مقالات من السودان
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

فهم القوة بقلم شوقي إبراهيم عثمان-ميونيخ – ألمانيا

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
5/19/2005 6:52 م

فهم القوة"

1-2

في الشهور الماضية، أكثر الأخ إدريس حسن، رئيس تحرير صحيفة الرأي العام، في مناشدته القوى (الوطنية) التحلي بروح الوحدة الوطنية ووضع الاعتبار للظرف التاريخي الحرج الذي يمر به السودان، وتميزت مقالاته عقب توقيع اتفاقية السلام قبل شهور منصرمة بالتفاؤل والرقة أن هؤلاء، قيادات الأحزاب التقليدية، لا بد أن يستجيبوا لندائه. ولكن نلحظ في مقالاته الأخيرة بعض الضيق بها ومنها!! أين الخطأ هنا؟ حقيقة، لقد كنت مشفقا عليه، ومشفقا على رؤيته المتفائلة إن لم نقل التبسيطية، خاصة أن مثلي لا يعتبر هذه الأحزاب التقليدية وطنية إلا بالمعنى المجازي للكلمة.

ولقد كثرت المقالات، التشخيصية أو التحليلية لقراءة المسرح السياسي السوداني ولكن لفتت نظري بشكل خاص، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مقالات علي العتباني، وضياء بلال، وعادل الباز، والشوش، والبوني، وعثمان ميرغني..الخ (معذرة للآخرين لأنني أتفاعل عبر صحافة الانترنيت) وهي بالنسبة لي مداميق –سيسموجراف- القياس المتوفرة لجس الحالة العامة، وحال الصحافة بشكل خاص.

ولقد أختلف الجميع في هل حكومة المؤتمر الوطني قوية أم ضعيفة؟ وأين قوتها؟ وأين ضعفها؟ هل شعار "السودان الجديد" للدكتور جون قرنق شعار حقيقي أم "ستار من الدخان" لنيل الانفصال؟ هل أجادت حكومة المؤتمر الوطني التعامل مع المؤامرات الخارجية أم لا؟ هل يجب أن ننهي هذه الأحزاب القديمة أم لا؟ وإذا نعم، كيف ننهيها بالضربة القاضية؟ هل أجاد مفاوضو المؤتمر الوطني في نيفاشا أم أبتلعهم جون قرنق؟ هل تعمل حكومة المؤتمر طبقا لإستراتيجية مضادة أم لا؟ هل قدمت حكومة المؤتمر الوطني للسودان قفزة اقتصادية نوعية أم لا؟ هل كانت تجربة حكم الإسلاميين شرا أم خيرا على البلاد؟ هل سيتوحد الإسلاميون أم لن يتوحدوا؟ هل كانت صحافتنا المطبوعة متخلفة عن الركب أم لا؟..هذه أهم الأسئلة...

من ملاحظاتي العامة، أن الجميع في السودان بدون فرز لا يفهمون، أو قد يتخيل لهم أنهم يفهمون، أساليب العقلية الأوروبية، أو الغربية مطلقا إذا حسبنا الأمريكيين أنهم من نفس هذه الفصيلة البشرية. نرجع إلى أدبياتنا، ففي أدبياتنا السياسية نحن قد اعتدنا استعمال لفظتي "التكتيك" و"الإستراتيجية"، ولكن ليس بالعمق الكافي. هذا فضلا أن هاتين اللفظتين ناقصتين كما سنشرح لاحقا، ولكن نقول بشكل سريع، ينقصهما فهم "القوة Power" وأيضا فهم "الهيمنة Hegemony". هذه الأربعة يجب أن نفهمهم جنبا إلى جنب وهي: "فهم القوة"، الهيمنة، التكتيك والإستراتيجية.

فإذا سألنا أية سياسي سوداني ضليع عن الإستراتيجية والتكتيك سيقول لك أن الإستراتيجية هي "الهدف" بينما التكتيك هو "فن المناورة" للوصول للهدف. ولكن هذا لا يكفي، خاصة عندما تضع الثقافة السودانية – خاصة الإسلامية، أو هذا الشخص السياسي السوداني بالتبعية، قيمة عليا في الأخلاقيات مثل الصدق، والأمانة..الخ فيصبح الفهم لهاتين المفردتين في وعيه مثلهما ومثل التخطيط العلمي المجرد المحكوم بأساليب الكر والفر أو التخفي للوصول للهدف..الخ مثله ومثل الشطرنج. فحتى في لعبة الشطرنج ما زالت اللعبة محكومة بأخلاقياتها، إذ الطاولة مفتوحة للطرفين، وينحصر الفارق ما بين طرفي المناورة في قوة الملاحظة والقدرة على ربط العلاقات المعقدة..وكأنها تمرين ذهني في المنطق الرياضي.

فخذ مثلا الهنود الحمر لهم في عاداتهم وتقاليدهم الثقافية قيمة إنسانية ازهلتني، واكتشفتها قبل وقت قصير، وهي أن قتل الإنسان في شريعة الهنود الحمر الثقافية محرمة. وعندما قاتلوا الأوروبيين، قاتلوهم دفاعا عن النفس. ولكن صورة الهنود الحمر التراجيدية المتوحشة أوصلتها إلى وعينا سينما هوليود. الآن خذ هؤلاء الهنود بعقيدتهم هذه، وأعطيهم مفردتي الإستراتيجية والتكتيك..لن يستفيدوا منهما شيئا على الإطلاق.

إذن كلمة "الإستراتيجية" كلمة مبهمة، محايدة، لا تعني "شيئا" على الخصوص، وحتى لو رغبنا أن نتخيل هذا "الشيء" فلن يخرج من أطر وأعراف ثقافتك الاجتماعية أو الثقافة الوضعية من أهداف.

إذن لكي نفهم عقلية الأوروبيين علينا أن نفهم كلمة "القوة" طبقا لثقافتهم، وأيضا علينا أن نفهم ماهية القوة power ليس طبقا لثقافتنا بل طبقا لثقافتهم. كلمة "القوة" هي أحد أهم المفردات الإيديولوجية في الثقافة الأوروبية، وطبقا لثقافتهم الوضعية لفظة "القوة" هي نفسها لفظة "الإستراتيجية"، ويكادا أن يكونا شيئا واحدا، لفظتين مترادفتين. فإذا فهمنا طبقا لثقافتهم أن الأهداف لا يمكن تحقيقها إلا بالحصول على "القوة"، أو تجميع "القوة"، تصبح الإستراتيجية منتفية لأن "القوة" هي "الإستراتيجية" – أو الهدف، بينما التكتيك سيعلمه إياك "فهم" القوة – أي كيف ستناور. بتعبير آخر، بما أن "القوة" لا يمكن الحصول عليها إلا بالخداع، يصبح التكتيك ليس شيئا قائما بذاته، بل هو أحد تعبيرات "القوة".

والآن نأتي إلى النقطة التي نسأل فيها ما هي "القوة" في الثقافة الغربية؟ ففي ثقافتنا السودانية السياسية لا تشير لفظة "الإستراتيجية" في وعي الفرد السوداني إلى "القوة" Power وليس لها وجود في وعيه. ولكن إذا سألنا أحدهم ماذا تعنى القوة في عالم السياسة ربما يشير إلى اثنتين: السلاح الرادع والمال. وفي حقيقة الأمر، أن السلاح الرادع والمال، بعضا القوة وليسا كل "القوة". وبما أن الغربيين أجادوا فعليا ممارسة "القوة" في القرون الخمسة الماضية في مجتمعاتهم، وقامت حول "القوة" كتب ومدارس حقيقية لتعلم هذا الفن، بدءا من فن السرقة واللصوصية والاحتيال، وحتى كيف تسقط امرأة في حبائل الغواية..وانتهاء بالحروب وخدعها، تستنتج أن الفرد الأوروبي الاعتيادي يندر في حياته المعيشية العادية ألا يتسلح بهذا الفن الذي توفره له مئات من الكتب؛ ومقارنة بها، لا يكون كتاب الأمير ميكافيللي إلا عملا باليا. بالمقابل، انظروا إلى ثقافتنا كيف أنها تحتقر كتاب الأمير ميكافيللي.

عموما، "القوة" ليست هي "المال" و"السلاح" حصرا، هي أشمل من ذلك. ولقد تسابق المؤلفون الأوروبيون في توصيف "القوة"، ولكن لا يمكن حصرها في شيء واحد، لذا نجد أحد المؤلفين المحدثين قد وضعها في قالب تصنيفي محدد بأنها تتكون من ثمانية وأربعين جزءا، أو صفة، وسماها بالثمانية وأربعين قانونا "للقوة"، إذا امتلكتها امتلكت "القوة".

وهنا، بما أننا نكتب مقالة سياسية، ودائرة حديثنا هي العلاقة ما بين دولة ودولة أو ما بين الدول، ينخدع سياسيو العالم الثالث، والثقافات الأخرى الإنسانية، بشكليات تجريدية لمفهوم الدولة، فمثلا يعتقدون أن الدولة كائن ليس إنساني طبقا للأعراف الدبلوماسية المسرحية أو بسبب تلك الكينونة التي أعطاها لها القانون الدولي أو الأمم المتحدة. بينما نجدهم ينسون أن الذين يقودون هذه الدول بشر، والتعاملات ما بين الدول تتم عبر بشر، على كل مستويات الدولة – أية دولة. إذن تطبيق وممارسة فن "القوة" لا تحده تلك الشكليات الزائفة التجريدية ولا يفرق كون هؤلاء البشر يجلسون في الأمم المتحدة، أو في القصر الملكي أو الجمهوري لدولة ما، أو في صالون باريسي يعج بالحسان يلهث خلفهن سلاطين المال.

ففي الثقافة الغربية ما جلس أحدهم قبالة الثاني إلا وقد فعل كل منهما من آليات "القوة" في وجه الآخر، وبما أنهم من مدرسة واحدة، يندر أن "يمارسوها" ضد بعضهم البعض بشكل فج، وإلا اعتبرت إساءة. ولكن لا يتورعون في ممارستها على الشعوب الأخرى غير الأوروبية أفرادا وجماعات وشعوبا.

يجب أن تفهم أن "القوة" ليست في ذلك السلاح المخزن في مخازنهم لإرهابك، يمكنك أن تقول لهم: "وماذا يعني أن يكون لديك سلاح!؟" "ماذا بعد..؟!". لو تحليت بالشجاعة والحكمة، انتهت اللعبة، لأن الإنسان يموت مرة واحدة، وسيان، إذا لم تمت بذلك السلاح ربما تموت في حادث حركة؟ إذن ممارسة "القوة" وإخضاع الطرف الثاني هو شيء آخر غير التهديد المباشر، هي لعبة دقيقة وناعمة في تفاصيلها وأساليبها، ولكن ساحتها ذلك "البشر" – سيان أين يجلس، في قهوة، أو في وزارة أو يتربع على قمة دولة..الخ. بتعبير آخر هي ما بين إنسان وإنسان بشكل مباشر.

الدكتور جون قرنق، رئيس الحركة الشعبية، ليس فقط تحصل على بكالاريوس من جامعة جرينيل، وليس فقط الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي من جامعة آيوا، وليس فقط تلك المنحة المالية لعضوية الزمالة بمركز واتسون بدار السلام، وليس فقط خريج مدرسة المشاة العسكرية الأمريكية، بل أيضا قرأ العشرات من كتب فهم "القوة" المرتبطة بالعمل "الإستراتيجي". وهنا ننبه مجددا، "فإستراتيجية" جون قرنق، وفهمه "للقوة" هما بالمفهوم الثقافي الغربي، وليس هو ذاك الفهم "الاستراتيجي" الذي يفهمه السودانيون بثقافتهم المحلية، لأنهم لا يملكونه بالسليقة، فالسودانيون لا يزيد فهمهم للإستراتيجية عن تلك التي تطبق مدلولاتها في التسويق – عندما يقول بعضهم إستراتيجية تسويقية. الفارقة هي فهم "القوة" أولا وأخيرا، لا غيرها، بينما الإستراتيجي هو تعبير ثانوي، لأنك لو فهمت "القوة" فهي التي سترسم لك الإستراتيجيات والتكتيكات الصغيرة، وهي التي ستوصلك للنهاية، والتي ليس أقل من سحق خصمك بلا رحمة وتحقيق أهدافك، بأقل جهد ودون خسائر تذكر.

لقد فهم الدكتور جون قرنق "القوة" understanding power كما نفهمها نحن في هذه المقالة وليس لدينا شك، أنه يخادع. فهو يطبق الثمانية وأربعين قانونا "للقوة" بحذافيرها، ليس فقط على حكومة المؤتمر الوطني، أو على السودانيين الشماليين، أو على السودانيين الجنوبيين، بل أيضا يمارسها على وفي داخل حركته التي تسمى الحركة الشعبية. فمثلا مؤتمر رومبيك الأخير عبرت كل قيادات الحركة أنها لا تفهم جون قرنق، خاصة القائد سلفا كير. فخذ كلماته: (إذا كنا زعماء وطنيين - وأنا لا اصدق إن الأمر كذلك لأننا لا نملك تماسكاً داخل البنية القيادية - دعنا نكون صادقين مع أنفسنا. بعد أداء الاجتماعات فإننا نهرول نحو الأقطار الأجنبية. ليست هناك قاعدة سلوك ترشد بنيات الحركة. عندما يغادر الرئيس إلى الخارج فانه لا يترك توجيهات. وليس هناك من يعمل نيابة عنه. لا اعرف مع من تترك الحركة. فهل يحمل «القائد» الحركة في حقيبته؟).

هذه الحقيقة التي عبر عنها سلفا كير تتفق مع القانون الثالث لفهم "القوة" الذي يقول "أخفي نواياك". وبالإنجليزي:

Keep people off-balance and in the dark by never revealing the purpose of your actions. If they have no clue what you are up to, they cannot prepare a defense. Guide them for enough down the wrong path, envelope them in enough smoke, and by the time they realize your intentions, it will be too late.

هذه مقدمة صغيرة لعنوان القانون الثالث (أخفي نواياك) وبما أننا نقصد حث الجميع على قراءة الكتاب نفسه الذي في يدنا، نشير إلى أسلوب طرح الكتاب ومعالجة شرح "القوانين" هي ليست مملة، ولا يضعها المؤلف بصيغ شبه "قانونية"، أو وعظية جامدة، أفعل ذلك ولا تفعل ذلك..!! بل يجيد تشريح القانون، ويضع أمثلة تاريخية حقيقية غطت النشاط البشري من أجل تفهيم القانون موضوع الشرح، أو تفهيم "القوة" عامة، هذه الأمثلة غطت كافة أنماط البشر ومواقعهم وأنشطتهم فمن النساء المحظيات وحتى قادة الحروب، من مدام بومبادو وحتى بسمارك..!!

وبما أنه ليس هنالك سبيل لتفصيل القانون الثالث أو بقية القوانين، لضيق المجال، لكننا نقف لنتأمل عبارة "غلفهم في ما فيه الكفاية من الدخان" envelope them in enough smoke فالسودان الجديد، والتحالف مع التجمع الوطني القاهري، وكوش الجديدة، والمهمشين، وفتح مقرات لحركته في كل مدن السودان..الخ يمكن اعتبارهم بالمجموع ذلك الدخان، ولكن قبل هذا وذاك، وضع الدكتور جون قرنق الجميع في الظلام، حتى الجنوبيين، وأجبر الجميع على أن يترنحوا ويفقدوا توازنهم، لأنه أبدا لا يكشف نواياه الحقيقية ماذا يرغب. وتحت هذا الستار من الدخان يؤسس "دولته" القادمة، ولم لا أليس الجميع في حالة ترنح؟ وعندما يكتشفون نواياه الحقيقية، يكون الوقت قد فات..!!

نحن بمقالتنا هذه لا نؤسس نبؤة بأنفسنا لكي نحققها بأنفسنا، ولا ندعو أحدا على أن يعمل على فصل جنوب السودان، أو قلب الطاولة على رأس الدكتور جون قرنق وحركته، ولكن كلنا يعلم أن التشخيص الجيد، هو نصف العلاج. فليس كل السودانيين الجنوبيين يرغبون في الانفصال، ولا يمثل جون قرنق وحركته كل الجنوب. ولكن ما فعله الدكتور جون قرنق من مظاهر حتى الآن هي لتأسيس لدولة قادمة تحت ستار كثيف من الدخان. فإذا نجا في رومبيك، فكيف ينجو في المرات القادمة خاصة أنه يرغب في قبض المناصب الثلاثة نائب الرئيس، ورئيس حكومة الجنوب، ورئيس الحركة!! وهذه الرغبة في جون قرنق، ليس لأنه مريض بالسلطة، بل لأن قانون"القوة" الثالث والعشرين يقول ذلك – "كثف كل قواك".

- intensity defeats extensity every time.

لأنه إذا توزعت هذه المناصب على غيره فليس هنالك ضمان ألا تفلت الأمور كلها من يده. وكيف تفلت؟ نقول مثلا، إذا تعشقت clutching مقومات اقتصاد الجنوب في الاقتصاد السوداني ككل تضعف قوى عوامل الانفصال، والدكتور جون قرنق لا يرغب في هذا التعشيق - إذ فاجأنا بقطاره، وأنابيبه البترولية المنطلقة نحو ممباسا تحت وابل من شعارات السلام، والسودان الجديد، وفتح مقرات حركته في كافة أنحاء السودان، وهي ليست سوى دخاخين. لذا فضل أن يكون الحوار الجنوبي- جنوبي في كينيا، بعيدا عن القوى الشعبية المؤثرة داخل الجنوب، وهنالك يمكن طبخ طبخته بتليين القيادات السودانية الجنوبية بواسطة ضغوطات الكينيين والألمان والأمريكيين، ومعهم عملاء الأمم المتحدة. ألا ترى الدكتور جون قرنق يهرب من جوبا إلى عاصمة جديدة، فسكان جوبا راغبون في الوحدة.

من جانب آخر، نحن لا نترصد اتفاقية السلام، فهل هي ظلمت الشمال أو أن الجنوب أخذ أكثر من حقه، هذه ليست قضية. وحتى لو أخذ الجنوب اكثر من حقه فالسودانيون الجنوبيين يستحقون أكثر من ذلك، وفي آخر الأمر أن ما يأخذونه من ثروة هي أولا وأخيرا تدور داخل السودان، وتستثمر داخل السودان.

حكومة المؤتمر الوطني حسمت القضية مسبقا، حتى لو أنفصل الجنوب دعه ينفصل، فأين سيذهب؟ لقد انقسمت اليمن في سابق الأيام، وكذلك ألمانيا..الخ، وتلاشى الانقسام وأصبح في خبر كان. ولكن الأهم، هو وقف الحرب، وجمع الكل في داخل الشبكة..بعدها دع الأمور تسير نفسها، ودع القوى تتدافع، شمالية أو جنوبية، وسنرى بعدها أين يكون موقع الدول الغربية المتآمرة من الإعراب. هنالك حكمة تكتيكية، إذا كثرت التناقضات، فلا تفعل شيئا. هل حكومة المؤتمر الوطني ضعيفة؟ نعم ضعيفة، ولكن سر قوتها هو في ضعفها. فليس مطلوبا وليس من الحكمة أن نصطدم بدول التآمر الخارجي، ولو حتى مع السودانيين الذين باعوا وطنهم، ففي هذا الظرف التاريخي من الغباء أن نصنع "دخاخين" بأنفسنا لمساعدة الدكتور جون قرنق أو قوى التآمر، دع "دخاخينهم" تأخذ وقتها المحدد وستنحسر، فلذا حتى على مستوى التآمر الإسرائيلي في دارفور، وغير دارفور، كانت أجهزتنا الأمنية تعلم ذلك، ولكن تكتيك الصمت هو الأنجع. هذا الصمت أزعج دولة إسرائيل، فلعب جهاز الموساد مع الأجهزة الأمنية الأردنية لعبة مشتركة، بأنهم اعتقلوا إسرائيليين يوردون السلاح لمتمردي دارفور – حقيقة الأمر، هذا نوع من التسريب الذي رغبه الموساد نفسه. فخذ مثالا على ذلك، عندما سربت وكالة المخابرات المركزية في الثمانينيات تقاريرها بنفسها للواشنطون بوست بأنها هي من قلبت الطاولة على الليندي في شيلي، وغيره من انقلابات حتى تروع حكومات العالم الثالث. فليس هنالك ما يزعج إسرائيل أكثر من فضيلة الصمت، مع المتابعة الدقيقة وإفشال مخططاتها في صمت.

ولكن ضعف حكومة المؤتمر الوطني الحقيقي يتمثل في الفساد المالي وعدم المحاسبة، وفساد العقودات وإرساء المناقصات، والصفقات التي تدور في الخلف، فتحولت الإدارات إلى جزر معزولة، ومتنافسة وحتى متعارضة. ولكن حتى مع هذا الفساد، لا يمكن نكران أن حكومة المؤتمر الوطني غيرت من شكل السودان، وقدمت الكثير في سياق التنمية على كل مستوياتها، لكنها فشلت على المستوى الاجتماعي. فحتى يتم القضاء على التضخم، مع تحرير الاقتصاد بشكل شرس، وضعف الدخول، وضعف القوة الشرائية لغالب جمهور الطبقة الشعبية العريضة، وضعف الرقابة، أو توجيه الاقتصاد لفائدة هؤلاء خلقت بالمجموع سلبيات اجتماعية كثيرة هي مؤلمة بشكل خاص للإسلاميين..!! وهنا نلاحظ، ولا تفوتنا، أن الفلسفة الاقتصادية منقولة بالمسطرة من تجربة دول الخليج، بل هنالك تداخل يستحق الدراسة وإلقاء الضوء عليه.

وعموما، إشارة للإدارات المعزولة سابقا، نشير هنا بعجلة أن الاستثمارات الخليجية في السودان لها خلفيتان: أولها الطلب العالي في دول الخليج نفسها. فمثلا إذا أخذنا الأسمنت فهو مرتبط بقضية الطفرة العمرانية في الخليج، ومرتبط بازدهار بورصة قطاع الأراضي والعقارات والبناء السكاني هنالك، أضف إلى ذلك المئات من المنشآت الأخرى مثل القواعد الأمريكية العسكرية وملحقاتها من مطارات حربية، ومخازن للأسلحة، ومعامل، وعمارات سكنية للجنود، التي تقام على قدم وساق..وهذه الأخيرة تستهلك كميات رهيبة من الأسمنت..الخ، وبالمجموع خلقت أزمة في سلعة الأسمنت في الخليج، بل أزمة ضخمة جدا. هذا إذا تركنا جانبا قضية تعمير العراق وتربص الشركات الخليجية لهذا الموضوع. بالرغم من ضخامة المستورد في قطاع استيراد الأسمنت إلا أن فجوة الطلب مثل الثقب الأسود..!! هنالك شراهة في الخليج للأسمنت لا تعادلها أية شراهة..!!

لذا فعندما اشترى الخليجيون مصنع عطبرة وربك للأسمنت ببضعة مليون دولار، كانت صفقة رابحة لهم بلا قياس، ومضمونة الربح. وهنا لن نبكي على ما فات، ولكن سنركز على المسألة من زوايا أخرى. هل علمت أو هل كانت تعلم إدارات هذين المصنعين بالطلب العالي على الأسمنت في الخليج، وإن لم تعلم هل هو تقصير إعلامي صحفي؟ هل يعود فشل هذين المصنعين إلى أسباب إدارية؟ ألم يكن هذا الطلب العالي على الأسمنت في الخليج محفزا لإدارة هذين المصنعين لتجويد الأداء للتصدير للخليج ومن ثم تفويت بيعهما بثمن بخس؟ كيف إذا نحن ننشد تنمية عمرانية في السودان، وتنمية طرق كيف بنا لو احتجنا للأسمنت بكميات ضخمة مثل سوق الخليج تماما..فهل يتفق بيع هذين المصنعين مع الفهم الإستراتيجي للتنمية؟

كذلك مصنع الرخام أو السيراميك، فهذه السلعة أيضا مثلها مثل الأسمنت تدخل في بناء المنشآت، يشتد الطلب عليها مثل الطلب على الأسمنت في الخليج. إذن الانطباع الأول الذي يخرج به المتأمل أن هذه الاستثمارات الخليجية في السودان باعثها أو وجهتها سوق دول الخليج وليس سوق السودان، وهكذا تحول ليس فقط المصنع أو المصنعين، بل أيضا تحولت خامات السودان والسودان نفسه كحديقة خلفية للسوق الخليجي. ولتدعيم هذا الرأي نأخذ اتفاقية الكويز المصرية الأمريكية الإسرائيلية، هذه الاتفاقية بالكامل هي في دائرة صناعة القطن والمنسوجات. وبما أن زراعة القطن المصري مضروبة تماما، هجمت الشركات المصرية على القطن السوداني..إذ جلست عشرة أو أربعة عشر شركة مصرية على طاولة واحدة مع شركات الأقطان السودانية..كأنهم يرغبون أن يقولوا بيعوا لنا بسعر واحد!! جلس المصريون مع شركة الأقطان السودانية ولم يخبروها أن اتفاقية الكويز في الطريق! ألا يعني هذا أن السودان أصبح مثل الحديقة الخلفية! الأسوأ في مثال القطن هذا أن وفدا من شركة الأقطان السودانية هرول بعدها إلى مصر وقابل الوزير السابق يوسف والي الذي أقترح على الوفد السوداني عمل مزرعة مشتركة نموذجية لزراعة القطن في السودان. فوضعت يدي على قلبي خوفا من يوسف والي إسرائيل!!

لماذا نحكي هذا كله؟ نحكيه ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل لأن الكثير من السودانيين السذج ينظرون لهذه الاستثمارات بعين الشاكر الحامد، ويكادون أن ينحنوا أو يسجدوا تعظيما، وكأن المستثمرين الخليجيين أو المصريين قدموا أو أسدوا معروفا أو جميلا للسودان، بينما حقيقة الأمر ليس الأمر يبدو هكذا.

أما الخلفية الثانية فهي تتعلق بتمويل البنى التحتية السودانية من قبل دول الخليج له أسباب أخرى، فمثلا خزان مروي – السعودية قدمت قرضا ب 250 مليون دولار- وغيره من الإستثمارات الخليجية، يعزى إلى أن الإحتياطيات المالية الخليجية كلها بالدولار، بل في الحقيقة أن الأمر معكوس، أن الدولار الأمريكي مغطي بالزيت العربي منذ 1974 والذي "عملها" الملك فيصل (!). هذه الإحتياطيات الدولارية الخليجية تتآكل باستمرار بسبب انخفاض قيمة الدولار. فليس سرا مع تعاظم انهيار سعر صرف الدولار في السنوات الأخيرة، خاصة بعد ظهور عملة اليورو بداية 1999-2002م، أخذت معظم الدول ولكن بشكل خاص الصين واليابان في الهرولة بشدة لتحويل أرصدتهما الدولارية إلى أصول ثابتة أو سلع حقيقية...وهذا جزئيا يفسر لماذا تستثمر الصين أرصدتها في قطاع البترول، فرغم حوجتها للطاقة، فهي أيضا بشكل صحيح رغبتها في التخلص من الدولار. الصين وحدها لديها احتياطي ما يعادل 850 بليون دولار. تخيلوا معي إذا انهار الدولار، ماذا تعمل الصين بهذا الورق..سوى وضعه في المراحيض والتويليتات!ا إذن على صحافتنا أن تستغل هذا الظرف وتطبل وأن تفتح بوقا في آذان الخلايجة عن مساوئ الدولار..!! القرض السعودي الذي يعادل 250 مليون دولار لبناء خزان مروي، يمكن للسعودية مستقبلا أن تسترده بسلع حقيقية من السودان، ولا حاجة لذكر ما هي هذه السلع الحقيقية، ولكن لمن لا يعلم فهي مثل الضان، والأبقار، والسمسم..الخ. فمن قدم خدمة لمن؟

وحقيقة، لو رغبت دول الخليج مساعدة السودان حقيقة، وليس هجصا إعلاميا، لتشتري دول الخليج ديون السودان البالغة 20 بليون دولار. ويمكنهم أن يتحصلوا على مقابلها سلع حقيقية بدلا من هذا الدولار الذي يراكمونه ويتآكل يوميا. فبدلا من التعريض بنا أنهم "يساعدوننا"..باستثماراتهم التي أثبتنا أننا فيها مغفلون، بل الخاسرون، دعهم يساعدوننا بحق وحقيق، ليشتروا ديوننا..!! فهل يفعلوا؟!

نختم هذه المقالة بالسؤال التالي هل لحكومة المؤتمر الوطني إستراتيجية مضادة كمقابل موضوعي لكل هذه المؤامرات التي تحاك ضد السودان، أم أننا نفاجأ مرة تلو المرة..الجواب هو نعم ولا. فحقيقة، عمل الإستراتيجيات، وكما شرحنا لفهم "القوة" هو ألا يفهم خصمك كيف تفكر، ولا تشرح له مقدما ماذا تنوي فعله. بهذا المعنى أو السياق، يمكن القول أن لحكومة المؤتمر الوطني كروت تخبئها، ولكن هل يفهم رجال المؤتمر الوطني العقلية الغربية 100%؟ وهل يفهمون بكفاءة ماذا يعني فهم "القوة"؟ هذا هو السؤال الذي لا نستطيع الجزم به. ولكن مع الأسف، أن صحافتنا دون مستوى فهم التكتيك والإستراتيجيات، فعندما أثارت حكومتنا "غبار" على الولايات المتحدة بصدد الإشعاعات النووية، لكي تضع الولايات المتحدة في موضع الدفاع، هاجمتها صحفنا وأدانتها بتضارب الإدارات والقرارات..!! ولكن نحن مع الدكتور البوني: ما هي قصة العنب الذي زرعه الأمريكيون هنالك؟

أما بقية الأسئلة ففي الحلقة الثانية، ولكن لمن يرغب في شراء الكتاب الذي ذكرناه في هذه المقالة، فهو بعنوان The 48 Laws of Power, by: Robert Greene ولن يندم الشاري، فهو يفيد الباحثين في حقل السياسة والإستراتيجيات.


شوقي إبراهيم عثمان
ميونيخ – ألمانيا
[email protected]

للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر الحر | دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر الحر

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |تعارف و زواج|سجل الزوار | اخبر صديقك | مواقع سودانية|آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2004
SudaneseOnline.Com All rights reserved