السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

لست بروفيسورا في الاقتصاد بقلم شوقي إبراهيم عثمانميونيخ – ألمانيا-

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
5/27/2005 9:49 م

لست بروفيسورا في الاقتصاد

وصلتني مساهمتين قيمتين من بعض الأخوة وأستأذنهما بنشر كل منهما هما دون ذكر أسميهما احتراما للخصوصية. وسأجاوب علي أسئلتهم بعون الله وتوفيقه إن شاء الله، وإذا رغبا كشف أسميهما في مقالات خاصة بهما يكون من الأجمل لكي تزيد الفائدة.

أولا أنا لست بروفيسورا في الاقتصاد، بل درست الطب ولم أكمله في مصر، وجئت لألمانيا بقصد دراسة الاقتصاد، وبعد مجابدات وسكرات، درست سنتين دراسة كاملة فقط إدارة إعمال، بتعبير آخر أصابني الإحباط، كذلك درست في هامبورج دراسة تتعلق بالصيدلة اعتمادا على سنوات الطبPharma Referent، وهي تقابل medical rep. ولقد بدأت الولوج للصحافة من سبتمبر 2001م وكنت مزمعا قبلها كتابة كتب، فتعجلت بوضع أفكاري بشكل مقالات. وما دفعني لدراسة الاقتصاد بدلا من الطب، هي أهميته، فالاقتصاد يشمل كل خصوصيات حياتنا وليس الطب بل هو أهم من الطب، هذا إضافة أنني لم أكن لاجئا في ألمانيا، يعني جئت بمزاجي، فهل أنا نادم!! جئت وفي معيتي إصرار فهم الآليات الدولية للاقتصاد، وفي ذهني أن الألمان يمتلكون الكثير من العقلانية..ولكن الآن أنا مع السنين لي أفكار أخرى لا أشجع الدراسة في الخارج، فهي ليست ذات ميزة كبيرة، فنتازيا تصيب طلبة العالم الثالث، أو كاروشة يتخيل فيها طلبتنا أنهم سيستفيدون بشكل أكبر علميا...!!

يجب أن يعرف الجميع أن الطفرة العلمية الغربية صنعتها الشركات وليست الجامعات بشكل محدد. فعند نشؤ الرأسمالية قبل قرنين أو ثلاثة اكتشفت البرجوازية الناهضة أن العلوم الطبيعية تزيد من الأرباح التجارية..فأولت للعلم الكثير من المال والحرية..معظم الشركات الغربية لديها معامل وبحوث تتفوق على ما تملكه الجامعات – يجب أن تفهم أن شركاتنا في العالم الثالث هي عبارة عن كناتين (دكانة) لا شيء!! ومعنى ذلك، الطالب الجامعي الغربي يقعد "يحرت" المئات من الساعات في مكتبة الكلية حتى يقدد عيونه، لن يهديك شخص ما جهده مجانا، والبروفيسور المحاضر لا يعطيه في المحاضرة سوى بعض المؤشرات والمراجع!! بتعبير آخر، طلبة العالم الثالث لا يحتاجون إلا لهذه الكتب أو المراجع وهم في الخرطوم..لا يحتاجون القدوم لأوروبا!! فإذا تحصلت على هذه الكتب..يتبقى أن تفهم ما هي "العلمية"..

ونجمل "العلمية" في التالي ..كثير من الناس يعتقد أن العلمية هي أن تحفظ تلك الكتب، وأن تردد تلك المصطلحات اللاتينية أو الإغريقية التي تحوم حول المجال أو التخصص والشقشقة بادبياته. هذا تفكير خاطئ، العلمية ببساطة هي القدرة على "الملاحظة" the ability of observation بمعنى آخر القدرة على ملاحظة ظاهرة ما (معملية أو إجتماعية ..الخ) وتحديد ومراقبة مكوناتها، ودراسة العلاقات القائمة بين هذه المكونات، وتوظيفها..الخ وكل ذلك يتم توصيفه باللغة، أية لغة حتى لو كانت بالشلكاوية أو الدنقلاوية. مع مرور الزمن..حتى لا يسقط الباحثون في التكرار، أو لكي لا افهم أنا أو أنت نفس المكونة بشكل مغاير ولكي لا يفهمها أو يعطيها باحث آخر لاحقا اسما مغايرا، فتصير هنالك لخبطة، نجلس من وقت لآخر في مؤتمرات ونعطى الأشياء مسمياتها الثابتة – هذا ما يسمى توحيد المصطلحات أو المفهومات والتعريفات العلمية.

من الأفضل أن نصف العلوم، أو تدرس العلوم باللغة الأعم أو السائدة، وفي السودان بالرغم من وجود الكثيرة من اللهجات واللغات، العربية هي السائدة، فإذن تعريب جامعاتنا هو صحيح، وهذا التعريب له فوائد جمة، لأنك حين تصف كل اكتشافاتك العلمية وتطورك العلمي المعملي أو البحثي الاجتماعي بلغتك الأم، ستصبح هذه اللغة الأم هي حافظة لها، وكذلك يسهل التوصيف بلغة الأم والفهم وسط الباحثين، كذلك يسهل انتقال الفهم من "النخبة العلمية" –الأرستقراطية المتعالية- لكافة المجتمع..البسيط، الشعبي أو شبه الأمي. ونلاحظ ذلك جيدا في مجال الطب في سبيل الصحة العامة، أو في موضوع هذه المقالة..الاقتصاد..!! واحدة من أساب وجود الأمية الإقتصادية وسط الشعب السوداني هي أنها غالبا رطانة بالإنجليزية.

من أين بنيت هذه الملاحظات؟ من دراستي للطب. حقيقة يوجد الكثير من الشبه ما بين الاقتصاد والطب، وهذه نقطة استفدت منها بشكل خاص. فمثلا الجسم البشري مكون من أعضاء مختلفة جدا عن بعضها البعض في التركيب والوظيفة، مثل الكليتين، والطحال، والكبد، والرئة، والقلب، والدورة الدموية، والجهاز العصبي والغدد الهرمونية..الخ، وبالطبع المخ..!! فمع كل هذه الاختلافات العضوية يجب على الجسم البشري أن يعمل كوحدة واحدة as a whole ومنسجمة، كل عضو يعمل لصالح الكل مع درجة عالية من التنسيق؛ كذلك في الاقتصاد، توجد العديد من الوحدات الإقتصادية المنتجة أو الخدمية المختلفة وتكون مختلفة تماما عن بعضها البعض في التركيب والوظيفة ولكن يجب على كل وحدة اقتصادية أن تساهم للكل..ومن أجل ماذا؟ مثل الجسم البشري، يجب كلاهما أن يتصف بدرجة عالية من الثبات وألا تصيبه الاعتلالات، فمثلا في الاقتصاد من العيب أن تتغير أسعار السلع كل أسبوع..أو ترتفع - التضخم، أو من العيب حدوث ركود اقتصادي – مثل هبوط حاد في الوظائف الكلية لأعضاء الجسد systemic slow down.

في الاقتصاد المؤشر الحاسم الذي بواسطته تكتشف به الاعتلالات هو مؤشر التضخم – يجب أن يكون في حدود متدنية ومعلومة وثابتة، وهنالك أيضا بعض المؤشرات الثانوية المهمة الأخرى. كذلك في الجسد هنالك مؤشران أو ثلاثة تكتشف بهم اعتلالاته مثل درجة الحرارة التي يجب أن تكون ثابتة 38.5 درجة، والمؤشر الهيدروجيني pH 7.4 وكذلك ضربات القلب في حدود 74 ، وكذلك ضغط الدم 90/120.

كذلك كمية الدم في جسدك 5.5 لتر ( حجمه شبه ثابت) في دورانه يشبه دوران النقود على الأعضاء أو الوحدات الإقتصادية، وكمية الدم أو كمية النقود مهمة جدا جدا، فإذا أصابك نزيف في حادث حركة وفقدت 500 مليلتر مكعب من الدم، يتدخل الطحال (جهاز الإحتياطي) فيضخ الكمية التي فقدتها في أوعيتك الدموية، كذلك يلعب البنك المركزي بزيادة عرض النقود أو سحب الكمية الزائدة.

ولكي تعمل كل أعضاء الجسد المختلفة في وئام وانسجام صحي لصالح الكل (اللي هو أنت كجسد كامل) هنالك جهازان للتنسيق: الجهاز العصبي والجهاز أو الغدد الهرمونية. فمثلا عندما يتلعبش البنك الفرنسي السوداني ويضر بالاقتصاد السوداني، يتدخل البنك المركزي بإرسال إشارات وخطابات تنويرية وتهديدية، أو يرسل بعض المحاسبين المراجعين للفحص بنظام التغذية الراجعة. هذه يقوم بها المخ عبر أسلاكه (الأعصاب) يقول مثلا للكلية أو الكليتين والله ضغط الدم زاد شوية، صاحبنا شرب وأكل كثير، بالله افتحي مساماتك لإدرار المزيد من السوائل والتخلص منها (البول)، فيرسل المخ إشارات عصبية وهرمونية عبر أسلاكه للكليتين، لكي تطرد المزيد من ماء الجسم وينخفض الضغط العام للطبيعي. وهلماجرا..!

بهذه المقدمة رغبت أن أفيد الجميع، ولكن كيف فهم بعض الأخوة أنني بروفيسور في الاقتصاد بشكل خاطئ؟ فأعتقد هذا نسبة لقراءتهم المتعجلة للمقالة، وانفعلوا بها. وتأسفت أن العنوان قد يشير إلى شخصي بالرغم من أنه في المقالة يشير إلى البروفيسور كدودة. البروفيسور كدودة أحتج في حوار طويل في صحيفة أخبار اليوم بأنه بروفيسور وزوجته بروفيسوره..!! بالرغم من ذلك لم تعطيهم الحكومة أية اعتبار!! وهنا لقد أنبت البروفيسور بأن الاعتبار والتقييم يجب أن يكون عبر الآخرين عبر مساهماته الحقيقية، وليس فقط لأنه يحمل لقب بروفيسور. لأنه كما ذكرت في مقالتي، كل المتخصصين في جل التخصصات لهم تجمعاتهم التي يعبرون فيها عن رأيهم. فمثلا خذ القضاة في مصر وقفوا وقفة بطولية من نادي القضاة وتحدوا رئاسة الجمهورية المصرية. ولكن الاقتصاديون في السودان ليس لديهم أية تجمع..ولم يساهموا في نشر ثقافة اقتصادية....لنفس الأسباب التي ذكرتها في المقالة..إنهم يبيعون أنفسهم للذي يدفع أكثر!!

لقد وصلتني رسالتين، تقول إحداهما:

سلامات بروف وبرافو علي مقالك "انا بروفيسور وزوجتي بروفيسورة". فهؤلاء في السودان مسخوا علينا اي لقب - تخيل معي صحافي - مرحوم الله يرحمه- كتبت الجرائد انه تم منحه درجة بروفيسور الفخرية وبعد ايام فقط وجدنا اسمه مسبوقا ب "بروفيسور" في ذيل مقاله في العمود المخصص له في الجريدة - هكذا وبدون اية رتوش حتى. وكنت اعتقد أن مثل هذه الألقاب الفخرية تمنح بشروط من ضمنها عدم ذكرها بدون مرافقة صفة الفخرية هذه، تمييزا للألقاب الأصلية والحقيقية وحفاظا على تقدير حامليها الأصليين والحقيقيين المستحقين. هؤلاء القوم في السودان بعد ان استهلكوا ال "د." اتجهوا إلى لقب ال "بروفيسور" والعجيب في السودان ان مثل هذه الألقاب تمنحها العامة وليس اصحاب الدرجات دعك عن المؤسسات التي هي الأصل في منح هذه الدرجات. ويمكن ان نتذكر هنا قصة الشيخ الترابي مع الدكتوراة - والله انا إلى اليوم لا أدري إن كان يحمل هذه الدرجة أم لا! لكني اذكر انه قال مرة انه يحب ان ينادى بالدكتور! نرجع للمقال - ارجوك بروف ان تكثر من مثل هذه الكتابات - كنت دائماً استغرب من ذكر ماليزيا والصين كلما تحدث القوم والمتفلسفين في الاقتصاد أمثال عبد الرحيم حمدي. استغرب مرة من كون هاتين الدولتين لا تصلحان لضرب أي مثل في الاقتصاد واستغرب مرة أخرى من سكوت المتخصصين غير المتفلسفين عن هذه الظاهرة، وارجع وألوم نفسي في تقصيره عن الفهم وما كنت ادري أني كنت محقا إلا بعد أن قرأت مقالك هذا ولذا ما ترددت أن أزعجك، معتزراً، بهذا الكلام هنا. أصاب بالغثيان حقيقة كل ما ذكر اسم عبد الرحيم حمدي ومهاتير محمد وماليزيا وإندونيسيا والخليج وحتى الهند. هنالك ظاهرة غريبة تتولى العمل في منطقة آسيا - انتقلت إلينا في السودان من المنطقة العربية - هذه الظاهرة عبارة عن قيادة العامة لحركة الحياة بدلاً عن الانتلقنسيا. القيادة في كل المجتمعات المتحضرة دائما هي عمل الصفوة المؤهلة. في آسيا ما تحتاجه فقط هو إشارة من شخص ما من العامة بأهميتك لتكون مهما، لقباً ما، حتى لو كان مزوراً أو لقباً أكاديمياً مرموقاً يتم خرطه في آية منطقة صناعية او سوق خضار او اي تجمع للعامة. اشتهر في آسيا في أي شئ كرة قدم، كريكت، تمثيل ، اجمع حواليك عدة مجموعة من البسطاء وادعي معرفتك بالدين، تملك ناصية اللغة والخطابة، زور شهادة علمية، اشتهر حتى في الاحتيال والسرقة كل هذه الأشياء تفتح لك أبواب الولوج إلي دائرة الصفوة ومن ثم القيادة. لا أحد يتحقق من شئ ولا أحد يعمل فكره في شئ. قل بالأمس رأيت جنيأ مع صاحب الدجل الفلاني يصدقونك. قل رأيت ملاكاً مع رجل الكرامات الفلاني يصدقونك. قل لهم إن قبر الإمام علي، كرم الله وجهه، انتقل من النجف الأشرف وجاء إلى مزار الشريف يصدقونك. إذا غبت عنهم الفترة المعقولة قل لهم كنت في باريس ونيويورك في مهام رسمية يصدقونك، لا أحد يسأل عما إذا كنتاً رسميأ أولا أم لا. في السودان يكفي ان يكون اسمك غريباً أو ان تكون نفسك غريباً جدأ أو احصل علي درجة الدكتوراة من اي مكان في الدنيا وبأية طريقة وفي أي شئ أو حتى أدعي أنك تملكها فأنت العالم المحترم وبالتالي الوزير والرئيس. تكفي فقط بضعة أشياء من أهمها أن تلم حولك أكبر عدد ممكن من الرعاء أو أن تربطك صلة ما بواحد من هؤلاء الرعاء، الذين نجحوا بواحد من السبل إياها، في الوصول قبلك إلى مقام مرموق. آسف جداً بروف لإزعاجك، لكن والله لو كتبت عن هذه الظاهرة مثل هذا الكلام العلمي الذي كتبته هنا، تفيد أكثر وتساهم أكثر في محو هذه الأمية الغريبة. هذه الأمية التي هي مصدر كل تأخرنا وتسلط الطائفية والجبهة الإسلامية علينا. أتابعك هنا على صفحات سودانايل منذ فترة . شكرا. (......)/السعودية.

وأقول لصديقي الذي في السعودية (كنت سأكتب أسمه ولكني لا أفعل لأنه من حقه الاستئذان من جانبي) شكرا لك لتقييم المقالة بشكل إيجابي، وإليك بعض الملاحظات الإضافية. مشكلة الألقاب العلمية هي مشكلة في كل العالم، وحتى في دولة مثل ألمانيا ولكن الفارق أنها فاقعة في دول العالم الثالث نسبة لكافة إشكال الأمية التي تضربه. في الدول الغربية، العامل الحاسم لهذه الألقاب هو الإنجاز ويندر أن يحصل شخص على درجة الدكتوراه في أقل من تسعة سنوات من البحث والتحضير..أي والله!! ودعك من درجة بروفيسور! لذا في العالم الثالث يوجد من الناس من هم أكثر كفاءة من حملة الألقاب العلمية، بل في كثير من الأحيان تلعب الجامعات دورا سلبيا في قمع العديد من الطلبة الذين قد يأتون بأفكار جديدة ونيرة فيحطمهم أساتذتهم الجامعيين فقط من أجل الحفاظ على المنصب.

ولكنني لا أؤيدك في التعميم، فحتى في وسط الإسلاميين يوجد من هم رائعون ولكنهم لا يجدون الفرصة، لقد تم قمعهم بشكل أو بآخر. إذن من المهم أن نسمى الأشياء بمسمياتها، وتفاصيلها بقدر ما نستطيع دون تلوين الكل بلون واحد أو بفرشة واحدة. فتجميع القوة لفكرتك النيرة يستوجب العقلانية ألا تقصى أحدا مهما كانت معتقداته. وهنا نشير لقول أحد تلاميذ دكتورنا البروفيسور المرحوم عبد الله الطيب، يقول هذا التلميذ:

(وكما كان شيخنا (عبد الله الطيب) محبا للعربية وعلومها كان أيضا محبا لأهلها من الأحياء والأموات. من ذلك أنه كان شديد الإعجاب بتلميذه صديقنا الدكتور جعفر مرغني..جاء ذكر جعفر في أحد اجتماعات مجلس الكلية لست أذكر الآن مناسبته، فقال عنه شيخه إنه لولا التقيد باللوائح لعينته الآن محاضرا (وهو الذي يسمى في اصطلاح الجامعات العربية أستاذا مساعدا) ثم قال عنه كلمة أحرجت بعض أساتذة اللغة العربية، قال إنه الآن ـ وكان قد تخرج لتوه ـ أعلم من بعض الأساتذة!

وكان الأستاذ (عبد الله الطيب) يضيق فعلا بشكليات اللوائح. كان هنالك عالم قراءات مصري نال إعجابه فعينه أستاذا مساعدا بالجامعة رغم أنه لم تكن له شهادة دكتوراه. قال لي إن كل كتاب من كتب هذا الرجل يساوي دكتوراه. وتعيين الدكتور عبد الله الطيب للرجل حل له مشكلة كبيرة، فقد بدأت الجامعات الأخرى ـ حتى المصرية منها ـ تقبله أستاذا بناء على أنه كان كذلك بجامعة الخرطوم حسب ما يقتضي الاتفاق بين الجامعات العربية. وحدثني (عبد الله الطيب) ذات مرة أنه ذهب إلى مصر فوجد العلماء الحقيقيين هم الذين لا يحملون هذه الألقاب العلمية من دكتور وأستاذ وغيرها! وقد وجدت مثل هذا الموقف من الألقاب عند غير شيخنا من كثير من العلماء الراسخين في علومهم على اختلافها. فما الدكتوراه عندهم إلا شهادة كالشهادات الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية ينالها المرء ثم يتخطاها فلا يفخر بها ولا على التسمي بها. إنما يفعل ذلك بعض الضعفاء الذين يحاولون التزيي بها _ حتى لو لم يكونوا قد نالوها حقيقة _ باعتبارها حلية اجتماعية. وما مثلهم في ذلك إلا كما قال الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (رواه البخاري)...). أ.هـ.

فالمتزين بلقب علمي لا يعطيه حقه فهو كاذب بدرجة من الدرجات. فلا يجوز المسامحة بحق الغير والإضرار به وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم، ثم هو لزيادة المال والجاه ولأمور ليس فواتها محذورا حتى ليقال أن المرأة لتحكي من زوجها ما تتفاخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات وذلك أيضا حرام.
.
قالت أسماء: سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وآله قالت: إن لي ضرة وأنا أتكثر من زوجي بما لا يفعل اضارها بذلك فهل لي فيه شئ؟ فقال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، وقال النبي صلى الله عليه وآله: من تطعم بما لم يطعم، وقال لي وليس له، وأعطيت ولم يعط، كان كلابس ثوبي زور يوم القيامة، ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه، ورواية الحديث الذي ليس يثبت فيه، إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه، فهو لذلك يستنكف من أن يقول: لا أدري وهذا حرام.

إذن وبالمجموع، فأنا لست بروفيسورا، ولكنني مثل غيري أنبه أين يمكن أن يكون موقع الخلل في الاقتصاد والتصورات الإقتصادية. فالأشياء الكبيرة تبدأ من الأفكار الصغيرة، وسيأتي حتما من هو يملك الوقت واعلم مني أو منك ويبني على الأفكار الصغيرة شيئا عظيما بعد الدراسات اللازمة والمتعمقة. فمثلا جل الاستثمارات الخليجية في السودان هي في البنوك والمصارف. لماذا؟ كذلك لم يساهم الخليج قبل خروج البترول السوداني؟ لماذا؟ فقولنا في أحد مقالاتنا أنهم يلهثون لكي يحولوا دولاراتهم الخضراء إلى أصول حقيقية هو السبب الحقيقي وهو عين الصواب. لأنه كم من السودانيين سيستفيد من إنشاء هذه البنوك؟ وكما نعلم أن البنوك لن تعطيك فلسا واحدا إذا لم تتوفر لديها ضماناتها العينية. إذن أثرها هو جد محدود ولن ينعكس على القاعدة الشعبية، وأضرارها أكثر بحيث لن يستفيد منها إلا القادرون فقط، وبذلك تخلق هذه البنوك "نخبة" من السودانيين تربط مصير ومقدرات السودان بفئة قليلة محظوظة. فمثلا أقرأ هذا الخبر:

(تم أمس بفندق هيلتون الخرطوم التوقيع على إنشاء البنك السوداني المصري برأسمال قدره 15 مليون دولار علي أن يساهم الجانب المصري بـ56% والجانب السوداني بـ44%. كما تم التوقيع علي إنشاء فرع للجامعة الأمريكية بالخرطوم بتكلفة كلية تصل (50) مليون دولار على أن تشمل كلياتها البالغة «17» كلية جميع التخصصات. وقال الدكتور الصادق الهادي والى الخرطوم بالإنابة أن إنشاء البنك المشترك بين البلدين يعتبر إضافة حقيقية في تعميق جذور التكامل بين شعبي وادي النيل وقال أن البنك سيساهم في تسهيل إجراءات رجال الأعمال بين البلدين وسيعود بالفائدة للمستثمرين مؤكدا فتح المجال أمام المستثمرين للاستفادة من موارد البلاد المختلفة. وأكد المهندس محمد عبد الوهاب رئيس البنك المصري مضاعفة رأس المال في الفترة المقبلة مشيدا بمساهمة المؤسسين في البنك بنسبة 75 % من الأسهم على أن تطرح بقية الأسهم البالغة 25% للمستثمرين. من جانبه أوضح الدكتور إبراهيم فوزي أهمية افتتاح فرع الجامعة الأمريكية بالخرطوم وقال أن الجامعة ستوفر خبرات للشركات الأجنبية التي تعمل بالسودان. وقال أن رأس المال الابتدائي في حدود (25) مليون دولار على أن تكمل التكلفة الكلية في الأعوام المقبلة).

الملفت في هذا الخبر ليس إنشاء البنك السوداني المصري، فلقد أشرنا لقضية البنوك، ولكن خبر تأسيس الجامعة الأمريكية هو الملفت للنظر. وبما أننا ندعو كثيرا في مقالاتنا أن "علم الاقتصاد" أو "علمية" الاقتصاد هي إشاعة كبرى، فخبر تأسيس هذه الجامعة ليس صدفة أن يأتينا من مصر، أو أن يصبح البنك المصري ورئيسه من دعاة الاختراقات الأمريكية. فالجامعة الأمريكية أو الجامعات الأمريكية تدرس "إيديولوجية اقتصادية" وليس علم الاقتصاد، لأنه لا يوجد شيء أسمه علم إقتصاد. ستخرج هذه الجامعة نمطا من الاقتصاديين السودانيين الذين يفكرون على الطريقة الأمريكية، فيربطون مقدرات البلاد بالشركات الأمريكية وغيرها.

للوقوف في وجه هذه التحولات لا يكفى أن نستخدم الإدانات السهلة مثل "الطفيلية" أو "القطط السمان" أو "الحناكيش"، و"المهمشين"..الخ، كناية عن المحظوظين وغير المحظوظين، بل يجب عمل أدبيات اقتصادية مقابلة بلغة رصينة ومدروسة وهادفة.

فبعد استخراج البترول السوداني، الشعب السوداني لا يحتاج إلى كل هذا الانفتاح الكبير بحيث يقلع الأجانب نصف اللقمة من أفواه الشعب السوداني. بل من خلال هذا الاستعجال غير المبرر، وبدون بناء البنية التعليمية الحقيقية العريضة (المهنية والفنية) لكي تأخذ بيدها ناصية التنمية الشمولية، سنلاحظ أن المستفيدين بهذه الانفتاح الاستثماري المتعجل هي قلة ترجح مصالحها الخاصة والآنية على مصلحة الشعب السوداني بكامله، عندما يروجون أن تلك البنوك أو المصارف الأجنبية وتلك الشركات هي عناوين التنمية.

إذن لا بد أن تخاطب الدولة الشعب السوداني مباشرة ومناقشته في طبيعة ونمطية الاقتصاد أو النموذج الاقتصادي الذي يرغب فيه الشعب. الغريب، تعتبر بعض أقلام الصحف أو الأعمدة الصحفية فتح الباب في مناقشة المسألة الإقتصادية، كما نفعل ونرغب نحن هنا، عاملا طاردا للاستثمارات الأجنبية! ومعنى ذلك أن يصمت الجميع!! أليس هذا غريبا وشاذا!! هذه المناقشة لا بد أن تتم عبر المؤسسات المدنية الإقتصادية المؤمنة بالثوابت الوطنية والتي تقف بصلابة في وجه الأطماع الأجنبية، وليس تلك المؤسسات المدنية السياسية التي يسهل رشوتها. لذا سخرنا من البروفيسور كدودة!

وقد نذهب أبعد من ذلك في تصورنا لمعالجة القضية الاقتصادية السودانية، ونقول، بما أن الكرة مدحرجة، وكما أرى أنها قطعت أشواطا كبيرة نحو الاختراقات الإقتصادية التي تضعنا اقتصاديا في الزريبة الأمريكية، وقد وضح أن هنالك "مدرسة اقتصادية" نخبوية تعمل في صمت وحذر وتفضل الاقتصاد المالي الدولي بدلا من التنمية الجذرية الشعبية grass roots التي تعتمد على الإرادة الذاتية والخيارات الحرة والتدريجية. ولقد أثبتت كل الدراسات النقدية التي عرت الأساليب والسياسات الأمريكية، أن الإدارات الأمريكية عادة لا ترغب بل تزيح أية حكومة وطنية تعمل على توزيع "الدخل القومي" على الشعب وتنميته في صالحه اجتماعيا، لأنه منطقيا قد ثبت أن صرف أية حكومة وطنية كل دخلها القومي على شعبها لا تتحصل الشركات الغربية عابرة القارات سوى الفتات. فلذا الولايات المتحدة الأمريكية تنزع لدفع قيام تلك النخبة الإجتماعية-الأقتصادية بالتحكم في الظاهرات التي تشمل كل بلد على حدة وهذه النخبة عادة لا تعير الشعب أية أهمية، وأحد هذه الآليات لصنع النخبة كثيرة، مثل البنوك، ولجان رجال الأعمال، والفنادق الفخمة، والمنح الدراسية والتدريبية، ومثل الجامعات الأمريكية..الخ.

ولا أشك شخصيا ولو لحظة أن ثورة الإنقاذ قامت لصالح الشعب السوداني، وهذه لا شك فيها، ولكن الظروف الضاغطة الأمريكية التي حوطت ثورة الإنقاذ من كل الجهات، مع تقليص الخيارات الطبيعة لها، وجدت الإنقاذ نفسها ترتمي في حضن دول الخليج. وهذا ما قصدته الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا، ليس معنى ذلك أن نهدم ما بنته ثورة الإنقاذ، بل على الجميع التدافع، وأن تتحرك المؤسسات المدنية الإقتصادية لكي ترسم صورة النمطية الإقتصادية التي نرغبها، بدلا من أسلوب الإدانة الطفولي والسلبية.

ولكي نشرح رؤيتنا لهذه النمطية الإقتصادية المطلوبة بشكل أوضح، لنقرأ الرسالة التالية التي وصلتني من اليابان:


Prof. Shawgi

greetings and best regard.

My name's…….currently I'm pursuing Ph.D. program at University of Tokyo (Department of Electronics Engineering), and at the same time I` m working for the second Master program in International Relations.

I used to read your articles in Sudanile very frequently, through (which), i got to know that you are expert in Economic with wide interest and knowledge in International Studies.

I intend to write an article regard Policy of currency change as mean of conflict resolution in Sudan, under the guidance and advice of Dr. Mariko who is working for Bank of Japan. Basically i would like to give a literature review regard the economic situation of Sudan since independence, till i come to the currency role as identity issue, You probably aware that changing current currency was among the issues for the last peace agreement. I would like to give more details for President Nimeri regime period, the motivation of putting his image on our currency, and the effects of that in reflecting Sudanese identity, why Nimeri's pound was not an issue for the southern people of Sudan (They still used it till now), but the current Dinar is a big deal for them..etc.

I do ware that you may keep busy schedule, but i will be really appreciated if you can provide me to some help and advice, such as accessing to some articles and having your own point of views.

Coming Thursday June 2nd. I' m going to present my proposal the topic that i mentioned above.

Looking forward to hear from you. Your efforts will be highly appreciated.

P.S: of course, I will keep all your academic rights

Sincerely yours

أولا لنسأل أنفسنا سؤالا بسيطا: ماذا تعني النقود؟ هي بلا شك أية شيء يمكن "قبوله" كوسيط لتبادل السلع "الحقيقية"، يتميز كمقياس (ومخزن) للقيمة، ووسيلة سهلة للدفع. ففي هذه العبارة يجب أن ندقق ونتوقف لدى كلمة "الحقيقية" – أي سلع حقيقية. يجب ألا نخلط ما بين النقود والسلع..السلع ليست النقود، رغم أن الغربيين والأمريكيين يروجون لدول العالم الآخر في أدبيات الاقتصاد الكلاسيكي أن النقود سلعة. وهذه من أكبر الكذبات التاريخية التي تستوجب التصحيح. كذلك ركز على كلمة "قبوله" وهي مهمة. لماذا روجوا تلك الكذبة؟ سنشرح ذلك لاحقا.

يمكن القول بشكل صراحة أن علم النقود علم فيه درجة من الغموض. فجل الناس في العالم الغربي نفسه لا يفهمون ما هي النقود، وناهيك عن العالم الثالث. ويمكن القول، علم النقود هي المنطقة الأكثر غموضا في "علم" الاقتصاد. ولكن سنركز على التالي، أن العامة كثيرا ما يعتقدون في النقود بأنها هي السلع الحقيقية بشكل غامض وسحري. ولقد تخيلوا أنهم مجرد الحصول على النقود في اليد تتحول بشكل ساحر إلى سلع حقيقية. هذا الفهم التجريدي المغلوط له آثاره الكبيرة المدمرة، ستستفيد منه الولايات المتحدة لاحقا. العامة لا تستوعب أن النقود هي محض وسيط ومقياس للقيمة؛ وفي حقيقة الأمر هي لا شيء آخر. بينما القيمة "الحقيقية" هي في السلع الحقيقية مثل الأرض الزراعية، الأخشاب، الصمغ العربي، النخيل، القطن، السمسم، الحيوانات بأنواعها، الخضروات، والبيض..الخ وأعذروني للرجوع للبسيط. هذا الفهم اختفى من وعي العامة وحل محله النقود، وهذه الوضعية الذهنية المعكوسة أسميها "ثقافة العملة" مقابل "ثقافة العمل". إذن عند هذه النقطة يمكن أن تفهموا لماذا غضبت من بروفيسور كدودة، ففي تقديري من أهم واجبات الاقتصاديين السودانيين هو تصحيح هذا المفهوم المغلوط أو بشكل أصح فضح وإلغاء هذه الإيديولوجية. لأنه "ثقافة العملة" هي أيديولوجية كاذبة.

الولايات المتحدة يهمها أن تعطيك ورقة الدولار الخضراء وتستلم منك هذه السلع الحقيقية، بعدها، لا يهمها ماذا تعمل أنت بهذه الورقة الخضراء، طالما هي خارج حدودها. وحقيقة هي تفعل ذلك مع كل شعوب العالم: ورقة مقابل سلع حقيقية. ولكي تستفيد الفائدة الكاملة لعبت بعض اللعبات المنطقية مثل إغراقك في الديون بكل الحيل، تبخيس قيمة صادراتك في كل البورصات العالمية، حتى ما تقبضه من دولارات لا يكفي سداد فوائد تلك الديون، ولكي تسدد هذه الديون الوهمية عليك أن تصدر وتصدر وتصدر سلعك الحقيقية إلى ما لانهاية، لكي تتحصل على الدولار وتسدد قيمة الديون وفوائدها – دائرة مغلقة. ولماذا نقول وهمية؟ عليك أن تقرأ كتاب "اعترافات رجل مافيا اقتصادي"، لجون بيركينز، كان نفسه مجندا وغيره من الاقتصاديين من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكي، ويعملون داخل الشركات الأمريكية. البنك الدولي عندما يرغب في إعطائك قرضا تنمويا، يستعين بهؤلاء مثل جون بيركينز لإعداد دراسات الجدوى للمشاريع التنموية، وهؤلاء يقومون بتزوير هذه الدراسات يضخمون من فواتير تكلفة المشاريع والأتعاب، ويضخمون رقميا وبلغة وردية من العائد الاستثماري الناتج عنها كذبا، فتصبح التكلفة الكلية فلكية وعمليا غير قابلة للسداد. وهكذا يحلبون الدول النامية!! فلكي تسدد هذه الديون يجب أن تصدر وتصدر وتصدر وتصدر إلى آخر عمرك!!

إذن ربما قد تكون اقتربت من الفهم الصحيح..أن النقود ليست هي السلع الحقيقية! وبالرجوع لتاريخ الدولار، قلنا في كذا مقالة أن البنك المركزي الأمريكي الذي يسمى بجهاز الاحتياطي الفيدرالي the federal reserve system هو بنك قطاع خاص، يملك معظم أصوله اليهود، تم إنشائه بخدعة يهودية في 23 ديسيمبر 1913م. ولقد أنتظر اليهود حتى وجدوا الفرصة في الحرب العالمية الثانية، وقبل انتهاء الحرب بعام أنشأوا عن طريق معاهدة بريتون وودز 22 يوليو 1944م البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهما لافتتان تخبت خلفها بنوك نيويورك، وبموجبها أصبح جهاز الاحتياطي الفيدرالي البنك المركزي للعالم. رغم اقتراح ج. ماينارد كينيز John Maynard Keynes في ذلك المؤتمر أن تكون العملة الدولية محايدة ومستقلة عن أية دولة، فشل الوفد اليهودي الأمريكي هذا الاقتراح واصبح الدولار العملة الدولية، وبموجب هذه الاتفاقية تتعهد الولايات المتحدة بإعطاء أونصة ذهب مقابل 35 دولار، وكسر نيكسون هذه الاتفاقية في 1971م عندما قرر رفض مبادلة الذهب بالدولار. هذه هو تاريخ الدولار في كشتبانة.

وهنا كان بالإمكان بعد سقوط الغطاء الذهبي عن الدولار الأمريكي أن تستخدم دول العالم نظام سلة عملات، مارك أو ين، فرنك..الخ، ولكن في 1974م لعب كيسينجر مع الملك فيصل لعبة خبيثة وهي ألا تبيع الأوبيك زيتها إلا بالدولار، مما جعل كل دول العالم أن تضطر لبيع صادراتها فقط بالدولار لكي تستطيع شراء الزيت، فصنع فيصل الإمبراطورية الأمريكية!! وبموجب هذا القرار أزداد الطلب على الدولار، وأخذت الولايات المتحدة تطبع وريقات وتتحصل مقابلها على سلع حقيقية!!

بالرجوع إلى طلب صديقنا في اليابان وعملة جعفر النميري، نقول التالي. عندما تتأمل هذا الجدول ستكتشف أن الذي يؤخر انهيار الدولار والاقتصاد الأمريكي هم المذكورون في هذا الجدول. لأنه لو انخفضت قيمة الدولار، أو أنهار أو بطل أن يكون عملة دولية ستخسر هذا الدول. حتى لو أسالت (من سيولة) هذه الدول بتحويل سنداتها إلى دولار وبيعها سيؤدي ذلك إلى زيادة العرض في أسواق المال فتنخفض قيمة الدولار، مما يؤدي إلى خسارتها..!! فهي ورطة! إذن اليابانيون حساسون تجاه هذه المسألة. وإقتراحي له، أن يذكر هذه الحقائق في ورقته المقدمة في دراسته وأن يقترح عليهم بناء على تلك القمة الآسيوية الأفريقية في جاكارتا، أن تعمل القارتين الآسيوية والأفريقية بنك دولي وصندوق للنقد آخرين ولكن بعملة دولية محايدة ومستقلة عن أية دولة، بشكل موازي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي القابعين منذ 1944م في واشنطون.

أما لماذا تمسك جون قرنق منذ 1983م بعملة النميري، فهذا شيء سهل، فأولا يجب أن تفهم أن دولة بدون بنك مركزي وبدون إصدار عملة هي ليست بدولة. ففي التاريخ المعاصر، عدما دخلت جيوش الحلفاء برلين وسقوط النازي، عمد الحلفاء الغربيون بإلغاء العملة الألمانية القديمة واستبدالها بعملة جديدة دون إخطار ستالين التي كانت قواته تقبع في الجزء الشرقي، فأصبح عمليا هم الذين قسموا ألمانيا وليس الاتحاد السوفيتي القديم. جون قرنق، بتمسكه بعملة النميري القديمة ما بعد 1989م، يؤهله بأن يسيطر على المناطق التي تحت يده بشكل أقوى. فعندما ينحصر النشاط الاقتصادي للسكان فقط بهذه العملة القديمة يضمن جون قرنق عزلتهم في إطار مصالحهم الصغيرة، ويضمن ألا يؤثر الشمال بعملته الجديدة على السكان في مناطقه المحررة أو على حركته. كذلك هو عنوان استقلال حقيقي للجنوب عن الشمال. فعلى هذه الوضعية قرر جون قرنق لاحقا بعد توقيع اتفاقية السلام أن يكون له بنك مركزي..الخ، ولكن بما أنه مستحيل في دولة واحدة أن يكون هنالك بنكين مركزيين، عمدوا لأسلوب توفيقي بدلا من بنكين مركزيين. أما لماذا لا يرغب في الدينار، حقيقة التسميات لا تلعب أية دور، ولكن المشكلة في تقديري أن الشعب السوداني لم يعترف بالدينار إلى اليوم. فعند الدخول في أية معاملة مالية يحسبون بالجنيه رغم أنه ليس موجودا بشكل فعلي! وكما قلنا في مقدمة هذه المقالة أن الخيال الذهني له دور كبير في التعامل مع العملة والعملات فيصبح التعامل مع الجنيه أسهل.

إذن فعليه أن ينصح اليابانيين لكي يهرولوا ويستثمروا في السودان لكي يتخلصوا من إحتياطياتهم الدولارية قبل أن تتآكل، وأيضا عليه أن يفهم، أن السؤال عن عملة النميري من قبلهم ما هو سوى دخان تختفي أسفله عدة أسئلة لم يصرحوا بها، مثل هل سينفصل الجنوب؟ وأعتقد هذه هو سؤالهم الحقيقي الخفي. فيمكنه أن يقول لهم لن ينفصل حتى لا يعولون إلى دفع الشؤون السودانية نحو الانفصال.

ولكي تدوخهم، إضافة لذلك، عليك أن تسألهم عن طبيعة ال MITI وهي وزارة التجارة الدولية والصناعة Ministry of International Trade and Industry وهذه هي التي أحدثت المعجزة اليابانية بعدة طرق محددة، أولا التقليد، وسرقة المواصفات الفنية عند عمل شراكة joint venture مع الشركات الغربية، ورشوة الباحثين، ولكن، أيضا الدعم السري لأكبر عشرة شركات يابانية كانت تنسق سريا مع بعضها البعض لكي يوفروا الوقت والمال في البحوث، وتعويض هذه الوزارة سريا الشركات للخسارات المالية التي تنتج عن منهجية تخفيض الأسعار price dumping لتحطيم الخصوم. في هذا الموضوع أقرأ كتاب المؤامرة اليابانية ولقد ذكرته في إحدى مقالاتي.

عموما، نختتم تصورنا النمطي الاقتصادي كالآتي: من البسيط إلى الأعقد، أولا لنحل قضية السكن بعمل منزل سوداني نموذجي، وأن يتحصل كل سوداني على سكن بدلا من السكن الفاخر الذي يروج له المستثمرون الخلايجة في السودان، وتلك القضايا الفاسدة مثل دريم لاند.. انظروا كيف نبيع مصانع الأسمنت، بدلا من عمل المزيد منها. وثانيا أن نركز على الصناعات التقليدية مثل النسيج وصناعة الجلود..والأغذية..الخ غير المعقدة والتي يمكن تقليدها بسواعدنا الفنية، مثل تقليد صنع الأفران الآلية، ومكائن الطوب، وأدوات البناء..الخ وثالثا عمل ثورة زراعية وحيوانية، ورابعا، تغيير البنية التعليمية إلى فنية ومهنية. وخامسا، تحسين الطرق، والمواصلات، والنظافة العامة، والتأمين الصحي والمعاشات..الخ وكذلك تحسين البيئة، سادسا، أن نقوى السوق المحلية لكي ينعم المواطن بخيراته الحقيقية بالتقليل من التصدير وعدم استخدام مدخول البترول كوسيلة لسد عجز الميزانية وحصره في شراء السلع الرأسمالية، وسابعا عدم الإستدانة وتقليل القروض الأجنبية للحد الأدنى وعدم إدخالها في الميزانية العامة حتى لا يكون هنالك إستسهال واعتمادية مكروهة على القروض، ثامنا ربط الأجور بالأسعار وتقوية نظام تجارة الجملة والتجزئة، تاسعا نشر الثقافة الإقتصادية والتبشير بها، عاشرا تقوية نظام الفيدراليات ودفعها للتنافس تنمويا ما بينها، إحدى عشرة تقوية الخدمة المدنية والإدارية وتعزيز استقلاليتها وحياديتها وإبعادها عن السياسة وتحرير الموظفين بلوائح تؤدي للضبط العام والمحاسبة، اثنا عشرة بعد تحقيق كل هذا ليفلسف بعدها من يتفلسف بتطبيق أساليب التقانة...والتقنية العالية والأوتوميشن وما شابهها! ولا أدخلكم الله في منظمة التجارة العالمية..شنو دايرين منها..بلادكم فيها كل شيء!!

مع تحياتي
شوقي إبراهيم عثمان
ميونيخ – ألمانيا
[email protected]


للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved