجأة اختفى في سرداب حلم طويل: أخذ نفساً عميقاً وأسترخي، امتد الحلم وفي داخل البئر رأى صورته عارياً، كما صورة فكري الحائر تلك، يوم ركض عاريًا في أزقة وشوارع المدينة وقال:

عريان أنا
أركض في غياهب الجب،
ولا شيء سوي الصمت وخرير الماء في عتمة الليل.

سمع رجع الصدى يأتيه بصوت فكري الحائر مردداً:

عريان أنا
أركض في الشوارع
والشموس تهز جذوع قامتي وترمي عشرات الظلال.
عريان أنا
أركض والهجير المرّ يسن سنان رماحه ويشرع في القتال.

في غياهب الجب شاهد الضو السناري صوراً وظلالاً لرجال تبعث في ذاكرة التاريخ من جديد، صور العمومة والخؤولة التي كانت تصعد وتهوى كأشباح على ضوء الفانوس. حاصرته الظلال من الجهات الأربعة، الظلال تلك لم تعد وهماً وخيالاً في باطن الجب يا الضو السناري، هاهي ماثلة حقيقةً وعقلا وجسداً وروحاً، تارة تتمشى في داخل المكان، مستلقية جوار ضريح برَ أبو البتول حارس النيل، وتارة تهوى كشهب تغوص في بئر الزمان مع الشيخ جليس وخدنه أبو كساوي، تماماً كما تهوى أنت اليوم في غياهب الجب ولا شيء سوي الصمت وعواء الذئب في عتمة الليل وعشرات الظلال. استرخى وخبأ بريق الضو السناري خمسمائة عام في الأوهام والضلالات، وهاهو يبرق كالطائر الفينيقي ينشد التغيير عند دفْ العمومة والخؤولة. قالت له الأجداد: بلى التغيير سنة الحياة ولكن للتغيير ضريبة وثمن، وللتغيير مسار وتدرج ومشوار ريثما أدرك ذلك، فصرخ منادياً أسلافه مرة أخرى وكأن صوته يأتي من فوهة ثقب متناهي في العمق والمسافة: ها أنا الحفيد وأنتم الأجداد؛ ليكون تغييري مستهدفا وواضحا ومتدرجاً، هلا ساعدتموني؛ أن أعرف من أنا؟ وماذا أريد؟ ما لبث قليلاً حتى جاءه صوت خفي من وراء ستار،كأنه صوت الحاجة آمنه وليس بصوت الحاجة آمنه: إن تنشد التغيير ما عليك إلا بإنزال المعاني في الكلمات، وإنزال الهداية في البنيان، ولم أطراف الشتات وري البلدات. أستوعب الضو السناري فحوى الرسالة، إذ أدرك أن القدر يحتم عليه غسل جميع خطايا الأسلاف، وراح مرة أخرى في ثبات طويل ممتد عبر رواق جلسة الأنس وشاهد نفسه في شكل جديد وعقل جديد وفكر حائر جديد بعد خمسمائة عام من الاسترخاء والعزلة المجيدة.

أرسلت الحاجة آمنة بت الأمين بنتها زهرة لكي تتفقد حال الضو السناري في حوش ود العالم بعد اختفائه المفاجئ، وأوصتها أن تأخذ بيده خارج بئر الدنيا الزائلة أم بنيان قش وتضعه في طريق إنزال الهداية في البنيان ومعرفة الكتابة والقراءة، وثوابك يا زهرة بت آمنه عند الله رب العالمين.

- بعد ما شاب دخلوه الكتاب،00 تمتمت زهرة متندرة كعادتها مع الحاجة أمها وقالت حاضر.

دخلت زهرة ديوان حوش ود العالم، وانسابت كخيط ضوء ساطع شفاف، تبحث عن السناري بين حيران خلوة الشيخ عبدالله الكتيابي وكانت تعرفهم فرداً فرداً، صعق الضوء الساطع الشفاف أفئدة الحيران البضة، فسكتوا تم. برهة قصيرة وألفت السناري مجندلاً تمكنت منه الحمى أم برد، أهلكته الهلاوس وأضناه التعب. أشربته بكفيها قطرات من ماءِ زلالٍ، سألها السناري بصوت هادي وعميق وهو متشبث بأطراف الزائلة، صوت لا يخلو من الهذيان وقلة الحيلة والجسارة، سألها عن شرنقة القبيلة وعلاقة ذلك بالهوية وحتمية صراع الطبقات، فأسقط في يد زهرة ما أحضرته من كتب وأقلام، وضج الحيران بالضحك.
في الوهلة الأولى أتاها الصوت مطابقاًً لصوت فكري الحائر عندما التقيا عند منحنى النهر تحت الجسر، تلفتت يمنة ويسرة تبحث عن فكري الحائر والفراشات. باغتها الضو السناري مرة أخرى في أن تحدثه عن ماهية النازية والفاشية والدكتاتورية والاشتراكية، وضج الحيران بالضحك مرة ثانية.
- قال صالح الحوار: حلف بالله الزول عيان وغبيان.
تيقنت زهرة بأن ثمة خلل في الزمان يحدث، وتكرر السؤال وتطابقت النبرات والنظرات، وتواصل سيل الدهشة، ولما أن أجمل الأطفال لم يولد بعد؟ تيقنت زهرة بأن ثمة خلل في المكان يحدث، أُتذكرين يا زهرة جمال كلمات مهيرة بت عبود؛ يا الباشا الغشيم قول لي دجاجك كرّ؟ حدثيني ماذا تعني جدلية الحوار، وما معنى أهمية احتمال الآخر؟ فأدهشت زهرة مرة أخري وفغرت فاهاً كلون الأصيل. وهمت فراشة جميلة على شط نهر النيل الجميل!. وشاهدت الضو السناري يرفل على مجاهل شاطئ نهر عالق ما بين الأرض والسماء ورتل من مشاعل ضوئية عن يمينه وعن شماله. ومضات بصرية تتساقط على جبال وأنهار ممتدة امتداد قباب معلقة في السماء. وكان نصيب زهرة يومئذٍ التعب والسهر، وفكري الحائر البحث والسفر، الضو السناري تمدد عدد خمسمائة عام مابين المسافة والزمان.

أكتسح تيار من الوجد صالح الحوار في مجموعة الحيران؛ صالح شاف الطرب والتيه والدلال وقال الموت حلال، ترنم مدندناً منجذباً بالوجد في أدب العابد الزاهد ووقار الصوفي الولهان وسط الحيران:
طلعه ما بتتقابل زى لهيب النار تحرق البتهابل؛
وأعلن دون تردد أو وجل انضمامه لحلف السناري، ومن يومها عرف بصالح ضهبان الدرب.

قالت الحاجة آمنة عندما لمحت أبنتها زهرة آتية مفزوعة مروعة: لا تجزعي الضو السناري جذوره مغروسة في الأرض الدائمة مع أجداده، وفروعه باسقة في الأعالي.

تربعت الشمس في كبد السماء وانفتحت مغارة ما قبل اللاوعي، وفجأة امتلأ الفضاء بالرصاص والهتاف وشقشقت عصافير الجنة فى باحات الغناء والتعبير والمداولة. نادى القاضي على المدعو فكرى الحائر قائلاً: أذهب فأنت حرَ طليق! تلفت يسرة ويمنة ما رأى أحداً. يودع اليوم جدران المعتقل الكبير دون أن يوقع على عهد البقط؛ آخرون قالوا قد وقع؛ الشاهد أن عذابات يشيب من هولها الولدان قد وقعت في ذات المكان، حيث أكلت نيران الوليمة إسماعيل باشا الغشيم، هذا ما أكدته إفادات الشهود من ساكني الزنزانات المجاورة لسماعهم تلاطم حرارة الأجساد في عتمة الليل البهيم وأثبتته محاضر الفحص الطبي بإثبات الفعل الشين. الضمير متهرئ والنفس منكسرة وشتات الأحباب شذر مذر قد وقع. وكانت أغصان الشجرة التي أحببنا قد تسلقت جدران الفؤاد ونزلت عند البطين الأيسر وأفردت 00 ثم باضت 00 ثم طارت00 ثم سمعتها تغنى: ها أنا مع المك نمر باق ولن أسافر 00 لن أغادر00لن أهاجر سوف أمكث مع الطير الخدارى فى حافة الحلم وعمق الواقع الراهن الحاضر، أظل النبتة الجافة تبحث في باطن الأرض عن الجذع النضير المترف، وأعود مع رياح الهبباي وحرارة مواسم الدرت زهرة ثم ثمرة في سدرة المنتهى؛"حبوب سنبلة تجف تملأ الأرض سنابل" وهكذا أمتشق سيفه وأسرج خيله مع فرسان القبيلة ورمى يميناً مغلظة ضد القبح والهراء والافتراء.
علمت اليوم سر أهتمامى به. فألاستاذ فكرى الحائر يذكرك بثلة من المعلمين الأوائل. أولئك الذين لا تُنسى أسماؤهم، ولا تضيع فى الفضاءات ملامحهم مهما تقادم الزمن، رهط من البشر جبلوا على العطاء ونكران الذات.

قالت الزوجة: يعطيك فحوى الرسالة دون لغة أو إشارة.
قالت أبنته الصغرى: أبوي الطير الخدارى قليل الكلام كثير الحكمة والتأمل.
قال شقيقه ألأكبر: أخوى وافر الضراع، واسطة العقد، برٌ رؤوف بالوالدين.
قال الجار السابع: خبرته عفيف اليد واللسان.
قال إمام المسجد، وكعادته يقتضب ولا يفصح: كل ميسر لما خلق له.
قال العم بولس من حي المسالمة: هو حزمة من التسامح بلا تناقض وجابر للضرر بلا شطط.

وبدأ اهتمامي بالضو السناري يتعاظم، أستلقي فكري الحائر على الأريكة وقال: الضو السناري جُبل علي مكابدة المكارة، أول محطة للسناري بعد أن ترك متجر الحاجة آمنة كانت في معية شيخ الدين كاوي التركي. درج الضباط من بقايا الجيش الانجليزي يمارسون رياضة كوره خيل يوم كل أحدِ في فضاء غرب حي برمبل بالقرب من بئر الخليفة. يتولى شيخ الدين كاوي التركي حفظ معدات رياضة كوره خيل في داره بحي برمبل. عند يوم كل أحد يرفل الموكب يتقدمه الخواجة برمبل على صهوة حصانه إلى الميدان غرب المدينة على سفح جبل المرخيات حيث يكون السناري وود الضهبان قد فرغا من تخطيط الميدان وغرسا الرايات والبيارق الملونة ونصبا الخيام. وتركض الخيل في نسق ويضرب الفرسان بعصيهم المعقوفة الرؤوس الكرات فتجري متدحرجة لمستقر لها. يعجب السناري كيف كانت تتحول تلك الأرض الجرداء في أيام الآحاد طوال فترة ركض الخيل وتدحرج الكرات إلى واحة ممتلئة بألوان الحياة والخيرات تعجب الناظرين، وريثما يعود الركبان وتهجع الخيل في الإسطبل بالقرب من السجن الكبير، تعود الأرض قاحلة جرداء مرة أخرى.

ومن ثم تنوعت أعمال الضو السناري، تارة تجده نجاراً بمصلحةً الأشغال، وتارة سائقاً بمصلحة النقل النهري، وتارة ممرضا أو بائعاً متجولاً، وتارة مشرفاً على طاحونة الدقيق بالحي، ما عرف عنهً تأفف أو تعفف عن عمل قط، عرفته أزقة حي برمبل وأطراف المدينة، تجده حيث ما يذهب الناس، في الأسواق، في الأفراح والأتراح وتجمعات الناس في ملاعب سوق القش بحي برمبل، في الأزقة والحواري حيث السراء والضراء والنفير، وزيارة المرضى بالبيوت والمستشفيات، وصفه ود الضهبان بقوله:
-ما شفته زولاً باله واسع متل الضو السناري، اليوم التقابله التقول الدنيا ما ليها نهاية ولا بداية.
العمل يحمل في ذاته قيمة، فتراكمت لديه الخبرات والمهارات ومحبة الناس. وبقيت تحولات أرض كوره خيل من بلقع جرداء إلي حياة ذاخرة بالطيبات ومن ثم إلى بلقع جرداء، في ليلة وضحاها لا تبارح ذاكرة السناري في الحل والترحال وسارت معه حيثما سار.

كانت جلسات الخميس بحوش ود العالم واحة تهفو لها النفوس، وظلت منطقة مغلقة للأعضاء فقط، أجتهد السناري وخاض التحدي الكبير وعمل على الجمع بين تطابق الحال مع المقال؛ وتحرك نحو الناس، عله يجد ملامح الفردوس المفقود. وكان صالح الضهبان بداية الغيث. بصوته الندي أمسى من أركان ومطربي جلسات الأنس. وعرف من يومها بصالح ود الضهبان الفنان.
حالة صالح ود الضهبان كونه مطرب فنان فتحت له الأبواب. فتنقل كالفراشة من مجلس إلى مجلس ومن دوحة إلي دوحة يحمل الطرب والمودة بين الناس. وفي نهاية الليل يحط رحاله في بيت شيخ الدين كاوي التركي حيث يسكن الضو السناري وتستمر المؤانسة اللجوج من آخر الليل حتى مطلع الفجر وينامان، وتنام أخبار البلدات تحت أقدام الضو السناري كقطة أليفة.

أسر الضو السناري لصالح ود الضهبان وحبال الود والأنس ممتدة بينهما، بأن هاتف في داخله يناديه ويلح عليه: بأن خسران الماضي بين ولا ريب فيه، وأن هاتف آخر يدفعه للتحرك نحو الناس! وهاتف يحذره من مصير فراق ألطريفي لجماله، يوم شرب ألطريفي ألجبنه في الراكوبة وتعلقت عيناه بجاذبية القمر والنجوم وفارق من يومها جماله وبعيره وطار فؤاده على منقار طائر جوال مطبوع بالبعد ومفارقة الديار ومسكون بعشق الهضاب الوارفة الظلال، ومن يومها صار مثلاً يضرب بين الناس. أسداه ود الضهبان النصح بتناسي الماضي الذي ولى وراح وقال بروح الزاهد الفنان: الفاتك فوته، وما تعاين للوراء وما عليك غير أن تبدأ من جديد!
واستجاب السناري لهاتف الباطن طواعية وقال ما مضى قد مضى، علينا أن ننظر للأمام و آلا نلتفت للوراء. وتحرك نحو الناس، كل الناس. وتحرك الناس نحوه، فوجد في حوش ود العالم ملاذاً وأهلاً بادلوه وداً بود أنساه مكنونات الأشواق وفراق الأهل. ووجد في حي برمبل داراً انصهرت في كنفه ملامح دياراً كانت قديماً ديارا فصارت اليوم تذكاراً.
حط اليوم أناس من مختلف الأطياف والمشارب والأعمار، رهط من معارف السناري جيران دكان الحاجة آمنه، معارف له من ميدان كوره خيل، ومعارف قدامى من حي السوق حطوا رحالهم في حي برمبل، جاء آخرون لا يعرفونه ولكنهم مندفعون تجاه، جاء الوراقون والعطارون والنجارون والحدادون والجزارون والصاغة والخضرجية والتشاشون وصغار التجار توافدوا من كل حدب وصوب: من ميدان الملجه وميدان الأسكلا ومن زقاق قصيرية الترزيين والجلادين والخراطين ومن شارع الشوام وشارع العصا صير ومن شارع الهنود ومن أحياء الأقباط والمسالمة، والعبابدة وود نوباوي وفريق جهنم. وجنوباً من العباسية وحي فنقر وميدان الربيع وجداويه العوادة.. فتنوع الحديث في جلسات الخميس وأكتسب رونقاً وبهاءً، وسادت فصاحة النطق وجزالة البيان مكان لغة الصيادين الغامضة. واكتسبت الكلمات معاني وصارت أفكاراً حية تمشي في حي برمبل بين الناس. فصار رواد حوش ود العالم الواجهة لحي برمبل، وصار حي برمبل برواده الجدد مبتدأ تفاعل عالم المدينة والخبر. وسار ود الضهبان متغنياً ومترنماً بالأخبار وذاكراً بقعة أمدرمان وناشداً في ربوعها الأمان. أصابت الدهشة! أول ما أصابت الأستاذ فكري الحائر، فجلس حائراً مشدوها متسائلاً عن من هم هؤلاء ا؟َ عندما تيقن من أنهم بشر من فجاج الحي ومن معارف وضيوف ومريدي وسند الضو السناري، وإنهم يعرفونه حق المعرفة ويكنون له التجلة وحسن السيرة والمودة، صرخ محتجاً على إغفال وتغييب مبدأ الشورى وعدم مشاورته في الأمر قائلا:ً توسيع ماعون المعرفة لم يحن وقته بعد، مردداً ومشيراًً: كلما أتسع العالم كلما زادت المعاناة وقليل من الناس الذي يستوعب باطن الأمور. تيقن الضو السناري بأنه هو المقصود وهو المستهدف. والحرب أولها الكلام، وساعة النزال آتية لا ريب فيه.

- قالت الحاجة آمنه بت الأمين: قبول الحق شي واجب حتى لو تكلم بيه كافر.
- قالت زهرة: يقبل الصواب من أجل الصواب ويرفض الخطأ من أجل الخطأ.

وتمتمت الحاجة آمنه بالقول وكأنها تحدث أناساً آخرين، رامية لتغيير دفة الموضوع؛ البئر00عليكم بالبئر، خلق الله في أطراف البلد عطشانة؛ والعشم فيكم كبير، تغيثوا الملهوف وتستروا الفقير وتدرجوا العاطلة وتروا العطشان، جاء صوتها كأنه رسالة القمر والنجوم مرسلة لمد وجزر البحر.

تناهى في الأفق خبر حوش ود العالم من منطقة منعزلة مغلقة، خبر سارت به الركبان فصار باحة متاحة وجاذبة للداني والقاصي من أهل حي برمبل، كأنه خلية نحل في الهواء الطلق؛ ردد صالح ود الضهبان هذا الوصف متباهياً بما يمتلك من ذخيرة لغوية إبان دراسته بخلوة الشيخ عبدالله الكتيابي. تجمع التجار أركان السوق حددوا الواجبات، وعقدت ألوية المشايخ بالتراضي حسب العمر والجهد ووزعت المهام والأدوار بالوفاق وحسب قدرة الفعل، فصار هنالك شيخ لكل من العطارين والجزارين والنجارين والوراقين والحدادين والصاغة ومشيخة لسر التجار. وسرى خبر الألقاب سريان النار في الهشيم وعم الرضا بين الناس. تكاتفت الجهود وعُرف خبر تجديد حفر البئر وهروب الشياطين برؤؤسها الصغيرة في حوش ود العالم بجهد الجميع، خبر ردده حيران خلوة الشيخ عبدالله الكتيابي وهم يسيرون خلف صالح الضهبان، وأقسموا بأنهم شاهدوا الشياطين تركض في رابعة النهار وهي تحمل عيالها ذات الرؤؤس الصغيرة.
وتيمناً ببئر حوش ود العالم حفرت آباراً أخرى كثيرة على أطراف المدينة، باتفاق وجهد شيخ سر التجار، بئر عند سوق الجزارين وأخرى عند مكان الحدادين وبئر حفرت بالقرب من خلوة الكتيابي وواحدة في حي العرب. أنداح جريان الماء هابطاً الوديان والسهول وصاعداً التلال والروابي فارتوى وأخضوضر ميدان كوره خيل وشربت إبل الكبابيش وضأن الكواهلة وجمال العصا صير وأزدهر شجر تمر أبونا. وتنزلت السكينة والطمأنينة والمنافع على أهل الحي، توسعت التجارة وكبرت الأسواق وزرعت البلدات حتى جبال المرخيات وعلى امتداد نهر النيل كنت تجد البئر والسبيل والخلوة وبيت الضيفان. وتجاوب العم بولس من حي المسالمة، ففتح خلوة للحيران وبيت للضيفان قصاد النيل، فصار العيش رغداً والمعاملة حسنة والناس متحابون ومتصاهرون. وقل المضاربون في فريق اليهود بالقرب من مبنى المحكمة الشرعية بشارع الموردة؛ فتوفرت السلع وفاض قوت البشر وارتاح بال الناس بعد تعب، وصارت الحياة معدن، وامتلأت ارض حي برمبل عدلا بعد الجور.
ذاعت سمعة الحي ووصلت أسواق بعيدة. وتوافدت زمر التجار من كل حدب وصوب، من الغرب والصعيد من الدامر ومروي ومملكة الكوة شمال ينشدون المنفعة المتبادلة. نزلت وصعدت المراكب الشراعية تمخَر عُباب نهر النيل، فنزلت شمالاً وصعدت جنوباً محملة بالذرة والخرز وريش النعام. وسارت القوافل مقتحمة الصحراء فتوغلت عند مشارف صحراء بيوضة والعتمور. وعمَ الخير الأحياء الأخرى وتوسع حي برمبل ممتداً شرقاًً مروراً بمقابر شهداء معركة كرري إلى شجرة آدم نزولاً بالطريق الشاقة الترام، هابطاً ثم محاذيا نهر النيل الجميل، وترامى شمالاً ملامساً جبل كرري ووادي سيدنا والجزيرة أسلانج حتى أطراف السر وراب، وتناهى غرباً حتى سفح جبال المرخيات، وجنوباً من قلعة فتيحاب الجموعية موازياً لقرى الرميلة والقوز واللاماب بحر أبيض والخنادقه والحماداب أولاد العبدلاب وشجرة ماحي بك وود عجيب والعزوزاب مستقراً عند قمة جبل الأولياء.

فرحت الحاجة آمنة بت الأمين مستبشرة بقدوم الخيرات وقالت: وقت الدنيا تجود بخيوط العنكبوت تنقاد، ووقت تعترس تكسر جنازير المهندس.

حسب رواية صالح ود الضهبان الذي يتنقل طوال الليل يشنف آذان المدينة بنداوة الطرب الجميل وحلو الكلام ونقل الأخبار، أن شيئاً قليلاً من الارتياب ساور الأشراف وأبناء الخليفة من أعيان حي الأمراْء والعباسية وحي الملازمين في مرامي هذه التحولات، تساءلوا عن كيفية استمرارية الانصهار دون إزالة عوائق الانتماء الذي يرجع فضله للخليفة بدعوته للقبائل بتشريف البقعة، بالدفاع والمصاهرة، وكانوا في ذلك يبحثون عن الصواب، آثروا الصمت واتخذوا ركناً قصياً. أزداد ارتيابهم حينما امتدت حبال الوصل وعبرت نهر النيل شرقاً ملامسةً شغاف حلة حمد ود مريوم وقباب الضرائح شرق النيل، ومنسابة شمالاً حتى حلفاية الملوك. هنا تبلورت في رحم الغيب نزعات هوى السلطة والثروة والهيمنة في الأفئدة وبدأت بذور معضلة العنف تغرس رؤوسها الدقيقة في عطب العقول. في جلسة الأنس بحوش ود العالم تعالت الأصوات وتطايرت الألفاظ واحتدم الحوار وتواصل الجدل طوال المساء ما بين مؤيد ومعارض، في ذكر الشيء بالشيء يذكر، تحسر الضو السناري على ضياع خمسمائة عام ما بين المسافة والزمان. فجأة والكل غارق في صمته؛ قال: هل سمعتم بأهل كهف، نحن أهل الكهف، تلفتوا وانظروا حولكم تجدون المكان نفس المكان والأشخاص هم نفس الأشخاص، منذ أن خلق الله البرية والناس التاريخ يغط في نوم عميق كما تنام كلابنا وقت الحراسة، نعم تهاوت وانهارت تلك الممالك القديمة التي كادت أن تكون منارات تنير العقول بشهب التسامح وتضيء الأفئدة بالتوهج والقبول، لولا تكالبت عليها الإحن والفتن مرتين، مرة بيد الخليفة ومرة بيد الغزاة. وها أنا في داخل الكهف مع النائمين، أظل أزحف دامي الكف، وجه العصر يعميني، ويمزقني قيد الوصاية وبعد المدار.
وكعادتهم وكأن الطير على رؤوسهم شخصت الأبصار نحو موطئي الإلهام، بحر العلوم، العالم العلامة، والفاهم الفهامة، وتماثل فكري الحائر في ارتباط فكر الإنسان مع عبق الأمكنة. وقال يولد ويتعاظم معنى الحياة في التمسك بالمكان، والبعد عن المكان يولد الشعور بالحنين للجذور، وتم سكت. وسكت الآخرون. وهلل المعجبون، وقال بعضهم: هلا، هلا، هو ذا الكلام. وتجاسر صالح ود الضهبان معلناً في جملة واحدة عدم الفهم؛ وأردف ذلك بصدى نداوة صوته مجملاً ومنعشاً ذاكرة أهالي حي برمبل بمكانة حوش ود العالم:

الحكمة في كونك بخيل وأهلك أرابيب الندى
أصلك بتدلل عليّ ولا الحكاية معاندة.

تأملت الحضور، وجدت فيهم من كان يتلاشى من شدة الطرب ويذوب في الانتشاء، وآخرون ينشطون بمشاركة الكورس في الغناء، وآخرون يستمتعون بالنظر والمشاهدة، وآخرون لا وجود لهم البتة.
أكمل ود الضهبان المقطع الأخير، وعلى دندنة إيقاع متناسق على آلة الرق ممتداً لزمن ليس بالقصير تردد صداه على شوارع وأزقة حي برمبل الخالية من الناس والحياة، في هداة ألليل، سافر صوت الغناء سالكاً طرقات ودروب حي برمبل، قاصداً بيوتاً على موعد مع دفقه عطر الصوت الندي، وصل الغناء البيوت مع انبثاق الفجر وتسلل عبر الجدران والنوافذ فوجد آذناً صاغية وأرواحا جاثية في انتظاره.

واصل ود الضهبان الغناء وأختتم بالفؤاد ترعاه العناية:


مرفعينين ضبلان وهازل شقوا بطن الأسد المنازل
النبقى حزمة كفانا المهازل نبقى درقة لوطني العزيز.

رأيت الضو السناري كالطود شامخاً متوسطاً حلقة الطرب ومجموعة من الأيادي والأعناق مشرئبة إليه وتدور حوله وتترنم في نسق جميل:

في الفؤاد ترعاه العناية بين ضلوعي الوطن العزيز.



للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2006
Sudan IT Inc All rights reserved